إعادة تركيب العالم

هل من معنى جديد لفكرة التنوُّع الديموقراطي؟

 

ألان تورين

 

إن مشكلات الديموقراطية عامة ويومية في آنٍ واحد؛ لا بل في وسعنا أن نقول إنها عملية. والخطر الذي يجب علينا التصدِّي له هو أن يخطفنا الواقع اليومي، في حين أنه من الضروري امتلاك رؤية أوسع. والمشكلات التي علينا أن نتأمل فيها جديةٌ بما يكفي لكي نبذل جهدًا فكريًّا وننتقل من دراسة الأعمال السياسية إلى دراسة السياسة؛ أي أن نتساءل، تاليًا، حول فكرة الديموقراطية لأن هذه تتحكم في ممارسة الديموقراطية.

ثمة، من جهة، أشخاص يقولون: انظروا، الديموقراطية تنتصر في كلِّ مكان: فقد سقطت الأنظمة الاستبدادية في أوروبا الشيوعية، كما أنها سقطت في النصف الجنوبي من قارة أمريكا اللاتينية، وذلك لأن ثمة نوعًا من الحركة الطبيعية للأمور. وقد تخيَّل فرانسِس فوكوياما – وهو أحد الرجال الذين تكلَّموا على هذا النحو – نوعًا من الحركة الطبيعية للأمور التي توصل إلى اقتصاد السوق والديموقراطية والتسامح في آنٍ واحد. وذلك جزمٌ لم يدافع عنه قط أيٌّ من كبار المفكرين السياسيين: لا ستيوارت مِلْ، ولا توكفيل، ولا روسو، ولا لوك. وثمة، من جهة أخرى، كثر يقولون: ديموقراطيتنا تفتقر إلى أيِّ معنى؛ فالناس غير مهتمين بها. أما إطار الدولة القومية – وهو الإطار الذي تطورت داخله المؤسَّسات الديموقراطية – فيبدو متجاوَزًا. فإلى أيٍّ من الفئتين علينا أن ننحاز في هذا الجدال؟

ليس المطلوب أن نقول ببساطة: ثمة أزمة سياسية، أزمة مشاركة، أو أزمة تمثيل. فنحن نعيش أزمة أكثر جوهرية، لأننا تعايشنا طوال قرون مع فكرة أن ثقافتنا تشكِّل مجموعة مترابطة ومؤلَّفة من ثلاثة عناصر متصلة فيما بينها اتصالاً وثيقًا:

-       العنصر الأول هو اكتشاف قوانين الطبيعة بواسطة العقل العلمي؛ وتلك هي الفكرة الأساسية التي قدَّمها عصر النهضة.

-       أما العنصر الثاني فهو فكرة أن المجتمع يجب ألا يخضع لحكم العادات والامتيازات وانعدام المساواة، بل لحكم القانون، أي باسم العقل والسيادة الشعبية.

-       وأخيرًا، ثمة فكرة أن الفرد يجب ألا يخضع لحكم السلطات الأخلاقية أو الدينية أو الأسرية، بل عليه، مثلما كان يقول ديكارت للأميرة إليزابت، أن يخضع لحكم العقل الذي يجب أن ينتصر على الانفعالات.

سادت إذًا فكرة عالم موحَّد، حيث الفرد والمجتمع والعالم منسجمون. وكانت لدينا فكرة أن المجتمع يجب أن يكون، في آنٍ واحد، عالم القوانين وعالم التطور بفعل العقل العلمي.

أما اليوم فنشهد، على العكس من ذلك، انفصال عالم العقل – الذي بات عقلاً أداتيًّا – عن عالم الأشياء والتقنيات والأسواق وأنظمة التبادل والإشارات والمعلومات؛ بالإضافة إلى انفصاله، من جهة أخرى، عن عالم الفرد، الذي يمكن أن يقتصر على فرد واحد، لكنه، في الواقع، لا يقتصر عليه، لأن هذا الفرد يحاول، في هذا العالم الدائم الحركة، أن يستند إلى هويته، أي إلى مجتمعه وجذوره وتقاليده وأمَّته وعِرْقِه ودينه كذلك؛ وهي انتماءات كنَّا نخال إنها ستندثر شيئًا فشيئًا مع العقلية الحديثة، لكنها تعود إلى البروز على سطح العالم المعاصر.

عالمنا هو عالم الـCNN وعالم آيات الله في آنٍ واحد، عالم النفط والعالم المحلِّي. يقول علماء البيئة: "لنفكِّرْ على نطاق شامل، ونعمل على نطاق محلِّي" Think globally, act locally. إلا أن الشامل والمحلِّي غير متصلين. وبين هذين العالمين، أي بين عالم الأشياء والرؤية الموضوعية، وعالم الذاتية ووعي الذات والهوية، الذي هو أيضًا عالم الجماعة، مثلما هو عالم الحياة الجنسية والخيال؛ بين هذين العالمين – عالم الخارج وعالم الداخل – ليس ثمة سوى ثقب أسود ابتلع المجتمع والسياسة. لم يعد ثمة وساطة بين عالم التثنيات وعالم الذاتية. ونحن نعيش، أكثر فأكثر، حياة مزدوجة. في الواقع، إن الناس الأكثر تعقلاً هم الذين يملكون حياتين فحسب؛ لكن ثمة أشخاص يملكون حيوات كثيرة! ولم تعد الحياة العامة، أي الحياة الاجتماعية، تؤمن بمبدأ الوحدة. إذًا فإن ما يشكِّل موضوع الجدال الآن هو وجود السياسة وتمييزها وصوغها.

إحدى النواحي الخاصة من هذا الجدال هي ما يُسمَّى "أزمة الدولة القومية". ماذا كان مفهوم الدولة القومية؟ تذكَّروا الدستور الأمريكي وإعلان حقوق الإنسان وشعار: "حرية، مساواة، إخاء". الأمة لم تكن تعني الشعب، بل على العكس من ذلك تمامًا! الأمة كانت تعني السيادة الشعبية في طور العمل، وكانت تعني الناس بصفتهم مواطنين، أي مجموع المواطنين، أولئك الذين يسنُّون القوانين؛ وأرغب في أن أقول "المؤسِّسين" الذين هم، في آنٍ واحد، أفراد ومقوِّمات الإرادة العامة.

أما اليوم، فإن كلمة "أمَّة" تؤخذ، في جميع الأنحاء تقريبًا، بمعنى مُناقِض لما سبق: فهي لا تنتمي إلى ذلك التصور الفرنسي–الأمريكي، بل إلى تصوُّر يوصَف غالبًا – وذلك أمر خاطئ جزئيًا – بالألماني.

فالشعب (das Volk بالألمانية أو народ بالروسية) يشير، بحسب تحديد الألمان، إلى وحدة مصير وثقافة وتاريخ ولغة؛ أي أنه شيء تتلقونه، وليس شيئًا تصنعونه، مثلما كان يقول فرنسيو الثورة. وتعلمون أن الصفة الآتية من كلمة شعب هي "شعبي"؛ وتلك هي الكلمة التي استخدمها النازيون لكي يعرِّفوا بأنفسهم!

إذًا نحن نعيش، من جهة، في عالم التقنيات والعلوم التطبيقية وسيطرة التكنولوجيا إلخ، ومن جهة أخرى، في عالم "شعبي". وثمة بين الاثنين نوع من الحرب الأهلية الكامنة على المستوى العالمي، أو، مثلما أشرت آنفًا، نوع من الفصام على مستوى الأفراد والمجتمعات، المنقسمين بين الخاص والعام. وتاليًا، فإن التأمل في مسألة الديموقراطية يعني، في الدرجة الأولى، التأمل في موضوع السياسة: كيف يمكن أن نخلق، أو أن نعيد خلق، وساطات سياسية واجتماعية بين عالم الاقتصاد وعوالم الثقافات؟

إن صورة الديموقراطية الكلاسيكية هي "حكم الشعب من أجل الشعب، ومن جانب الشعب"؛ وتلك صيغة قال بها لينكولن في خطابه الشهير عند اندلاع الحرب الانفصالية الأمريكية. كانت حكومة "الكل" تتصدى لحكومة "البعض" أو لحكومة الشخص الواحد. إلا أن الديموقراطية لا يمكن أن تكون حُكم الجماهير، أي حُكم الغالبية. فهتلر انتخبتْه الغالبية؛ وقام النظام الشيوعي في براغ نتيجة انتخابات سليمة عمومًا؛ ويمكن القول إن ستالين، عند وفاته، أثار حسرات غالبية الشعب الذي كان يبكيه في الشوارع.

الديموقراطية تبدأ عند اللحظة التي نريد فيها أن نطبِّق فعليًّا مبدأ حقٍّ عالمي شامل، أي على غرار ما نسمِّيه، مثلاً، الحرية أو المساواة أو العدالة أو التضامن. وترتكز على هذا المبدأ مسألة السيادة الشعبية. إذ رغم أن الناس غير متساوين في الواقع، إلا أن ثمة نظامًا آخر، هو النظام السياسي الذي يعلو على النظام الاجتماعي، والذي تنفَّذ باسمه عمليات تدخُّل باسم الحق، باسم مبدأ عالمي، في مجال المصالح والآراء والقيم. ويجب أن نتفق على نقطة الانطلاق هذه.

جميعنا يخاف من الأنظمة التي تُحكِّم الجماهير، ونخاف من المظاهرات الضخمة في الشوارع، ونخاف من المواكب أمام المنابر الرسمية. ليس ثمة ديموقراطية من دون مبدأ تحديد السلطة. وتلك هي حقًّا بداية أيِّ تفكير في موضوع الديموقراطية؛ وهي الموضوع الجوهري لإعلان حقوق الإنسان والمواطن.

إلا أن هذا التصور للديموقراطية، أي ذلك المرتبط بالإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان، وبالدستور الأمريكي، أو حتى بمشروع قانون الحقوق الإنكليزي العائد للعام 1689، كان يتطابق مع مجتمع جامد نسبيًّا، أي مجتمع ذي سيطرة اجتماعية قوية وتوازُنات متجانسة وثابتة إلى حدٍّ ما. في هذا العالم، المتكامل والمجزَّأ في آنٍ واحد، بل المتدرِّج على غرار جميع المجتمعات النقلية، اتخذت الديموقراطية موقع مثال أعلى للمساواة، يكسر الحواجز ويشرِّع الأبواب والنوافذ. لكننا لم نعد في هذا العالم؛ وعالمنا لم يعد عالم قرى؛ ولم يعد المسؤولون عن تربيتنا الإقطاعي أو كاهن الرعية أو الجد، بل برامج التلفزيون وألعاب الفيديو والعلوم.

لم يعد في وسعنا أن نستند إلى العالمي ضدَّ العالم الذي يزداد غربة عن التقاليد، لأننا نعيش في عالم صناعي وتجاري ومعلوماتي وإعلامي. لذا فالسؤال المطروح هو: أيُّ شكل يمكن أن تتخذه الدعوة إلى مبدأ عالمي في عالم متحرك؟ أفهم جيدًا واقع أن الاستناد إلى مبدأ عالمي قد أتاح الانفصال عن العالم المغلق والتقليدي للعادات والحقائق الراسخة. لكن ما مصير ذلك الأمر حين يتحرك العالم ويصبح صناعيًّا؟ الإجابة الملموسة هي أننا قد انتقلنا من حقوق الإنسان إلى الحقوق الاجتماعية. وقد تمَّ الحديث عن الحقِّ في العمل، والحقِّ في إنشاء أسرة؛ وذلك هو الإطار الذي يريد فيه البعض أن تُعتبَر البطالة غير قانونية.

لقد قالت تجمعات ونقابات عمالية: مبدأ الحرية والمساواة والإخاء جيد جدًّا؛ لكن ما يهمنا هو حق العامل في التدخل في مجال تحديد شروط توظيفه وعمله وأجره – فذلك أمر أكثر محسوسية. وليست الحقوق التي تتم المطالبةُ بها حقوقًا عالمية، بل هي حقوق خاصة بالأُجَراء الذين لا يحدِّدهم وضعُهم الإنساني، بل علاقات العمل، أي علاقات إنتاج اجتماعية.

وعلى النحو نفسه، قال آخرون: أيها الفرنسيون، لقد تحدثتم عن الحرية والمساواة والإخاء، لكنني شخصيًّا جزائري أو فييتنامي أو سنغالي أو غيني، وأنا خاضع لاستعماركم؛ لذا فإنني أطالب كأمَّة، ناسخًا مشاريعي عن مشاريعكم، بحرية الشعوب في تقرير مصيرها.

إذًا فإن ما يطالَب به في هذا الإطار هو بدوره حقٌّ عالمي؛ لكنه مطلب شعوب تريد أن يتم الاعتراف بها بناءً على واقعها الخاص. إذ ثمة فرق كبير بين أن يُعترَف بالمرء كإنسان، وأن يقال إن جميع الناس يولدون أحرارًا ومتساوين: كلا، لأن كلَّ واحد يطالب بالاعتراف به كعربي أو جزائري أو مسلم أو قبائلي.

أخيرًا، ثمة تيار ديموقراطي مهم ثالث، هو تيار النساء، اللواتي اعتبرن أنه من الشائن ألا تنطبق مبادئ الحرية والمساواة سوى على نسبة 50 في المئة من الراشدين. ومما زاد من صحة مطالبهن هو أن فكرة التصويت الشامل جاءت بناءً على فكرة أن الرجل كائن عالمي وعقلاني، ويجب أن يكون في موقع متعارض مع المرأة، التي ليست عالمية وعقلانية، مثلما ذكَّر أخيرًا رونسافالون في كتابه حول "التصويت الشامل".

وليست مصادفة أن يكون البلد الأوروبي الذي قام بأول تصويت شامل، أي فرنسا، وذلك في العام 1848، قد انتظر 97 عامًا قبل أن يمنح النساء حقَّ التصويت؛ وكان لينتظر، على الأرجح، وقتًا أطول من هذا لو لم يصدر مرسوم عن الحكومة المؤقتة في الجزائر!

النساء يقلن: نعم، نريد حقوق المواطَنة؛ فذلك حقٌّ عالمي. لكنني أريد أن يتم الاعتراف بالنساء من حيث خصوصيتهن. وقد كانت الحركة العمالية هي الأولى التي تحدثتْ في هذا الموضوع، بما أن أحد أول القوانين التي تمَّ التصويتُ عليها كان قانون حظر التشغيل الليلي للنساء. هكذا طالبت النساء بالحصول على كلِّ الحقوق السياسية القانونية والشمولية بغية الدفاع عن مصالح خاصة، على غرار إجازة الأمومة مثلاً.

وفي وسعكم أن تلاحظوا أنه في الحالات الثلاث: أي مشكلة الطبقات الاجتماعية، ومشكلة الأمَّة، ومشكلة الجنس [بمعنى الذكور والإناث]، المطلوب هو، مثلما يؤكد التاريخ الاجتماعي للأعوام المئة والخمسين الأخيرة، الانتقال من توكيد العالمية (أي حقوق الإنسان الأساسية، والحقوق الطبيعية)، إلى رؤية أكثر تعقيدًا تسعى إلى تجسيد الحقوق العالمية على صعيد فئات وظروف وعلاقات اجتماعية خاصة.

فلنعطِ الآن صياغة أكثر شمولية لهذه التحولات. نحن لا نعتقد أنه يكفي أن نتحدث عن الحقوق الأساسية، ولا نعتقد خصوصًا أن أفضل طريقة لحماية الحقوق الأساسية تتمثل بالاعتماد على عالم سياسي يعلو على العالم الاجتماعي.

وصحيح أن هذه الصورة الأرسطية مازالت تحظى بدعم عقول كبيرة – ونفكِّر أولاً في هذا الإطار بحنَّة أرندت – إلا أننا نتردَّد اليوم في السير على هذه الدرب، ونريد أن تتجسد هذه الحريات الأساسية في مجال العمل، وفي العلاقات بين النساء والرجال، وفي العلاقات بين الأمم. لا بل أذهب إلى حدِّ القول بأننا نرغب جميعًا في أن نقول: مما لا شك فيه أن الديموقراطية هي قانون الغالبية، لكنها أيضًا احترام الأقليات. وتكفي هذه الجملة للتعبير عن الانقلاب الذي طرأ على مفهوم الديموقراطية لدينا. إن جوهر التفكير السياسي يعني إيجاد طريقة للجمع ما بين الاستناد إلى العالمي والاستناد إلى حقوق الإنسان، إلى جانب احترام الخصوصيات.

ويقول أشهر فيلسوف سياسي – وهو جون رولز – في كتابه الأخير بعنوان الليبرالية السياسية، وبأسلوب بسيط للغاية، إن الديموقراطية تقوم على دفع أناس ينتمون إلى ظروف ومعتقدات مختلفة إلى العيش معًا، أي في ظلِّ القوانين نفسها. وذلك هو ما نعبِّر عنه عمومًا في لغتنا الفرنسية بكلمة واحدة، هي العلمانية laïcité؛ إذ ليس ثمة ديموقراطية غير علمانية. وإن أول نصٍّ علماني، والنص الأبرز والأهم في مجال العلمانية، هو من دون شكٍّ دستور الولايات المتحدة؛ وإنني أتخذه مثالاً لأنه يحلو للأمريكيين الرجوع إلى القيم الدينية!

يطرح الدستور الأمريكي مبدأ العلمانية والدنيوية: إذ يجب عدم المطابقة بين الدولة وأية هيئة أو معتقد أو قناعة. لذا حين يقول التماميون: يجب نزع صفة العلمانية عن الدولة، ويجب أن تكون الدولة، تاليًا، إسلامية أو مسيحية أو يهودية أو بوذية أو هندوسية، يعني ذلك أن الدولة المعنية لا يمكن لها أن تكون ديموقراطية.

كيف يمكن الجمع ما بين المبادئ العالمية واحترام حرية الأفراد؟ ثمة إجابتان رئيستان عن هذا السؤال، وكلاهما غير مقبول: ثمة أولاً الردُّ، الفرنسي غالبًا، القائل بمنح العالمية امتيازًا حصريًّا في مواجهة كلِّ ما تبقى وضدَّه، أي رفض كلِّ خصوصية.* وذلك هو الموقف الذي يسعني أن أطرحه بكلمة واحدة فيما يتعلق بأكثر المشكلات تعقيدًا، ألا وهي مشكلة الهجرة. إذ لطالما كان الموقف الفرنسي على هذا الصعيد كالآتي: فليكن تشريعنا منفتحًا، ولنحمِ حقوق الأفراد، وليكن مفهومنا عن الجنسية مرحِّبًا. ومازال الإغراء موجودًا.

لقد أصدر المجلس الأعلى للهجرة كتابًا يمكنكم بسهولة إيجاده في المكتبات، ويحمل عنوان الاندماج بفرنسا؛ وهو نصٌّ ليبرالي للغاية في روحيَّته، لكنه فرداني وشخصي، ويطرح مفهومًا يصعب اليوم اعتباره كافيًا، لأنه من الضروري إيجاد جواب عن السؤال الآتي: كيف يمكن الجمع ما بين العالمي والخاص؟ والمقلق هو أن يقال: أن تندمج بفرنسا، يعني أن تندمج ببلاد حقوق الإنسان. تاليًا كلَّما ازددتَ عالمية، ازداد انتماؤك لفرنسا: وذلك لا يتطابق مع الواقع.

تعلمون جيدًا أن العالم اليوم منجرف نحو الجهة المعاكسة، أي في اتجاه التعدُّد الثقافي، وذلك في العالم الثالث خصوصًا، ولكن أيضًا في "العالم الأول"، أي عالم البلدان الصناعية. والرأي العام والميل الثقافي هما السائدان في عدد كبير من البلدان، وخصوصًا في الولايات المتحدة، وفي شكل رئيسي في أفضل الجامعات الأمريكية. وما نصفه بالكلام "اللائق سياسيًّا" politically correct يقضي بأن نقول إنه يجب وضع حدٍّ لتفوُّق الثقافة المتمحورة حول أوروبا والذكورية، أو المتمحورة في أيِّ حال حول الثقافة الذكورية واليهودية–المسيحية والبرجوازية.

هناك أناس يقولون إن ثمة ثقافة نَسَوية، وإنه من الضروري عرض وجهة النظر التاريخية للنساء إلى جانب تلك الخاصة بالرجال، وإنه يجب كذلك القيام بتأريخ للولايات المتحدة من وجهة نظر الهنود، أو بتأريخ لأمريكا اللاتينية من وجهة نظر المستعمَرين، أو بتأريخ للولايات المتحدة من وجهة نظر المثليين الجنسيين، في حين أن التاريخ عمومًا هو تاريخ مشتهي الجنس الآخر؛ ويمكن لنا أن نضيف: تاريخ الشباب، وتاريخ المسنِّين.

ويكمن الخطر في احتجاز كلِّ مجموعة في ثقافتها، وفي إلغاء كلِّ عالمية. لكن كيف يمكن آنذاك أن نعيش معًا؟

قد يكون ذلك بواسطة الحرب أو الحملات الصليبية أو الجهاد أو السوق. لكن ذلك لا يشكِّل تواصلاً اجتماعيًّا! فإذا ردَّ موظف البريد عليكم باللغة العربية، وجارُه باللغة السواحلية، قد يشعر الإيرلندي العابر أمامهما بالضياع! لنترك إذًا المواقع المتطرِّفة، ولنتساءل عن الناس الذين اقترحوا حلولاً أفضل.

صورة هابرماس

يورغن هابرماس

يبدو لي أن الرجل الذي قدَّم الاقتراحات الأكثر تطورًا هو ذلك الذي، لهذا السبب، يمارس أكبر قدر من التأثير الفكري في العالم؛ وهو في الوقت الحاضر يورغن هابرماس. إذ يقول هذا: العالمية موجودة في كلِّ الميادين، أي في ميدان العقل العملي (نقد العقل العملي لإيمانويل كانط)، وفي ميدان الجمالية (نقد الحكم لكانط)، كما في ميدان العلوم (نقد العقل الخالص لكانط كذلك).

تقاس الديموقراطية بدرجة التنوع الذي تديره قوانين مجتمع ما. ويجب على القانون أن يعترف بحقوقي الأساسية، أي بحريتي وهويتي على حدٍّ سواء. ولبضعة أعوام خَلَتْ، عَمَدَ فيلسوف من مرحلة ما بعد الحداثة، هو جان فرانسوا ليوتار، إلى إطلاق صيغة لقيتْ شهرة واسعة النطاق حول نهاية الروايات التاريخية الكبرى. وليوتار على حق: إذ لم نعد نؤمن بأن العالم هو السير نحو التقدم، نحو الليبرالية، نحو الاشتراكية، نحو الشيوعية – شرط أن نضيف إلى ذلك ما هو الأهم في رأيي: نعم، لقد انتهت حقبة الروايات التاريخية الكبرى، لكننا دخلنا حقبةً يحاول كلُّ واحد منَّا فيها أن يجعل من حياته الخاصة رواية، ويحاول التصرف بأكبر مجموعة من العناصر التي يمتلكها، أي حياته، لكي يجعل منها حياة فردية ومتميِّزة بقدر تميُّز بصمات أصابعنا. إذ يريد كلُّ شخص أن تكون حياته هي حياته الشخصية، لا حياة طبقته الاجتماعية أو جنسه أو لغته أو مهنته إلخ.

ويريد كلُّ واحد أن يعتبر كلَّ عنصر من عناصر حياته كإشارة إلى تفرُّده. وأظن أن هذا هو ما يشكِّل القيمة الرئيسية اليوم، في عالمنا العصري هذا: وهو ما عبَّر عنه غالبًا علماء النفس الأمريكيون، مشيرين إلى أهمية "تقدير الذات" self-esteem. وإنني الآن في صدد استخدام كلمة خطيرة، لكنني أستند في ذلك إلى نصٍّ شهير لتسيغموند فرويد يعود إلى العام 1914 حول النرجسية؛ والكلمة التي أعنيها هي "النرجسية الثانوية". لكن بما أن هذه قد اكتسبتْ دلالةً سلبية، لنَقُلْ ببساطة "حب الذات".

ذلك هو، في رأيي، أكبر مطلب ثقافي اليوم، أي حب الذات، لا بالمعنى الأناني، لا بمعنى الانغلاق في شرنقة، بل بعض ما أسمِّيه "الفاعل" le sujet، أي رغبة كلِّ فرد في أن يكون فاعلاً، في أن يكون طرفًا. والديموقراطية هي مجموع الظروف المؤسَّسية التي تمنح الفرد فرصة أفضل لكي يكون فاعلاً. إذ لم نعد نقول: يجب أن نضحِّي بالفرد في سبيل المجتمع والأمة والله والعلم والعقل والتاريخ ونظام العالم؛ بل إننا نفكر في شكل أساسي بأن المجتمع والاجتماعي والقانوني والسياسي يجب أن تكون جميعًا أدواتٍ في خدمة التفرُّد، أو في معنى أكثر عمقًا، في خدمة التحول نحو "الذاتية".

كان ميشيل فوكو يرى في هذا الأمر خطرَ تحوُّلِ الأشخاص أتباعًا لأمير أو لنظام؛ وهذا الخطر واقعي جدًّا. إلا أن عالمنا، الذي يستطيع استعباد الأفراد بواسطة حملات الترويج والإعلانات وأشكال التطبيع، مَنَحَ مفهوم "الفاعل" أهمية جوهرية.

يجب أن تُفهَم السياسة – إذا توخَّى المرء أن يكون ديموقراطيًّا – على أنها الدفاع المؤسَّسي عن الإنسان، أي عن الفرد والأقلِّيات والجماعات ومجموع الجماعة؛ أي، بكلام آخر، الفئات السياسية هي فئات أداتية موضوعة في خدمة شيء أكثر جوهرية. وهذا الأخير هو، بحسب مبادئه نفسها، معادٍ للمجتمع؛ وهو ما نسميه ببساطة هنا الحرية.

وذلك ما كان يقوله عالما اللاهوت الإسبانيان سواريث ولاس كاث في بداية عالمنا العصري، وإنْ بتعبيرات وتصورات مختلفة تمامًا، حين هاجما الغزاة الإسبان، قائلين إن الهنود هم مخلوقات الله بقدر الإسبان، ويتمتعون، تاليًا، بميِّزة تتجاوز شخصيتهم وثقافتهم، ألا وهي واقع أن جميع الناس هم مخلوقات الله.

واسمحوا لي أن اختتم بالعودة إلى نقطة انطلاقي: فهذا التفكير النظري بعض الشيء هو أقرب إلى الواقع اليومي من الجدالات المؤسَّسية الصرفة. لن يكون ثمة دفاع عن الديموقراطية، وتاليًا لن يكون ثمة حرية، إذا لم يكن في وسعنا اليوم أن نضع للديموقراطية أسُسًا متينة بقدر الأسُس التي شيَّدها لها أسلافنا حين كتبوا الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان.

*** *** ***

عن نشرة La République des Lettres

ترجمة: جمانة حداد


* ولا بدَّ أنكم تذكرون في هذا الإطار الجملة الشهيرة التي قالها عدد كبير من الثوار – وأذكر منهم الأب غريغوار وكليرمون تونير – حول موضوع اليهود: "كل شيء لليهود كأفراد، لا شيء لليهود كجماعة."

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود