|
مساهمة في نقد المجتمع المعاصر وتأصيله نحو
بناء مجتمع جديد في إطار واقع
العولمة والتخلف (بما هو تخلف صناعي أو أخلاقي
أو كلاهما معًا) الذي يكتنف الوجود البشري
بأسره، تأتي هذه المساهمة – التي تُعرَض لأول
مرة – باحثةً عن مكامن الداء وأصول الدواء.
وأستسمح القرَّاء على ما قد يثير نفورَهم مما
قد يرونه خروجًا عن المألوف، وأطلب منهم
الصبر وقراءتها إلى نهايتها في تمعن. فالأكيد
أنها تطرح نفسَها نموذجًا نظريًّا
جديدًا حول
أصالة الإنسان الكونية. هذا وقد جاء
بحثنا موسومًا بالمخطط التالي: 1.
تجوهُر العقل أصل الأمراض
النفسية–الاجتماعية، قدَّمنا فيه لمبدأ الأزمة الراهنة من
حيث صورتُها البنيوية. 2.
نسبية
الأفلاك الإنسانية، كشفنا فيه عن أصل النفس الإنسانية وما
يعتريها من انحرافات. 3.
جبرية التاريخ: من الوصاية
الاجتماعية إلى النقد اللامنتهي، طرحنا فيه حلاًّ يزاوج بين
فاعلية الإنسان داخل المجتمع وبين طريق صعوده
في المراتب الأخلاقية. 1.
تجوهُر العقل أصل الأمراض النفسية–الاجتماعية يؤدي تجوهُر
العقل أو جمودُه إلى إصابة البنية النفسية–الاجتماعية
بأمراض وعُقَد تصعب معالجتها معالجة تجزيئية،
من دون رؤية شمولية تقوم على وعي جذور
المرض والعُقَد. ويمكن التقرير بتعذر حدوث
الشفاء النهائي وزوال العلة الأساسية إذا
كانت المعالجة تمنح "شفاءً" سطحيًّا لا
يمنع ظهورها مرة أخرى، في صورة أقوى من
الأولى، لأن العلاج المقدَّم عند ظهور المرض
أول مرة كان علاجًا تأجيليًّا، عمل على
كبت المرض دون معرفة حقيقة المرض ومعناه،
الذي هو، في صورته المجردة، التنبيه والكشف
للمريض عن عدم انسجام حالة عقله السكونية وعن
فقدانه التناغم مع الحركية المستمرة للوجود. ويتجلَّى
المرض الذي استشرى في أوصال المجتمع ظاهريًّا
في حياته الثقافية، التي تنعكس على باقي
الجوانب الحياتية الأخرى، في بُعديها الفردي
والجماعي، بحيث يصعب أو يتعذر ربطُها بأصل
أصولها. فالمعاناة
النفسية والاجتماعية للإنسان المسلم اليوم،
التي هي بلا شك متأتِّية من تدهور الحياة
الثقافية لديه وجمودها، إنما هي تعود إلى
أمراض هي من جنس المعاناة التي يعانيها؛ إذ
إنها أمراض نفسية–اجتماعية بالدرجة الأولى.
فنجده، مثلاً، على الرغم من أنه يصلِّي ويصوم
ويؤدي فروضَه الدينية تأديةً حرفية لا نقص
فيها، إلاَّ أنه لا يرى النتائج التي كان من
المفروض أن تنجم عنها. فابتداءً، نجده لا
ينتهي خارج الصلاة عن الفحشاء والمنكر؛
وانتهاءً، هو عاجز حضاريًّا ومتخلف عمَّن لا
يدين بالإسلام. فمع التأكيد أن الخلل ليس في
الإسلام، كتوجيه مطلق لا يأتيه الباطل من بين
يديه ولا من خلفه، يرشح لدينا أن الخلل موجود
في ذلك الإنسان الذي يطبِّق التوجيه المطلق.
إذن، فالقضية الأساسية التي يجب علينا
تتبُّعها هي كيفية تفعيل تلك السلوكيات
العبادية (وهذا كمثال) في حياته، وهذا لتحقيق
ما يمكن أن نطلق عليه عملية تشميل روح
الامتثال العبادية لدى الإنسان المسلم. ففي الإطار
الفردي، كثيرًا ما يكون الشخص مصابًا بـعقد
نفسية، لكنْ دون أية قدرة على إزالتها أو
حتى التخفيف من وطأتها؛ مما يولِّد لديه
شعورًا بـالتناقض الذي يتركَّب بفعل عدم
التوافق بين المعطيات الذهنية (أي المبادئ) والمعطيات
السلوكية التي هي تطبيق المبادئ. وهذا كله
يحدث لدى الفرد حدوثًا خفيًّا، فيحاول
التعويض بردِّ فعل باتجاه هذا "الاستشعار
الخفي" أساسه العقد النفسية ذاتها؛ ويتشكل
بذلك "محور نفسي" مركزه العقدة النفسية،
بما يطبع الشكل السلوكي الكلِّي للفرد المريض
بـالانفعالية، حيث يكون التعامُل مع
العالم الخارجي وفق خلفية العقدة النفسية
التي تجعل من ذات الفرد المرجعيةَ الكبرى لها
في تَعامُلها مع الوجود الخارجي، فيبدأ بذلك
صراعًا خاسرًا مع العالم الخارجي. ويمكن لنا أن
نقرر أن الانفعالية مؤشر على العقد
النفسية التي يعاني الفرد والمجتمع منها على
حدٍّ سواء. فالهزائم الإسلامية (العربية منها
خاصة) إنما هي بفعل الانفعالية التي تطبع
مجتمعاتها. إذ نشاهد عقب أيِّ اعتداء
إسرائيلي أو أمريكي على حُرمة من حُرمات
الأمة الإسلامية، على سبيل المثال، خروج حشود
غفيرة من الناس إلى الشوارع لتعبِّر عن رفضها
للاعتداء وعن حميَّتها على حُرماتها، دون أن
يستتبع ذلك مراجعاتٍ متأنية وعميقة تعمل على
تصحيح الأخطاء والمرتكزات الذهنية للثقافة
الإسلامية المعاصرة التي أدت إلى ذلك الوضع. فالانفعالية
تَسِمُ السلوك الفردي بـالنمطية، التي
تسهِّل على كلِّ جهة، فردًا كانت أو جماعة،
مهما كان اتجاهها، التحكم فيه على شاكلة
المنعكس الشرطي réflexe conditionné (تجربة پافلوف والكلب): فليستصدرَ
المتحكِّمُ فعلاً من المتحكَّم فيه ما عليه
إلا معرفة نمطيته. وهذا هو عين ما يفعله الغرب
للسيطرة على شعوب العالم الأخرى والهيمنة
عليها. والإطار
الاجتماعي لا يفارق الإطار الفردي إلا من
الناحية التفاعلية، التي هي إضافة نوعية
للإشكال؛ أي أن التفاعل هو الذي يكتسب الآن
كلَّ الصفات التي يحملها الفرد المريض. فتصير
العقد النفسية، بعد مرورها الفعلي إلى حيز
السلوك المباشر، عقدًا نفسية–اجتماعية،
تنشأ كظواهر اجتماعية تتم دراستها ومعالجتها
على أساس المتغيرات الكمية. إلا أن المعالجة
والدراسة العميقة التي تستوفي شروط المنهج
العلمي تقتضي، إلى جانب الدراسة الكمية،
الاعتمادَ علي المتغيِّر الكيفي. فأهمية
الاستقصاء الكيفي في بحث الظواهر
السوسيولوجية والپسيكولوجية تظهر في ملاحقة
أقصى الشروط المكوِّنة للظواهر. كما يصبح التناقض
الداخلي للفرد صراعًا اجتماعيًّا،
والاستشعار الخفي ظاهرًا بين الأفراد،
خفيًّا داخل التفاعل، ليتشكل المحور النفسي–الاجتماعي،
ومركزه العقد النفسية–الاجتماعية. ومن هنا فإن
أية رؤية تحمل فكرة تغييرية تنشأ داخل
المجتمع المصاب بالأمراض النفسية–الاجتماعية
ستكون فكرة ميتة، لا تستجيب لمعالجة متطلبات
المرض، سواء كانت الفكرة مستمَدة من تراث
المجتمع الأصيل أو كانت ترى أن التغيير سيتم
على أساس بعض التجارب الناجحة هنا أو هناك.
والسبب في ذلك هو نفسه أصل المرض، بحيث تكون
المحاولة التغييرية نفسها موسومةً بالعقد
النفسية، وبالتالي بالانفعالية التي لا
تحكِّم العقل إلا من أجل تحقيق حاجة في نفس
الذي قام بالمحاولة: فإما غرض إيديولوجي، أو
غرض سلطوي، أو ربما حتى غرض نرجسي ذاتي، هدفه
النهائي تحقيق الذات. فتكون على شكل تقديس
لمعطى تاريخي أو اجتماعي مغاير، سواء كان من
طرف فرد أو جماعة. إلا أن تجاوز
هذا البنية الاجتماعية، التي هي، في النهاية،
نتاج تاريخي مشروط إنسانيًّا، يقتضي النزوع
نحو اللاإنساني؛ وبالتالي يقتضي الخروج عن
الاجتماعي، الأمر الذي يؤدي بنا إلى البحث عن
مرتكز لاإنساني داخل الإنساني، وهذا لكون
الإنسان لا يستطيع التجرد من إنسانيته. وهو
بحث سيأخذنا إلى المبحث الموالي. 2.
نسبية الفلك الإنساني 1.2.
نسبية أينشتاين ونسبية النفس: يتقوَّم
مفهوم النسبية relativité عند
أينشتاين على تغايُر القوانين الفلكية بين
العوالم الكونية. إذ لا ينطبق قانون الجاذبية
الأرضي على القمر، كما لا ينطبق القياس
الزمني الأرضي على المقاييس الزمنية للكواكب
الأخرى. وبنفس المفهوم (مفهوم النسبية
الفلكية)، تتركب العوالم النفسية لدى الكائن
البشري، فردًا وجماعة. فلكلِّ نفس فلك نسبي
خاص بها، يقوم على شروط موضوعية وقوانين
ثابتة ومتفرِّدة تتحكم فيها. وهذه القوانين
تتشكل من طبيعة العلاقة الداخلية التي تنشأ
داخل الإنسان، منذ تكونه في الرحم الكونية،
بين الفرد الحامل للنفس، كجسم مادي متكوِّن
من جزيئات مرئية، وبين النفس ذاتها كمعطى غير
مرئي. وما هو جدير
بالذكر أن الفلك الإنساني النسبي ذا القوانين
الثابتة هو فلك متفرد، لا يشترك مع أيِّ
فلك إنساني نسبيٍّ آخر، مهما كان التماسك
والتقارب بين نفسين أو أكثر قويًّا (مثل علاقة
الحبِّ التي تكون بين الرجل والمرأة، أو
علاقة الأمومة، أو علاقة الصداقة التي تنشأ
بين فردين أو أكثر). كما أن النفس الإنسانية
تتميز عن غيرها من المخلوقات في العالم
المادي بالعلاقة الداخلية بين النفس والفرد
الحامل لها. فعلى اعتبار
أن للعوالم المادية كلها أفلاكًا تنفرد بها،
بما فيها جسم الإنسان نفسه، نجد أن النفس،
مفصولةً عن جسمها، تركيبٌ موجود، لكنه غير
محسوس، على الأقل بالحواس الطبيعية (وقد ثبتت
إمكانيةُ تحسُّس المجال النفسي اصطناعيًّا)؛
وهذا إضافة إلى التفرد الطبيعي المنظور
والمشاهَد الذي يميِّز الفرد من حيث تكوينه
البيولوجي والبيئي والتربوي. وقبل أن نمضي
قُدُمًا في تقصِّي أصول النفس البشرية، نعود
على بدء، لنتوقف عند نسبية أينشتاين، ونتساءل:
ماذا يحدث عند التَّماس الحتمي بين الأفلاك
الكونية، بمعنى ماهية النتيجة عند احتكاك
القوانين الثابتة بعضها ببعض؟ ونجيب فنقول
إن التَّماس بين الأفلاك يتم، إذن، بميلاد
النفس الإنسانية ذات الإرادة الحرة؛
وبالتالي، فالنفس هي نتاج الطبيعة الجبرية
التي تتميز عنها بالإرادة الحرة. وهذا هو
عين العلاقة بين الإنسان والطبيعة (علاقة
أمٍّ بمولودها). ولكنْ لا بدَّ
لنا أن نتريث. فإذا كان إنسانُ الإرادة الحرة
هو نتاج الطبيعة الجبرية، فإن الإرادة الحرة،
تبعًا لذلك، هي كذلك نتاج الطبيعة الجبرية.
وأيضًا، إذا كانت الإرادة الحرة تُفارِق
الطبيعة من حيث المبدأ – إذ هي علاقة منتِج
بمنتَج – وتتجاوزها من حيث طبيعتُها (الجبرية
والحرية)، فلا بدَّ أن تكون العلاقة بينهما
علاقة أمومة؛ وبالتالي، فهي قطعًا ليست
علاقة ربوبية. بذا تصير
الإرادة الحرة وسيلةً للبحث عن العلاقة
الناظمة بينها وبين آثار الربوبية عن طريق
العلاقة السليمة مع الأمِّ الكونية. وهذا هو
سر تأكيد الإسلام، من خلال القرآن وسنَّة
الرسول (ص)، على حُسن معاملة الوالدين، وبخاصة
الأم: فعن أبي هريرة (ض) قال: جاء رجل إلى رسول
الله (ص) فقال: "يا رسول الله، مَن أحق الناس
بحسن صحابتي؟" قال: "أمك." قال: "ثم
مَن؟" قال: "أمك." قال: "ثم مَن؟"
قال: "أمك." قال: "ثم مَن؟" قال: "أبوك."
ناهيكم عن الآيات القرآنية التي وَرَدَتْ في
هذا الشأن. فما هي، إذن، إلا علاقة مصغرة
لعلاقة الإنسان بالرحم الكونية. فالمهمة
الإنسانية هي التوجه في البحث توقًا ورغبةً
إلى العودة مرة أخرى إلى عالم ما قبل الطبيعة،
عن طريق البرِّ بالرحم الكونية التي هي عالم
الطبيعة، من خلال معرفة الإنسان للطريق
التي جاء منها بوسيلة التفكر، ليعود
أدراجه من خلالها. إذن فالتفكر عبادة حرة
طليقة من كلِّ قيد، ماعدا قيدًا واحدًا هو
التفكر في ذات الله تعالى. وهو – تعالى – قد
تنزَّه عن فلكَي الزمان المكان اللذين سُجِنَ
فيهما الإنسان. فلا يستطيع المرء أن يتصور
حادثًا إلا إذا رَبَطَه بوقت محدد ومكان
معيَّن؛ كما يعجز الإنسان عن تخيل أيِّ شيء
إلا إذا ألبَسَه حلةً من خبراته السابقة. 2.2.
فرضية الميلاد المتكرر: لكنْ،
هل ينتهي الميلاد والاختيار ويتصلب بعد
الميلاد الأول للإنسان؟ أم أن هناك تعددًا في
ميلاد النفس والاختيارات السلوكية من حيث
المبدأ الاعتباري كخلفية أخلاقية؟ الجواب
الذي قد يبدو بديهيًّا ومسلَّمًا به هو النفي
بالنسبة للاختيار. أما الميلاد فهو ميلاد
واحد، وأما الاختيار هو عدد سلوكات الإنسان
من الميلاد حتى الوفاة. غير أن ما يجعل من هذا
الافتراض أمرًا مردودًا هو تلازُم الميلاد
والاختيار. فميلاد النفس هو نفسه ميلادٌ
للاختيار الحر. وبالتالي، فالافتراض الجديد
والأصح هو عدم التصلب، وبالتالي التكرار،
لكليهما. لكن السؤال البديهي والملح هو عن
كيفية حدوث ذلك. هنا يُدخِلنا البحثُ إلى
مستوى آخر أعمق يتعلق بنوعية الأفلاك أو
القوانين التي تتولَّى دور الإذن بالميلاد
ونوعيتها أيضًا. أتينا في
البدء على أن الميلاد الحر هو حتمية احتكاك
الأفلاك الكونية؛ وبالتالي، فإن تكرار
الميلاد يقتضي تكرار احتكاك الأفلاك. لكن
الأفلاك التي تتولَّى الإذن بالميلاد الثاني
(النفسي) ستكون حتمًا مختلفة نوعيًّا عن أفلاك
الميلاد الأول: فالميلاد الأول كان ميلادًا
جسديًّا؛ ومعلوم أن الميلاد الجسدي لا يتكرر.
فالبحث عن نوعية الفلك ينطلق من خصوصية النفس
ذاتها وتميُّزها، التي هي العلاقة الداخلية
التي تنشأ بين النفس وحاملها. وهذا ما يجعلنا
نقرر بأن الوعي هو الفلك الذي يعوِّض دور
الأفلاك الكونية في الإذن بالميلاد. إذن
فالمسؤول عن تكرار الميلاد والاختيار هو فلك الوعي
– ومسؤولية الفلك الفكري (أو الوعي) تعيد
الإرادة الإنسانية إلى صوابيتها المفقودة في
الحالة المَرَضية – منذ ولوج النفس العالم
الأرضي. إذ على الرغم من التعدد والتكرار في
أفعال الإنسان، إلا أنه يبقى ذا أصل ميلادي
متجوهر أو متجمد من حيث المرجعية الأخلاقية،
كما أسلفنا الذكر؛ فيغيب بذلك محصولُ الإرادة
الإنسانية، وهو تراتُبية المستوى الأخلاقي
الذي يؤسِّس للإبداع الذهني والثقافي
والسلوكي. فتكرُّر
الميلاد في طبيعته تكرُّر ميلادي بالوعي؛ وهو
التزحزح والتقلب من حالة ذهنية إلى أخرى، في
استمرارية لامتناهية تتناغم ونضجَ الوعي
الإنساني، ديدنُها اللامنتهي مواصلةُ التعرف
على آثار الربوبية من خلال المرور بالأمِّ
الكونية التي هي الطبيعة الجبرية. 3.2.
تفاعل الوعي أو "روح الاجتماع": وهذا
ما يقتضي الاحتكاك المتواصل مع ما لا نهاية له
من العوالم الفلكية اللامنتهية. من هنا قدسية
التعامل مع موجودات الكون قاطبة؛ وهنا معنى
قول خير البشر: "الدين المعاملة." أي أن
شمولية الدين تستوعب حركات الإنسان
وسلوكياته كافة في آخر المطاف. واحتكاك (تفاعُل)
الفلك الفكري نوعان: 1.
تفاعل
فلك نفسي (الوعي) بفلك مادي: وهو التقلب الذهني من جراء
تفاعل الوعي بفلك مادي، حيث يحدث الانبجاس
والميلاد. إذ يتكوَّن الفلك المادي من كلٍّ من
المجال الطبيعي للإنسان، من نبات وحيوان
وجمادات، والمجال المبني من أبنية وآلات (إذ
تشكِّل هذه محيط السلوك الإنساني، سواء كان
السلوك الفعلي المباشر أو كان السلوك الضمني
أو الاعتباري غير المباشر، المتناغم مع
المجالين). ومفهومنا للتناغم قائمٌ على
احترام القوانين الذاتية لكلِّ مركِّب من
مركِّبات المجالين (الفعلي والضمني)، وهذا
حتى يتحقق التكامل المتمثل في الأخذ والعطاء،
بما يخالف التفاعلات القائمة في وقتنا الراهن
مع البيئة على أساس السيطرة والهيمنة التي لا
ترى ما عدا الإنسان إلا بوصفه مجالاً وُجِدَ
من أجله فقط، دون أيِّ اعتبار آخر – ونقصد
الاعتبار الذي يقوم على الأخذ والعطاء،
الناتج من التصور الواضح لمفهوم الاتِّساق
الكوني المتكامل، دون الوقوف عند حدود
الرؤية العقلانية المجردة للإنسان، وهي
الرؤية التي أنتجت إشكالات يستعصي حلُّها على
الإنسان نفسه. فالمشكلات
التي تعاني منها المجتمعات المعاصرة
برمَّتها – دون تمييز – كثيرة: إذ نجد في جانب
المجال الطبيعي أنها تواجه التلوث البيئي
الناتج عن النفايات الصناعية (وما ثقب
الأوزون إلا أحسن مؤشِّر على ذلك)؛ كما نتفاجأ
بأمراض للحيوانات، مثل مرض "جنون البقر"؛
وصولاً إلى حدوث الزلازل المدمِّرة أو
الفيضانات المُهلِكة، التي إنما هي تعبير عن
فساد ما يمكن لنا أن نسميه بالـكَرْما
الاجتماعي karma social للإنسان[2].
أما في المجال المادي، فنجد المشكلات
الحَضَرية في مقدمة انشغالات حكومات الدول
الداخلية، بما هي ناجمة عن عدم انسجام رغبات
الإنسان المعاصر مع المعطيات البيئية. فهذا
كله لَمِما يدلِّل على عدم صلاحية النظرة
الإنسانية الراهنة إلى الكون، التي يبدو أنها
في حاجة ملحَّة إلى إعادة نظر. 2.
تفاعل
فلك نفسي (وعي) بفلك نفسي (وعي) آخر: وهو
التقلب الذهني من جراء تفاعل الوعيين، حيث
يحدث الانبجاس والميلاد. وبالنتيجة، يتشكل
الفلك الاجتماعي الذي مبدؤه التفاعل بين
فردين. ومن هنا قدسية الاجتماع أو روح
الاجتماع. وسمة التفاعل لا تقوم على
الأنماط التعميمية المؤدْلَجَة التي تقسم
العلاقات الإنسانية إما إلى نمط نظامي، كما
في نظرية "النسق الاجتماعي" للأمريكي
تالكوت پارسونز، الذي يبرِّر فيها الحفاظ على
النمط الرأسمالي الأمريكي، وإما إلى نمط "صراعي"،
كما يَرِدُ لدى النظرية الماركسية التي تحاول
فيها التأسيس لمشروعها الثوري والتسويغ له.
وبالإضافة إلى ذلك، ينأى طرحُنا عن الرؤية
الانصهارية للذات الإنسانية التي يطرحها
الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه روح
الاجتماع، حيث كرَّس فيه إثبات ولاء
الأفراد لـ"فكرة واحدة" تقوم بهيمنة شبه
مطلقة عليهم. كما يختلف عن النظريات
المعاصرة، بجميع أشكالها، التي تتأسَّس
جميعًا على مسلَّمة التمركز الاجتماعي
الغربي الذي أنتج هذه النظريات؛ وهو التمركز
الذي ينبني، بدوره، على تمركز الذوات égocentrisme داخل المجتمع المتمركز على نفسه. أما طرحنا فهو
يستند إلى خصوصية كلِّ نفس إنسانية،
باحتوائها لمكوِّناتها الموضوعية الخاصة بها.
فالتفاعل عندنا إنما يستند أساسًا على
الاختلاف المتنوع والإبداع اللذين يتضادان
والمفاهيم المتحجِّرة والمتمركزة على الذات
التي تجعل من نفسها المرجع الوحيد الذي يقوم
بالتفسير والفهم، بما يؤدي إلى أشكال صراعية
مبدؤها حدِّية الرأي – ومنتهاها العنف
المادي. ومن هنا ينتج
لدينا أن مفهوم الاجتماع لا يقتصر فقط على
تفاعُل وعي الأفراد بعضهم ببعض، وإنما يشمل
أيضًا التفاعل مع الموجودات الكونية كافة،
بما هي عوالم فلكية ذات أفلاك متعددة. إضافة
إلى كون النفس ليست نتاجًا طبيعيًّا في
الأصل، بل نتاج ما قبل طبيعي: وهو الأمر
الذي يؤكد عدم حتمية انسحاق الإنسان داخل
نظامي الطبيعة والمجتمع؛ وهو الأمر نفسه الذي
يؤكد عدم إمكانية تألُّه الإنسان على حساب
الطبيعة والمجتمع. وهذه هي القضية التي
سنكرِّس لها المبحث التالي، الذي سنقتصر فيه
على معالجة الجانب الاجتماعي منه. 3.
جبرية التاريخ: من الوصاية الاجتماعية إلى
النقد اللامنتهي يتأسَّس الشكل
البنيوي للتاريخ على الزمن المتكون من
الأفراد الذين "يتبنون" السيرورة
التاريخية للمجتمع الذي ينضوون تحته. وهذا
التبنِّي يتمظهر في "البدايات" و"النهايات"،
أي في الحدود التي يتعامل بها الفرد داخل
المجتمع كبديهيات. وهذه البديهيات يلتزم بها
الفرد لتحقيق غرضين هما الاندماج integration والتبنِّي adoption،
الأول كسبب والثاني كنتيجة. 1.
الاندماج:
لكي يسدَّ الفردُ حاجاتِه، عليه أن يندمج في
المجتمع ليتحقق له قضاءُ مصالحه. وهذا يبدأ من
تعلم اللغة لتحقيق التواصل مع مجتمعه، وصولاً
إلى الالتزام بنسقه الثقافي والاجتماعي
العام، من عادات وتقاليد وموروثات عرفية
وكلِّ ما يحقق "الرضا الاجتماعي" عنه. 2.
التبنِّي:
وهو المرحلة التالية للاندماج، التي يصير
الفردُ فيها مدافِعًا عن النسق الاجتماعي،
بكلِّ ما يحويه من مُثُل وقيم، ضمنية وظاهرة.
وهذا ما يمنحه سلطة اجتماعية يحملها في
لاوعيه، لتنطبع في عالمه الفكري وتُلازِمه
زمانًا ومكانًا. ولا تفوتنا
الإشارة إلى أن العمليتين لا يمكن الفصل
بينهما إلا نظريًّا؛ فهما تحدثان في اللاوعي
كعملية واحدة غير قابلة للتجزؤ. كما أن
هذا لا يمنع من غلبة أحد العنصرين على الآخر،
إلى درجة عدم ظهوره. كذلك فإن ظهور
أيِّ شكل "معارضة" أو "نقد" من طرف
الفرد لمجتمعه، مهما كانت شدته وحدَّته، لا
ينطلق مفهوميًّا إلا بعد التبنِّي. وهذا ما لا
يقوِّض في شيء من السلطة التي منحها لنفسه
بتحقيقه للرِّضا الاجتماعي؛ وبالتالي، لا
يكون قد قدَّم إلا محاولة تغييرية شكلية
في المجتمع، لا تمس بالتكوين البنائي والنسقي
الكلِّي للمجتمع. وبهذا يتجلَّى
الإنسان في صورة "المتماهي" identifié مع دوره الذي ينتظره، ربما منذ ما قبل
ميلاده، دون أن تكون له فرصة "التأمل" أو
حتى التريث لأداء دوره. وهذا ما يقتضي
انخرامًا كلِّيا لمسلَّمة "اختيار الدور"
المميِّزة للإنسان عن غيره من الموجودات. وهو
الأمر نفسه الذي يُفضي إلى انخرام مسلَّمة
أشد خطورة، وهي المسؤولية. إذ كيف يكون
الإنسان مسؤولاً عن أمر كان قد قُدِّر
عليه مسبقًا دون أن تتوفر له إمكانيةُ
الاختيار؟! لكن السؤال
الذي يفترض تناقضًا صريحًا في الطرح هو: ألم
يكن الإنسان بدايةً هو الذي قام بعملية
التبنِّي، وبالتالي، قام برسم الحدود لنفسه،
وأدى ذلك إلى أن يرمي بنفسه في هذا الإشكال
المتناقض تناقضًا خطيرًا؟ فأن يتبنَّى
الفرد حدود المجتمع، فهذا خيار حيوي بالنسبة
إليه، ولا يمكن له التعايش – وربما العيش –
من دونه؛ ومن ثم يصير هذا الخيار نفسه عائقًا
حقيقيًّا يحول دون تحقيق ما يُفترَض أن
يتميَّز به عن غيره من الموجودات. فهذا التصور
يزج به في إشكال يهدِّد حياته العصبية. نخلص نهايةً
إلى أن الفرد محكوم عليه إما بالتبني الكامل
للسلطة الاجتماعية، بما يتضمن من "تماهٍ"
identification يُلغى في إثره الدورُ والهوية
الإنسانيان؛ وإما بالانهيار أمام السلطة، من
غير قدرة لا على الاندماج فيها ولا على قبولها
كمسلَّمة، الأمر الذي يؤدي به إلى أن يفقد
كلَّ أمل في التماهي مع دور يزاوج فيه بين
اختيار الدور وبين المساهمة في التغيير من
دون سلطة اجتماعية. وبالتالي، نكون أمام خيار
واحد هو الموت الذي يتجلَّى في خيارين:
موت حرية اختيار الدور، أو موت الدور نفسه.
فإمَّا أن نستطيع إيجاد صيغة ثالثة توحِّد
بين الموتين، لتنتج لنا حياةٌ جديدة، وإما أن
ننسحب ونعلن نهاية الإنسان وموته. إن البحث يفرض
علينا حلاًّ من داخل الخيارين: إذ لا شك أن
بحثنا لن يعمد إلى ترتيب أحد الخيارين أو
تفضيله أو إلغائه، بل سنقصد فيه التأصيل enracinement؛
الذي سيعمل على الحفر في مكوِّنات الخيارين
للوصول إلى مصادرها وطبيعتها، مما سيتيح لنا
اكتشاف الفارق النوعي بينهما. 1.
الخيار الأول:
يحوي الاندماج والتبنِّي، أو معرفة الحدود
والالتزام بها. فهي عملية ذات طبيعة اكتسابية
بالنسبة للإنسان، تتشكل ماهيتُها في العالم
الموضوعي المُفارِق للذات الإنسانية، إضافة
إلى "دور التماهي"، الذي هو عملية يقوم
الفرد فيها بتمثيل دور تمَّ التحضير له
مسبقًا: فهو يحاول، بالتالي، اكتساب شخصية
ثانية مُفارِقة له. أما "السلطة" autorité،
فهي "الكسب" appropriation، أيًّا كان نوعه؛ ولا تكون في الغالب
ظاهرة للعيان، إلا أن رمزيتها تظهر في اكتساب
السيطرة على الذوات الأخرى، فرديًّا أو
اجتماعيًّا، ماديًّا أو روحيًّا. فالعنصر
المشترك في الخيار الأول بين الاندماج
والتبنِّي والتماهي والسلطة الاجتماعية هو الكسب. 2.
الخيار الثاني:
يتفرد بخاصية "اختيار الدور"، التي
تتشكل بماهيتها النفسُ الإنسانية؛ وبالتالي
فهي تصبغ العالم الذاتي للإنسان، الذي لا
تدخُّل له في تحديدها ولا اكتسابها إلاَّ عن
طريق التماهي. واختيار الدور يعني تعدد
الإمكانات السلوكية تجاه الظاهرة الواحدة في
العالم الموضوعي. وبهذه الجدلية بين العالم
الذاتي والعالم الموضوعي، نكتشف موجِدًا
كونيًّا (هو الله سبحانه وتعالى) يستوعبهما
ويتجاوزهما. إذ يُشترَط في الموجِد الثباتُ
وعدمُ التغير، وبالتالي استحالة دخوله في
إطار جدلي يقوم بالتأثير والتأثر؛ بل إن
مهمته هي إيجاد العلاقة الجدلية والهيمنة
عليها. وبالتالي فإن الاختيار الحر هو
كُنْهُ الأصالة الإنسانية. ومادام
الاختيار الحر هو الأصل، فإنه هذا الأصل الذي
يعود في النهاية إلى الموجِد الكوني؛ فيصبح الواسطة
بين الموجِد الكوني والعالم الذاتي والعالم
الموضوعي. والواسطة هي نفسها أصل العالم
الذاتي ولا تفارقه. وتشمل الواسطة (أي
الاختيار الحر) بالطبع الظواهر الاكتسابية،
من اندماج وتبنٍّ وتماهٍ وسلطة، لتنضوي تحت
هيمنتها المطلقة، فتتحول من توجهها إلى
الاجتماعي إلى توجهها الدائم إلى الموجِد
الكوني (الله)، فتكتسب من خلال ذلك صفاتٍ
مفارِقة للصفات كانت لها عند توجُّهها إلى
المجتمع. والثابت الوحيد لهذه الصفات
المفارِقة هو التغير والتعدد اللامنتهي.
فالاندماج والتبنِّي يكون للامنتهي الذي
ينشد الكمال باستمرار، لكن دون الوصول إلى
نهايته – وهذا هو معنى الإنسان. والتماهي
يكون تماهيًا مع اللامنتهي الذي لا تُدرَك
نهايتُه – وهذا هو معنى الاستخلاف.
والسلطة تُستمَد من التوجه الدائم للاكتشاف
– وهذا هو معنى حاكمية الموجِد الكوني عن
طريق مُحْكَم تنزيله. فإذن، وفقط
بهذه الصيغة، يستطيع الإنسان تحقيق إنسانيته
بالاستخلاف بواسطة حاكمية الموجِد الكوني؛
بمعنى آخر، أن تكون سلطته الاجتماعية
واختياره الدورَ في صيغة لاتعارضية من خلال
الدمج بينهما، بالتعرف إلى الموجِد الكوني
باستمرار لتتحقق مسؤوليتُه. وبذلك ينتهي
الخطر الأعظم الذي كان يتهدده. وحينئذٍ
سيتملك الإنسان المعرفة الأولى نحو كماله؛
وهي المعرفة ذاتها التي يبتعد بها عن تهديدات
"فقدان الهوية" التي تنعكس سلبًا على
حياته النفسية والاجتماعية والثقافية. كما
أنها أيضًا تحرِّره من قيود الاعتماد على
الغير dépendance (فردًا أو جماعة) في استمداده
شروطَ الحرية الفكرية والاعتقاد والفعالية
الحضارية التي ترفع الإنسان في مراتب الروح
والمادة معًا، دون استشعار أدنى استعلاء ذاتي
يمكن أن ينقلب به على الهِبَة الإلهية
الممنوحة له بفعل هذا التوجه الذي يوحِّد بين
القول والممارسة. كما أنها تنقل الإنسان إلى
مرحلة التعدد والتنوع التي ترسم معالم تعددية
حضارية متفاعلة، بعيدة عن الرؤى
التصادُمية. إذن، ومن خلال
كلِّ ما سبق، يتكشف لدينا أن التحرر من وطأة
الأمراض النفسية والأمراض النفسية–الاجتماعية
والتخلص من الوصاية الاجتماعية مرتبط
باكتشاف الذات لذاتها وبذاتها. وهذا يعني
تحقيق الصدق والشفافية مع الذات. والصدق مع
الذات هو أصعب وأخطر ما يمكن أن ينجزه المرءُ
ويداوم عليه في حياته. والوصول إلى ذلك يتطلب
منا معرفةَ وممارسةَ آلياتٍ يجب أن يتم العمل
بها: أ.
الاعتراف
بنسبية الإنسان والإقرار بها: وهو
الاعتقاد، مع العلم، بوجود آراء وتصورات
ذهنية مُخالِفة، لها الحق في الوجود، إلى
جانب الآراء والتصورات الذاتية، سواء كان ذلك
على المستوى الفردي الپسيكولوجي أو على
المستوى الجماعي الپسيكواجتماعي. فعلى الفرد
أن يعلم أن مُخالِفَه في الرأي له مبرراتٌ
وشروط تكوِّن رأيَه المُخالِف لرأيه؛
وبالتالي، فالأبعاد التي تكون لدى الرأي
المُخالِف قد تكون غائبة لدى الرأي الذي
يتبنَّاه الفرد. أما على مستوى
الاجتماعي، فإن لكلِّ مجتمع شروطَ تكوُّنه
الخاصة التي لها ظروفها التاريخية والواقعية
الخاصة به؛ ومنه، فإن لكلِّ مجتمع أبعادَه
التي من خلالها يرى بها الأمور ويتصورها.
فالتفاعل بين الذوات الفردية والاجتماعية
يقتضي التفاعل الذي يرمي إلى استجلاء الأبعاد
الغائبة عن الذات وإضافتها إلى الرصيد
الذاتي، مع الاحتفاظ بحقِّ تأصيلها وتحويرها
وتقويمها، بما يتلاءم مع الخصوصيات. ب.
الاعتراف
بالتراتُب الأخلاقي والإقرار به: لوعي
الإنسان درجاتٌ تختلف باختلاف دينامية عقله،
من جهة، وتفاعُله مع الواقع الدينامي، من جهة
أخرى. وبمقدار التفاعل بين العقل (بما هو
وظيفة تعمل على الربط بين المحسوس المجرَّب
والغيبي المجرَّب أيضًا) وبين الواقع
الدينامي يكون مقدار المرتبة الأخلاقية. ولا شك أن
للفوارق الذهنية، التي تتأتى من فعل عوامل
تربوية تختص بالتنشئة والمحيط الاجتماعيين،
انعكاسًا بالضرورة على المستوى الأخلاقي
الاجتماعي. وإذن، فالإنسان لا بدَّ له من أن
يتبوأ مقامًا أخلاقيًّا يتموقع في إطاره،
سواء كان ذلك يختص بأخلاق التزكية أو أخلاق
التدسية. ويختلف المقياس الأخلاقي من ناحية
النوع: فهو إما فردي أو اجتماعي أو حضاري؛ أو
من ناحية الكيف: فهو إما دنيء أو رفيع. والإقرار
بتراتُبية الأخلاق يؤدي بالإنسان إلى التعرف
إلى موقعه الأخلاقي أولاً، وإلى محاولة
الصعود به ثانيًا. ويجدر الإعلام بلانهائية
المقياس؛ إلا أن تحديده مرتبط بالكلِّية
الأخلاقية للإنسان، أي بمجموع المراتب
الأخلاقية الفردية أو الاجتماعية أو
الحضارية. يبقى أن نفصل
الحديث في كيفية تكوُّن اللحمة بين العناصر
الثلاثة المكوِّنة للواقع الإنساني، وهي
الفرد والمجتمع والحضارة – ومعلوم التراتُب
والترابط الموجود بينها: فمجموع الأفراد ينتج
لدينا مجتمعًا، ومجموع المجتمعات ينتج لدينا
حضارة، ومجموع الحضارات يُمِدُّنا بالمشهد
الإنساني الكلِّي – وهذا كله طبعًا صحيح
نظريًّا. أما عن الجانب
العملي الذي يوحِّد النظرتين، فيأخذنا
الحديثُ فيه إلى ما يكتنف العناصر نفسها من
"دينامية متفاعلة" dynamique
interactive، هي،
في نظرنا وكما أسلفنا ذلك، روح الاجتماع.
وهذه الدينامية المتفاعلة تكتنف سائر
العناصر المكوِّنة للواقع الإنساني التي
يقوم الإنسانُ بأداء دوره فيها تأديةً عفوية؛
إلا أن العفوية تنطلق وهي محمَّلة بمخزون
متراكم ومتنوع، نقوم بالتفصيل فيه كما يلي: الفرد يقوم
بأداء دوره العفوي وهو يحمل موروثًا حضاريًّا
كاملاً؛ إذ يُعتبَر نتاجَ المحيط الحضاري
الذي يوجد داخله. وذلك يقيم رابطةً عقائديةً
وسلوكيةً عميقة جدًّا، حتى إنه يتعسر
الإلمامُ بها واكتشافُها إلا لذوي البصائر
النافذة والحية. كما أن الفرد يحمل موروثًا
اجتماعيًّا يصطبغ بالثقافة التي تُلزِمه
عضويًّا وعرفيًّا: فمن حيث العضوية، نجده
ينتمي إلى عائلة، تنتمي بدورها إلى أجداد،
يكوِّنون أخيرًا نَسَبًا عشائريًّا أو
قبليًّا، يفضي مجموعُه إلى وحدة العِرق أو
القوم؛ أما من حيث العرف، فإننا نجد الفرد
مطبوعًا بلغة مجتمعه ومظاهره في اللباس
والأكل وعادات وأعراف تُعتبَر المدخل إلى
معرفة هويته. وقد تغيب العضوية بالمفهوم الذي
أوضحناه، خاصة في مجتمعات حديثة معاصرة؛ إلا
أن الجانب العرفي يبقى ثابتًا، ولو تمَّ
الاصطلاح عليه بلفظ آخر. وأخيرًا، يحمل الفرد
موروثًا تربويًّا وعائليًّا لا ينسلخ عنه. بعدما بينَّا
التركيب البنائي الحضاري، نجد أن الفرد
يشكِّل النواة الأساسية لهذا البناء. وهذا
يعني أن التغيير الحضاري مبدؤه تغيير
الأفراد، كما أن تغيير الأفراد يعني
التغيير الحضاري. ومن ذلك نتوصل
إلى حقيقة كبرى وخطيرة تقوم بنسف مسلَّمة
كبرى في الفلسفة والعلوم الاجتماعية
المعاصرة التي تقوم على تشييء الإنسان
واعتبار الظواهر الاجتماعية كـ"أشياء"،
وهي حقيقة أن أصل البناء الاجتماعي (على خلفية
مفهوم "الدينامية المتفاعلة") أصلٌ غير
متشيِّئ إطلاقًا، إذ هو غير مادي. والدليل
على ذلك هو أننا عندما نتعامل مع مفهوم
الحضارة، فإن ذهننا لا يتقولب في إطار تصور
واقعي متشيِّئ، وإنما يحاول استحضار واقع لا
يتشيَّأ في ذاته، وإنما يتشيَّأ في الأجزاء
المكوِّنة له، وهي الفرد والمجتمع. فالحضارة
أساسًا مفهوم روحي كلِّي لا يتشيَّأ ذاتيًّا.
فإذا كان المكوِّن الكلِّي روحيًّا، فإن
الأجزاء المكوِّنة لذلك جميعًا ستؤول، بموجب
الدينامية المتفاعلة التي تقتضي التراتُب
والترابط، إلى خلفية روحية لا تقاوَم. *** *** *** مصادر البحث
[1]
Email: mohammedbgh@maktoob.com. [2] يشير مصطلح كرما
السنسكريتي هنا إلى العواقب الجماعية
للأفعال الفاسدة التي يقوم بها البشر على
الصعيد الفردي. (المحرر)
|
|
|