عولمة تلفزيونية

في زمن الاستهلاك المُعَوْلَم

 

جورج كعدي

 

العولمة، من أحد وجوهها القبيحة، سلعة استهلاكية مطلوب أن "تَتَعَوْلَم" وتنتشر في العالم ويستهلكها سائر البشر، من الغرب إلى الشرق، من أمريكا إلى الصين. تُرسي العولمة (الأمريكية) "قيمة" الاستهلاك فوق كلِّ القيم، ترفع صنمها إلهًا وديانة جديدين لكلِّ الحضارات والشعوب، فتُمَّحى الفوارق، وتتلاشى الخصائص والتمايزات، ويصير البشر واحدًا في كلِّ مكان: نموذجًا نمطيًّا، يستهلك السلعة نفسها ويطمح إلى اقتنائها عينها، أنَّى وُجِدَ، سواء في بلاد الإنكا أو في بقاع ألاسكا الشاسعة أو في أعالي التيبت البوذية؛ ولا نجاة لأحد من غواية الإعلان عنها والترويج لها، سلعة من كلِّ صنف ونوع. وقريبًا، لن تبقى حضارات تميِّزها الخصائص والفَرادات؛ قريبًا يمسي العالم واحدًا في المأكل (ماكدونالد) والمشرب (عائلة الكولا) والملبس (الجينز) والمقتنى (تلفزيون، سيارة، هاتف محمول)، ويموت الكتاب، ويخفت بريق الثقافة (ثقافات العالم المتعددة)، وتعمُّ "قيم" الاستهلاك والترفيه والاسترخاء، فيقودنا ذلك كلُّه إلى إفراغ الإنسان من جوهره الأصلي، ونهبط جميعًا إلى جحيم المادة والفراغ الداخلي و"العدم" غير الفلسفي. تتحقق نبوءات الرؤيويين – وفي مقدمهم جورج أورويل الذي يُحتفى هذه السنة بمئويته – ويهرول العالم في خطوات سريعة إلى نقطة هلاكه.

***

لا عجب، إذن، في هذا المناخ العولميِّ الاستهلاكي الطاغي الذي يطال أنأى بقاع الأرض، أن "يَتَعَوْلَم" التلفزيون بدوره، وتتناسخ برامجُه، وتتوحَّد قواعدُ لعبته الاستهلاكية، بغية الربح والترفيه، لا من أجل التثقيف والتوجيه وتعميم الفائدة. فخلف ذريعة الاستمرار والبقاء وتحقيق الأرباح من أجلهما، تلجأ القنوات الخاصة والعامة إلى تبادل شراء البرامج ذات الطابع التنافسي والترفيهي، القائمة على مبدأي الربح والخسارة – قيمتَيْ العصر المطلقتين – فنرى نموذجًا واحدًا على أكثر من شاشة تلفزيونية، وبين غرب وشرق؛ وغالبًا – أو دائمًا – ما يكون الشرق هو مشتري الحقوق من غربٍ سبَّاق إلى تبنِّي ركائز العولمة وقواعد الربح والخسارة، كما في برامج المعلومات العامة التي ترفع شعار الربح المادي ("من سيربح المليون؟") – والرقم هدف وطموح وقيمة بذاته، والسعي إليه محموم ومسعور، وموتِّر للأعصاب والنفوس، والجميع في فخِّ غوايته، مشاركين ومتفرِّجين، كما في عصور وثنية قديمة على حلبات المصارعين ومدرَّجاتها. تَلاَعُبٌ بالعقول في أقصى درجاته وأفدح أشكاله، و"الغرب" المادي الاستهلاكي المُعَوْلَم – نقطة ارتكازه ومنطلقه الولايات المتحدة – سعيد بتعميم نماذجه و"قيمه".

وننساق شرقًا عربيًّا في هذه "اللعبة" من غير تفكُّر أو تبصُّر أو حرص أدنى على قيمنا الخاصة الفريدة، متبنِّين كالبلهاء أنماطًا غير ملائمة لمجتمعاتنا العربية التي تختلف معاييرها الحضارية والأخلاقية عن معايير الغرب وأخلاقه السائدة في أيامنا، فنقيم سعداء في جهلنا والتقليد الأعمى والغبي للغرب، سواء أتتْنا الصيغة من أمريكا أو من أوروبا (إنكلترا تحديدًا، وهي صنو الولايات المتحدة في هذا الجانب). نهلِّل فرحين بانتصارات تلفزيونية "وهمية"، ولا نتنبَّه إلى كوننا مجرَّد مقلِّدين وناقلين غير مبدعين، والى أننا ضحايا مدٍّ تلفزيوني مُعَوْلَم – والتلفزيون هو الأداة الأقدر على التلاعب بعقول الكتل البشرية، بالجملة وبالمفرَّق، والمؤثِّر الأفظع في قيمها الاجتماعية والإنسانية والحضارية!

***

لا يشذُّ عن قاعدة ما سبق ذاك البرنامج "المحلِّي" (ليس محليًّا البتة مادام مستوردًا، صيغةً وقواعد منافسة) الذي أثار في الأيام الأخيرة – ولا يزال – ضجيجًا شعبيًّا لامَس حدود "القضية" و"الفضيحة". أعني، بالطبع، برنامج المسابقات الغنائي "سوبرستار"، المشتراة حقوقُه من إنكلترا، والمنقولة قواعدُ لعبته كما هي في الأصل (من شروط عقد الشراء)؛ وهو خير مثال على الإقبال الأعمى غير المدروس على ما ينتجه ذلك "الغرب" الذي يدين بالمنافسة قيمةً عليا مطلقة، من غير التفاتٍ إلى واقع: هل تلائم صيغة هذا البرنامج مجتمعنا العربي المتعدِّد؟ وهل تنسجم شروط المسابقة مع خصائص هذا المجتمع الذي لا تجمعه هوية واحدة وانتماء واحد إلا بالشعار، شعار العروبة والوحدة العربية المفرغة من أيِّ معنى (فلسطين والعراق المتروكان من أشقائهما، وقبلهما لبنان، أسطع دليل على غياب هذه الوحدة المزعومة)؟! وهل صرنا حقًّا "قطرًا" واحدًا و"أمة" واحدة ليتمَّ التصويت للأفضل موضوعيًّا وفي تجرُّد من المشاعر "الوطنية" أو "القطرية" الشوفينية والضيقة؟!

نتيجة هذا البرنامج أثبتت، في الواقع، عكس ذلك – في "وطن عربي" مشهور بانقساماته حول الأمور الكبرى والمصيرية، فكيف بالأمور الصغرى! – كبرنامج مسابقات بين مغنِّين هواة، حُشِدوا في برنامج محلِّي مستورد، هو أعجز عن توحيد أمَّة منقسمة عجز سائر المفكرين النهضويين الوحدويين والزعماء التاريخيين الكبار عن جمع شملها وحشد طاقاتها وتوحيد أهدافها وإزالة تناقضاتها ومنع انفراداتها وخياراتها المستقلة! شاء هذا البرنامج والقيِّمون عليه (تلفزيون "المستقبل") تنفيذ الحلم "الواهم" الذي عجزتْ عنه أنظمةٌ وقيادات وعقول رؤيوية رائدة! فيا لها نكتة عبثية ودونكيشوتية بائسة!

***

ظاهرة أخرى مفجعة من مظاهر العولمة وقيمها المادية الربحية، متصلة بموضوع التلفزيون، هي ظاهرة الاتصالات عبر الخليوي (الأرقام الأربعة) والإنترنت وسواهما من الابتكارات التكنولوجية الحديثة التي غَدَتْ وسائل لجني الأرباح السهلة والطائلة، من خلال الـmatraquage الإعلاني المشهور والمتكرِّر ليل نهار: "اتصلوا على الرقم ......... واربحوا كذا". ويتصل الناس البسطاء في غزارة، وهم جاهلون لما يدرُّ سيلُ الاتصالات من ملايين الدولارات للطرفين المستفيدين: المؤسَّسة التي تروِّج للاتصالات (التلفزيون هنا) ولشركات الهاتف الخليوي (وشركات أخرى وسيطة)، إذ تتقاسم الأرباح مناصفة، والجمهور المتصل "يا غافل إلك الله"! وهذا، قلنا، مظهر من مظاهر العولمة و"قيمها" الاستهلاكية وفخاخها الترويجية التي تعمُّ اليوم العالم أجمع.

ولا تعتاش من ذلك المؤسَّسات الكبرى فحسب، بل الأفراد كذلك، كالمتعاطين بالأبراج و"التبريج" والحظ والفلك، إذ يحصدون، بدورهم، الملايين من حصَّتهم في الاتصالات التي تَرِدُهُم عبر شركات الهاتف الخليوي والشركات الوسيطة الخاصة. وغالبًا ما تطرح هذه الأخيرة مسابقات سخيفة، مغرية بالربح، لبضعة فائزين (يتلاعبون بأسمائهم في النهاية)، مقابل ملايين الاتصالات المشاركة التي لا تفوز بشيء – إلا بفاتورة الهاتف المرتفعة آخر الشهر!

***

هي، إذن، لعبة مالٍ بمال، تنخرط فيها الجماهير المضلَّلة، في سذاجة وجهل وبراءة، وتنساق إليها، في حماسة غريزية وبدائية، بغية الربح السريع والسهل. ومن واجب الإعلام الصادق والشريف أن ينشر الوعي مقابل الجهل، وأن يجنِّب الناس الوقوع في فخاخ هذا العصر المجنون والمهووس بالمادة والربح السهل السريع (إن حصل صدفة لبعض المحظوظين أو الأثيرين لدى جهات تتلاعب في الظلام)، وأن يقول للناس: لا تتصلوا!

*** *** ***

عن النهار، الاثنين 18 آب 2003

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود