|
الأوتار الفائقة والبحث عن نظرية كلِّ شيء بفضل سلسلة من الكتب، يزداد عددُها في سرعة، بات
الفيزيائي المرموق ف. ديفيد پيت يُعَد الآن من
خيرة مبسِّطي العلوم من وجهة نظر شمولية. وقد
سبق لي أن تحدثت في معابر (إصدار أيلول 2003،
باب "كتب وقراءات") عن كتابه (مع جون
بريغز) الكون المرآة الذي عرض فيه
المؤلِّفان لأحدث النظريات "الكلانية" holistic (أي التي تتبع الرؤية الكلِّية)
في الفيزياء والبيولوجيا. غلاف الكون المرآة وقد تلا هذا
الكتاب العديدُ من الكتب الشائقة الأخرى، مثل
الذكاء الاصطناعي: كيف تفكر الآلات، العلم
والنظام والإبداع (مع الفيزيائي ديفيد بوهم)،
بالإضافة إلى كتابه الرائع التزامن: الجسر
بين المادة والذهن، وكتاب عن نظرية الشواش Chaos
Theory، ناهيكم عن كتاب متميز عن صديقه
المرحوم ديفيد بوهم. وسأعود للحديث عن بعض هذه
الكتب في إصدارات قادمة.
تتميز كتابات
پيت، علاوة على تقديمها تبسيطًا فذًّا
للنظريات الحديثة، بأنها تتضمن مناقشةً
وتحليلاً للآفاق الفلسفية لهذه النظريات
وللمشكلات التي تثيرها. غلاف المرآة المضطربة (كتاب پيت
عن نظرية الشواش) وكتاب الأوتار
الفائقة والبحث عن نظرية كل شيء[1] ينسج على
المنوال ذاته. فقد صدرت في الآونة الأخيرة عدة
كتب تناقش الموضوع عينه؛ لكن كتاب پيت، في
رأيي، ذهب أبعد منها في شرح المشكلات
الرياضية والفيزيائية، ومن ثمَّ الفلسفية،
التي تثيرها نظرية "الأوتار الفائقة".
والحق أن الكتاب لا يختص بنظرية الأوتار فقط،
بل بنظرية أخرى أيضًا هي نظرية "التويستر"
Twistor
(الفاتِل). غلاف الأوتار الفائقة تُعَد نظرية
الأوتار الفائقة استمرارًا لسائر النظريات
التي سبقتْها وواكبتْها والهادفة إلى تحقيق
الحلم الكبير: توحيد قوى الطبيعة المعروفة في
قوة واحدة. وقد صار توحيد القوى يعادل التوحيد
بين نظريتين فيزيائيتين أساسيتين، هما
الميكانيكا الكوانتية Quantum
Mechanics ونظرية
النسبية العامة General Theory of Relativity؛ إذ تختص هذه الأخيرة في وصف قوة الجاذبية،
في حين أن الأولى تنجح في وصف القوى الثلاثة
الأخرى المعروفة: الكهرمغنطيسية والنووية
الضعيفة والنووية القوية. من هنا محاولة
تشييد نظرية جاذبية–كوانتية. وقد اتخذت
غالبية النظريات التوحيدية من النقطة
الرياضية (التي لا أبعاد لها) لبنةً أساسية
في تفسير الطبيعة ومركِّباتها المادية. أما
نظرية الأوتار الفائقة فهي تعتمد "الوتر
أحادي البُعد" one-dimension
string كلبنة
أساسية؛ ولا شك أنها في ذلك أقرب إلى الواقع
من سابقاتها. ويتطلب تعريف "وتر فائق"
كهذا المراحل التالية: 1.
اكتشاف صيغ
العلاقات الرياضية التي تصف الصورة التي
يتحرك الوتر وفقًا لها ويهتز؛ 2.
التأكد من أن
هذه العلاقات تتوافق مع نظرية النسبية؛ 3.
"تكميم"
علاقات الوتر النسبي (أي وصف العلاقات
السابقة بحسب صيغة الفيزياء الكوانتية أو "الكمومية")؛
و 4.
التأكد أن
للأوتار تناظُرًا فائقًا، وأنها ترتبط بإحدى
زُمَر التناظر المعروفة في القُسيمات
البسيطة (ويعني ذلك أنها تتفق مع النتائج
التجريبية لعدد من النظريات التي تقوم بوصف
القُسيمات وتجد لها تناظرًا[2]
معينًا). يصف پيت هذه
المراحل في دقة، وينقلنا إلى عالم الأوتار
الغريب، من أوتار "مفتوحة" وأخرى "مغلقة"،
ويفسِّر لنا لماذا تحتاج نظرية الأوتار
الفائقة إلى تسعة أو أحد عشر بُعدًا، أي خمسة
أو سبعة أبعاد إضافةً لأبعاد عالمنا الثلاثة
والزمن. تهدف الأوتار
الفائقة إلى وصف المادة على أنها حالات
اهتزاز مختلفة لوتر أساسي. أما نظرية
التويستر، فقد انطلقت من النسبية ومن رياضيات
الفراغات العُقَدية، ولم تنطلق من القُسيمات
البسيطة. والهدف الأول منها كان فهم سلوك
الزمكان space-time في عالم نسبي إذا أضفنا إليه الخواص
الكوانتية. بعبارة أخرى، تهدف النظرية إلى
إيجاد العلاقات الهندسية للفراغ إذا طبقنا
عليه، في آنٍ معًا، شروط النظريتين النسبية
والكوانتية. وتقبل هذه النظرية بوجود أربعة
أبعاد فقط، لكن هذه الأبعاد عُقَدية.[3] ويصف پيت
المحاولات الرامية إلى توحيد نظريتَي
الأوتار الفائقة والتويستر أو إيجاد علاقة
بينهما؛ إذ يرى عددٌ من الفيزيائيين أن على
نظرية الأوتار أن تتبنى زمكان نظرية التويستر.[4] ديفيد پيت في نهاية كتاب
پيت نقرأ: [...] يبدو لي أنه، بعد أنْ بحثنا في
التفصيلات الخاصة بنظريتَي التويستر
والأوتار الفائقة، مازلنا نعود إلى الأسئلة
ذاتها، أسئلة ناقشتُها مع الأشخاص ذاتهم منذ
عشرين سنة – أسئلة من نحو: ماذا يحصل للزمكان
عند المسافات اللامتناهية في الصِّغَر، كطول
پلانك؟ هل من معنى أن نتحدث عن الزمان والمكان
ضمن هذه المسافات؟ ما المعنى الحقيقي للزمن
واتجاهه – "متَّجهة الزمن"؟ هل لهذه
المتَّجهة علاقة ثمة بالنظرية الكوانتية، أم
أنها تنشأ عن مستوى آخر؟ هل يمكن عن حق النظرُ
إلى كلٍّ من الزمان والمكان على قدم المساواة
تحت طول پلانك؟ هل النظرية الكوانتية هي في
صورتها النهائية، أم أن هنالك نظرية تحتية
أعمق منها؟ هل يبقى للنظرية الكوانتية
الحالية أي معنى عندما نتحدث عن لحظة خلق
الكون؟ ما المعنى العميق للروابط غير
المحلِّية [أي الشمولية] التي تبدو
ملازِمة للفيزياء الكوانتية؟ هل يجب تغيير
النظرية الكوانتية عندما نبدأ في استكشاف
نظريةٍ عما يمكن تسميتُه مكانًا قبْليًّا prespace؟ هل من الممكن توحيد النظرية
الكوانتية والنسبية العامة، أم أن على
النظريتين أن تنشآ من صياغة أعمق؟ هل نحن، في
الواقع، نفهم النظرية الكوانتية والمفارقات
التي تُظهِرُها؟ ويضيف پيت: [...] على الرغم من إنجازات الأوتار
الفائقة، وعلى الرغم من عشرين سنة من العمل
على الجاذبية الكوانتية، وعلى الرغم من
استبصارات التويستر، تبقى هذه الأسئلة
بالمثل من دون جواب [...]. هل يجب أن
نغيِّر الفيزياء الكوانتية أو النسبية، أو أن
نتخلَّى عن هاتين النظريتين، باحثين عن نظرية
أعمق؟ لقد مثلت النظريتان (الأوتار والتويستر)
ولوجًا جديدًا إلى عالم الفيزياء، لكن
الدَّفعة الأولى همدت أمام صعوبات الرياضيات
المستخدَمة وتعذُّر حلِّ الكثير من
إشكالاتها. ويقول پيت: لكنْ على الأقل يعي عددٌ متزايد من
الفيزيائيين أن الأزمة في الفيزياء قائمة،
وهي تستلزم جهدًا كبيرًا وتحتاج إلى أفكار
عميقة جديدة. ديفيد پيت دليل
أمين وعميق لولوج عوالم الفيزياء الجديدة. *** *** *** تنضيد: نبيل سلامة [1]
F. David Peat, Superstrings and the Search for
the Theory of Everything (Contemporary Books, Chicago, 1989, pp. 362. [2]
التناظر هو نوع
من الثبات بإزاء تحول معيَّن. فالكرة تبقى
كرة إن نظرنا إليها في مرآة، مثلاً، أو إن
أدرناها حول محورها. [3]
لا يمكن لي هنا
الدخول في شرح لهذه المواد المعقدة التي
ينجح پيت في وصفها في كتابه، المبسَّط
والصعب في الوقت ذاته؛ المهم أن نظرية
التويستر جاءت بمفهوم جديد للزمكان. [4] جدير هنا بالذكر أنه لا توجد نظرية أوتار فائقة واحدة، بل عدة نظريات، وفقًا للوتر المعتمَد ولجملة من الافتراضات الأخرى المعتمَدة.
|
|
|