رحلة متخيَّلة في صحبة

عاشق دمشقي

 

محمد علي الأتاسي

 

مقدمة

يُعتبَر فاروق مردم بك واحدًا من أهم المثقَّفين العرب تواضُعًا وحضورًا في الحياة الثقافية الباريسية – سواء لجهة الدور الذي يلعبه كمدير لدار النشر الفرنسية Sindbad/Actes Sud، المتخصِّصة في نقل الأدب العربي (وحديثًا الفارسي والتركي) إلى اللغة الفرنسية، وفي نشر الكثير من البحوث والدراسات عن منطقتنا، أو لجهة عمله كمستشار ثقافي لمدير معهد العالم العربي في باريس، أو لكونه مدير نشر وأحد مؤسِّسي مجلة دراسات فلسطينية الصادرة باللغة الفرنسية في باريس.

لكن هذا المثقف الباريسي–الدمشقي، الذي سمَّتْه جريدة Le Monde بالـGentleman، المولود في الشام في العام 1944 والمتخرِّج من كلية الحقوق في الجامعة السورية في العام 1965، هو، إلى هذا كلِّه، مؤرخ في التاريخ الاجتماعي والسياسي، كما في تاريخ الطعام. فبالإضافة إلى الكتاب–المرجع عن علاقة فرنسا بالصراع العربي–الإسرائيلي الذي ألَّفه بالفرنسية مع صديق عمره سمير قصير، وضع فاروق كتابًا عن تاريخ نبتة الحمُّص في تنقُّلها بين البلدان والحضارات والمطابخ، كما نَشَرَ كتابًا آخر سمَّاه مطبخ زرياب، هو سلسلة مقالات عن تاريخ الطعام ووَصْفاته، وقَّعها باسم "زرياب"، ونشرها بالفرنسية تباعًا في مجلة قنطرة التي يُصدِرُها معهد العالم العربي. له أيضًا مقالاتٌ عديدة عن تاريخ دمشق والقضية الفلسطينية والإسلام، منشورة جميعًا بالفرنسية.

فاروق مردم إنسان مرهف، ذوَّاقة للحياة والطعام والشعر، نَشَرَ في ريعان شبابه بعض القصائد في مجلتي شعر والآداب البيروتيتين، وأصدر كراسًا شعريًّا في دمشق [بعنوان قطعة شمس]، قبل أن ينصرف عن كتابة الشعر إلى اهتمامات بحثية وأدبية أخرى، جعلتْ منه مؤرخًا وناشرًا من طراز نادر. يكتب في تاريخ الطعام ويتقن وَصْفاتِه؛ يتذوق الشعر والرواية، وينشر لخيرة كتَّابها العرب مترجَمين إلى الفرنسية.

وصل فاروق إلى باريس في منتصف الستينات من القرن المنصرم، وبدأ فيها التحضير لأطروحة الدكتوراه في جامعة السوربون عن "الجهاز الديني في مدينة دمشق خلال العهد العثماني". جمع فاروق إبان فترة العمل على هذه الأطروحة، التي امتدت سنين طويلة، أرشيفًا ضخمًا عن المدينة وتاريخها، وحاول أن يفهم الدور الذي تلعبه عمليةُ أدلجة الدين، لا من خلال الخطاب والنصوص فقط، ولكن من خلال مقاربة الدين كجهاز ومؤسَّسات وعلاقات اجتماعية. وقد يكون توقُه إلى الكمال والأرشيفُ الضخم الذي راكَمَه وانشغالُه بالنشر والنشاطات الثقافية من الأسباب التي جعلت هذه الدكتوراه لا تنتهي أبدًا!

زار فاروق دمشق آخر مرة في العام 1975؛ ومن بعده امتنعت عليه العودةُ إلى بلده بسبب التحركات والبيانات التي قام بها، إلى جانب العديد من الطلبة السوريين في باريس، احتجاجًا على الدخول السوري إلى لبنان. وإذا كان النظام السوري في السنين الأخيرة حاول أن يعرض عليه، أكثر من مرة، منحَه جواز سفر مؤقت، فإنه ظلَّ مصرًّا على حقِّه القانوني في أن يُمنَحَ جوازَ سفر عاديًّا صالحًا لمدة 6 سنوات؛ وبقي إصرارُه إلى اليوم من دون جواب. الفاجعة أن النشاط الثقافي الذي يقوم به فاروق مردم بك في باريس لصالح الثقافة العربية يفوق بمرات ما يقوم به المركز الثقافي السوري وغيره من المراكز الثقافية العربية هناك. لكن، بدلاً من أن يُمنَحَ فاروق "جوازَ شرف" سوري تكريمًا لجهوده، لا يزال محرومًا ليس فقط من جواز سفره العادي ولكن أيضًا من تسجيل قِرانه وأولاده في سجلات الأحوال الشخصية السورية!

زار فاروق مردم بك مدينة بيروت للمشاركة في جنازة صديق عمره سمير قصير. وكان أول شيء فَعَلَه حال وصوله هو الذهاب إلى المستشفى لإلقاء النظرة الأخيرة على جثمان سمير. كان منظرُه ذاك المساء، في ساحة الشهداء وسط بيروت، وهو يضيء شمعةً لذكرى سمير، غاية في التأثير. فالصداقة التي جمعتْهما، رغم اختلاف العمر، هي من النوع النادر والنبيل. ففاروق، كسمير، من خرِّيجي مدرسة اللاييك [العلمانية] الفرنسية، الأول من دمشق والثاني من بيروت؛ والاثنان، كما يقول فاروق، يحملان، منذ أيام المدرسة، الزاد الثقافي والموسيقي والشعري والفلسفي ذاته، الجامع بين الثقافة الفرنسية والثقافة العربية؛ وهما درسا معًا التاريخ في جامعة السوربون تحت إشراف المستشرق دومينيك شوفالييه؛ وشغلتْهما القضيةُ الفلسطينية ومسألةُ الديموقراطية في المشرق العربي، وألَّفا معًا كتابًا مرجعيًّا عن سياسة فرنسا تجاه الصراع العربي–الإسرائيلي.

كان سبق لسمير في 1 أيلول من العام 2002 أن وجَّه رسالةً مؤثرة إلى فاروق مردم بك عن علاقة المثقفين السوريين بالمسألة اللبنانية من على صفحات "ملحق" النهار بعنوان "شعبك عظيم يا أخي"؛ وردَّ عليه فاروق متأخرًا باللغة الفرنسية برسالة قرأها في الحفل التأبيني الذي أقامه معهد العالم العربي في باريس تكريمًا لسمير. أستأذنه هنا بإيراد المقطع الأخير من هذه الرسالة، الذي لم يستطع فاروق قراءته، خوفًا من الدمع والغُصَّة اللذين كادا أن يذهبا بصوته. يقول مخاطبًا سمير قصير:

عزيزي سمير، ليس من عاداتنا أن نتبادل المجاملات، ولكنني شديد الحرص اليوم على أن أنهي رسالتي حيث بدأت أنت رسالتك، وأن أبلِّغك أن شعبي، الذي أسبغتَ عليه صفة العظمة، فَقَدَ بعضًا منها حين فَقَدَك، يا أخي.

التقيت صديقي فاروق مردم بك في مقهى الروضة في أثناء زيارته الأخيرة لبيروت. كان هناك الكثير من الأمور المتداخلة والشائكة، من الموت، إلى سمير قصير، إلى الغربة، إلى بيروت، إلى دمشق. بدأتُ بإجراء مقابلة صحفية معه، لكني استعضت عنها في النهاية برحلة متخيَّلة برفقة فاروق مردم بك إلى الشام.

وهذه الرحلة مهداة إلى سمير قصير، الذي سيظل اسمُه محفورًا في قلوبنا، بانتظار أن نكرِّسه يومًا اسمًا يُطلَق على أحد شوارع دمشق.

***

 

رحلة متخيَّلة في صحبة عاشق دمشقي

 

إلى روح سمير قصير

 

جالسان في مقهى الروضة على بحر بيروت، والشام لا تبعد عنَّا إلا رحلة ساعتين بالسيارة. أقترح على صديقي أن ندخل الشام من بوابة الحميدية في رحلة تخيُّلية داخل نسيج المدينة العمراني، وفي رحلة حقيقية داخل نسيج الروح المتلهِّفة.

لنَمْشِ، يا فاروق، في الذاكرة والشوارع – ذاكرة الشوارع وشوارع الذاكرة. من قال إن شوارعنا الشامية لا ذاكرة لها؟! من قال إن ذاكرتنا الشامية لا تسكنها الشوارع؟!

صحيح، يا فاروق، أننا ربما عشنا وترعرعنا في أحياء المدينة الحديثة وشوارعها، أكثر منَّا في أزقة المدينة القديمة، لكن هذه الأخيرة كانت دائمًا معنا، وفي قلبنا، هويةً وجذورًا، حاضرًا ومستقبلاً، أو كما تسمِّيها أنت، بلهجتك الشامية المحبَّبة: "مدينة مغروسة في القلب والتاريخ... شي مو هيِّن بنوب."[1]

"ماشاني" صديقي ومشى معي جلوسًا في بيروت إلى دمشق المشتهاة. تركْنا في حديثنا وممشانا دمشق الحديثة ودمشق العثمانية خارج الأسوار، ودخلنا مدينة الأسوار من الغرب في اتجاه الشرق، من بوابة الحميدية إلى مسجد بني أميَّة، وصولاً إلى حيِّ باب توما.

***

سوق الحميدية: خطوة في البال، وخطوة على الأزقة. ضربة في القلب، وضربة على الرصيف. ارفع نظارتيك الشمسيتين، يا صديقي! لا حاجة لك إليهما في ظلال الشوق. افتح قلبك على مصراعيه، وافتح روحك على الجلبة أو السكينة – لا فرق. سترى سُيَّاحًا كُثُرًا، إيرانيين وعرب وأوروبيين. سترى بدوًا وحَضَرًا، فلاحين وأبناء مدن. سترى البائع المتجول وعابر السبيل، الأفندي والتاجر، النسوة والأطفال، المحجَّبات والسافرات. سترى "القديم والجديد والعالق بينهما"، على قول المعلِّم جاك بيرك. سترى أن للجميع مكانَهم في السوق. أما مَن يملك مفاتيح المدينة، بيوتًا ومساجد، حوانيتَ ومدارس، ذائقةً وروائح، أسماءَ ومسمَّيات، لغةً ومشاعر، متاهاتٍ ومعالم، فإنه كان، وسيظل، ذلك الدمشقي الذي لا أمَّ له ولا أب سوى الشام!

لكن ما هي "الهوية الدمشقية" يا فاروق؟

برهة من الصمت... يجيبني بعدها صاحبي بالآتي: "الهوية مركَّبة ومتداخلة؛ ومن الصعب اختصارها ببُعد واحد. فبحسب الظرف الذي أنت فيه يطغى بُعد على الآخر. فأنا، مثلاً، في باريس، بسبب الاختلاط اليومي مع العرب من كلِّ الجنسيات، يغلب على هويتي البُعدُ العربي الجامع. أما بالنسبة للهوية الدمشقية، فهي تلك العلاقة مع فضاء، فيه هذا التركيب الخاص، في علاقته بريفه القريب، وبتضاريسه، وبأهله، لهجتهم وطعامهم وثقافتهم، وبهذه الدمَّشقة التي عُرِفُوا بها، والتي تعني "دماثة الخلق". إنها هذا الخليط العجيب الذي ترسمه العلاقاتُ المدنية اليومية."

أتعرف، يا فاروق؟ أخاف على هذه الماكينة العجيبة التي اسمها "الهوية الدمشقية"، أن تتعطَّل يومًا، فتعجز عن استيعاب القادمين إليها ودَمْجهم؛ أخاف عليها أن تمارس الإقصاء والنبذ!

دعنا الآن من سؤال الهوية المعقد، ولنتوقف برهة عن اللحاق بخطانا وأفكارنا، ولنستمع إلى صوت مدقَّات البوظة الخشبية الطويلة، تأتي من محلات بكداش، وتضيع في الفضاء بعد أقفلت محلات دامر التي كانت تردُّ عليها الصدى. لنتوقف قليلاً، ونأكل البوظة بالقشدة، أو الضوندُرما، ونكمل المسير. أتذكر، يا فاروق، المقالة الجميلة عن تاريخ الضوندُرما التي وقَّعتَها باسم زرياب؟ لقد وصل بك الأمر إلى محاولة إقناع القارئ الفرنسي بأن تذوُّق هذا النوع من البوظة يستأهل وحده رحلة الذهاب إلى سوريا، قبل أن تلفت انتباهه إلى أنه يمكن له أن ينتهز المناسبة من أجل زيارة آثار تدمر!

الأسواق الصغيرة تصبُّ تباعًا في السوق الكبير، من الحريقة، إلى العصرونية، إلى سوق الجوخ، إلى سوق الحرير، إلى سوق القطن، إلى سوق "تفضلي يا خانم"، إلى سوق الفضلات، إلى سوق الكلفة، إلى سوق الذهب، إلى سوق الصاغة، إلى سوق العطارين، إلى سوق البزورية، إلى سوق القباقبية، الذي لم يتبقَّ منه على حائط الجامع الجنوبي سوى دكان أو دكانان.

صديقي فاروق،

ثلاثون عامًا تُباعِد بين خطواتنا. ثلاثون عامًا من الغربة القسرية، لم تنفك الشام تتغير فيها على هواها، ويغيِّرون فيها على هواهم. ثلاثون عامًا وأنت في باريس، وأنا في الشام، والمدينة تهرب منَّا ونهرب إليها.

ثلاثون عامًا ومعرفة فاروق مردم بك الموسوعية جعلتْه مطَّلِعًا على تاريخ كلِّ حجر أزيل، وكلِّ بناء هُدِم، وكلِّ شارع وُسِّع، يسردُها ويصفُها لك تباعًا، من دون أن يرى أيًّا منها! ثلاثون عامًا أزيلت إبانها الأسواقُ في محيط القلعة ومن حول الجامع الأموي. ثلاثون عامًا فقدتْ فيها المدينةُ الكثيرَ من معالمها وروحها وأبقت الكثير، وزادت. ثلاثون عامًا فُتِحَ فيها طريقٌ واسع من جهة الحائط الشمالي للقلعة الأيوبية، وصولاً إلى الجامع الأموي، الذي أقيمت في جهته الغربية ساحةٌ واسعة، تغزوها أشعةُ الشمس الحارقة، فتحرم القادمَ من سوق الحميدية باتجاه المسجد الأموي متعةَ عبور سوق المسكية تحت ظلال الكتب والمصاحف والآيات المرتبة على رفوف المكتبات في نظام لا يعرف معناه إلا الله! نعم، تحرم القادمَ متعةَ أن ينفتح ناظرُه، لحظة عبوره بوابة المسجد الأموي، على فسحة لنور السموات والأرض، فسحة للفسيفساء وهديل الحمام، فسحة للتعبد والصلاة، فسحة، عندما دَخَلَها شاعر الشام نزار قباني بعد طول غياب، أخذتْه حالةٌ من التجلِّي والانخطاف، فصعد درجات أول مئذنة صادفتْه مناديًا: "حيِّ على الياسمين!... حيِّ على الياسمين!"

يحتال فاروق مردم بك على ذاكرتي قائلاً: "أنت كنتَ صغيرًا، ولم تعِ سوقَ المسكية الذي أزيل، ولم تعرف شعور العابر منه إلى صحن الجامع الكبير." وأحتال على ذاكرة فاروق وأقول له: "أنت لم تعشْ عهد ترميم الجامع الأموي، ولم ترَ بأمِّ عينك كيف أضيفت إلى الخطوط المنقوشة على الرخام عبارةُ "رُمِّم في عهد الرئيس المؤمن حافظ الأسد"."

أتعرف، يا فاروق، في كلِّ مرة أزور الشام القديمة، ويقع على مسمعي أذان الجامع الأموي البديع، أخاله ممتزجًا بأبيات شوقي الشهيرة:

مررتُ بالمسـجد المحزون أسألُه * هل في المصلَّى أو المحراب مروانُ

تغيَّر المسـجدُ المحزونُ واختلفتْ * على المـنابر أحــرارٌ وعبـدانُ

فـلا الأذانُ أذانٌ فـي مـنارتـه * إذا تعــــالـى ولا الآذانُ آذانُ

أتعرف، يا فاروق، ربما تكون حالُك مع ذكريات المسجد الكبير كحال الأمويين في الأندلس عندما قرروا بناء مسجد قرطبة على شاكلة مسجد الشام. يومذاك، كانوا محرومين من العودة إلى الشام، ولم يكن في جعبتهم إلا الذاكرة يستندون إليها في استرجاعهم لعمارتهم المفقودة. ربما لهذا جاء عملُهم آيةً في الجمال.

***

جالسان على بحر بيروت، نتوقف برهة، أنا وفاروق، أمام قبر صلاح الدين الأيوبي المتَّكئ في تواضع على الحائط الشمالي للمسجد. نقرأ الفاتحة جماعةً، ونتذكر صديقَنا المشترك إلياس خوري الذي قرأها عاليًا أمام القبر، قرأها "بسم الله الرحمان الرحيم". ونهمس خجلاً لروح صلاح الدين: "لم نغادر حتى نقول عدنا. نحن من ملح هذه الأرض، وأنت منَّا وفينا ولنا. لكن نرجوك... نرجوك... لا تفقْ من رقادك! فمازال في الأرض هضام."

يُسِرُّ فاروق إليَّ – وهو المثقف المتشرِّب بالعلمانية والأفكار اليسارية – أنه ينوي يوم عودته إلى الشام أن يزور الجامع ويصلِّي فيه، خاشعًا بنفسه ولنفسه. فهذا المكان، في رأيه، هو روح البلد.

وأتذكر أن هذا المكان، مُذْ وُجِدَ قبل ألوف السنين، خُصِّصَ دومًا للعبادة، فكان معبدًا للإله حدد الآرامي، ومن بعدُ معبدًا لجوپيتر، كبير آلهة الرومان، ومن بعدُ كاثدرائية بيزنطية تضم رفات القديس يوحنا المعمدان، قبل أن يحوِّله الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك إلى أكبر مساجد الإسلام في عصره. وأتذكر، أيضًا وأيضًا، أن صديقي العلماني المنغرس في الثقافة الفرنسية انغراسَه في الثقافة العربية الإسلامية، الذي يعيش في باريس منذ منتصف الستينات، لا يزال يجد وقتًا وسكينةً ليخلد إلى نفسه في الليل، ويستمع إلى ترتيل القرآن الكريم بصوت مُقرئه المفضل الشيخ المصري مصطفى إسماعيل.

أتأبط ذراع صديقي، وأخفِّف عن ذاكرته عبء دخول الجامع وهو جالس في بيروت، فنمشي في محاذاة الحائط الجنوبي للجامع في مكان سوق القباقبية المُزال، ومن فوقنا تشمخ مئذنةُ المسكية أو قايتباي ومئذنةُ عيسى، التي يقال إنها سُمِّيت كذلك لأن الشوام يؤمنون أن المسيح المنتظر، عندما يعود إلى الأرض، سينزل من على هذه المئذنة إلى مدينتهم. أدلُّ صديقي إلى مدخل الكاثدرائية الشامخ بعظمته من الجهة الخارجية للحائط الجنوبي، الذي لا تزال منقوشة عليه بالكتابة اليونانية عباراتٌ تخلِّد تحويله من معبد روماني إلى كاثدرائية بيزنطية. ففاروق قرأ عن هذا المدخل في كتب التاريخ، وبالأخص منها كتاب المستشرق سوفاجيه، لكنْ لم تُتَحْ له فرصةُ مشاهدته بالعين المجردة؛ فقد كان مغطى في معظمه، حتى مطلع الثمانينات، بأسقف سوق القباقبية.

أتعرف، يا فاروق، لا يتناظر مسجدُ دمشق ومسجدُ قرطبة في الاسم والعمارة والفسيفساء فقط؛ يتناظران أيضًا في النوسان مع المطلق بين المسيحية والإسلام.

***

جالسين في مقهى الروضة على بحر بيروت، وماشيين في محاذاة حائط الجامع الأموي، أحاول أن أشد ذراعَ صديقي وذاكرتَه في اتجاه جنوب المدينة، لجهة روائح التوابل التي تهبُّ علينا من سوق البزورية، التي يلوح من ورائها قصر العظم، وخان أسعد باشا، وحمام نور الدين، والشارع المستقيم وخاناته، ومئذنة الشحم، والشاغور الجَواني والبراني، وباب الصغير، وبيوت القوتلي والسباعي ونظام والطيبي والكزبري وست البنين والأسطواني والعقاد. لكن وطأة السنين الثلاثين تُتْعِبه، والذاكرةَ تخونه، فيخاف الضياع في زحمة التفاصيل، ويظل متكئًا على حائط الجامع، يتلمَّس طريقَه في اتجاه دَرَج مقهى النوفرة وحيِّ القيمرية، ومن خلفه حي باب توما الأثير إلى قلبه.

ننزل دَرَجَ النوفرة، وأسأل صديقي الدمشقي أن يشيح بناظره يمنةً ويُسرة. فحمام النوفرة البديع على اليسار تحوَّل إلى مقهى يعبِّر خير تعبير عن ثقافة الـkitsch التي تجتاح المدينة. ومقهى النوفرة العريق على اليمين لم يسلم هو الآخر من كوارث الـkitsch بعد وفاة صاحبه الحاج أبو صالح وتقاعُد الحكواتي الأصيل واندثار كراكوز وعيواظ.

أتجنب أن أعبُرَ بفاروق يسارًا باتجاه حيِّ العمارة، والمدرسة البدرائية، وبيوت العجلاني والخطيب والسقا أميني والنابلسي، وبيوت الأمير عبد القادر الجزائري وصحبه المغاربة. أخاف عليه أن يُفجَع وهو يرى كيف تمَّ توسيع مقام الست رقية، بتمويل من الحكومة الإيرانية وبضوء أخضر من الحكومة السورية. هُدِمَ الكثيرُ من بيوتات دمشق من أجل تحويل المقام إلى بناء بيتوني ضخم، يضم مزارًا إيرانيًّا في عمارته وطقوسه، مزارًا غريبًّا عن المدينة وتاريخها، لا ينتمي، بأيِّ شكل من الأشكال، إلى عمارتها، ولا حتى إلى ثقافة طائفتها الشيعية الشامية وطقوسها المتجذِّرة عميقًا في النسيج الاجتماعي والديني للمدينة.

وحتى لا أُتَّهم بالتشفِّي، يا فاروق، لن آخذك يمينًا إلى حارة النقاشين، لترى كيف أهمل الناسُ قبرَ معاوية وهجروه، فانتهى منزويًا في نهاية حارة مسدودة لا تفضي إلى طريق. لكني سأدلك على قبر معاوية الصغير الذي تنازل عن الملك، زهدًا وتقوى، فأكرمه الناس بأن ضمَّتْ رفاتَه قاعةُ مسجد صغير متواضع يحمل اسمه بالقرب من الحائط الجنوبي لقصر العظم.

لن أخبرك، يا فاروق، عن ظاهرة المطاعم والبارات التي باتت تنهش جسد المدينة القديمة كالفطر، من دون أن تحترم توازن نسيجها المعماري، ولا خصوصية بيتها الشامي. سأنتظر مجيئك المقبل، لأعرِّفك إلى المعماري الدمشقي حكمت شطة، ليخبرك عن الكوارث التي تحل بالمدينة، وعن يأسه وأمله، وعن مغامرته في العودة للسكن في الشام القديمة، في منزل الرائدة النسوية الأديبة ماري عجمي بالذات.

على ذكر المطاعم والطعام، أتعرف، يا فاروق، أن كلَّها يعجز إلى اليوم عن تقديم الأطباق الشامية الأصيلة، كالبَسماجكات وفتة المكدوس والحرَّا إصبعو[2]. ويا ليتهم يستمعون إليك وأنت تشرح لي كيف ينقسم مطبخ بلاد الشام إلى منطقتين رئيسيتين: تمتد الأولى من إسكندرون إلى حلب، وصولاً إلى الموصل، وتمتاز بكونها خليطًا من مطابخ العرب والأتراك والأكراد والأرمن؛ أما الثانية فتمتد من مدن الساحل، وصولاً إلى دمشق، وتمتاز باستعمالها للرز والخضار بكثرة. يا ليتهم، وهم الذين يستعيضون بالبندورة عن بقية الأحماض، يستمعون إليك وأنت تشرح غنى المطبخ الشامي بالأحماض، من دبس الرمان، إلى الحصرم، إلى الخلِّ، إلى السمَّاق، إلى التمر الهندي، إلى الجانرك[3]، إلى الليمون – هذه الأحماض التي لا تخدم الطعم فقط، ولكن تزيِّن الأطباق بالألوان. وإذا كان أهل لبنان صنعوا قفزةً نوعية من خلال ما يسميه فاروق "ثقافة المطعم"، التي تتميَّز بمزجها بين الـ"مودرن" والأطباق التقليدية البسيطة، التي يحاول فيها كلُّ مطعم وكلُّ chef أن يضيف شيئًا جديدًا على بسيط الأطباق، إنْ لم يكن في الطَّعم ففي شكل التقديم، فإن فاروق يصر – حتى لو "أخد عَ خاطرو"[4] صديقُنا المشترك والذواق إلياس خوري – أن المطبخ الدمشقي، في الطبيخ كما في الحلويات، لا يزال هو الأغنى!

***

منتصف شارع القيمرية: مهلاً، فاروق! أريد أن أروي لك حادثة حقيقية عن صديقنا سمير قصير. هنا، في هذا المكان بالذات، قبل خمس سنوات، التقيت مصادفةً به في رفقة ابنته الصغيرة يمشيان معًا في الشارع. سمير المشاغب والجريء لم يخبر أحدًا بقدومه! ولماذا يخبرنا؟ فالبلد بلده، وهو لا يحتاج إذنًا، خصوصًا أنه أتى للمشاركة في مناسبة عائلية خاصة. لم يكن لدينا متسع من الوقت إلا لأريه بعضًا من كنوز المدينة المخبَّأة وراء الجدران الطينية، ومن بينها مكتب عنبر، بباحاته الأربع، وبيت جبري. لدهشتي، انسحر عاشقُ بيروت بروعة البيت الدمشقي، ببحراته وليوانه وقاعاته وخشبه وأبلقه. وتعجبت لمفاجأته، ولعنت الزمن الذي لم يسمح لهذا المديني بامتياز أن يتعرَّف إلى مدينة قريبة–بعيدة كالشام، لا تبعد عن معشوقته بيروت سوى 110 من الكيلومترات!

لنمشي مجددًا في القيمرية، ولنتَّجه إلى حيِّ باب توما المسيحي. هنا تستيقظ ذاكرة فاروق، ويسبقني إلى ذكر أسماء الأماكن والشوارع والعشيقات. ففاروق الشاب سَكَنَ على مقربة من هنا، في شارع حلب، بالقرب من بستان الكزبري. وهنا اشتهى، كشاعرنا محمد الماغوط، أن يكون صفصافة خضراء قرب الكنيسة، أو صليبًا من الذهب على صدر عذراء! وهنا تَمازَح مع رفاقه وأخذوا الصور بالقرب من باب شرقي، مقلِّدين نزول القديس بولس بالسلَّة من على السور، آخذًا معه إلى العالم رسالة الإيمان "على طريق دمشق".

يبقى أن أذِّكرك، وتذكِّرني، أن باب توما لا يزال يضم المقرات الكنسية الرئيسية لأكثر من عشر طوائف مسيحية مشرقية، منها بالأخص كاثدرائية الروم الكاثوليك في حارة الزيتون، وكاثدرائية الروم الأرثوذكس في القشلة، لأنطاكية وسائر المشرق. وإذا أردت، يا فاروق، أن تسمع كلام العقل والقلب والعنفوان، فما عليك إلا أن تطرق باب الكنيسة المريمية، وتسأل مقابلة البطريرك هزيم من دون موعد مسبق. صدِّقني، سيستقبلك هذا الرجل الكبير بتواضع جمٍّ، وسيُسْمِعُك كلامًا عن الحرية والإنسان، تنوء لصدقه وصراحته جدرانُ البطريركية.

نعم، يا فاروق، تعلم وأعلم أنه على الجهة المقابلة من الشارع المستقيم، في مواجهة الكنيسة المريمية، تقع حارة اليهود، التي تحدُّها من الجهة الغربية حارةُ الشيعة وشارع الأمين، نسبةً إلى العلامة الكبير محسن الأمين، الذي أتى من جبل عامل ليزرع التنوير والتسامح في أرجاء المدينة. نعم يا فاروق، تعلم وأعلم أن غالبية اليهود الدمشقيين غادروا الشام على مراحل، وكانت هجرتهم الأخيرة في مطلع التسعينات، وأن معظمهم يعيش اليوم في نيويورك ويحنُّ لزيارة الشام. وبما أنك لا تنفك تقول إن ما يفرِّق جيلك عن جيلي بالنسبة للمدينة القديمة أنه، في وقتكم، لم تكن متاحةً رؤيةُ الكثير من البيوت والقصور التي تضمها جدران المدينة بسبب إشغالها بالقاطنين، فدعني أخبرك عن أفخم قصور المدينة وأجملها، من بيت لنيادو، إلى بيت لزبونا، إلى بيتي فارحي الأول والثاني، إلى قصر شمعايا. هؤلاء الناس لم يعمِّروا ليرحلوا، ولكن ليقيموا ويبقوا، قبل أن تأتي الكارثة التي اسمها إسرائيل. دعني أخبرك عن معابد اليهود داخل الأسوار التي يزيد عددها عن الستة، والتي لا تزال قائمة، بتمامها وكمالها، مصونةً، بعمارتها الدمشقية الأصيلة وجدرانها المزينة بالكتابات العبرية والعربية، وبمخطوطاتها النفيسة. دعني أخبرك كيف تحوَّلتْ حارةُ اليهود، التي كانت تعج بالنشاط والحيوية وضوضاء قَرْعِ النحاس الدمشقي، حارةً خاوية وخالية وصماء، شوارعُها مكفهرة، وبيوتُها فارغة، وأبوابُها مجنزرة، ونحاسُها مفقود. دعني أخبرك عمَّن تبقَّى – عن هاتين العجوزين اليهوديتين من دون أهل ولا أقارب، عساك تراهما يومًا أو تسمع لهجتهما؛ ففي اعتقادي، لم تعد هناك سواهما تلبس اللباس الدمشقي التقليدي المزيَّن والمطرَّز، وتتكلَّمان اللهجة الشامية الأصيلة داخل أسوار المدينة. عصر بكامله يُزوى، بنسيجه الاجتماعي والعمراني والثقافي، ونحن نتفرج ونتحسر!

عزيزي فاروق،

لن أطيل عليك في هذه الرحلة الشاقة والممتعة. فللذاكرة، كما للجسد، طاقتهما المحدودة. أما هذه الروح العصيَّة، فستظل تخفق وتهدل، من دون وَجَل ولا تعب، توقًا إلى الشام. ومع ذلك، لنتواعد في المرة القادمة. سآخذك وتأخذني، جسدًا وذاكرةً وروحًا، إلى الشام. سندخلها هذه المرة في الاتجاه المغاير، من بوابة الله جنوبًا، أسفل حيِّ الميدان، ونمرُّ بمقبرة مردم بك، ونقرأ الفاتحة على أرواح الأوَّلين، ونلج سور المدينة من الباب الصغير، ونغادره شمالاً من باب السلام في اتجاه الصالحية والعفيف وقاسيون.

***

جالسًا في مقهى الروضة على بحر بيروت، أنظر في الأفق، فأقرأ فيه شعر محمود درويش:

من الأزرق ابتدأ البحر والشام تبدأ منِّي – أموت ويبدأ في طرق الشام أسبوع خلقي.

ألتفت إلى فاروق، وأنظر إلى الثلاثين عامًا التي تُباعِد بينه وبين الشام، فيعود درويش بشعره:

ما أبعد الشام، ما أبعد الشام عنِّي!

وسيفُ المسافة حزَّ خطاي... حزَّ وريدي

وأنظر إلى الـ110 كيلومترات التي تفصلنا عن الشام، وأتحسَّس في جيبي رقم هاتف التاكسي القادر على نقلنا، في أقل من ساعتين، إلى مسقط رأسينا (يومذاك لم تكن السلطات السورية تضيِّق على الحدود)، وأفاتح فاروق بالموضوع ممازحًا، فيرتبك ويرتبك ويرتبك، ثم يضحك ضحكته الممزوجة بالألم. وينقذنا مجددًا شعرُ درويش:

وصرت أرى الشام... ما أقرب الشام منِّي

ويشنقني في الوصول وريدي

نلملم أغراضنا، ونغادر مسرعين مقهى الروضة البيروتي ورحلتَنا الدمشقية. فصَيْحةُ الرجوع الشامي هدأت، ولم يبقَ لفاروق الكثير من الوقت قبل مغادرة طائرته إلى مدينته الثانية باريس. وعلى مدخل المقهى، يحضرني أدونيس و"صقر قريش"، فأبدأ بمطلع "هدأت صيحةُ الرجوع"، فيتلقَّفه فاروق، ويردِّد عن ظهر قلب:

أحلم يا دمشق/ بالرعب في ظلال قاسيون/ بالزمن الماضي بلا عيون/ بالجسد اليابس/ بالمقابر الخرساء/ تصيح: يا دمشق/ موتي هنا واحترقي وعودي/ تصيح: لا، موتي ولا تعودي/ أيتها الطريدة المليئة الفخذين، يا دمشق...

ومعًا نردِّد "عمادة النار" و"تطويب المحبين"، كما قالها أدونيس في حقِّ دمشق، وكما قالتْها دمشق بلسان أدونيس:

يا حبُّ، لا... عفوكِ يا دمشق/ لولاكِ، لم أهبط إلى الأغوار/ لم أعرف النار التي تنادي/ تضجُّ في تاريخنا، تضيء/ سفينةَ الكون الذي يجيء/ عفوكِ يا دمشق/ أيتها الخاطئة القديسة الخطايا.

أخي فاروق،

سنضيع في الأزقة، ونضيع في الذاكرة، ونضيع في العشق! أرجوك، تنبَّه في هذا الضياع إلى علبة المشمش المجفَّف والمحشو بالفستق التي أوصيتَني أن أجلبها لك من الشام. كلْها هنيئًا كلَّما اشتد بك الحنين! لقد فرحتَ بها كالطفل، وشرحت لي كيف أن طعم الفستق الحلبي مع طعم المشمش الشامي، عندما يمتزجان في الفم، يصنعان هذا المزيج الفريد الذي اسمه سوريا. لكنِّي نسيت أن أخبرك وقتذاك أن ألذَّ ما في الأمر هو أن تقضم المشمش بالفستق على بحر بيروت!

*** *** ***


 

[1] أي: "شيء لا يُستهان به مطلقًا." (المحرِّر)

[2] "البَسماجكات": قوامها شرائح اللحم المحشوة بلحم الضأن المفروم والرز والبصل والصنوبر؛ "فتة المكدوس": أساسُها الباذجان الصغير المحشو باللحم المفروم والصنوبر، في صلصة قوامها عصير البندورة واللبن الرائب والثوم، تضاف إليها مربعاتُ الخبز المشروح المقلَّى؛ "الحرَّا إصبعو": أكلة شعبية أساسها العدس والرز والبصل المقلي والكزبرة الخضراء. (المحرر)

[3] الخوخ الفج الأخضر. (المحرر)

[4] أي: امتعض. (المحرر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود