بين جناحَيْ ثور عظيم

 

نصير شمة

 

لم يخطر ببال أحد أن الحرب على العراق ستكون عدوانًا مدمِّرًا، يبدأ بالإنسان، مرورًا باجتثاث جذر حضارته وآثاره وثقافته وهويته، وكذلك حاضره ومستقبله.

قد أصبح جليًّا الآن أن للعدوان أهدافًا غير البترول بعد أن تأمَّنت السيطرة عليه. فورًا اتجهت الآلة المدمرة إلى العبث بأصل الإنسان الذي أبدع وابتكر واكتشف وعلَّم. دمَّروه بحاضره، وعبثوا بتاريخه عبر السرقة والحرق.

لم يحصل في أيِّ حرب أو عدوان أو احتلال أن دُمِّر تراث مدينة أو منطقة تدميرًا شاملاً كما حدث للعراق – هذا الوطن الذي كان أرضًا لحضارات كثيرة متعاقبة، وعُرِفَ أن فيه ابتدأت الأبجدية والعلوم والثقافة والشعر والفلك والطب والرياضيات والموسيقى وأشياء أخرى كثيرة، أهمها الفيزياء والكيمياء والهندسة، علمًا بأن هذه العلوم كانت متاحة للجميع. لكن لا ينبغي لنا أن نفخر بهذا التاريخ وأن نعتز به، إذا كانت أمريكا تمتلك عقدة في هذا المجال، كونها خليطًا هجينًا ليست له جذور حقيقية، ولا يمتد تاريخه إلى أكثر من خمسة عقود، معظمها الحديث عنه غير مشرِّف: فقد تأسَّست أمريكا على جماجم الهنود الحمر الذين استبيحت دماؤهم ونساؤهم وأرضهم. فهل هذا تقليد يتوارثه الأمريكان؟!

بعد مرور بضعة أيام على وقف إطلاق النار في حرب الخليج الثانية، قررتُ أن أقدِّم أول حفل. كانت الدماء لا تزال ساخنة تنزف من عروق وشرايين الشعب العراقي. وأردت لهذا الحفل أن يكون داخل الصالة الآشورية في المتحف العراقي؛ وكان عنوان الحفل "آتٍ من الماضي، ذاهب إلى المستقبل". لم يكن هذا العنوان مجرد شعار، بل إنني أردت أن أقول من خلاله إن الحاضر ليس دائمًا كما نتمنى. كذلك حينما اخترت مكاني بين اثنين من الثيران المجنَّحة العملاقة التي يزن الواحد منها سبعة وثلاثين طنًّا من الحجر الصلب، وهو عبارة عن قطعة واحدة، وخلفي الإله الآشوري نابو الذي يتجاوز طوله اثني عشر مترًا، وعلى اليمين واليسار ألواح عظيمة من الحجر تصف الحضارة الآشورية العظيمة في العراق وتقف شاهدًا لها.

 

كنتُ قلت للحضور يومذاك: "نحن سلالة هؤلاء الذين يستضيفوننا اليوم، والذين أبدعوا هذه الفنون التي سبقت ميكلانجلو في استخدام الحركة في النحت وفي التفاصيل شديدة الدقة." خاطبت الجمهور شارحًا: "من هنا يجب أن نبدأ، من دون أن نلتفت إلى الأطلال التي خلَّفتْها الحرب." كنت كمن يريد أن يُطَمْئِن نفسه على إرثه الذي يعشقه، وعلى مستقبله الذي يريد أن يسهم فيه بقوة. وفى الوقت نفسه كنت أريد أن أشير إلى عراقة شعبنا العراقي، بعد أن طوَّقتْه كلُّ دول العالم – الشقيقة والصديقة والعدوة – في حرب لم يشهد التاريخ مثيلاً لها من قبل، خصوصًا أن إيمان الشعب بنفسه وبتاريخه وبعروبته وبانتمائه إلى كلِّ الثوابت قد اهتز. من هنا جاءت أهمية هذا الحفل الذي أعاد الحياة الثقافية إلى بغداد بعد أيام من وقف إطلاق النار.

لم يكن ليخطر ببالي أن هذا المكان الذي يحتضن بين جدرانه تاريخًا متسلسلاً لتطور البشرية في أغلب مجالات الحياة يمكن له أن يدمَّر أو يُسرَق بمنهجية مدروسة ومخطَّط لها مسبقًا. فقد وقفتْ الدبابات الأمريكية تطوِّق المتحف الوطني العراقي، وأطلقت طلقتها الأولى باتجاه بوابة المتحف لتدمِّرها، ثم لتنقل الأعمال التي تمثل حضارات أور وسومر وآشور وأكد والحضر وبابل، وبعد ذلك الآثار الإسلامية، إلى أماكن لا نعرفها (وقد لا نُفاجَأ بوجودها قريبًا في إحدى ولايات أمريكا). ومن بعدُ سمحوا لأناس لا نعرفهم، ولا نعرف سحناتهم، ولا إلى أيِّ بلد ينتمون حقيقة، ليهشِّموا الزجاج وباقي الأواني (التي بالتأكيد لا يمكن لجندي أمريكي معرفة قيمتها)، لتبدو وكأنها حالة فوضى ونهب يمارسها أبناء الشعب العراقي.

هنا أريد أن أذكر شيئًا، وهو أن الشعب العراقي، في غالبيته القصوى، متعلِّم. وفى المدارس كانوا يصطحبوننا إلى زيارة هذه الآثار والمواقع والمتاحف، وكنا نخرج ومعنا كمية أحلام، لها بداية وليس لها نهاية، عما كان يُروى لنا بخصوص الملوك والحضارات التي قامت في بلاد ما بين النهرين. فهل يُعقَل أن يقوم عراقي "عادي" بتهشيم حضارة بلاده وتاريخه العريق وتدميرهما وسرقتهما؟!

أما فيما يتعلق بدار الوثائق ومكتبة الأوقاف والمكتبة الوطنية العامة ومركز الفنون، فهذه أماكن نرتادها بشكل متواصل، ونعلم أن العراقيين هم الذين أودعوا ودائعها في هذه الأماكن لكي تُحفَظ. وفي كلِّ يوم كنَّا نقرأ عن أحد كبار المثقفين، وقد تبرَّع بعدد من المخطوطات النادرة، حتى أصبح هناك خزين نادر جدًّا من المخطوطات: هناك نسخ نادرة من القرآن الكريم خطَّها ابن البواب، وأخرى لياقوت وحمد الله الأماسي والتبريزي وابن مقلة، بالإضافة إلى نسخة نادرة من القرآن خُطَّتْ، على ما يقال، بأصابع الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه). وبين طيات هذه المخطوطات أجمل فنون الخط العربي وزخارفه، إضافة إلى كتب العلم والطب والفلك وصنوف الإبداع والعلوم الأخرى بخطِّ مبدعيها، مثل الكندي والفارابي والأرموي وابن سينا وكلِّ من سمعنا به أو قرأنا عنه في الحضارات التي سبقت الإسلام ثم فجر الإسلام وما تلاه.

أما لوحات الفنانين الرواد، فقد قدمتُ جزءًا بسيطًا منها في مركز الفنون بدار الأوبرا المصرية في مطلع العام 2003؛ وقد تناولها النقاد المصريون باحتفاء كبير. هل أقول الآن إن هذه اللوحات والأعمال الفنية الرائعة التي حملت توقيعات جواد سليم وفائق حسن وشاكر حسن آل سعيد ومحمد غني حكمت وسعدي الكعبي وضياء العزاوي ورافع الناصري ونوري الراوي ومحمد مهر الدين وعلاء بشير وعلي طالب وسالم الدباغ، وأعمال الشباب كلَّها، أُحرِقَتْ؟ هل فعل هذا هولاكو يا ترى؟ أم أنها رؤيا دانيال الذي أوصى بإنشاء دولة إسرائيل وصبَّ اللعنة على أهل بابل؟!

طوفان جلجامش

عندما قلت هذه الجملة كنت أعلم حقَّ العلم أن الشعب الذي يعايش تاريخًا عريقًا لا بدَّ من أن ينسج مستقبلا مهمًّا، وأن الإنسان الذي يمتلك جذورًا قوية سيظل موصولاً بها، عكس الذي ينبت هشًّا على سطح الماء من دون جذور – حتى وإن نجحت تجربة "عديم الجذور" مؤقتًا.

هذه الفكرة هي الاستراتيجية التي هيمنت على هذه الحرب. فهذه الحرب تحمل عن جدارة عنوان "الحرب–النفط–التاريخ": أي الحرب على الماضي، ممثلاً بالتاريخ، والحاضر، ممثلاً بالإنسان والعمران، والمستقبل الذي يمكن أن نقول إن النفط يسهم إسهامًا كبيرًا في صناعته، لكن ليس وحده.

ترى هل إن سرجون الأكدي (2390 ق م) وزيمري ليم الماري (1850 ق م) وأدَد نيراري الآشوري (1220 ق م) ونبوخذ نصر الأول (1120 ق م)، ملوك الفتوحات الذين أسَّسوا بين دجلة والفرات مملكات وإمبراطوريات حكمت الجهات الأربع في الأرض – أتراهم يعلمون ما حلَّ بأرضهم وبأبنائهم؟ هل الطوفان الذي تحدث عنه جلجامش في الملحمة الشهيرة هو ما يجري الآن؟

صلاة بابلية

حين عزفتُ مقطوعة "صلاة بابلية" لأول مرة في باريس في العام 1994، كانت الثقة تملؤني، لأني كنت، وأنا أعزف، أستعيد حضارة ستة آلاف عام من الثقافة والموسيقى كانت كلها تتقافز بين ناظري وبين زند العود. كنت أصف طقس عبادة بين الملك البابلي وآلهته، وكنت فخورًا بأن أجدادي تعاملوا مع الموسيقى بهذه المرتبة، حيث أصبحت الوسيط بين الإنسان وآلهته، كما كانوا يعتقدون. وفي الحفلة نفسها قدَّمتُ "من آشور إلى إشبيلية" – وكنت التقطت فكرة العزف بالأصابع الخمس من دون استعمال الريشة من المنحوتات الآشورية التي تصور أحد عازفي العود الآشوريين وهو يضرب على العود بأصابعه. تتبَّعت هذا الأمر أشهرًا طويلة، حتى توصلت إلى طريقة عزف، عَرَفَها قبلي الآشوريون بعدة آلاف من السنين، لكنها انقطعت عنا. وعبر بحث طويل قمت بإعادة ربط الخيوط. ومن الكندي تعلمتُ أول نظام للهارموني – الكندي الذي احترقتْ مخطوطاتُه اليوم في مكتبة دار المخطوطات.

ها أنا سليل حضارات عظيمة، وأمة صنعت أمجادها بالحفر على الحجر. وها هو الشاهد الأكبر – الحجر – يُهان بما يحمل ويهشَّم، كما لو أنه قطعة بسكويت صغيرة! وها هو تاريخنا كلُّه أصبح في جملة غريبة. وليس باستطاعتي أن أعرف كيف سيتعلَّم أطفالنا تاريخ بلادهم، وهل سيقرؤونه مجرد حبر على ورق؟

إنني أشعر بأن ما أحمله من ألم ووجع يفوق ما ستمنحني إياه الديموقراطية بكثير! أشعر بأن "عشبة الخلود" التي حملها جلجامش قد اقتُلِعَتْ من جذورها. وها أنا أتحرَّق ألمًا على جهد العلماء والمبدعين والمفكرين على مدى تسعة آلاف عام، الذين ميَّزوا حضارات بلاد ما بين النهرين، وقد أضاعها برابرة العصر الحديث.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود