|
الأساطير الهندية وأثرها في المنقول
الثقافي الهندي (1 من 2) مقدمة لقد
ظلَّت الأساطير الهندية القديمة، حتى أواخر
القرن التاسع عشر، موضع سخرية واستهزاء
غالبية البحَّاثة الغربيين، وكذلك الهنود
المتغرِّبين الذين نظروا إلى موروثهم الروحي
نظرةَ الغرب المادية السائدة آنذاك. لقد
أفْقَدَ القومَ انبهارُهم بمنجزات المدنية
الحديثة، أو قُلْ بروح هذه المدنية المعادي
لكلِّ ما هو موروث أو "نقلي" traditional،
كلَّ فهم – وبالتالي، كلَّ احترام –
لمنقولهم الروحي المترع بالمعنى؛ فلم يكن
وقتئذٍ من النادر سماع نقد ساخر موجَّه إلى
منحوتة تمثل إلهة مثمَّنة الأذرع، نتيجة جهل
مطبق بالأسُس الرمزية الروحية والميثولوجية
للفنِّ الهندي النقلي. أما
اليوم فقد تغيَّر الوضع تغييرًا جذريًّا، إذ
أعْمَلَ عددٌ من المفكِّرين والعلماء
المعاصرين، من الباحثين في مجال الدين
المقارن وتاريخ الأديان والميثولوجيا،
فكرَهم في سَبْرِ التصورات الكوسمولوجية
والمعاني الروحية العميقة الكامنة في
الأساطير الهندية، وخرجوا من دراساتهم
بنتائج مُغنِيَة للفكر العالمي. لقد رأى
هؤلاء أن أيَّ فهم حقيقي للميثولوجيا يستلزم
الإقلاعَ عن الطريقة الوصفية التصنيفية
المحضة في النظر إلى الوجود والأشياء – تلك
الطريقة التي تشترط على صاحبها "نزع
القداسة" desacralization
عن الموجودات والحياد السلبي بإزائها –
والنظرَ إلى الميثولوجيا، بالأحرى، نظرة
نخبة الشعوب المؤمنة بها إليها: أي على أنها
تعبير رمزي مكثَّف عن حقائق وجودية، نفسية
وروحية، لا تمثِّل القصة إلا قشرها الخارجي
الذي ينبغي "مضغه"، إذا جاز التعبير،
لتذوُّق لبِّ الثمرة. نذكر من هؤلاء: هـ.ب.
بلافاتسكي ورونيه غينون ومرشا إلياده
وهاينرِش تسيمِّر وجان هربير وجوزف كمبل،
وبصفة خاصة آنندا كوماراسوامي، الذين أبطلتْ
أبحاثُهم القيِّمة وتأويلاتهم الغنية
الكثيرَ من التفسيرات المتعسِّفة، ووسَّعتْ
أفق فهمنا للقيمة الروحية والجمالية
والاجتماعية للأساطير الهندية العريقة. ومع
أن الجهل والتحامُل قد تراجعا اليوم إلى حدٍّ
كبير، وأفسحا المجال لمقاييس جديدة في الفهم،
فإن التعميمات المتسرِّعة الساذجة ما تزال
تملأ مؤلَّفات الباحثين إلى اليوم؛ وهي، في
الأعمِّ الأغلب، تُبنى على مسلَّمات لا تصلح
للحكم على نواتج الحضارات الشرقية
صلاحيَّتَها لدراسة الحضارة الغربية الحديثة.[1] لا
بدَّ لدارِس الميثولوجيا الهندية من أن يأخذ
بالحسبان ثلاثة أوجُه للمسألة، متواشجة، لا
يجوز الفصل فيما بينها إلا من منطلق تصنيفي
تيسيرًا للدراسة، ألا وهي: الأنثروبولوجيا
وعلم النفس الاجتماعي والاقتصاد. إن وجهات
النظر هذه ثلاثتها تحتفظ اليوم بأهميتها
كاملة؛ ونحن أبعد ما نكون عن إنكار أن
الأنثروبولوجيين وعلماء النفس والاجتماع
قدَّموا إسهامات جليلة في دراسة
الميثولوجيا؛ غير أننا أيضًا أبعد ما نكون عن
ازدراد نظرياتهم برمَّتها من غير ما تمحيص أو
إعادة نظر. ففي
القرن التاسع عشر، مال العديد من
الأنثروبولوجيين إلى رسم خطٍّ فارق حاسم بين
المجتمعات البدائية (أو "البرِّية" كما
كانت تسمى آنذاك) وبين المجتمعات المتحضِّرة.
لقد كان الإنسان "البدائي"، كما تصوَّره
القوم، هو المحكوم بنسق اعتقادي "لاعقلاني"
irrational،
بينما المجتمعات المتحضِّرة تقوم على سيادة
النظريات المنطقية والعلمية. على هذا الأساس،
ساد الرأي القائل بأن الأساطير والحكايات
الخرافية التي تعجُّ بالعناصر
الميتافيزيائية تعكس عقلية بدائية لم تبلغ
بعد طور الصواب والمنطق. وبذلك يبطل دور
الميثولوجيا في دراسة المجتمعات المتقدمة و"التقدمية"،
وينحصر الاختصاص بها في حلقات المؤرِّخين
ودارسي الفولكلور. لقد
حاوَرَ العالم الكبير آنندا كوماراسوامي
ممثِّلي هذا المنحى الفكري، متسائلاً عما إذا
لم تكن الشعوب "البدائية"، كما يسمونها،
البعيدة عن نقطة بدء التطور الاجتماعي، قد
بلغت نهاية دورها، بعد أن انحدرت من مستوى
روحي مُرْتَقٍ، نتيجةً، ربما، لاكتساح القيم
المادية للمدنية الحديثة؛ ولفت أنظارهم إلى
احتمال أن تكون أساطير هذه الشعوب وقَصصها (التي
لا تدل على المستوى الحضاري الرفيع الذي
بلغتْه في العصور السابقة للتاريخ الحديث
دلالةً مباشرةً واضحة) إشاراتٍ – "لقوم
يتفكَّرون" – إلى أعمق العقائد
الميتافيزيائية والكوسمولوجية. إن مثل هذه
التساؤلات تصلح لنَقْرِ أذهان مَن لا يقرأون
في أناشيد الـرِغ فيدا، مثلاً، غير كلام
عفوي، صادر عن أناس بسطاء سُذَّج، تعبيرًا عن
الشعور البدائي بالدهشة والخوف والفرح. وإذا
انتقلنا من النهج الأنثروبولوجي إلى النهج
النفساني لَوَقَعْنا على تعميمات متسرِّعة
عديدة. فقد تأثَّر جيل كامل، على سبيل المثال،
بالنظريات التحليلية الفرويدية، إلى حدِّ
أنه لم يجد في الشعر المأثور والأساطير
المنقولة للحضارات العريقة غير متنفَّس
للرغبات الجنسية المكبوتة والصراع المحتدم
بين خافية النفس (= اللاوعي) وبين الأنا،
الصراع الذي يتمخَّض عن مركَّبات (= "عقد")
متنوعة، تعكس جميعًا تَصارُع حدَّي ثنائيات:
إيروس وثاناتوس (الحب والموت)، التبتُّل
والشهوة الجنسية، إلخ. غير أن ك.غ. يونغ افترق
عن المنطلقات المادية والاختزالية للتحليل
الفرويدي، وعلَّقَ أهمية قصوى على "أساطير
الأقدمين" بعامة ورموزهم، ومنها أساطير
الهندوسية والبوذية، وبذلك أسهم في تخفيف حدة
الغلوِّ الفرويدي في بُعد واحد. لكن
هذا لم يَحُلْ دون استمرار التفكير بلغة
الثنائيات. فالواقع أن العقلية الغربية قد
طُبِعَتْ على النهج الديالكتيكي، ومالت
دومًا إلى فهم الظواهر في ضوء "صراع
الأضداد". والهند، وإن تكن أنجبتْ عددًا من
الديالكتيكيين الكبار، مطبوعةٌ على النظر
إلى الاختلاف بين شيفا وشكتي، بين الواحد
والكثير، بين الوعي والطاقة، بوصفه اختلافًا
اعتباريًّا، وليس كتضادٍّ لا يقبل التأليف.
ولقد أغفل غالبية علماء النفس هذه السمة
الأساسية للروح الهندية وهم يبحثون في
الأساطير الهندية.
كرشنا وحبيبته رادها:
من مظاهر تكامُل الثنائيات في الوجود من
جانب آخر، فإن التفسيرات الاجتماعية–الاقتصادية
للميثولوجيا، عمومًا، وللميثولوجيا
الهندية، خصوصًا، تتَّسم، في أغلب الأحيان،
بواحدية البُعد. وفي حين يصحُّ القول إن
الأساطير والقَصص تعكس، إلى حدٍّ ما، الأوضاع
الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للعصر،
فإن تشكُّل الأساطير الكبرى يتمُّ من جراء
عوامل عديدة من مرتبة أعلى من الوضع الراهن. إن
بعض الأساطير الهندية، على سبيل المثال، من
الغنى بالمدلولات الفلسفية والروحية
العميقة، بحيث إن العوامل الاجتماعية
والاقتصادية لا تلعب في بنائها الإجمالي إلا
تأثيرًا هامشيًّا. فحتى لو سلَّمنا بأن
تعاليم البوذا تعكس استياء الإنسان العادي من
الإسراف والترف في بلاطات الملوك، فهذا ليس
إلا عاملاً شديد الضآلة بالقياس إلى المعنى
الكلِّي لأسطورة البوذا. والخلاف بين
الحكيمين فيشفامِتْرا وفاشِشْترا قد يعكس
عَكْسًا غير مباشر صراع المصالح بين مرتبتي
الكهنة (البراهمة) والمحاربين (الكشتريا)؛
إنما جهاد فيشفامِتْرا لبلوغ مرتبة برهما
رِشي (الحكيم الإلهي) ذو سمة روحية وأخلاقية
عميقة، لا تمتُّ بِصِلَة إلى صراع الطبقات
الاجتماعية بالمعنى الماركسي للمصطلح. تأسيسًا
على ذلك، يجب ألا يجرفنا الاطِّلاعُ على آفاق
الدراسة الواسعة التي فتحها علماء النفس
والاجتماع في تيار التعميمات التي لا تأخذ
بعين الاعتبار السمات البارزة للميثولوجيا
عمومًا، والهندية خصوصًا. فالأسطورة، في كلِّ
حضارة قائمة على "الحكمة الخالدة" Philosophia
Perennis، تشكِّل النسق
المعرفي الكلِّي الذي تقوم عليه، وتنتظم من
حوله وتتقاطر نحوه، العلوم والمناهج
والتصورات الميتافيزيائية كافة[2]؛ وأفراد
المجتمع، على اختلاف أنماطهم النفسانية
وتنوع أنشطتهم، يشكِّلون خيوطًا تندرج في
نسيج الأسطورة المتسِع بلا حدود، ويساهمون،
في الوقت نفسه، عبر تفاعلهم المادي والنفسي
والروحي مع الثيمات الأسطورية، في تلوين هذا
النسيج بألوانه المحلِّية الخاصة وأبعاده
الكونية النابعة من خصوصية الخبرات الفردية. بذلك
فإن الأسطورة، بكلِّ ما كان يرفدها من
مقوِّمات الدين (شعائر ومناسك، عقائد وعلوم)،
كانت تمثل وجوهًا متعددة من حيث الظاهر،
واحدة من حيث الجوهر، للكائن الإلهي الرابض
في أعماق كلِّ إنسان، المستعد لمقارعة قوى
الكائنات وقوى الطبيعة والآلهة، حتى ابتغاء
بلوغ مقصده الأسنى. لا بل إن الأسطورة كانت
تجسِّد، عبر تفاصيلها، الثابت منها
والمتجدِّد، دقائق ذلك الصراع الأزلي في
النفس الإنسانية الكلِّية بين الظاهر
والباطن، بين ما هو منظور وما هو غير منظور.[3]
ومن تلك "النفس الكلِّية"[4]
انبثقت الأسطورة إفصاحًا متجددًا عما هو خالد
في أشواق الإنسان وتطلعاته إلى الانعتاق من
عبوديته للزمن التاريخي، من جهة، وترسيخًا
لإيمانه بسرمدية النواميس الإلهية في
الطبيعة والكون، وبقدرة البذرة الإلهية
المغروسة فيه على النموِّ والارتقاء إلى
الألوهة، إذا هو تناغَم مع الفعل الكلِّي
لهذه النواميس، من جهة أخرى. بذا
فإن الأسطورة لم تكن سجلاً أمينًا للجهاد
الدائر في النفس الإنسانية[5]
وحسب، بل كانت أيضًا نوعًا من "الغربال"،
يستبقي من هذا الجهاد أمثولةَ التناغم، بما
يدفع الإنسان قُدُمًا إلى المزيد من التفتح.
لذا كانت منه بمثابة متنفَّس حقيقي يَهَبُه
حرية داخلية، هي حرية أخلاقية بالضرورة،
تعزِّز وجوده، في بُعديه النفسي القديم
والفكري المُحْدَث، وتُوازِن بين هذا الوجود
وبين الطبيعة، عمومًا، والبيئة التي تكتنفه،
خصوصًا. الخصائص العامة للميثولوجيا الهندية تهيمن
على الميثولوجيا الهندية ككل حركةٌ دينامية،
هي محصِّلة مجموعتين من القوى الفاعلة في
الوقت نفسه، يرفد كلٌّ منهما الأخرى
ويعزِّزها على التبادل، ألا وهما: الثبات في
التحول، والوحدة في التنوع. فأيًّا كان
الجانب الثقافي للهند الذي نتناوله بالدرس –
الفكري، الروحي، الأخلاقي أو الاجتماعي –
نقع على هاتين المجموعتين من القوى فاعلةً
فيه. والميثولوجيا، بالتالي، تعكس عَكْسًا
جليًّا هذه السمة المميِّزة للثقافة الهندية. لقد
أبدت المفاهيم والرموز الرئيسية للميثولوجيا
الهندية ثباتًا مدهشًا عبر القرون. فإن ثيمات
ميثولوجية، من نحو مَخْض بحر اللبن بحثًا عن
شراب الخلود، ونزول النهر المقدس من الفردوس
إلى الأرض، والصراع بين البوذا ومارا، وأدوار
التطور وتحلُّل الكون (برلَيا)، والحروب
بين الآلهة والشياطين، وإغواء الحكماء، إلخ
– هذه الأساطير كلُّها حافظت على سماتها
الأساسية، وماانفكت تفعل فعلها في عقل الهندي
وقلبه، على الرغم من التقلبات الاجتماعية
والسياسية.[6] بالإضافة
إلى هذا الثبات، نقع في الميثولوجيا الهندية
على سلسلة من التغيرات والتحولات في التوكيد
على هذه الثيمة أو تلك. وعلَّة ذلك أن النموَّ
النفسي للإنسان قد مرَّ عبر العصور بمنعطفات
عديدة، تجلَّتْ في أزمات نفسية جديدة على
كلٍّ من صعيدَي الفرد والجماعة. لكنها، ضمن
النسق المعرفي الأسطوري، كانت تتحول دومًا
إلى عوامل مقوِّية وموازِنة، ترمي إلى بَذْرِ
بذور جديدة في حقل النفس وإلى تفتح ملَكات
فكرية جديدة.[7]
فالآلهة (وهي المعادِل الموضوعي لقوى النفس)
التي حكمتْ من علياء السماء في أحد العصور
أُنزِلَتْ إلى مرتبة أدنى في عصر يليه، بينما
سَمَتْ الآلهة الثانوية إلى منازل رفيعة
وحكمتْ عليها.[8]
وفي هذا تفترق الميثولوجيا الهندية عن
نظيرتيها الإغريقية والإسكندينافية (التي
تشكَّلتْ ثيماتُها في فترة متأخرة نسبيًّا)
افتراقًا ملموسًا. لقد
نشأت الأساطير الإغريقية في فترة وجيزة
نسبيًّا (بالقياس إلى نشوء الأساطير الهندية)،
لا تتجاوز أربعة قرون. فعندما وضع الشاعر
الأسطوري هوميروس الإلياذة والأوذيسة
كان البانثيون اليوناني قد استكمل صورته
النهائية. وبعد العصر الهوميري لم يحدث أيُّ
تغيير أو إضافة تُذكَر في الأساطير فيما يخص
مراتب ووظائف كلٍّ من زفس (كبير الآلهة)
وأبولون (إله الشمس والفنون) وبوسيذون (إله
البحر) وأثينا (إلهة الحكمة والمعرفة)
وأفروذيتي (إلهة الجمال والحب) وذيونيسوس (إله
الخمر والنشوة الروحية) وغيرهم من آلهة
الأولمب. ولا شكَّ أن العصور التالية شهدتْ
تأويلاتٍ مغايرة لهذه الأساطير؛ لكن
الأساطير نفسها، في بنيانها الأساسي، لم
يمسَسْه تغيير. أما في الهند فقد حدث عكس ذلك
بالتمام؛ إذ خضعت الأساطير نفسها لتغييرات
جذرية يمكن ملاحظتها بسهولة لو قارنَّا
أساطير الـفيدا الكبرى بمثيلاتها في الـبورانا. لقد
فَقَدَ كلٌّ من إندرا وفارونا، اللذان كانا
يسودان على البانثيون الفيدي، قوَّتهما
وسؤددهما في عصر لاحق، مع بقاء عبادتهما
متَّقدة وذكرهما حيًّا في النفوس. فالحاضر في
المنقول الهندي لا ينسخ الماضي، كما لا
يُتوقَّع من المستقبل أن ينسخ الحاضر. الماضي
في الميثولوجيا، كما هو الشأن في المجالات
الأخرى، يُستجمَع، ويُعاد تقويمه، ويُدفَع
به قُدُمًا نحو المستقبل. لذا كثيرًا ما يرد
ذكر إندرا وفارونا وبراجابتي وغيرهم من
الأرباب الفيدية في الـبورانا أيضًا،
وإنْ بدَّد شيفا وفشنو شيئًا من ألَقِها.
فإندرا، الذي كان ذات يوم قوة لا تُقهَر، نراه
يتكبَّد هزيمة نكراء على أيدي غيره من
الآلهة، وحتى على أيدي الأبطال والجبابرة،
كما جاء في ملاحم الـبورانا وقَصَصها.
وكذلك نرى راما وكرشنا، اللذين "تنزَّل"
فيهما الإله فشنو، يبرزان كشخصيتين هامتين
للغاية في الميثولوجيا. وشيفا وفشنو، وإنْ
ظلا على ما هما من عظمة، يبدوان بعيدين إلى
حدٍّ ما، ومعزولين عن الآخرين، بينما خلَّفَ
كرشنا وراما أثرًا بشريًّا وجوهريًّا أكثر
مباشرة.
شيفا، الوجه المدمِّر
للألوهة في الثالوث الهندوسي برهما – شيفا –
فشنو لا
تعكس الميثولوجيا الهندية السيرورة
المتزامنة للثبات والتحوُّل وحسب، بل تُبدي
كذلك كيفية حفاظ الهند على وحدتها الثقافية
الأساسية في ظروف اتصفتْ بتنوع مذهل. والواقع
أن الميثولوجيا، في بعض الأحيان، أسهمتْ
إسهامًا بارزًا ورائدًا في تحقيق تلك الوحدة.
فقد أضفى القَصصُ من الـرامايانا والـمهابهارتا
والـبورانا دومًا عنصرًا تكامليًّا على
حياة الهند القومية؛ إذ قرَّبتْ الأساطير
الخاصة بالآلهة والإلهات الناسَ بعضهم من
بعض، شعوريًّا وروحيًّا، وذلك على الرغم من
الاختلاف في اللغات والمهن وأنماط الحياة
والمعتقدات الدينية والمنقول المحلِّي. هذا
التقارُب يتجلَّى تجليًا واضحًا عندما يتجمع
الناس قادمين من أصقاع مختلفة من الهند في
أماكن مقدسة أو في أسواق أو في أماكن الاحتفاء
بعيد، مثل عيد كومبهاميلا، عند ملتقى
نهرَي الغانج والجَمونا، وكذلك في مولد راما
الذي يُحتَفى به في جميع أنحاء الهند،
ومهرجان مولد كرشنا الذي يجذب آلافًا من
الناس إلى فريندفان على شاطئ نهر الجَمونا.
كرشنا طفلاً على
كلِّ حال، لم تتحقق هذه الوحدة على حساب
التنوع. إذ يتم إحياء ذكرى هذه الأحداث
الأسطورية بواسطة الشعائر والموسيقى والرقص
والشعر، وبطرق متنوعة غير محدودة. فالمهرجان
الخاص بإله معين يُحتفى به بطرق شتى في أماكن
مختلفة، حتى إن أسماء الآلهة المستعملة في
المناطق الثقافية المختلفة يُنطَق بها
بألفاظ مختلفة في بعض الأحيان. فعلى سبيل
المثال، يدعى القرد البطل الذي لعب دورًا
هامًّا في الـرامايانا هنومان في شمال
الهند؛ أما في مهارشترا وغوجرات فيدعى مَروتي.
والإله الذي يُعرف عامة باسم كرتيكيا في شمال
الهند يدعى سوبراهمانيا في جنوبها. وكذلك
هناك تقاليد متنوعة في شأن عبادة برفاتي
ودورغا في البنغال، وعبادة لكشمي وغَنيشا في
مهارشترا، وعبادة خاكُنت في أوريسا.
لاكشمي، إلهة الخصوبة
والغنى لا
بدِّ أن صانعي الأساطير الهندية القديمة،
الذين لن نعرف أسماءهم أبدًا، كانوا أفرادًا
أصحاب عقول نيِّرة، على وعي بالدور الهام
الذي تستطيع الميثولوجيا أن تلعبه في تماسك
أفراد المجتمع وصَهْرهم في بوتقة واحدة.
وبهذا الصدد يحسن بنا أن نذكر مثالين للدلالة
على بُعد نظرهم. فعندما نتملَّى أوصاف الآلهة
والإلهات نتبيَّن أن الآلهة عمومًا سُود
البشرة، بينما الإلهات بيضاوات، وحتى
شقراوات، وبخاصة إذا كنَّ أزواجًا لآلهة سود.
هكذا نرى شيفا أسود البشرة، بينما زوجه
برفاتي، المعروفة بغَوْري، شقراء؛ يوصف فشنو
بالدُّكنة مثل السحاب، بينما لكشمي شقراء؛
راما أسود وسيتا هي الأخرى شقراء؛ كرشنا
داكن، نجده في اللوحات التراثية أمْيَل إلى
الزرقة الداكنة، أما رادها فهي بيضاء البشرة
أيضًا. فإذا ضربنا كشحًا، على مستوى أول
للفهم، عن الرمزية الكوسمولوجية والنفسية
العميقة للسواد والبياض، نجد أن الأسطورة
وحَّدَتْ بين أقوام الهند – سُمْرُهم من
الدرافيديين الأصليين، وبيضُهم من الآريين
النازحين من الشمال – بتمثيل الجميع في مجمع
الآلهة الذي يضم شخوصًا من كلا العنصرين.
كرشنا، الأزرق
الداكن، ورادها، البيضاء البشرة، كما
تصوِّرهما لوحة تراثية مثال
آخر يدلُّ على فطنة واضعي هذه الأساطير يتمثل
في طريقة إضفاء القداسة على أماكن متناثرة في
جميع أنحاء الهند بسبب ارتباطها بآلهة وأبطال
وقديسين معيَّنين. فلو أراد عِباد شيفا، على
سبيل المثال، أن يحجُّوا حَجَّة كاملة،
يزورون في غضونها كلَّ الأماكن الحرام
المنسوبة إلى شيفا، لا بدَّ لهم أن يمروا
بمناطق متعددة، يبعد بعضها عن بعض مسافات
شاسعة، ويختلف بعضها عن بعض اختلافًا كبيرًا
في أسلوب الحياة والثقافة، وحتى في المناخ
الطبيعي. كذلك، إذا كان الغرض الرئيسي من
الحجِّ هو تأدية مجموعة من المناسك الدينية،
فالنتيجة الثقافية العملية التي تترتب عليها
هي أن المرء يصير، بالخبرة المباشرة، ذا
إلمام بالتنوع الهائل في ثقافات الهند
وبالوحدة الفريدة الكامنة خلف هذا التنوع.[9] لقد
ظلت الميثولوجيا الهندية وثيقة الصلة
بالحياة الفعلية للناس؛ ويصحُّ هذا حتى على
العصر الحديث، على الرغم من كلِّ التغييرات
التي أحدثتْها التكنولوجيا في أساليب
المعيشة، ولاسيما في المدن. إننا، لو قارنَّا
الميثولوجيا الهندية بالميثولوجيا
الإغريقية أو الإسكندنافية، لَوَجَدْنا
اختلافًا ملموسًا فيما يتعلق بهذه النقطة
بالذات. فمنذ القرون الخوالي انقطعتْ صلة
آلهة الإغريق والرومان بالحياة الفعلية
للشعوب الغربية. فالأساطير المرتبطة بالآلهة
زفس (جوبيتريوس) وهيفستوس (فولكانوس) وهرمس (مركوريوس)،
أو بالأبطال، مثل بِرسِفْس وبروميثيوس، لا
يرغب في درسها، بكلِّ أسف، إلا طلاب الأدب
الكلاسيكي وتاريخ الأديان. فلا توجد لهذه
الأساطير صلة مع الحياة الثقافية
والاجتماعية السائدة في تلك البلاد. كذلك
الآلهة الإسكندنافية معزولة، ومعالمها غير
واضحة: فكم من الجرمان يذكرون أن "الخميس"
مرتبط بالإله ثور و"الأربعاء" بالإله
أودِن؟[10]
في حين أن الأساطير الهندية المرتبطة براما
وكرشنا تُذكَر يوميًّا في الأحاديث والشعائر
الدينية للشعب الهندي؛ وقد صارت جزءًا لا
يتجزأ من الأمثال والابتهالات والقصائد
الشعبية والحكايات والمسرحيات الشعبية. وحتى
الذين لم يُلقَّنوا العلم تلقينًا رسميًّا
يعرفون هذه الأساطير معرفة جيدة؛ إذ لقد
تعرَّفوا إليها في طفولتهم من الأحاديث
الأسرية اليومية. بسبب
هذا القرب الوثيق من شؤون الحياة الواقعية
صارت الأساطير الهندية مُعَدَّة إعدادًا
فريدًا للاضطلاع بدور هام؛ ويتمثل هذا الدور
في إيجاد صلة بين التصورات المجردة للفلاسفة
الرائين وبين الخبرات الفعلية للفرد العادي
في المجتمع. إن النظريات الميتافيزيائية في
نشأة الكون، والفيض عن المبدأ الأول، والوحدة
والكثرة، والطاقة والزمن والوعي، لا يمكن أن
يدركها بسهولة الذين لم يُفطَروا على إمكانات
عقلية رفيعة، قادرة على التأمل الفلسفي المحض.
وحتى المُثُل العليا الأخلاقية عن الصدق
والواجب والإخلاص والعمل والثبات والمحبة
تبقى غير واقعية ما لم نرها مجسَّدة في حياة
وأعمال أفراد – بشريين أو إلهيين – نشعر
بالقرب منهم ونتواحد نفسيًّا معهم. ففي الهند
تُكسِبُ الميثولوجيا التصوراتِ
الميتافيزيائية والمُثُلَ الأخلاقية حياةً
بواسطة الإشارة إلى الأفراد الإلهيين أو
المتألِّهين الذين تصبح لحياتهم ومسلكهم
قيمة الأسوة الحسنة. من
السهل أن نقبل المثل الأعلى للصدق قبولاً
ذهنيًّا. لكن قوَّته القاهرة تنتقش على
أذهاننا وقلوبنا بعمق أشد عندما نقرأ في الـمهابهارتا
عن الملك هريش تشاندرا الذي ضحَّى بكلِّ ما
يملك وقاسى الأمرَّين نتيجة تمسُّكه بمبدأ
الصدق؛ أو عندما نقرأ عن دهرماراجا يودهِشترا
الذي كان يطير بمركبته في الفضاء، حتى اضطر
إلى الهبوط على الأرض بسبب انحرافه عن جادة
الصدق. وفي الـمهابهارتا أساطير عديدة
أخرى كهذه تتجلَّى فيها الحسنات في مآثر
أشخاص يُقتدى بحياتهم في نواحٍ معينة من
الكمال الأخلاقي. كذا، يمثل برهلادا، الذي
احتمل صابرًا العقوبات الظالمة التي أنزلها
به أبوه العفريت هيرانيا كاشيبو، شخصية
المخلِّص المثالي، المؤمن بالله إيمانًا لا
يتزعزع؛ وتمثل كلٌّ من داماينتي وسافِتري
للوفاء الزوجي وللتضحية بالنفس؛ وإن شرافنا
كومارا الذي وضع أبويه المسنَّيْن في زنبيل
وحملهما على عاتقه يمثل نموذج إكرام الوالدين.
وهذه المثالية السَّمْحة تمثلتْ كذلك في
القصة الحكيمة للملك شيفي الذي وَهَبَ عينيه
لبراهمي كفيف. وقد
ساعدت الميثولوجيا دومًا في توضيح وتوكيد
مفهوم الـدهرما (الدين)، الذي هو قطعًا
أهم المبادئ الأخلاقية في المنقول الهندي. إن
معنى مصطلح دهرما، المشتق من الجذر
السنسكريتي دهري، غنى بالمدلولات ويوحي
بمعانٍ متعددة، تتقارب لتصبَّ في المعنى
الأصلي. إن المهاتما غاندي يعرِّف الكلمة بـ"الواجب"،
بمعنى أن يُخلِص المرء لفطرته الداخلية
الأصلية والأصيلة. وهذا المعنى يمكن أن
يُفهَم على محمل عام أو على محمل خاص. فهناك،
على سبيل المثال، الناموس الشامل للمحبة،
الذي لا يُستثنى منه أحد؛ وهناك الدَّيْن
الذي يخص المرء نفسه – سوادهرما –، من
نحو الواجب الذي يطلب كرشنا من أرجونا أن
يؤديه بالذهاب إلى ساحة القتال إحقاقًا للعدل.
وهنا يمكننا إيراد مثالين يوضحان كيف يمكن
للميثولوجيا أن تيسِّر فهم فكرة الـدهرما
من وجهين اثنين. المثال
الأول مستقى من الـرامايانا: يبلغ راما
وكرشنا، يصحبهما هنومان، قردهما المضيف،
الطرف الجنوبي من الهند ويواجهان امتدادًا من
المياه يفصل بين الهند وبين جزيرة لَنْكا،
حيث كان رافانا، ملك الشياطين، قد سَجَنَ
سيتا، معشوقة راما. طلب راما من البحر أن
يشقَّ مياهه ويكوِّن ممرًّا يابسًا لكي
يتمكَّن جيشُه من العبور إلى لَنْكا؛ لكن
البحر أبى قائلاً إن "دهرماه" يحتِّم
عليه أن يوجَد بين امتدادين من اليابسة، وإنه
لن يعصى دهرماه. إن راما تنزُّل إلهي، والبحر
يعرف هذا جيدًا؛ لكنه، مع ذلك، يرفض أن يطيع
أمرًا يخالف الناموس الكوني. ليس هناك أحد فوق
الـدهرما (الواجب) – حتى الألوهة نفسها!
وهذه الحادثة، كما هي وارِدة في الـرامايانا،
تبلِّغ الفكرة بأسلوب أقوى بكثير من أية
موعظة أخلاقية. أما
المثال الثاني الذي نورِده بهذا الصدد فهو
قصة حكيم كان يقيم مع مجموعة مختارة من مريديه
في صومعة على شاطئ البحر. وذات يوم، فيما
الحكيم يدنو من البحر ليستحم، إذا به يبصر
عقربًا تسعى نحو الماء. ولما كانت العقارب لا
تُحسِن السباحة فقد التقط الحكيم الحيوان
الصغير بيده اليمنى ووضعه على صخرة عالية. أما
العقرب فقد أخرجت ذيلها بسرعة ولدغتْه لدغة
شديدة في يده التي التقطها بها. ذهب الحكيم
إلى البحر واغتسل وهو يتوجع من هذه اللدغة.
وعندما همَّ بالرجوع إلى صومعته رأى مرة أخرى
العقرب تنزل من على الصخرة وتعود ساعية نحو
الماء، فتحركت في قلبه مشاعر الشفقة والرحمة،
وحاول أن ينقذ حياة العقرب. التقطها هذه المرة
بيده اليسرى، ليُلدَغ ثانية لدغة شديدة.
تحيَّر مريدوه مما رأوا. ولما بلغ الحكيم
الصومعة سألوه عن سبب إصراره على التقاط
العقرب بيده اليسرى، حتى بعد أن لُدِغ في يده
اليمنى، فقال: "العقرب كانت تتبع دهرماها،
وأنا كنت أتبع دهرماي." إن اللدغ من صميم
فطرة العقرب عندما تحس بخطر يهدد حياتها؛ لكن
فطرة الإنسان السليمة هي صون الحياة، حتى
وإنْ لُدِغَ وهو يقوم بذلك. تُعتبَر
التصورات الميتافيزيائية أكثر تجريدًا من
المُثُل العليا الأخلاقية. لذا فإن الدور
الذي تلعبه الميثولوجيا في تبيان هذه
التصورات يتميز بدقة وخطورة كبيرين.
فالأساطير التي تختص بالألوهة المثلَّثة
الصور – برهما، شيفا، مَهيش – التي تختصر
أفعال الإيجاد والصيانة والتدمير في الكون،
تلمع إلى أن الكون واحد، وإن كان بالإمكان
رؤيته من عدة وجوه. وشيفا نفسه ممثَّل في
الأساطير بوصفه أردهناريشفرا – أحديَّ
الجنس، "خنثى"، نصفه رجل ونصفه الآخر
امرأة – بما يشير إلى وحدة الوعي والطاقة في
مآل الأمر.[11]
فما لم تكن الحقيقة جلية الصورة، قابلة
للإدراك (دون أن يعني ذلك سهولة الأمر)، فليس
لها من امتياز. لذا فإن السيرورات الكونية
الكبرى، بما هي مظاهر للحقيقة، تتطلب اتحاد
كلا المبدأين: بدون الطاقة لا يحدث تطور،
وبدون الوعي يكون التطور مشوِّشًا، عديم
الخطة والغاية.[12]
شيفا، أحدي الجنس
الذي تجتمع فيه صفات الذكورة والأنوثة ومن
التصورات الأشد هيبة في الميثولوجيا الهندية
ما يتعلق بنوم فشنو واستيقاظه. إنما حتى يدرك
المرء أهمية هذه الأسطورة، عليه أن يعلم أن
المفهوم الهندي عن الزمن مفهوم دوري وليس
خطيًّا. إن الكون الذي نعيش فيه ليس إلا
واحدًا من الملايين من الأكوان التي وُجِدَتْ
ثم قَضَتْ. فالوجود المادي والوجود الخفي[13]
وجهان للحقيقة، مثلما أن الصوت والصمت وجهان
للموسيقى. كان فشنو نائمًا على جسم الثعبان
أديشيشا السابح في المحيط البدئي للعدم. لم
يكن الكون إذَّاك موجودًا إلا بالقوة، وظلَّ
على هذه الحالة ملايين السنين. ثم استيقظ
فشنو، ونبتتْ سدرة من سُرَّته مثمرة عن
برهما، الإله الباري. ومن الوجود بالقوة
خرج الكون إلى الوجود بالفعل، وراحت
الدهور تتتابع. الدهر الأول هو الأكمل، وهو
العصر الذهبي وزمان سيادة الصدق. تعقبه ثلاثة
دهور كلٌّ منها أقل كمالاً من سابقه. ومع
نهاية الدهر الأخير – عصر كالي – الذي نعيش
فيه، يعود الكون إلى حالة الفناء، ويستغرق
فشنو في النوم من جديد. لكنه يستيقظ بعد
ملايين السنين، فتبدأ الصيرورة كلُّها من
جديد. كذا تدور عجلة الزمن وتدور إلى ما لا
نهاية.
فشنو وهو يقوم من على
ظهر الثعبان أديشيشا، ممسكًا بالسدرة
النابتة من سرَّته الميثولوجيا
الهندية غنية جدًّا بالنظريات الفلسفية؛
نكتفي هنا بذكر إحداها: إنها نظرية الدورية
المنتظمة للكون. يذكر الـرِغْ فيدا مبدأ رِتا
(الخلاء) الذي يفعل فعله في كلِّ مكان،
ويُمِدُّ بالنظام والتناغم والتخطيط الكونَ
الذي نشاهد مظاهره في الطبيعة.[14]
فثمة مصدر واحد أصلي للطاقة في الكون "يضخ"
في الكون طاقةً بموجب قانون واحد يُعبَّر عنه
بطرق شتى. إن مفهوم الـدهرما، كما سبق
ذكره، وجْهٌ من وجوه المبدأ الأعمِّ لـرِتا
كما ينعكس في الحياة البشرية. والغرض من تأليه
قوى الطبيعة وتجسيدها في الأساطير الهندية،
وخَلْعُ صور بشرية عليها، هو إبراز شتى الطرق
التي تفعل من خلالها رِتا الشمس، الإله
سوريا الذي يقود مركبته الفخمة، منطلِقًا
صباحًا، ومستريحًا في البحر، بعد أن يكمل
مَسْحَه للقبة الزرقاء. إنه ربُّ الكواكب
والأجرام السماوية جميعًا؛ وكلٌّ منها،
بدوره، يسير بحسب نواميسه، مثل مَروتي (إله
الريح)، دكبالات (الإله حافظ الجهات)، إندرا (إله
الرعد والمطر)، إلخ، يتبع كلٌّ منها ناموس رِتا،
بقيامه بدوره المنوط به والإسهام في التناغم
الإجمالي. بما
أن الحياة الطبيعية والحياة البشرية كلتيهما
مظهران لمبدأ واحد للنظام والغاية والدورية
فإن العالمين – عالم الطبيعة وعالم الإنسان
– مرتبطان ارتباطًا وثيقًا واحدهما بالآخر؛
فعلى الإنسان ألا يُحدِث خللاً في هذا
الارتباط. إن النظرة الحديثة إلى العالم تقوم
على معرفة قوانين الطبيعة في سبيل قهرها
والسيطرة عليها؛ أما في الهند فيُعتبَر
الإنسان والطبيعة كلاهما موجتين لنهر واحد،
بينهما تواكُل وتواشُج عميقين. ويلعب الإنسان
دور القوَّام على الطبيعة و"الراعي"
لها، وليس دور المتسلِّط والمسخِّر. إن
نفَسًا واحدًا مفعمًا بالحيوية يسري في
الطبيعة والإنسان كليهما، فتدبُّ فيهما
الحياةُ والحركة. وهذه الفكرة العميقة
تتجلَّى تجليًا واضحًا ومؤثِّرًا في
الميثولوجيا الهندية قاطبة. لقد كانت
الأساطير القديمة ركيزة حقيقية للتفاعل مع
الطبيعة والوجود، ولفهم السرِّ المكنون في
الإنسان، الذي هو عينه سرُّ الكون.[15] لقد
جرى ربط الموجودات كافة – من نبات وطير
وحيوان – بالآلهة للإشارة إلى طبيعتها
الإلهية الباطنة، من جهة، ولغَرْسِ شعورٍ من
المودة والاحترام لها في نفوس الناس. فمن بين
الحيوان، يرتبط الثور بشيفا، والفيل بإندرا،
والنمر بدورغا، والتمساح بالغانج؛ ومن بين
الطير، يرتبط النسر بفشنو، والطاووس
بكرتيكيا، والإوز بلكشمي؛ وإن شجرة الكدمبا
محببة بصفة خاصة إلى كرشنا، وشجرة بيلفا
عزيزة على شيفا؛ وكذلك أشجار أشفطا (شجرة
التين المقدسة) والأثأب وتياغرودا ليست
مبجَّلة فقط من حيث ارتباطها بالعناصر
الإلهية، وإنما هي أشياء خُلِقَتْ لتكرَّس
بطريقة تختص بها. يبقى أن نذكر زهرة اللوتس
("السدرة") التي تحتل مكانة رمزية بارزة
في العديد من الأساطير، الهندوسية والبوذية
معًا. من
الأمور المسلَّم بها في الهند، منذ أقدم
الأزمنة، أن الإنسان لا يختص وحده بصفات
الجود والتضحية بالنفس والوفاء والمحبة
وسائر الصفات الأخلاقية الرفيعة، إنما يتصف
بها أيضًا الحيوان والطير، وحتى الأشجار
والزهور، كما هو وارد في العديد من الأساطير
الهندية. فعلى سبيل المثال، لما وضعتْ الملكة
مايا مولودها سدَّهرتا في روضة في لومبيني
كانت وحيدة، ليس في صحبتها أحدٌ من الخدم.
فلما حَدَسَتْ الفِيَلَة أنها وضعتْ
مولودها، وأن الطفل سيحمل النور إلى
العالمين، ملأت خراطيمها من بِركة ماء زلال
ومَثُلَتْ أمام الملكة مايا وسكبت الماء على
رأسها. وفي أسطورة أخرى، من نحو أسطورة
شدانتانا، وفي قصة نزول الغانج من الجنة إلى
الأرض، تتصف الفيلة بالنبل والتضحية بالنفس.
وفي الغرب، يُعتبَر الفيل رمزًا لفخامة
الاحتفالات الملكية؛ أما في الميثولوجيا
الهندية، فيمثل الصبر والامتنان والحِلم
والعرفان بالجميل، بالإضافة إلى القوة
الخارقة.
غنيشا، الإله–الفيل
في الأساطير الهندية الحية
أيضًا توصف بأوصاف متباينة في كلٍّ من
المنقولين الهندي واليهودي–المسيحي. ففي
المنقول الثاني، توصف الحية بالخبث والكذب،
وترمز بذلك إلى قوى الشر، بينما تُكَرَّم في
الهند وتحتل منزلة رفيعة بين الحيوان. كبير
الآلهة، فشنو، ينام على جسم الثعبان شيشاناغا
الملتف على نفسه. وعندما قررت الآلهة
والشياطين مَخْضَ محيط اللبن البدئي، عرضت
الحية
فاسوكي نفسها لتكون حبلاً. كذا فقد نشر ملك
الثعابين موشاليندا غطاء رأسه فوق رأس البوذا
ليقيه الشمس والمطر مدة سبعة أيام بلياليها
عندما استغرق المغبوط في تأمل عميق. هذا
ويُخصَّص يومٌ في السنة لتزيين الأفاعي؛
ويُسمَّى هذا اليوم بعيد ناغابنشمي، أي "عيد
الأفاعي".
راما، أحد تجسُّدات
فشنو ولكي
نضرب مثالاً أبلغ على الرفق بين الإنسان
والحيوان نستشهد بالـرامايانا. يعتمد
البطل البشري في هذه الملحمة الذي هو راما –
التجسُّد الإلهي السابع للإله فشنو – على
معونة الحيوان والطير لإنجاز مهمته: القضاء
على قوى الشرِّ بقيادة رافانا. بذا صار ملك
القرود سوغريفا أقوى حلفائه، وكذلك واحد من
أتباع سوغريفا، القرد هنومان، الذي صار رفيق
راما الوفي. لقد خرج هنومان للبحث عن سيتا،
فوجدها في غابة أشجار أشوكا في لَنْكا،
وسلَّمها رسالة من راما. أما جيش هنومان،
المؤلَّف من القرود، فأقام جسرًا عبر البحر
لكي تعبر عليه قوات راما إلى جزيرة لَنْكا.
وعندما استعرت الحربُ بين الطرفين، قاتل
هنومان وسوغريفا وأنغاد وغيرهم من أبطال
القرود ببسالة وقضوا على العديد من أمراء جيش
رافانا. وعندما أُثْخِنَ لكشمان بالجروح، طار
هنومان إلى الهملايا، واجتثَّ من هناك جبلاً (غندامادنا)،
وجاء به إلى ساحة القتال، وبالأعشاب الطبيعية
النامية على ذلك الجبل أنقذ حياة لكشمان.
القرد هنومان، رفيق
راما الوفي لم
تسهم القرود وحدها في انعقاد النصر لراما، بل
لقد انضم جامبافان، ملك الأرباب، هو الآخر
إلى جيش راما مع أتباعه؛ وكذلك جاتايوك، ملك
النسور، ضحَّى بحياته، وأبلى بلاء حسنًا
لإنقاذ سيتا المخطوفة عنوة إلى لَنْكا. ولعل
أجمل مثال بهذا الصدد هو مثال السنجاب الذي
أسهم ببعض ذرات الرمل في بناء الجسر فوق البحر.
لقد رأى السنجاب القرود تضع أحجارًا بعضها
فوق بعض وترفع الجسر، فأراد المخلوق الضئيل
أن يساهم في البناء؛ ولهذا الغرض تدحرج في
الرمل وذهب إلى المكان الذي كانت القرود تجمع
فيه مواد البناء، وانتفض بشدة حتى تساقطت
كلُّ ذرات الرمل منه. أيُّ فرق كان من الممكن
أن تُحدِث ذراتُ الرمل القليلة في عملية بناء
جسر هائل عبر البحر؟! بيد أن النية من وراء هذا
العمل هي التي يُحسَبُ حسابُها؛ والعبرة
الأخرى من ذلك هي أن لكلِّ عمل، مهما صَغُرَ
شأنه، قيمته في المخطط الكلِّي للأشياء. كذا
فقد غرس صانعو الأساطير الهندية القديمة
انطباعًا في أذهان الناس أنه بدون علاقة ودية
ومنسجمة مع الطبيعة، وخاصة مع المخلوقات
الحية، لا يمكن للإنسان أن يدرك الغايات
القصوى التي من أجلها وُجِد؛ كما لا يمكن له،
بدون مثل هذه العلاقة، أن يفهم الروابط
الرائعة التي توحِّد ما بين العناصر الإلهية
والبشرية والطبيعية الموجودة في الكون في
وحدة كاملة غير قابلة للخرق. نودُّ
الآن لفت النظر إلى أسطورتين ذُكرتا آنفًا
ذكرًا عابرًا. تستحق هاتان الأسطورتان عناية
خاصة، من حيث هما تنقلان نكهة الميثولوجيا
الهندية وخصوصيتها أفضل النقل. تتعلق
الأسطورة الأولى بمَخْض المحيط. فلنبدأ بذكر
خلاصة موجزة لهذه القصة، ثم نورِد بعض
الملحوظات حول معانيها العامة. كان
هناك حكيم يدعى دورفاس، وكان صاحب "كرامات"
مذهلة تحصَّل عليها بواسطة اليوغا وضبط النفس.
ذهب الحكيم مرة إلى عالم الآلهة حاملاً
إكليلاً من زهور ذات عبير أخَّاذ هديةً لربِّ
السماء. لكن الإله إندرا اكتفى بتعليقه بغير
اكتراث على ناب فيله، بدون إبداء أيِّ إعجاب
بهدية الحكيم أو تقدير لها. ثارت لذلك ثائرة
الحكيم دورفاس، الذي كان معروفًا بحساسيته
المفرطة، فلعن الآلهة قاطبة. ومن ثَمَّ، فقد
أصاب الوهنُ الآلهة تدريجيًّا، وتضاءلتْ
قوتُها، حتى فقدتْ سيطرتها على العوالم
الثلاثة. فوَجَدَ منافسوها الشياطين الفرصة
سانحة لبَسْطِ سلطانهم عليها. لاحظت الآلهة
التغيير الحاصل، وهي مغلوبة على أمرها، حتى
أحْكَمَ الشياطينُ سيطرتهم الاستبدادية على
كلِّ المخلوقات الحية. ذهبت
الآلهة إلى برهما طلبًا للنصح. فوجَّهها هذا
إلى فشنو الذي قال لها إنه لا سبيل لها
لاستعادة سلطانها إلا بالحصول على "الكوثر"
(أمرتا، شراب الخلود) بمَخْض محيط اللبن.
قالت الآلهة إنه ليس بمقدورها القيام بمثل
هذا العمل الجهيد. فكان جواب فشنو أن تطلب
معونة الشياطين. عقد الآلهة – على مَضَض –
اتفاقًا مع الشياطين للحصول على الكوثر.
مهامِرو – أعلى جبال الهملايا – عَرَضَ نفسه
عصًا للمَخْض، والحية فاسوكي وافقت على أن
تُستخدَم كحبل. وهكذا مَخَضَ الآلهة
والشياطين، مجهَّزين بكلِّ العدة اللازمة،
المحيط الشاسع بكلِّ قوتهم. طفتْ
على سطح المحيط نفائس بديعة: كلباترو، الشجرة
محقِّقة للأماني؛ كامادهينوز، بقرة الخصب؛
شيشرافاس، الحصان الطائر البديع؛ لكشمي،
إلهة الغنى؛ وغيرهم كثير. إنما من النفائس
التي تمخَّض عنها المحيط كان الهلال.
تملَّكتْ الدهشةُ الشياطين، فلم تعرف ما تفعل
بالقمر، فقامتْ بتثبيته على عجل على جبين
شيفا، الذي كان مستغرقًا في تأمل عميق، فلم
يشعر بشيء. وقبيل ظهور رحيق الخلود، طفا على
وجْه المحيط سمُّ زعاف، انتشرت غازاتُه
سريعًا. توقفت عملية مَخْضِ البحر، وطلب
الجميع معونة شيفا. فما كان منه إلا أن رَشَفَ
السمَّ بهدوء. لم يؤثر السمُّ في شيفا، لكنه
ترك بقعة على عنقه، وبذلك اشتهر بلقب نيلكانت
(طائر ملون العنق). ثم ما لبث الإله أن عاد إلى
تأمله. أخيرًا نهض دهانفانتاري، الطبيب
السماوي، من قاع البحر، حاملاً بيده جرة فيها
الكوثر. خطفها الشياطين من يده وطاروا بها،
وبقي الآلهة خائبين. لكن ظهور فشنو في هيئة
موهيني، المرأة الفاتنة الرائعة الجمال،
حوَّل انتباه الشياطين. وبعد عدد من المآثر
فاز الآلهة أخيرًا بشراب الخلود. هذه
الأسطورة المتصلة بمَخْضِ المحيط أو بـ"مَخْضِ
ماء الخلود"، كما تُسمَّى أحيانًا، تتميز
بنقاط تهمُّ الجميع. ففي العديد من الدور
الهندية ما تزال ربة البيت تستخلص الزبدة
بمَخْضِ اللبن بحبل مربوط حول عصا خشبية. اتخذ
صانع الأسطورة هذا العمل اليومي رمزًا، ثم
أضفى عليه عمقًا لا حدَّ له؛ وبذلك مكَّنَ
المتأمِّل من إدراك فعل كونيٍّ عصيٍّ على
التصور من خلال خبرة يومية عادية. مرة أخرى،
تلعب عناصر الطبيعة دور الشريك الفاعل لإنجاز
هدف عظيم: فالجبل يصير عصًا للمَخْض، والحية
تصير حبلاً تُدار به العصا. تُستنبَط
من هذه الأسطورة ثلاث أفكار أخرى هامة[16]:
أولاً، لا توجد في المطلق ثنوية ثمة ولا أضداد:
فوجود أشفاع الحدود والأضداد وجود ظاهري
وهمي، يُختزَل في الباطن إلى الوحدة. لقد نصح
فشنو الآلهة بالتِماس التعاون مع خصومهم
الشياطين؛ وهذا أمر لا يُفهَم إلا في المنقول
الغنوصي العالمي، ويتعذَّر فهمه على الآخذين
بالظاهر وحده. ثانيًا، كلُّ ما هو نفيس وجميل
لا يمكن التحصُّل عليه إلا عن طريق عزيمة
صادقة وجهود خارقة. لقد كان من الضروري أن
تقوم كائنات شديدة البأس بمَخْضِ المحيط
البدئي بكلِّ قوة، قبل أن تخرج إلهتا المعرفة
والغنى – سرسفتي ولكشمي – والموجودات
النفيسة الأخرى إلى حيِّز الوجود. ثالثًا،
قبل الحصول على شراب الخلود كان لا بدِّ من
اجتراع السمِّ وهضمه. فالسعادة العظمى لا
يمكن أن تتحقق إلا بعد مواجهة الألم ومعاناة
المرارة القصوى. نأتي
الآن إلى ذكرٍ موجز لانحدار الغانج من الجنة.
قدَّم الملك سغارا، ملك سلالة الشمس، قربانًا
عظيمًا، هو قربان الحصان. ولقد قاد أبناؤه،
البالغ عددهم ستون ألفًا، حصان القربان،
مارِّين بأراضي العديد من الملوك الخاضعين
لسلطان سغارا. لكن إندرا، بدافع الحسد،
سَرَقَ الحصان واقتاده إلى بتالا (المنطقة
السفلى)، وربطه إلى عمود قرب مكان كان يجلس
فيه حكيم عظيم اسمه كبيلا مستغرقًا في التأمل.
أرسل سغارا أبناءه للبحث عن الحصان، فوصلوا
أخيرًا إلى بتالا؛ ولما رأوا الحصان قرب
كبيلا ظنوا أن الحكيم هو الذي سَرَقَ ضالتهم،
فكلَّموه بفظاظة وعنَّفوه، وكانوا موشكين
على الانقضاض عليه، عندما فتح الحكيم عينيه
الملتهبتين وحوَّل أبناء سغارا بنظرته إلى
رماد. عندما
لم يرجع أبناؤه، أرسل سغارا حفيده أنشومان
للبحث عنهم؛ فوصل هذا إلى بتالا، وقابل
كبيلا، وعلم بمصير أعمامه، فتوسَّل إلى كبيلا
أن يفعل شيئًا من أجلهم. تأثَّر الحكيم بصدق
أنشومان، وقال له بأنه يستطيع أن يستردَّ
أرمدة أعمامه بإنزال نهر الغانج من الجنة
وأداء مناسك تطهيرية بمائها المقدس. فلما
تقلَّد الملك بغيراتا، حفيد أنشومان، مقاليد
الحكم قرَّر العمل لتنفيذ وصية الحكيم كبيلا،
فزهد ونزل عن عرشه وذهب إلى الهملايا ومارس
رياضة قاسية اتَّسمتْ بالتقشف الشديد مدة ألف
سنة لاسترضاء الغانج واستنزالها على الأرض.
وافقت الغانج على ذلك، لكنها اعترضت قائلةً
إن وطأة انحدارها سوف تكون مدمِّرة؛ فطلب من
بغيراتا أن يقنع شيفا بأن يتلقى الغانج على
رأسه وبذلك تخف وطأة انحدارها. التمس بغيراتا
ذلك، وقدم الكفارة الضرورية، وأخيرًا حصل على
إذن شيفا بإنزال الغانج على رأسه. نزلت
الغانج على رأس شيفا كما كان مرسومًا. لكن
الإله الكبير غضب على الغانج لأنها لم تكترث
بتقديم التكريم اللائق به، فحَبَسَها في شعره
الشعث سنوات مديدة، حتى توسل إليه غيراتا كرة
أخرى. تأثر شيفا بصدق بغيراتا وأخلى سبيل
النهر العظيم الذي بدأ يجري على الأرض.
وأخيرًا وصل إلى بتالا وتمَّ تطهير أرمدة
الستين ألف ابن بماء الغانج المقدس. بذا انتهت
مهمة بغيراتا وتمَّ له استرجاعُ أرواح أسلافه.
وفي رواية أخرى أن تيار الغانج، رغم مروره
بخصل شعر شيفا، كان عارمًا إلى حدِّ أن كلَّ
الحيوانات الحية كانت خائفة. أدركت الفيلة
هذا الخطر المحدق بأشقائها الحيوانات، وهرعت
من الغابة إلى المكان الذي كان الغانج فيه
موشكًا على الانحدار، وخففت من وطأة الدفق
بتلقِّيه على أسنَّتها القوية. تحرِّك
أسطورة مَخْضِ البحر كوامن رائعة في النفس،
وتبلِّغ فكرة عميقة، مفادها أن الحكمة هي
الامتثال المطلق للنظام الكوني الذي يقوم على
التوازن بين الأضداد. فلو لم يسمح شيفا
بنزول الغانج على رأسه لأمكن أن تتحول القدرة
الباعثة للحياة والبركة والخصب إلى قوة
مدمِّرة. وهنا يبرز رمز الفيل الذي يحتل مكانة
عظيمة في الميثولوجيا الهندية. *** [1]
نورد بهذا الصدد، على سبيل المثال، رأيًا
لباحث مرموق في الميثولوجيا، يميِّز بين
الأسطورة myth
والخرافة legend،
فيقول ما مفاده إن الأسطورة قصة عن "الإله"،
بينما الخرافة قصة عن "البطل". جلِّي
أن هذا التمييز لا يصلح لفهم الميثولوجيا
الهندية القديمة على الإطلاق، حيث يتجسَّد
الآلهة في صور بشرية، ويصيرون أبطالاً
بشريين، يختبرون كلَّ التجارب الإنسانية
حتى الموت، وحيث يسمو جهاد الأبطال بهم إلى
منزلة الآلهة. ولقد توصَّل صديقنا الأستاذ
نهاد خياطة، من منظور مشابه، إلى حلٍّ
للخلاف الإشكالي بين المسيحية والإسلام
بخصوص شخص يسوع المسيح: فهذا، في المنظور
المسيحي، "إله متأنِّس" ("الكلمة
صار بشرًا" – إنجيل يوحنا 1: 14)، لا
بدَّ أن يكابد، من حيث هو بشر، التجربة
الإنسانية كاملة، حتى الموت؛ فيما هو، في
المنظور الإسلامي (الباطني)، "إنسان
متألِّه" ("المسيح عيسى بن مريم وجيهًا
في الدنيا والآخرة ومن المقرَّبين" – قرآن
كريم، آل عمران 45)، لا يليق به، من حيث هو
متحقِّق بالهوية الإلهية، أن يموت على
الصليب. [2]
لقد ظلت الأسطورة مستودعًا أمينًا لأنْفَس
ما في المنقولات القديمة من كنوز روحية،
ولكافة المعطيات الدينية للإنسان القديم،
من شعائر وعلوم ومعارف. لذا ستبقى مستغلقة
على الإنسان المعاصر، وسيظل يرى فيها "خرافة"
مادام لم يملك المفاتيح لفكِّ رموزها
والتوغل في مضامينها السرَّانية، ببعديها
الإنساني والكوني. تنقل السيدة بلافاتسكي
عن أفلاطون من مُحاورَتَي غورجياس وفيذون
قوله في الأساطير والرموز – محط يأس
الاستشراق الحديث – إنها "أوعية حقائق
كبرى تستحق التفتيش عنها" (Theosophical Articles I, p. 16). [3]
بهذا المعنى فقط، وليس بالمعنى الفرويدي،
يمكن اعتبار الأسطورة "خَلْعًا" (=
إسقاطًا) نفسيًّا، ناجمًا عن صراع بين
الوظيفة الفكرية المنبثقة حديثًا من
أمِّها النفس وبين البنية النفسية ككل. بيد
أن هذا الصراع لا يُحَلُّ بأيِّ "تصعيد"
من أيِّ نوع، بل بتفتح قوى إدراكية جديدة في
الفكر تفتحًا متناغمًا مع النفس التي
صَدَرَ عنها؛ بعبارة أخرى، كانت الأسطورة
موضوعة "نفسية" لا يحكمها التعليل "المنطقي"
إلا بمقدار ما تستطيع النفس تقبُّله
واستيعابه في كلِّ شوط من أشواط تفتح
الملَكات الفكرية. [4]
هي "اللاوعي الجمعي" (أو "الخافية
الجامعة"، كما يترجم أستاذنا نهاد خياطة)،
على حدِّ اصطلاح ك.غ. يونغ، الذي تشترك في
مضمونه الطبيعي والكوني الإنسانيةُ قاطبة. [5]
هذا ما يفسِّر امتلاء الأساطير بثيمة الحرب
التي تعكس الصراع الدائر في النفس. [6]
هذا الثبات غير ملموس في الهند وحسب، بل في
بلاد جنوب شرق آسيا أيضًا، ولاسيما تايلاند
وكمبودجيا وبعض أجزاء إندونيسيا، مثل جاوة
وبالي. ولقد أثَّرتْ الميثولوجيا الهندية
تأثيرًا قويًّا على الكتَّاب وأرباب
الفنِّ المبدعين وعلى المجدِّدين الدينيين.
ولا يتمالك حتى الزوار الأجانب دهشتهم حين
يقرأون الدوريات الهندية، فيجدون خُطَبَ
الساسة الهنود حتى، بمن فيهم معتنقي
الإيديولوجيات المادية، تشتمل، في كثير من
الأحيان، على إشارات إلى الصور والأماكن
والأحداث الميثولوجية ومقبوسات منها. [7]
لقد كانت الأزمات النفسية تُفضي دومًا إلى
تجدُّد الأسطورة وضخِّ دم جديد فيها. وفي
هذا تفسير لعدم تدوين الأساطير إلا على
مراحل، بحيث لم تتَّخذ ملحمة هائلة كالـمهابهارتا
شكلَها النهائي إلا بعد مخاض طويل دام
حوالى الألف عام، بحسب تقدير الدارسين. [8]
هذه سمة مشتركة بين الميثولوجيا الهندية
وميثولوجيات الشرق الأدنى ووادي النيل
القديمين. [9]
لقد شهدت القرون المديدة التي توالت على
الهند تصعيدًا مستمرًا من حيث الازدهار
المعرفي لأسطورة واحدة دائمة التجدد من
خلال مدارسها الروحية، بفروعها الـغنانـية
(العرفانية) والـبهكتـية (التعبدية)
والـكرمـية (العملية)، نحا دائمًا نحو
توازن نفسي جديد بين الفكر والنفس. وما كانت
المعرفة الكشفية (النفسية الكلِّية)
الصرفة، متمثِّلة، على سبيل المثال،
بالبنيان الباطني الشامخ الذي سَطَعَ في
عقيدة شنكرا "اللاثنوية" (أدْفـَيـْتا)،
لِتُشكِّلَ عائقًا أمام التقدم المعرفي
الفكري؛ ذلك لأن كلَّ كشف على صعيد النفس
الكلِّية يواكبُه كشفٌ موازٍ على صعيد
الأسطورة، بما يسمح للفكر بتحقيق تناغم
جديد مع النفس. [10]
كان كلُّ يوم من أيام الأسبوع، بحسب
الميثولوجيا الرومانية، مخصصًا لإله،
وبالتالي لأحد الكواكب الخمسة والنيِّرين:
الأحد للشمس (سول)، الإثنين للقمر (لونا)،
الثلاثاء للمريخ (مارس)، الأربعاء لعطارد (مركوريوس)،
الخميس للمشتري (جوبيتريوس)، الجمعة للزهرة
(فينوس)، والسبت لزحل (ساتورنوس). [11]
في المنقول الميثولوجي الهندي يمثل الذكر
الوعي، بينما تمثل الأنثى الطاقة. [12]
يرمز جماع شيفا وشكتي الذي يُمثَّل له
صراحة في المعابد (معبد خاجوراو مثال ساطع
على ذلك) إلى وحدة هذين المبدأين. [13]
"عالم الشهادة" و"عالم الغيب" في
الاصطلاح الإسلامي. [14]
يوصف الإله فارونا، أحد أهم آلهة الـفيدا،
في أحد السُّوَر بأنه رِتاسيا غوبا، أي
"حافظ مبدأ النظام". [15]
هذا ما يعلِّل ارتباط العديد من الشعائر
القديمة بالحيوان. من ذلك "قربان الحصان"
الشهير الذي يصعب علينا اليوم إدراك مغزاه
في نفس الإنسان الهندي القديم، وما كان
يشحن فيها من طاقة لتحقيق فعل وعي للعلاقة
بين الإنسان والطبيعة. [16]
لن نتطرق، في هذا المقام الضيق،
إلى الرمزية الكيميائية الباطنية
للأسطورة، التي تشير إلى مراحل الاستحصال
على "شراب الخلود" أو "تدبير
الإكسير الأعظم"، بالمصطلح العربي.
|
|
|