|
شعلة
الملكة لوانا الغامضة عبثًا
كان انتظاري لـ"يامبو" الآتي من الضباب! (قراءة
ذاتية جدًّا) روما... كان الجرَّاح يمازحني، كما
يفعل الجراحون تكفيرًا عن وقوفهم منتصبين
أمام جسد يستتر برداء لا يلبث أن يُنزَع عنه
وتتفشى فيه سكينة تُحقَن في الوريد. كانت عينا
طبيب البنج زرقاوين، وكان شارباه أشقرين
كثَّين، حتى كدت أصرخ: "أستريكس!"، كما
كان ليصرخ "يامبو"، فامتصَّني الفراغ...
فراغٌ مطلق لا يُسَد. الضباب حليب يتقد أبخرةً،
ويداي تمتدان لتتحسَّسا الطريق، لكنني لا
أتعرف إليهما. الأصابع معروقة، وتجاعيد تلتف
حولها. هالني أن اليدين يدا رجل! فمن المنطقي
أن تكون اليدان يدي "يامبو". وإن كنت
سأتقدم في ضباب ميلانو فبهما سأستدل على دربي. قُيِّض لي مصادفةً أن أقرأ
رواية أُمبِرتو إيكو شعلة الملكة لوانا
الغامضة، رواية مصورة[1]
بعد أشهُر من شرائي لها. وفي مستشفى في إحدى
ضواحي ميلانو، كان الضباب من النافذة العريضة
يتكاثف كما في الكتاب، ويتخثَّر كمادة صلبة،
كغشاء عازل. وكنت أتمتع به مثل "يامبو"
المفتون، قبل "يامبو" الذي جَمَعَ في وصف
الضباب كلَّ ما وقعتْ عليه عيناه. جيان باتِستا بودوني رجل في
الستين ملقَّب بـ"يامبو"، بائع كتب
قديمة، يفقد ذاكرته في حادث. كلامي هذا يفتقر
إلى الدقة. فالرجل لم يفقد ذاكرته، بل جزء
منها فقط. فهو يتذكر ناپوليون بوناپرت،
مثلاً، ويرسمه، بريشة أُمبِرتو إيكو (شعلة
الملكة لوانا الغامضة، ص 26). يذكر عواصم
البلدان ومعلومات موسوعية بحتة. ذاكرتُه
ذاكرة كتب. ذاكرة تشكِّلها قراءاتُه. لكن
الرجل لا يذكر كيف يشعر. يعرف أوصاف الأحاسيس،
لا كنهها. يروح يتعرف إلى زوجته وابنتيه
وأحفاده، يتقصى أحاسيسه وانفعالاته، علَّه
يستدل كيف ينبغي لها أن تكون. يتذكر يامبو التعريفات، الكتب،
أسماءها. وينسى ذكرياته الشخصية، ينسى طفولته
وما يمس حميمية الذكريات. يبدو موسوعةً أكثر
منه إنسانًا. ويكتشف في ما بعد أن اسم "يامبو"
الذي يناديه به المقرَّبون إليه كان الاسم
الذي اختاره جيان باتِستا بودوني لنفسه
واقتبسه من شخصية شريط مرسوم قرأه صغيرًا. يعمل يامبو بنصيحة زوجته،
فيقصد بلدة جدَّيه التي تقع على تلال إقليم
پيمونتي الإيطالي الشمالي، التي عاش فيها
قبيل الحرب العالمية الثانية وفي أثنائها
وبعيدها. يصحبنا أُمبِرتو إيكو في سعي
يامبو، الذي لا يكلُّ عن البحث ومساءلة
المنزل. يبدو يامبو أحيانًا لَجوجًا، يلح على
ما يحيط به ليستقرئه. بحرقة الملهوف يفتح
الصناديق التي وضَّبتْ فيها عمَّتُه وزوجُها
حياة ذاك البيت بعد وفاة والديه في حادث سيارة.
يكتشف في الصناديق دفاتره المدرسية، وكتب
الشرائط المصورة، وصورَه، وأشياءه الصغيرة.
يعيد اكتشاف جدِّه الذي يمتهن مهنته، إذ كان
مكتبيًّا عتيقًا يهوى جمع النفيس من الكتب. غلاف
شريط مصور قديم اقتبس منه إيكو عنوان كتابه،
تظهر فيه الساحرة الملكة لوانا التي تواصل
"شعلتُها" السطوع في ضباب الذاكرة. يعثر يامبو على "الشعلة" fiamma الواردة في عنوان الكتاب. بل
تتوالى الشعلات. والشعلة ليست هدفًا
نهائيًّا، نورًا في آخر النفق، بل الذكرى وقد
ألهبتْ قلبَه، كمن يلعب تلك اللعبة القديمة
ساخن/بارد: فكلما اقتربنا من المستور ارتفعت
الحرارة، وكلما ابتعدنا تراجعت، وكلما اقترب
يامبو من ذكرى التهبَ لها ماضي أحاسيسه
استشعرَ ذاك الدفء. عبر تلك الشعلة يكتشف يامبو ما
يمسُّه. يدرك مثلاً – بالمنطق وبالحدس لا
بالذكرى – أن الصبي الشقي الذي كانه ما كان
ليترك أحد أجنحة منزل جده الريفي مقفَلاً
دونه. ذاك الصبي كان ليجد سبيلاً إلى دخول
غرفة كانت مصلًّى صغيرًا في ما مضى، ثم ما لبث
أصحاب المنزل أن هجروا مذبحه (لم يكن جد يامبو
متدينًا، على الرغم من أنه لم يكن يأنف من
الاحتفال بالأعياد الدينية)، ليكتشف بذلك،
عبر رواية حاضنته السابقة، أن جدَّه خبأ فيها
أحد مقاوِمي الفاشية آنذاك، وأنه – هو ذاك
الصبي الشقي – كان يعرف لها مخرجًا آخر. وكالخطيئة الأصلية، يكتشف
يامبو جريمته الأولى بتداعيات الذاكرة، وقد
زاوَجَها منطقُ الأحداث. فيامبو المراهق كان
أتقن السير في الضباب للوصول إلى إحدى
البلدات المطلة على بلدة جدِّه، وتدرَّب مع
رفاق له على صعود ذاك المنحدر مُحْصِين
خطواتِهم. ولذلك أُوكِلَتْ إليه مهمةُ الدليل
عندما تعيَّن على بعض أهالي بلدته أن
يهرِّبوا ثمانية من الجنود القوزاق الذين
انشقوا عن الجيش الألماني[2]
من وجه قوة ألمانية راحت تدهم البلدة؛ وكانت
القوانين الألمانية تقضي آنذاك بإنزال
العقاب الجماعي بالقرى لو وفَّر أحدُ سكانها
المأوى للفارين. وفي أثناء عملية الفرار،
يُقتَل ألمانيان أسرتْهما المجموعة،
ويُرمَيان في بساطة في الوادي بدعوة من
الجنود القوزاق. فنرى الفتى يامبو في ذاك
الضباب الكثيف الذي يحجب عنه كلَّ شيء،
متأملاً في جريمة أولى، في عملية قتل لم يشارك
فيها، لكنها أشعرتْه أنه شاهد متواطئ...
كالضباب. ولم نأتِ على ذكر هذه الحادثة
التي يستعيدها أُمبِرتو إيكو على لسان يامبو
في كتابه إلا لأنها تساهم في جدال يضطرم ويخبو
بين الحين والآخر في إيطاليا، وهو الجدال حول
ارتكاب المقاومة الإيطالية للفاشية، بدورها،
جرائم مروعة في قتل الخصوم، إنما أيضًا في
القضاء على الرفاق القدامى في عملية تصفية
حسابات واسعة تَلَتِ الحرب العالمية الثانية.
إلا أن إيكو نجح في إسباغ صفة الإنساني على
هذه الأحداث التاريخية، وطَبَعَها بالتساؤل
الوجودي الذي جعل ذاك الفتى يقلِّب في ذهنه
جريمتَه الأولى التي بدت أقرب إلى جريمة
الإنسانية الأولى. لكن يامبو يقف أيضًا في ذهول
أمام قدرة الطفل الذي كان على تملُّق الفاشية
في الموضوعات الإنشائية التي كان يصوغها في
المدرسة، كما لو كان إيكو ينفي أن يكون الشر
مطلقًا، كما تصوِّره القراءةُ التقليدية
لتاريخ أوروبا الحديث تحديدًا، ولاسيما
تاريخ الحرب العالمية الثانية، منكِرًا،
بالتالي، أن يكون الخير مطلقًا كذلك، موحيًا
لنا أن الجماعي لا يستقيم إلا لأنه مجموعة
حيوات فردية، مراوغة حينًا، لامبالية
أحيانًا. يكثِّف أُمبِرتو إيكو التفاصيل
والأخبار في رواية تبرِّر له ذلك إلى حدٍّ
بعيد، فلا تتم استعادةُ الذاكرة إلا
بالتداعيات. ولا نستسهل لو قلنا إن العملية
جَرَتْ في طريقة پروستية، مع أن مفاتيح ذاكرة
إيكو كانت الكتب والأوراق، لا الرائحة. يغوص إيكو في التفاصيل، ويبدو
أشبه بطفل في متجر ألعاب، يركض نحو لعبة لا
تلبث أن تغريه أخرى. يُكثِر من القصص ومن
استعادة الأغاني والمغامرات المصوَّرة. وقد
يُبالِغ أحيانًا في عرضه، فيُغرق القارئ في
بحر من المعلومات. إلا أن ما يُخفِّف من وطأة
ضخِّ الأخبار، فضلاً عن أسلوب إيكو الممتع في
القص، أن الكتاب يروي قصة جيل من الإيطاليين
عاشوا الحرب العالمية الثانية، عرفوا
الفاشية والنازية، لينتقلوا بعدها إلى مرحلة
ما بعد الحرب بقدوم الأمريكيين. يُوثِّق إيكو
لجيل لا يملك إلا أن يُعجَب بقدرة الكاتب على
الغوص في ذاكرته الجماعية، عبر تداعيات ذاكرة
الفتى يامبو، معيدًا إليه تاريخًا قلما يأتي
المؤرخون على ذكره. اعتمد إيكو تقسيم روايته
الأخيرة شعلة الملكة لوانا الغامضة إلى
ثلاثة أقسام، فعَنْوَن القسم الأول الوجيز
"الحادث". أما القسم الثاني فعنوانه "ذاكرة
الورق"، الذي يرمِّم فيه عبر قراءاته
ذاكرةً مفترضة. وأخيرًا Οι
Νοστοι، وهو عنوان إغريقي يعني "العودات"،
يحيلنا بامتياز على عودة أوليس إلى جزيرته
إيثاكي (الأوديسة). يبحث يامبو عن ليلي
سابا، الفتاة التي أُغرِمَ بها في فتوَّته،
يبحث عن وجهها الذي فاته، يستميت في البحث عن
امرأة يدرك أنه لم يرَ من ملامح النساء
اللواتي عرفهن سوى تلك التي تدانيها، ويعلم
أنه يستعيد كلَّ شيء – إلا ما أراد فعلاً أن
يسترجعه، لتُحبَط أعمقُ رغباته، أو ربما كانت
تلك الرغبة الوحيدة المطلقة. ولا شك في أن القسم الأخير هو
الأكثر جدة. فهو الذي يبلور فيه أُمبِرتو إيكو
رؤيةً روائية لا سابق لها، حيث يفتح الباب على
مصراعيه للرواية المصوَّرة، فيقول في بداية
الجزء الأخير (ص 299): "أعبر نفقًا جدرانه
فوسفورية. أسقط نحو نقطة بعيدة تبدو لي رمادية
مغرية. أهي تجربة الموت؟" غير أن تجربة
الموت غير الأكيدة هذه تتفتق عن عوالم "أپوكاليپتية"
يُعاقِب فيها إيكو بين القصص المرسومة والنص. أمبرتو
إيكو يعتمد الروائي في "عودته"
إيقاعًا يخطف الأنفاس، يطيح بالموازين،
يتلاعب بالقَدَر، فيستحيل العالم سلَّمًا
ينتهي بعرش السماوات. لكن السلَّم ليس سوى
سلَّم مدرسته الثانوية، وعلى العرش لا
يتربَّع الله بل "مينغ" سيد "مونغو".
وعندما يُقرَع نفيرُ الأبواق السبعة (كما في
رؤيا يوحنا)، لا تتنزَّل الملائكة، بل شخصيات
القصص المرسومة وأبطال السينما. ويعمُّ
الضباب كلَّ شيء، علَّ وجه ليلي سابا
الوضَّاء يبدِّده. لكن يامبو يقول في الصفحة
الأخيرة: "تدهمني نفحة هواء بارد، أرفع
عينيَّ. لماذا تضرب الشمس إلى السواد؟" لا تظهر "ليلي سابا" التي
انتظرتُها عبثًا مع "يامبو". ومن نوم لا
يشبه النوم أستفيق في غرفة مستشفى ضاعت في
ضباب لا نورَ يبدِّده... *** *** *** عن النهار، الأربعاء 12
كانون الثاني 2005 [1]
Umberto
Eco, La misteriosa fiamma della regina Loana, Romanzo illustrato,
Bompiani, 2004. [2] أسر الألمان في
الحرب العالمية الثانية، في جملة مَن
أسروا، جنودًا من القوزاق كان بعضهم يكنُّ
الحقد لستالين، فانخرطوا في الجيش النازي؛
وبعد اتفاق يالطا، أعيد الكثيرون منهم إلى
الاتحاد السوفييتي ليلقوا مصيرًا قاتمًا.
|
|
|