|
عن التصوُّف والأديان تركيز البحث على
الروحيِّ يقودنا إلى السلوك العَلْماني دُعِيَ المستشرقُ الفرنسي پيير لوري Pierre
Lory إلى إلقاء محاضرة في
اليونسكو بعنوان "التصوف الإسلامي: ركيزة
تلاقٍ بين المسيحية والإسلام". فكانت الفرصة
سانحةً لنا أيضًا كي نحادثه ونكتشف شخصيةً
هادئةً تنطوي على الكثير من الزهد. فلعله
تأثير المادة التي يدرِّسها في السوربون، أي الصوفية
التي طالما شغلت المستشرقين – ولكلٍّ رؤيته
إليها. وضع
لوري عدة مؤلَّفات، منها كتابان: الكيمياء
والتصوف في دار الإسلام والشرح الباطني
على القرآن بحسب عبد الرزاق القاشاني؛ كما
حقَّق وترجم إلى الفرنسية عددًا من مقالات
جابر بن حيان في الكيمياء، وقدَّم لها
بدراسات ثمينة. لقاؤنا هذا يكشف جانبًا من
رؤية المستشرق لوري. *** حدِّثني
قليلاً عن موقعك الأكاديمي... للمناسبة،
يذكِّرني اسمُك بالكاتب پيير لوتي – لكن
الأخير لم يكن مستشرقًا، إنما قد أسمِّيه
مولعًا بالشرق، وقد عاش في تركيا... كما
تقولين، كان مولعًا بالشرق. لكن تركيا واحدة
من البلدان التي أقام فيها لوتي، ولم يعش فقط
في اسطنبول، بل عاش في أفريقيا كذلك. وداره
متحف حقيقي، حيث كل شيء فيها شرقي. والآن،
ماذا عن پيير لوري؟ إنني
فخور بأني ألقي محاضراتي في جامعة السوربون
في معهد خاصٍّ وفريد، هو قسم العلوم الدينية
في "المدرسة التطبيقية للدراسات العليا"
ÉPHÉ،
حيث تُدرَّس دياناتُ العالم كلها، أو لنقل
كلها تقريبًا. أدرِّس تاريخ الفكر اللاهوتي–الصوفي
الإسلامي. ونحن أربعة في القسم: أحدنا يدرِّس
الفكر الشيعي، وآخر يدرِّس الشريعة
الإسلامية، وأدرِّس التصوف، وهي المادة التي
تهمني، أي تاريخ الفكر الصوفي. أدرجتُ في
برنامج السنين الماضية الشرح الصوفي على
القرآن وما يقوله الشارحون الصوفيون على
القرآن عن إبراهيم وعيسى ومريم. ثمة حلقات
دراسية يجتمع فيها نحو عشرين أو ثلاثين
طالبًا، ندرس النصوص معًا، وكلٌّ يشارك
مشاركةً خلاقة. من ناحية أخرى، نصادف في قسم
العلوم الدينية هذا طلابًا مسلمين يتابعون
دروس نشأة المسيحية، فضلاً عن طالب يسوعي
وآخر كرملي، وسواهم. أود القول إن ثمة جوًّا
يحاول فيه الجميعُ فهمَ الأديان على مستوى
علمي انطلاقًا من التاريخ ومن النص. في تعبير
آخر، ثمة لغة مشتركة. هذا
قريب جدًّا من أجواء العولمة – وأحد
رموزها الامتزاج والاختلاط بلا حدود، وأحد
شعاراتها الحوار – وفيها حوار الأديان. أعتقد
أن الأديان هي الرابحة على هذا الصعيد، بلا
ريب، وخاصة فيما يتعلق بصدقها مع ذاتها. هنا
أعتقد أن دراسات الكتاب المقدس متطورة جدًّا
– أكثر تطورًا من الدراسات القرآنية مثلاً. تعني
القول إن النقد الذاتي المسيحي ممكن أكثر من
النقد الذاتي في الأديان الأخرى؟ عُقِدَ
حديثًا مؤتمرٌ حول الأديان المقارنة، وكان
بين المحاضرين زميل لي يهودي لاأدري agnostique،
قال: "الكلام على يسوع في حرية وعلى نحو
علمي أمر ممكن؛ لكن حين يتعلق الأمر بموسى
ومحمد يغدو الكلام أصعب." أعتقد، على هذا
الصعيد، أن ثمة في دراسة الأناجيل موقفًا
رياديًّا والكثير من اللبرالية. لكني متفائل
بأن المسلمين سوف يتوصلون يومًا إلى قراءة
النصوص القرآنية في روح علمية وموضوعية.
وتختلف المناقشة مع طلابي المسلمين عنها مع
المسلمين العاديين. فالطلاب هم في مرحلة
إعداد أطروحة الدكتوراه، ويتميَّزون بروح
علمية إلى حدٍّ كبير، ويمكن لهم نقدُ النصِّ
القرآني في حرية ما. وشيئًا فشيئًا تتشكل
بينهم نماذج من العَلْمانية التامة. فماذا
عن العامة من المسلمين الذين يعيشون في
فرنسا؟ كيف يوفِّقون بين جذورهم العربية وبين
انتمائهم الثاني، أي عَلْمانية الجمهورية
الفرنسية؟ إنهم
يتعلَّقون بتراثهم وعاداتهم وتعاليمهم
الدينية، ويخرجون إلى الشوارع بزيِّهم
ليثبتوا هويتهم. لكني أراهم ممزقين؛ شخصيتهم
منقسمة. إنهم شبه ضالِّين. لديَّ أيضًا طلاب
وطالبات جزائريون ومغاربة، وجليٌّ أنهم
يعيشون مرحلةً صعبة جدًّا. وفي النهاية، لا
يعرفون مَن هم بالتحديد؛ إذ تتجاذبهم تياراتٌ
ثقافية مختلفة. من حسن حظِّي أني أدرِّس
التصوف الإسلامي؛ وهذا يتيح لي أن أثبت
لطلابي ما هو الأهم في الدين. والأهم هو
البحث عمَّا هو روحي، وليس معرفة
التفاصيل اليومية العادية، مثل: ماذا يجب أن
نأكل؟ وفي أية ساعة يجب أن نصلِّي؟ وكيف ينبغي
أن نفعل هذا أو ذاك في نطاق "العبادات" و"المعاملات"؟
إذن، ينبغي على البحث الأهم أن يرتكز على الروحي،
أي على علاقتنا العميقة بالله وعلى كيفية
لقائنا به. وأعتقد أنه الموضوع الرئيسي
الذي، لو ركَّزنا عليه، قد يؤدي إلى سلوك
عَلْماني بكلِّ معنى الكلمة. هل
التصوف منهج أم أسلوب عفوي؟ إنه
منهج بالطبع، منهج نقلي traditionnel
تتناقله الأجيال، الواحد تلو الآخر، وتبحث،
بواسطة شهادات وترديد عبارات ("الذِّكر")،
أو بواسطة تمارين في التنفس والحركة الجسدية
والرقص، عن تحضير ما للقاء بالمطلق. لكن
ذلك يتطلب في البداية أداء بعض الشعائر
والإيمان القوي كي يتطور المتصوف في رياضته
شيئًا فشيئًا. فما من تصوف بلا إطار من
الإيمان. حتى في المسيحية لا يختلف الأمر:
فثمة ضرورة للانطلاق، أساسه الإيمان
والممارسة. ما
الفرق بين التصوف في المسيحية والتصوف في
الإسلام؟ بعبارة أخرى، ما الفرق بين تريزا
الآبلية ويوحنا الصليبي وبين الحلاج
والبسطامي وابن عربي مثلاً؟ أعتقد
أن أهم ما يجمع بين هؤلاء هو البحث عن اللقاء
بالله. فيما يتعلق بصوفية الإسلام، الله
هو كل شيء، ولا وجود خارج نطاقه،
والمخلوقات، بما فيها الإنسان، لا تملك
كيانًا خاصًّا بها. بينما في الصوفية
المسيحية، المخلوق البشري موجود، وليس
وهمًا؛ أي أن الله لا يلغي الوجود البشري أو
ينفيه. الكيان البشري هنا ليس متماهيًا، ليس
ملغيًّا، بل يبقى حاضرًا. وثمة رباط محبة
مع الله، لا رباط يمحو المتصوف في ماهية الله،
فيما يُعرَف بـ"الفناء". هل
نستطيع أن نسمي أفلاطون صوفيًّا وثنيًّا،
مقارنة بصوفيي الإسلام وصوفيي المسيحية؟ أعتقد
أننا نستطيع أن نسمِّي "صوفيًّا" mystique
كلَّ مَن يبحث عن تجربة خارقة تتخطى ظواهر
الطبيعة، أي كلَّ مَن يدرك هذه التجربة
ويمارسها على الصعيد الحياتي. كل ما نعرفه عن
أفلاطون أنه كان فيلسوفًا، لكن نصوصه
تدعونا إلى الاعتقاد بأنه عاش حياة روحية
مكثفة في الوقت نفسه، وليس عبثًا أنه
لُقِّبَ بـ"أفلاطون الإلهي". من ناحية
أخرى، صحيح أن العرب ترجموا الفلسفة
اليونانية، لكن المقارنة بين الصوفية
الإسلامية وفكر أفلاطون غير ممكنة في المطلق،
بينما هي صحيحة جدًّا بين الصوفية الإسلامية
والصوفية المسيحية؛ إذ لديهما جذور مشتركة في
الديانة اليهودية، والموضوع الأساسي لدى
الثلاثة هو محبة الله. وفي النهاية، تدفعنا
إلى محبة الله القوةُ ذاتها التي تدفعنا إلى
محبة ذاتنا. فليس ثمة محبة بشرية، بل محبة إلهية. وماذا
عن التصوف الهندي؟ يقال إن الحلاج سافر إلى
الهند وتدرَّب فيها. لا
نستطيع أن نجزم بشيء في هذا المجال في خصوص
الحلاج. أما الفكر الصوفي الهندي فركيزته أن
هذا العالم المخلوق هو وهم محض، مايا māyā. هذا
بالنسبة إلى البوذية... البوذية
والهندوسية معًا... ثمة مستشرق ياباني – ولا
أعرف إن كان يجوز لي أن أسمِّيه مستشرقًا... لم
لا؟ ...
هذا المستشرق الياباني – وهو بوذي، على أية
حال، درس السنسكريتية والفارسية والعربية –
كان يعتبر أن ثمة صوفية مشتركة لكلِّ بلدان
آسيا، حيث البوذية والتاوية والهندوسية
والتصوف الإسلامي تتعلق كلها بميتافلسفة métaphilosophie
واحدة. إنها مجرد نظرية، لكنها
مثيرة للجدال. المشترك، إذن، هو أن العالم ليس
موجودًا حقيقة، وما نعيشه هو نوع من الحلم.
جُهْد المتصوف يكمن في مغادرة هذا الحلم
لبلوغ الواقع le Réel.
لكن ثمة، من ناحية أخرى، تصوف ذو اتجاه مسيحي
يقول بأن الأمر يتعلق بالمحبة، بـ"العشق"،
كما في الشعر الصوفي. لا نستطيع، مثلاً، أن
نحب الوهم. إذا كانت هناك محبة، كما يقول ذلك
التصوف، فلأن شخصين موجودان لهذه المحبة:
الله والإنسان. أنت،
المتعمِّق في الصوفية، أسألك: هل تؤمن، على
غرار الصوفيين، بوهم العالم؟ أميل
إلى الاعتقاد أننا لا نستطيع معرفة العالم
معرفةً موضوعية؛ أو لنقل، بالأحرى، إننا لا
نعرف العالم إلا بقدر ما نتفكَّر فيه. أميل
إلى الاعتقاد أن بنية العالم بنية حلم،
لكننا ندرك، في الوقت عينه، أمورًا حقيقية؛
مثلاً: نحب ونتألم إلخ. لكنْ، في النهاية، نخلق
بذاتنا إطار فكرنا. ثمة،
إذن، خلط بين الوهم والواقع... أفكِّر
الآن في مقارنة الفيزيائيين الكوانتيين
للعالم الذين يقولون إننا لا نستطيع رصد
الذرة كما هي، بل توجد طرق مختلفة لبلوغها
وفهمها وتجزئتها يتدخل فيها وعيُ الراصد.
ينطبق الأمر كذلك على خبرتنا الدينية: نحاول
القبض على الأشياء؛ لكن ذلك كله نسبي، مؤقت. ***
*** *** حاوَرَتْه:
صباح زوين عن
النهار، السبت 17 أيار 2003 مؤلفات پيير لوري
بالفرنسية وترجماته إليها -
Tadbīr
al-iksīr
al-a‘zam, Damas,
Publications de l’Institut français d’études arabes, 1988 (édition
critique et présentation de 14 traités alchimiques de Jābir
ibn Hayyān). -
Alchimie et mystique
en terre d’Islam,
Lagrasse, Verdier, 1989. -
Les commentaires ésotériques
du Coran selon ‘Abd al-Razzāq
al-Qāshānī,
Paris, Les Deux Océans, 1990. -
Dix traités
d’alchimie de Jābir
ibn Hayyān,
Paris, Actes Sud/Sindbad, 1996 (traduction de l’arabe et présentation). |
|
|