اتجاهات جديدة في العلم

 

موسى ديب الخوري

نائب رئيس الجمعية الكونية السورية

 

إن كنت أختلف عنك فأنا بهذا إنما أسمو بك بدل أن أحطَّ من قدرك.

أ. دُهْ سانت إكزوبيري، رسالة إلى رهينة

 

ما هي "النظرية العلمية"، وما هي صلتها بالواقع الذي تصفه؟ لا يزال هذا السؤال مطروحًا طرحًا ملحًّا، على الرغم من التقدم الذي حققتْه العلوم النظرية والتطبيقية. وهو يعكس إشارة أعمق إلى صلة الوعي الإنساني بموضوع معرفته. وفي صُلب الحق أن هذا السؤال يحاول أن يسبر كلَّ ما يعبِّر عنه أيُّ عمل معرفي أو فنِّي.

ولعل العلم، في تنوع طرائقه ومجالاته، وفي انفتاحه الدائم على ما هو أوسع وأغنى وأجمل، وفي حدسه، كما وفي اختباراته التجريبية، إنما يمثل ذائقة فنية بالدرجة الأولى! وإن هذه الذائقة لا تنمو إلا عبر إقامة الصلة العميقة بين المتذوِّق وبين موضوعه الجمالي. ولهذا السبب كان الإبداع الفني مفتوحًا دائمًا بلا حدود؛ ولهذا السبب نفسه أيضًا، لم يكن للعلم أن يبني نظرياته بناء محدودًا ونهائيًّا: فهو لا يكتفي بإخضاعها للتجربة للبرهان على صحتها، بل هو يقيس تقدُّمه بحالة الشعور بالرضا أمام التناغمات التي جسَّدها في لوحته الأخيرة!

تحكي قصة العلم عن رحلة فريدة، حاول فيها الوعي سَبْرَ هذه الصلة القائمة بين الإنسان والطبيعة. ولا تزال هذه القصة مستمرة، بما هي عمل فني وتاريخ، لا يُدوَّن عبر إنجازاتنا التطبيقية والنظرية فحسب، بل وعبر ما يحقِّقه فينا من تفتح نفسي وعقلي وروحي.

***

ترجع قصة العلم إلى تاريخ حضارات عريقة، كالمصرية والبابلية والهندية والصينية واليونانية والعربية. لكن العلم لم يأخذ شكله المنهجي إلا مع بداية عصر النهضة الأوروبية – هذا المنهج الذي تَبَلْوَر وتعدَّل كثيرًا عبر القرون القليلة الماضية.

ولا شك أن بيكون Bacon لعب دورًا أساسيًّا في تمايُز المنهج العلمي: فهو لم يكن يعتقد بضرورة العودة إلى أرسطو أو إلى الكنيسة من أجل تحديد موقف معرفي؛ فكان نداؤه صريحًا بضرورة فَصْل المعتقَد عن المنهج المعرفي الحرِّ للحقيقة. وقد ألهمتْه أعمال نيكولاس كوبرنيكوس N. Copernicus وتيخو براهي T. Brahe ويوهانِّس كبلر J. Kepler وغاليليو غاليليه G. Galilée ووليم هارفي W. Harvey وغيرهم مقولتَه في أنه يجب ألا تُبنى الفلسفة الطبيعية على الأفكار السلفية والأفكار الثابتة، وأن المنطق يجب أن يرتكز على رصد الأشياء المحسوسة واختبارها.

طرحت هذه اللغة الجديدة، التي سُمِّيَتْ بـ"العلم" Science فيما بعد، إشكاليات كثيرة في البداية: ذلك أنه لا يمكن دائمًا تعميم حالات محدودة وقليلة لاستنتاج نظرية عامة ثابتة. ومرة بعد مرة، بدأ العلم يعترف بأن تعديل نظرياته هو أساس تقدُّمه – هذا التعديل الذي يعني لغة قائمة بذاتها، هي لغة المعرفة المستمرة والقابلة دائمًا للتعديل والانفتاح.

ومن أجل تلافي عدم القدرة على التعميم انطلاقًا من معطيات جزئية، طرح بيكون منهجه العلمي الاستقرائي، حيث يمكن بناء فرضية على معطيات بسيطة، بحيث تشكِّل نموذجًا يمكن تحصيل معطيات جديدة وفقًا له، وهكذا، وصولاً إلى نظرية متكاملة، بحيث يستطيع الباحث اكتشاف قوانين الطبيعة اكتشافًا منظمًا. وبعد ذلك، طوَّر العلماء مفهوم التجربة المضبوطة التي تساعد على عزل أهداف الرصد وتحديدها وجعلها أكثر دقة. وقد ميَّز رونيه ديكارت R. Descartes الراصد عن موضوع الرصد، وحدَّد هدف التجربة والملاحظة باكتشاف القوانين السببية التي تربط بين الأشياء والظاهرات. وبعد فترة، استفاد اسحق نيوتن I. Newton من فكرة ديكارت، فأوجَد علاقة بين ملاحظات كوبرنيكوس وبراهين كبلر وغيرهما، وطرح نظريته التي لم تكن تشتمل إلا على ثلاثة مبادئ بسيطة، إضافة إلى فرضية تتعلق بالثقالة gravity. وأدى نجاح قوانين كبلر إلى ترسيخ اعتقاد، أسَّسه ديكارت، بأن الطبيعة آلية في عملها. وقاد ذلك لابلاس Laplace في القرن التاسع عشر إلى التنبؤ بمعادلة قريبة، ستحمل الجواب عن كلِّ شيء موجود في الطبيعة.

لقد أثَّرتْ أعمال نيوتن في مدرسة فلسفية كاملة، كان أهمُّ أساتذتها لوك Lock وبركلي Berkley وهيوم Hume. وعلى الرغم من تأكيد هؤلاء – وبخاصة هيوم – على الصفة المستقلة للراصد عن موضوع التجربة، لكنهم لم يتأكدوا من أن الاستقراء يمكن أن يقود إلى اليقين. وبالتالي فإن ما يظهر لنا من انتظام في الطبيعة لا يعني أبدًا أنه سيؤدي إلى معرفة مطلقة في المستقبل.

وربما كان كارل بوبِّر K. Popper أول من عبَّر فلسفيًّا، بعد ظهور نظريتي النسبية العامة والميكانيكا الكوانتية، عن اللايقين uncertainty، وعن صلة الراصد بموضوع التجربة. كذلك طرح بوبِّر فكرة البرهان بعكس الاستقراء، أي بنفي حالة واحدة من النظرية العامة: إن بجعة سوداء يمكن أن تنقض نظرية أن يكون البجع كلُّه أبيض اللون. وينعكس ذلك على الفهم الفلسفي للمنحى الذي اتَّخذه العلم: فطَرْحُ نظرية جديدة يجب أن يترافق، إذن، بأسلوب برهان حاسم عليها أو بإمكانية دحضها. ولم تكن قد تَبَلْوَرَتْ حتى ذلك الحين، بالتالي، فكرة أن تكون النظرية العلمية إمكانية معرفية مفتوحة دائمًا.

كانت الميكانيكا الكوانتية توحي في تلك الفترة بأن الظاهرات على المستوى ما تحت الذري subatomic ليست محكومة بقوانين مطلقة أو محدَّدة، خاضعة للسبب والنتيجة، بل بقوانين الصدفة واللاتعيُّن indeterminacy. وفي الرياضيات، كان كورت غودل K. Gödel قد برهن أنه توجد دائمًا إثباتات حقيقية ومتجانسة، إنما لا يمكن أن تُشتق من مجموعة محدودة دائمًا، بحيث يلزم دائمًا التوسع في أية منظومة يجب البرهان عليها. وإذا أخذنا بعين الاعتبار ما كانت قد طرحتْه نظرية النسبية من توسيع كبير لمفاهيم الزمن والمادة والطاقة والجاذبية، يمكننا القول إن مجمل هذه الرؤى الجديدة طَرَحَ من جديد مسألةَ النظرية العلمية طرحًا مختلفًا. وعبر بوبِّر عن ذلك بقوله: "إن مفهوم الكون الميكانيكي قد ولَّى مع بيكون ونيوتن وديكارت؛ فالعالم الموضوعي ليس مطلقًا في شيء منه. والعلم لا يرتكز على أسُس لا تُدحَض." ويكمل توماس كوهن T. Kuhn هذا المنظور بقوله إن النظريات تُعدَّل باستمرار مع ظهور تعارُضات أو معضلات جديدة، وهكذا، حتى يتطلَّب الأمرُ تعديلاً جوهريًّا في النظرية وظهور نظرية جديدة.

لقد تم تحسين النموذج الأولي القائم على قوانين نيوتن الأساسية، حتى بدا في نهاية القرن التاسع عشر وكأنه قد اكتمل. لكن ظهور النظرية النسبية عدَّل هذا الشعور بالنظرية الكاملة، وطرح، في المقابل، فكرة جديدة، حيث ليس من الضروري أن تنقض النظريةُ الجديدةُ النظريةَ السابقة، بل تحفظ لها سوية خاصة بها تُطبَّق فيها. وكان ذلك إيذانًا بفتح الباب على مصراعيه على الحوار بين نظريات العالم الجَهاري (الماكروسكوبي) والعالم المجهري الدقيق (الميكروسكوبي).

***

استطاعتْ نظريتا النسبية والكوانتية سَبْرَ مجاهل جديدة في المجال المعرفي. فالنسبية دمجتْ الزمان بالمكان، والمادة بالطاقة، والمجرد بالمحسوس، واستطاعتْ أن تبني عالمًا هندسيًّا يخلق المادة ومادةً تؤثِّر في بنية المكان الهندسية. وقد اعتمدت النسبية في ذلك على قوانين نيوتُنية في أصولها، ووصلتْ بالسببية إلى أقصى مداها. لكنها كانت تشير إلى قفزة في طرائق تفكيرنا، من حيث إن هذه السببية التي تحكم هذا العالم المتحرك والديناميَّ لم تعد قابلة للتوصيف من منظور محلِّي فقط. أما النظرية الكوانتية فقد استطاعت اختراق هذا الحاجز إلى حدٍّ بعيد، وأوجدت عالمًا غير سببي، بل احتمالي في جوهره، ولا ينفصل عن وعينا.

وفي كلا العالمين – الكبير السببي والصغير الكوانتي – كانت ثمة مفاهيم لا بدَّ من تفسيرها: فهذه المادة–الطاقة كانت تعاني من "التعب"، وهذا الإلكترون القافز من مدار إلى مدار كان يُصدِر طاقة ضائعة. فأين تذهب هذه الطاقة؟ وكيف نستطيع فهم كون يحافظ على انتظامه رغم خسارته للطاقة؟ كانت هذه النقطة بالذات مفتاح الاتجاه الجديد الذي سينطلق منه العلم، لكنها، مع الأسف، لم تكن في صُلب الحوار الذي قام بين النظريتين النسبية والكوانتية، ممثَّلاً بالحوارات التي دارتْ بين ألبرت أينشتاين A. Einstein ونيلز بوهر N. Bohr بشكل خاص.

فعلى الرغم من أن كلاً من أينشتاين وبوهر كانا يقبلان بكلِّية الكون، لكن نظريتيهما كانتا مختلفتين: فالنسبية ترتكز على مفهوم الحقول المتصلة، في حين أن الطبيعة الكوانتية غير متصلة، بل تتألف من كوانتونات ("كمَّات") منفصلة. وقد تمَّ التخلِّي عن فكرة المسار في هذه الأخيرة لصالح "القفزة الكوانتية" quantum leap، في حين تطوَّر مفهوم "المسار" إلى خطٍّ جيوديسي هام في النسبية. والكون، في نظر أينشتاين، موضوعي ومحدود؛ فهو مستقل عن الراصد الذي يكتشف فيه قوانين ثابتة وغير احتمالية. وفي المقابل، فإن النظرية الكوانتية تكشف عن كون غير محدَّد واحتمالي، ولا ينفصل فيه فعلُ الرصد عن موضوع المعرفة. وفي مقابل العلاقة السببية في الكون بحسب نظرية النسبية، كان تفسير النظرية الكوانتية الذي قدَّمه بوهر ومدرسة كوبنهاغن يقول بعدم إمكانية وجود صورة نهائية في العالم الصغير (الميكروكوزموس) للسبب والنتيجة، بل أمواج احتمالية فقط.

وعلى الرغم من الخلاف الذي نشأ بين بوهر وأينشتاين حول التفسير الفلسفي للنظريتين، لكن هاتين الأخيرتين ترسَّختا رسوخًا كبيرًا، حتى بدأ العمل على محاولة توحيدهما في نظرية واحدة. وكان الهدف هو إيجاد وسيلة تعبير رياضية، مدعَّمة بتفسير فيزيائي، تجمع القوى الأربع المعروفة في الطبيعة، بحيث تظهر وكأنها منبثقة عن قوة وحيدة أولية.

عند هذا المنعطف، عاد التساؤل العلمي يطرح نفسه بقوة: هل يتطلب أيُّ تقدُّم معرفي إيجادَ منظومة واحدة تفسِّر الظاهرات كلَّها، وعلى كافة المستويات؟ وهل يمكن تحقيق إبداع نظرية جديدة دون الخروج، مرة أخرى، عن الشكل التقليدي الذي بات متَّبعًا في العلم؟

كان ديفيد بوهم D. Bohm من أوائل الذين تنبَّهوا إلى هذه النقطة، فقال بضرورة عدم جعل اليقين العلمي مطلقًا؛ وأكَّد خطأ فكرة البحث عن كوانتوم (أو "كم") القوة الموحِّدة، أو عن قُسَيْم أولي هو اللبنة الأساسية للمادة، معتبرًا أن ذلك يتنافى مع فكرة أن الكون يشكل كلاً، إذ تكون القوة الموحِّدة عندئذٍ تجميعًا لأجزاء ليس هو الكل بالضرورة. كذلك عارض روبرت شِلدريك R. Sheldrake فكرة توحيد القوى كمنهج علمي: إذ إن ذلك سيعني التساؤل عما كان قبل هذه القوة قبل أن يكون الكون بسببها؛ وهو سؤال ميتافيزيائي بحت، حيث سيُعَدُّ أن القانون الطبيعي قانون أزلي، وإنه وُجِدَ قبل وجود الطبيعة نفسها!

وفي المقابل، فقد طرحتْ نظريتا النسبية والكوانتية من المسائل التي لا تزال غامضة ما يكفي للبدء جديًّا بالتحضير لانطلاقة جديدة في الفهم، بحيث يتم الحفاظ على أساس النظريتين، إنما مع إمكان تحقيق منظور أوسع وأشمل. ولعل هذا المنظور كان ليحمل معه إمكانية منهج جديد في العلم، كما سنرى.

***

كان بوهم من السبَّاقين إلى محاولة اختراق هذا الشكل التقليدي للنظرية العلمية. فقد استطاع، بنظريته الكلِّية في الانبساط explication والانطواء implication، رَسْمَ أول اتجاه جديد في العلم، بغضِّ النظر عما إذا كان قد توصَّل إلى نتيجة مقنعة أم لا. لقد حاول دخول المرآة، كما فعلت أليس Alice، ليجد نفسه في "بلاد العجائب"! حاول تقطيع قالب الحلوى، فإذا به يُفاجَأ بأن القِطَع تعود لتتماسك من جديد!

لقد أراد بوهم الخروج من الكون الفيزيائي المعروف، وطرح كونًا يجيب عن تساؤلات ليست علمية بالمعنى المتعارف عليه، كالحقيقة والفهم واللغة؛ وحاول أن يبرهن على أن هذه المفاهيم توازي في أهميتها المفاهيم الكلاسيكية، كالشحنة وكمية الحركة. وترتكز فكرة بوهم على اتصالية العالم. فالكون هولوغرام كبير، أي كلٌّ يحتوي كلُّ جزء فيه على الصورة الكلِّية له. إن الكون انبساط وإفصاح لكمون منطوٍ؛ وهو في حالة انبساط وانطواء مستمرة، هي التي تعطي الكون مظهره الحركي والدينامي.

إن المادة ليست عطالية ومنفصلة في منظور بوهم: فكوننا عدمٌ شاسع، يموج فيه كلُّ شيء على شكل تجعُّدات تظهر على سطحه. وبالتالي، لا يمكن أن توجد خارطة نهائية لهذا الكون، بمعنى نظرية كاملة، لأن خرائطنا ستتغير ببساطة مع تغير انبساطاته: إنها، ببساطة، النظريات–المرايا التي ننظر بها إليه. أما لكي نعرفه، فما علينا إلا تجاوز حدِّ المرآة؛ وبمعنى آخر، الغوص فيه! فـنظرتنا نفسها تغيِّر حقل المعرفة المدروس؛ وبدوره، يغيِّر حقلُ التجربة والاختبار معرفتَنا ووعيَنا.

يحلُّ هذا النظام المنطوي العديدَ من الإشكاليات الفلسفية القديمة والعلمية الحديثة. فثنائية الموجة–الجسيم عند بوهر ليست سوى تجلٍّ للراصد وأدواته التي تحرِّض المجموعات المنطوية من الكمونات بأشكال مختلفة. أما إشكالية الاتصال والانفصال، التي ترجع إلى أيام زينون، فيحلُّها بوهم بإرجاعها إلى عملية منفصلة ومتصلة في الوقت نفسه، بحسب ما إذا كانت تتمُّ في المنبسِط أو في المنطوي. ويذهب بوهم بالسببية إلى حدِّها الأقصى – ولا ننسى أنه تلميذ أينشتاين – ليحلَّ إشكالية اللاسببية، فيقول إن كلَّ شيء هو سبب لكلِّ شيء. وهذا يعني أن أيَّ حدث محلِّي في النظام المنبسِط يكون متجذِّرًا تجذُّرًا غير محلِّي في الحركة الكلِّية المنطوية Holomovement. وبذلك، لا يكون ثمة ثنائية نظام–صُدفة في كون كلُّ ما فيه منظَّم وفق نظام أعلى فأعلى. والكون، بحسب بوهم، محدَّد وغير محدَّد في آنٍ واحد: فكلُّ شيء منظَّم ومحدَّد في الحركة الكلِّية. أما الجوانب غير المحدَّدة فتقوم على متغيِّرات "خفية" ترتكز هي نفسها على متغيِّرات خفية أخرى، وهكذا، بحيث تؤلِّف الحركة الكلِّية نفسها! ومن هذا المنظور فإن الكون غير محدَّد.

ويرى بوهم أن قوانين الطبيعة نفسها تتطور؛ وهذا ما يعطي الفرصة للجديد بالظهور حقًّا. فالحياة ليست ناجمة عن مجرَّد اتحاد أولِّياتها في ظروف معينة، بل هي كمون منطوٍ في الحركة الكلِّية القابلة لكلِّ إبداع جديد، بما في ذلك القوانين الجديدة. وهكذا، فإن العلم، من منظور بوهم، علمُ صيرورة وليس علم عطالة. والكلُّ ليس مجموع أجزائه، بل إن الكلَّ يحوي الجزء، كما أن الجزء يحوي الكل؛ وعلى هذا، فإن الراصد يتحوَّل إلى أحد عناصر التجربة، ليصبح هو نفسه موضوع المعرفة.

وعلى الرغم من أن نظرية بوهم لم تحقق النجاح المتوقَّع لها، ومع أنها وقعت في مطبِّ العودة إلى الآلية في كثير من جوانبها – حيث تعود بنا إلى تلك السلسلة من السلاحف التي تحمل الأرض بعضها فوق بعض دونما نهاية، عبر سلسلة انطواءاتها وأنظمتها التراتبية إلى أعلى فأعلى! – لكن أثرها واضح على ما قدَّمتْه من محاولة لتجاوز الإطار العام لصيرورة النظرية العلمية. وكان ذلك مشجِّعًا لمحاولة أكثر جرأة وتماسًا مع الشكل العلمي المتعارَف عليه، إنما مع طرح منظور أوسع للمفاهيم الأساسية، بحيث تغدو النظرية الجديدة نفسها طريقة مختلفة في الفهم. فربما كان علينا حقًّا، في بعض الأحيان، أن نفعل كما فعلت أليس بعد دخولها في المرآة: نأكل قالب الحلوى، ومن بعدُ نقطعه!

كان غوته – هذا الشاعر والفيلسوف والعالم الكبير – قد انتقد رجال العلم في عصره، واتَّهمهم بأنهم لا يفسِّرون الصيرورة في الطبيعة. وكان لا بدَّ من انتظار إيليا بريغوجين I. Prigogine لينطلق علمٌ جديد للصيرورة.

يتعلق هذا العلم بمفهوم الإنتروبيا entropy – وهي ببساطة الطاقة المستنفَدة التي لا يمكن الإفادة منها: فكلُّ استخدام للطاقة، أو تحوُّل لها من شكل إلى آخر، يؤدي إلى خسارة جزء منها على شكل طاقة ضائعة. وفي الحقيقة، يخسر كلُّ شيء طاقته تدريجيًّا في كوننا، ليتحول إلى إنتروبيا. وازدياد الإنتروبيا هو الذي يعطي للزمن اتجاهًا نحو المستقبل. فكلُّ شيء يكبر ويتحول في صيرورة وجوده، حتى يفقد طاقته في النهاية.

يعاكس هذا المنظور الفكر النيوتُني القديم، حيث كان الزمن عَكوسًا irreversible. وأما إذا تساءلنا نيوتونيًّا: لماذا، عندما نرمي بحجر في الماء، فيغوص إلى القعر بعد أن يُظهِر دوائر على سطح الماء متباعدة عن مركز السقوط، لا يعود الحجر إلى الأعلى، معيدًا الدوائر من المحيط إلى المركز، فإن الإجابة النيوتُنية تأتينا بأن ذلك ليس مستحيلاً، لكنه احتمال لا معنى فيزيائيًّا له. وهذا يعني أن مفهوم سهم الزمن، المرتبط بازدياد الإنتروبيا في الترموديناميكا، يرتبط في الميكانيكا النيوتُنية بمفهوم الاحتمال. فهل أن سيلان الزمن مرتبط بغياب الأحداث غير المحتملة وبظهور الأحداث المحتملة فقط؟

لقد درس بولتسمان Boltzmann هذه الفكرة، واستطاع تفسير طبيعة الإنتروبيا بمثال بسيط: عندما يكون لدينا غاز مسخَّن، تكون الحرارة سمة لحركة الجزيئات الغازية؛ أي أن الحرارة هي تعبير عن الشواش الجزيئي، وهي طاقة ضائعة في الجزء الأكبر منها، مهما كان العمل المستفاد منها. أي أن هذا الشواش الجزيئي هو الإنتروبيا. وعندما يبرد الغاز، أي تتوقف الحركة الشواشية للجزيئات، تبلغ الإنتروبيا أقصاها، إذ تصبح هذه الجزيئات في وضعية غير تفاعلية ولا تؤدي أيَّ عمل. وكان كلاوزيوس قد لخَّص الترموديناميكا كلَّها في عبارة واحدة: "إن طاقة العالم ثابتة، وإنتروبيا العالم تنحو إلى حدِّها الأقصى." وهذا يعني أن طاقة العالم تتحول إلى طاقة غير فاعلة، وأن النظام يفسح المجال باضِّطراد للشواش chaos.

ومن المدهش أنه، في الوقت نفسه الذي سادت فيه أفكار بولتسمان، كانت نظرية التطور لداروِن تحقِّق إنجازات كبيرة. ووفق هذه النظرية، كانت الجزيئات البسيطة تتفاعل لتشكيل البروتينات والسلاسل النووية الريبية والإنزيمات، ثم الخلايا الحية الأولى، فالمتعضِّيات المعقدة، وصولاً إلى الكائنات الحية العليا، وذلك عبر منظومات بيئية متداخلة ومتوازنة، وبواسطة قوانين للتكاثر والاصطفاء والوراثة على غاية من الانتظام! فكيف نستطيع تفسير ظهور الحياة وارتقائها في مواجهة الكون–الإنتروبيا؟

لا شكَّ أن المنهج العلمي كان يقف، هاهنا بالذات، عند منعطف حاسم. فها هو العلم يتوصَّل، عبر منهجه الصارم، إلى ما يشبه التعارُض، ويتنبَّه إلى أن وضع النظريات وإثباتها لا يكفي لفهم الظاهرة الطبيعية في كلِّيتها، ويدرك إدراكًا صريحًا أن معرفته التي يحقِّقها في إطار نظرياته معرفةٌ قابلة للتغيُّر وللتعديل.

لقد لاحظ بريغوجين أن ما يميِّز المنظومات الحية المفتوحة عن المنظومات المغلقة هو الوسط غير المتوازن أبدًا بسبب تدفق الطاقة فيه على شكل مواد كيميائية أو غيرها؛ ولهذا يُعَدُّ هذا الوسط وسطًا شواشيًّا، فيه تظهر المنظومات الحية وتتطور. بل إن هناك أمثلةً كثيرة على نشوء انتظامات آنية في وسط شواشي، كما في تجارب بينار Bénard أو جابوتنسكي–بلوسوف وغيرهم. ويوافق بريغوجين هنا على أن الحياة واللاحياة يظهران في وضعيات عدم التوازن. وهكذا، على عكس ترموديناميكا القرن التاسع عشر، اكتشف بريغوجين ترموديناميكا توصِّف نشوء البُنى المنتظمة والمعقدة في الوسط الشواشي غير المتوازن؛ وقد دُعِيَتْ بترموديناميكا المنظومات التدوُّمية. ودعا بريغوجين الأشكال التي تظهر في وسط غير متوازن بـ"البُنى المبدِّدة" structures dissipatives: ذلك أنه عليها، لكي تحافظ على شكلها، أن تبدِّد دائمًا الطاقة، أي أن تزيد من الإنتروبيا، حتى لا تتراكم هذه الأخيرة فيها. ويتطلب ذلك الحصول على الطاقة باستمرار. وبالتالي فإن المادة والطاقة يمرَّان عبر المنظومة المبدِّدة المفتوحة ليحفظا لها توازنها وانتظامها، في حين تُسهِم المنظومة في طرح الإنتروبيا وزيادتها.

ويرى بريغوجين أن الحقيقة متعدِّدة الأبعاد، ولا يصح النظر إليها من منظور واحد. وهكذا، فإن الشكل الميكانيكي يكون صحيحًا ضمن مستوى معين، ويبقى تطبيق قوانين نيوتن سليمًا فيه، إنما مع حدود معينة لا يمكن تجاوزها. ويقلِّل ذلك كثيرًا من أهمية المفاهيم المطلقة التي سادت منذ نيوتن. وفي المقابل، تعطي المنظومات المبدِّدة باستمرار سويات أعلى فأعلى من التعقيد لها قوانينها الخاصة، المستقلة والمتداخلة، في آنٍ واحد، مع المستويات الأخرى. وعلى عكس منظور النسبية أو الكوانتية، لا يمكن اعتبار أيٍّ من هذه المستويات أساسيًّا، ويمكن ترتيب السويات الأخرى وتصنيفها وفهمها اعتمادًا عليه فقط.

وقاد ذلك بريغوجين دون شكٍّ إلى التساؤل حول جوهر النظرية العلمية: "إذا كان الكون ليس مبنيًّا من الأدنى إلى الأعلى، أو من اليسار إلى اليمين، بل هو نسيج كلِّي من السويات والقوانين المتداخلة، فأين نقف منه كراصدين فاعلين؟" ويجيب بريغوجين بأن الكائنات الحية – ومنها البشر – تعيش وجودًا لاعَكوسًا. فسَهمُنا الزمني يتَّجه نحو الموت دائمًا. لقد ساهم تطور البنية المبدِّدة – التي ندعوها "وعيًا" – بإضافة سوية جديدة من الحقيقة الواقعية، وبالتالي، قانونًا طبيعيًّا جديدًا، إلى التاريخ الكوني. ويتعلق هذا القانون الجديد بموقف الراصد في تقدير الاختلاف بين الماضي والمستقبل. والحق أن ما يميِّزنا هو إدراكنا هذا لسهم الزمن.

***

يذهب فريق من العلماء إلى أبعد من ذلك في طرح بريغوجين للمنظومات المبدِّدة. فهذه المنظومات، كما يرى فرانشِسْكو فاريلا F. Varela، تستمد استقلاليتها من ارتباطها نفسه بالمحيط الشواشي الذي تنشأ منه. وينطبق ذلك على أنواع المملكة الحيوانية والنباتية كافة، كما وعلى المنظومات الأعقد، وصولاً إلى التجمعات البشرية. وهكذا تكون المنظومة مغلقة، من جهة، بانتظامها وباستقلاليتها، ومفتوحة، في الوقت نفسه، بتفاعُلها المستمر مع بيئتها. وأضاف إلى ذلك إريك يانتش E. Jantsch بُعدًا جديدًا: فهو يرى أن البُنى ذاتية الانتظام تحافظ على شكل صيرورتها بإقامة توازن ثابت لحاجتها للانحفاظ من التغيرات، مع حاجتها للبقاء مفتوحة عليها. فعند الإنسان، مثلاً، يكون دوران الدم أو العمليات الكيميائية في الجهاز الهضمي مغلقين أمام التغيرات أو الدفوق الخارجية؛ وتحاول هاتان المنظومتان التخلُّص من أية مادة غريبة تدخل في دورتها. أما المنظومات العليا في الجسم الإنساني، كالدماغ، فهي أكثر عرضة للدفوق الخارجية؛ وهي تحاول أيضًا الحفاظ على توازنها الديناميِّ. لكن الدماغ مفتوح عبر الحواس انفتاحًا كبيرًا على العالم الخارجي: إن بضعة أفكار يمكن أن تولد دفوقًا خارجية كبيرة (كالآمال أو الإحباطات أو المخاوف)، قبل التخلص من هذه الأفكار. وبالعكس، يمكن لفكرة إبداعية جديدة، تومِض في لحظة بسبب مؤثر خارجي، ألا تُطرَح من المنظومة الدماغية، بحيث تعمل على تغيير بنية الفكر نفسها، وتعطي رؤيا حدسية جديدة تمامًا.

إن الدماغ يعطينا فرصًا مميَّزة للاستقلال والحرية. فنحن غير محدودين، مثلاً، بالعيش وفق نمط اجتماعي واحد، كالنمل. والدماغ الذي يسمح لنا بهذه الاستقلالية الفردية والاجتماعية مفتوح، مع ذلك، على الدفوق الخارجية، وهو، بالتالي، غير مستقر. وهكذا يكتشف يانتش أنه كلما ازدادت الاستقلالية، قابَل ذلك انفتاحٌ أكبر على الخارج؛ الأمر الذي يوسع ويهيِّئ طُرُق التواصل بين ما هو في الداخل وما هو في الخارج من البنية نفسها.

وفي المقابل، فنحن، كمنظومات حية، لا نعيش منفصلين ومستقلين إلا بتفاعلنا مع الخارج، بل وبدخول هذا الخارج إلينا وتواحُده معنا: نحن نعرف، مثلاً، أن الكثير من أنواع البكتيريا الصديقة يدخل أجسامنا ويعيش فيها؛ أي أننا، في النهاية، منظومات متداخلة مع بيئتنا إلى حدٍّ بعيد، ونحن متطورون ومتغيرون مع صيرورة التغير المستمرة.

ترى، أليست تلك النتائج الصريحة للعلم دعوةً واضحة للعلم نفسه إلى الانطلاق في مناهج واتجاهات جديدة، موازية للأنساق الطبيعية في تنوعها وانتظاماتها، بحيث تكون النظريات العلمية أقدر على الانفتاح وعلى تشكيل بُناها المنطقية كتفاعل مباشر مع الكون؟

لعل نظريات الانتظام الذاتي auto-organization، التي سنعرِض لها لاحقًا، تقدِّم لنا مثالاً هامًّا على هذا التصور. لكن لِنَرَ، أولاً، إلى جوانب أخرى من صيرورة المنهج العلمي في مواجهة نفسه وتجدُّده عبر ما يطرحه على نفسه من أسئلة. إن الوعي يمثل بذلك مرآة حقيقية ينعكس فيها المعنى الآني والكلِّي للحركة الطبيعية عبر نماذج نظرية ليست نهائية إنما تشكٍّل، بشكل موازٍ، مرحلةً أساسية في بناء الوعي نفسه.

إن أحد الأسئلة الكبرى المطروحة على العلماء يتعلَّق بمعرفة الطريقة التي تبلغ بها الأشياء أشكالها المحددة وتحافظ عليها. فما الذي يوجِّه، مثلاً، بنية جنينية إلى شكلها الناضج بعد فترة؟ وكيف ينشأ التمايز؟ وكيف نعلِّل انتقال المعلومات الخاصة بالتطور الشكلاني عبر أمكنة متباعدة، مما يؤمِّن الارتقاء المتوازي للحياة؟

يطرح شِلدريك فرضية وجود حالة وسطى بين الـDNA وصيرورة تشكُّل المتعضِّية organism: وهي عبارة عن مجموعة معقدة من الحقول الخفية التي تحكم كافة مراحل التكون الشكلاني والأشكال النهائية للأشياء، بما فيها سلوكها – وربما نستطيع القول أيضًا وعيها. ويدعو شِلدريك هذه الحقول بالمورفوجينية morphogenetic fields، ويسمي فرضيته هذه بـ"العلَّة المشكِّلة" Causative Formation.

إن رؤيا شِلدريك هذه تتقارب إلى حدٍّ مدهش مع الحقول الهندسية التي تتشكَّل المادة وفقًا لها في النسبية العامة؛ إنها حقول تعطي الكون كلَّه شكله وحركته، وليس أنماط الحياة فيه فقط. وهي، في المقابل، تتشكَّل بواسطة الأشياء التي تشكِّلها هي أولاً. وهكذا، فإن الحقول المورفوجينية عرضة للتحول دائمًا مع تحوُّل كينوناتها.

ترى، هل نبالغ إذا قارنَّا أيضًا هذه الحقول باللاوعي الجمعي Collective Unconscious الذي تحدث عنه كارل يونغ C.G. Jung؟ لماذا لا نوسِّع هذا اللاوعي إلى لاوعي كوني، وإلى "علَّة مشكِّلة"، بحسب تعبير شِلدريك، ونأنس فيه إلى "النماذج البدئية" Archetypes التي تشكَّل الكون كلُّه وفقًا لها؟! ألن يكون ذلك مشروعًا أصيلاً لسَبْرٍ أعمق لصلتنا مع الطبيعة ولعمل واعٍ، بالتالي، على الذات، من أجل المشاركة في الصيرورة الكونية؟

يتبادر إلى ذهننا فورًا، ونحن نطرح هذه الفكرة، ما اقترحه كارل بريبرام C. Pribram حول هولوغرافية الدماغ. لقد حاول هذا العالِم تطبيق نظرية بوهم في كلِّية المنظومات على الدماغ، بحيث تكون ثمة بنية كلِّية لهذا الأخير تحكم وظائفه ومناطق تخصُّصه، وتكون قادرة، في الوقت نفسه، على تمثُّل كلِّ وظيفة منها، وإن تعرضتْ منطقتها الفسيولوجية للعطب. وبذلك إنما يُدخِلنا بريبرام إلى منظور جديد لعمليات الوعي، بحيث لا يكون الدماغ مجموعة وظائف متمركزة في منطقة محددة، بل كلٌّ ينعكس وظيفيًّا عبر إمكانات فسيولوجية عديدة. وعلى الرغم من أن هذه الفرضية، كسابقاتها المتعلقة بالحقول، لم تخضع لبرهان حاسم، لكنها، من منظور تأثيرها في الصيرورة المنهجية للعلم، لعبتْ دورًا كبيرًا في تعديل رؤيتنا إلى العلوم، عمومًا، وإلى البيولوجيا، خصوصًا.

***

لقد خضعت النظريات البيولوجية فترة طويلة لتأثير النظرة الميكانيكية؛ وكانت نظرية داروِن تمثل ذروة هذه النظرة. فوفق هذه النظرية، نحن نقف على قمة هرمٍ تطوريٍّ، بدءًا من الخلية الأولية، مرورًا بالممالك الحية كافة. وعِبْر هذه التراتبية، تلعب مفاهيم الاصطفاء والصراع دورًا أساسيًّا. لكن هذه النظرية طرحتْ إشكاليات كثيرة، رغم ثبات مبادئها الأساسية. فعملية الاصطفاء تقوم على خصائص قدرة الكائن على التأقلُم؛ وقدرة الكائن على التطور قد تجعله مرتبطًا ببيئته. ونحن لا نستطيع أن نفهم اليوم ما يعني "البقاء للأفضل" بعزل النوع عن بيئته. وفي المقابل، فإن علم المستحاثات يطرح تساؤلات كثيرة حول اختفاء "فجائي" للأنواع المتأقلمة مع بيئتها، وظهور غيرها دون سابق إنذار.

ولهذا فقد برزتْ استدلالاتٌ تحاول تفسير تطور العالم الحيِّ بالحدِّ، قدر الإمكان، من اللجوء إلى مفهوم صعب، كالقيمة الاصطفائية. فهي لا تنكر وجود ضغوط انتقائية، لكنها لا تمثل المُعامِلات الرئيسية في صيرورة بناء المنظومات الحية في شكلها الكلِّي. كذلك طرح يانتش نظريته في التطور المتوازي والكلِّي، حيث لا يفقد الاصطفاء أو الصراع من أجل البقاء دوريهما، إنما لا يكونان الدافعين الرئيسيين في تطور أنواع الحياة الجديدة. وهو يرتكز في نظريته على أن تطور البُنى في التطور الصِّغَري يعكس تطورًا على المستوى الكِبَري؛ وبالعكس، فإن المنظومات الكِبَرية والصِّغَرية تتطور معًا ككل. ويرى يانتش، مع بريغوجين، أن صيرورة التطور هذه لا تتم بشكل محدود وآلي، بل هي أشبه باللوحة الإبداعية التي يستمر العمل فيها مع تكشُّفات جديدة باستمرار. ويرى بريغوجين أنه في لحظة اللايقين، حيث يؤدي التفرع الجديد إلى ولادة بُنى مبدِّدة جديدة، يولد مبدأ لايقين على المستوى الكِبَري يكافئ مبدأ لايقين هايزنبرغ. فالكائن يعيش، إذن، في كلٍّ غير محدود؛ والكون يفلت من كلِّ تفسير نهائي، تمامًا كما هي الحال بالنسبة لكانتاتا لباخ أو قصيدة لبليك. وهكذا، فإن البرنامج المورِّثي، الذي يعكس قانون تطور المنظومات الحية، يصبح أقل تقييدًا، بحيث لا يُملي جوانب السلوك المختلفة إملاءً آليًّا، وإنما يترك للمتعضِّية إمكانات خيار خاصة.

فالحلُّ البديل، إذن، عن الاصطفاء يكمن ببساطة في التنوع. وهكذا، تبدو لنا المورِّثات وكأنها ترفض الدخول في نماذج آلية شديدة التبسيط – كأنْ تكون كلُّ مورِّثة مسؤولة عن مهمة محددة، بحيث يكون الكائن وتطوره مقيدين بإرثهما منها. وهكذا أيضًا، لا يتبدَّى التطور كتحدٍّ على مواجهة وقائع وظروف معينة، بل كقدرة على التجدد. ويكون ذلك مجديًا بمقدار ما تكون إمكانات التحول والتكيف مع الوسط المتغير كبيرة؛ أي بمقدار ما تكون تجمُّعية المورِّثات متنوعة.

***

يقودنا الحديث عن التنوع مباشرة إلى نظريات الانتظام الذاتي – هذا الاتجاه الجديد الذي بدأ العلم يسبر إمكاناته في غضون العقد الأخير؛ وهو يعي تمامًا إلى أيِّ حدٍّ يمكن أن يؤثر عليه ويغيِّر مفاهيمه ومناهجه.

يرى فرانشِسْكو فاريلا أن الانتظام الذاتي ليس ظاهرة في حدِّ ذاته، بل هو عملية انتقالية تنجم عن شيء أكثر جوهرية يميِّز صفَّ المنظومات بعامة، ألا وهو الآلية التي تحدِّد هذه المنظومات كصفوفٍ وأنواعٍ وتعرِّفها. وتكمن هذه الآلية فيما يمكن أن ندعوه بـ"ذاتية" المنظومة التي ترتبط بالقدرة على تعريف منظومة بواسطة تناغمها الداخلي الذي يعطيها هويتها وتاريخ العلاقات فيها. وهذا التناغم الداخلي يمكن أن ندعوه بـ"السياج الوظيفي". وهكذا، يكمن الفارق بين تفاعل المنظومات فيما بينها وفقًا للمنظور القديم وبين تفاعلها وفق منظور الانتظام الذاتي في أن التفاعل القديم كان يتم فقط عبر نقل المعلومات نقلاً آليًّا، مهما بدا ذلك غنيًّا، في حين أنه يتم، وفقًا للمنظور الجديد، عبر التفاعل أو التزاوج بالتناغم ما بين المنظومات – وهو ما يُسمَّى بـ"التزاوج بالأسيجة".

فإذا أخذنا منظومة ذاتية الانتظام، يمكننا التساؤل: هل إن سلوك هذه المنظومة سيبقى هو نفسه إذا تعرضتْ لتشوُّش في أحد مُعامِلاتها بمقدار طفيف؟ إن الجواب شديد التعقيد، لأن مجموعة التفرعات الناشئة ستكون غنية جدًّا؛ وهي، في كثير من الأحيان، لا يمكن أن تُحصَر وفقًا لطريقتنا القديمة في دراسة تطور أية منظومة. فنحن هنا، إذن، أمام شكل جديد، مختلف تمامًا، من فهم عالمنا ووجودنا فيه. بل يمكن لبعض هذه التفرعات أن تتخذ أدوارًا لانهائية، بحيث لا تتكرر، وتصبح مماثلة تمامًا للضجيج أو للشواش. وهذا يعني أن منظومة ذات واحدات ذاتية، محدَّدة تمامًا بسياج أو بتناغم ديناميٍّ بسيط جدًّا، يمكن أن تصبح بسهولة معقدة جدًّا – "التعقيد" بمعنى الغنى والتنوع. وهذا يعني أن كلَّ سلوك منتظم ذاتيًّا يولد من تناغم داخلي لمنظومة مغلقة عملياتيًّا. وهكذا تبدو المنظومة الذاتية عائمة على الشواش: فهي تتغذى عليه وتهضمه لإنتاج النظام.

يمكننا أن نأخذ تطور الكائنات الحية كمثال: فالتزاوج بالمعلومات فقط يكافئ اعتبار المحيط، والتغيرات المورِّثية الناجمة عن الاحتكاك به، الموجِّه الأول الذي يسمح بفهم ديناميَّة التحولات من جيل إلى جيل، الأمر الذي يُظهِرها كصفوف منتظمة، حيث يكون الاصطفاء الطبيعي نموذجًا خوارزميًّا أمثليًّا لهذه العملية. أما "المزاوجة بالأسيجة" – أي بالتناغم الداخلي – فتكافئ اعتبار أن مختلف أنماط التجانس الداخلي لمجموعة حيوانية هي الموجِّه الذي يسمح بفهم التحولات المورِّثية لدى أنسالها. ويؤدي هذا إلى ظهور التنوع الهائل في الطبيعة – على العكس تمامًا من أمثلية الاصطفاء الطبيعي، التي لا تفسِّر تنوع الأحياء بحق.

إن فكرة "الاصطفاء الطبيعي" تهيمن على العلم منذ أكثر من نصف قرن. ومع ذلك، فإن علوم الانتظام الذاتي تطرح رؤيا جديدة عوضًا عنها: فالتأقلم الطبيعي، الذي أكسَبَ الأسماكَ زعانفَها، مثلاً، يجب ألا يُنسينا الجانب الأهم من ناحية فسيولوجيا المتعضِّية ونموَّها. فالواحدة لا تعمل كمجموعة من الصفات، بل ككلٍّ متجانس. إن موضع عضو في جنين غير متمايز لا يمكن أن يُفهَم انطلاقًا من تقدير ما سيؤول إليه مستقبلاً، بل يجب فهمه، على العكس، كنتيجة للاستقلالية المتبادلة والتعريف المتبادل داخليًّا لكلِّ ما يوجد في كلِّ نقطة من نقاط المتعضِّية. ويشبه ذلك كثيرًا رؤية شِلدريك لظهور الأشكال والأنماط وانتقالها. وعلى هذا الأساس، يرى شيرلاشِر Scheirlacher أن الأشكال المعقدة والجميلة للقواقع، مثلاً، تفسَّر كنتائج متبدِّلة لنمط ثابت من النموِّ البنائي الذي يعتمد مبدأ "الجهد الأقل"، وأن هذا التنوع في الأشكال المختلفة لا يتعلق، لا من قريب ولا من بعيد، بما يُدعى الاصطفاء أو حتى التأقلم مع الطبيعة.

ويمكن تلخيص آلية الانتظام الذاتي، التي تطرح فهمًا جديدًا لمنهجية تَعامُلنا مع الطبيعة ووعينا لها، كما يلي: الانتظام الذاتي هو سلوك مميِّز للواحدات الذاتية. ويمكن وصف "واحدة ذاتية" بالمرور من وجهة نظر التزاوج بالتناغم الداخلي الذي يظهر كجِدَّة غير متوقعة وكتأكيد للذاتية – وباختصار، كسلوك لواحدة ذاتية الانتظام.

***

إن الغنى المورِّثي يأتي من التنوع. ولا شكَّ أن ذلك يتجاوز مجال البيولوجيا. وهذا يعني أن "الاعتراف بالآخر" أمر على غاية من الأهمية بالنسبة لنا، ليس من باب أخلاقي أو بسبب كرم فجائي، بل لأن المعرفة العلمية اليوم تعلِّمنا هذا الدرس في أبهى صوره. فأية هدية أحلى يمكن للعلم أن يقدِّمها لنا أكثر من كونه يعزِّز تفرُّدنا وأصالتنا؟! تلكم ليست دعوة لإلغاء التعارُضات أو للرضوخ لها، بل لتحويلها إلى تناغمات داخلية على مستويات حياتنا كافة. وقد يكون ذلك هو الحلُّ الأصيل والوحيد الذي يمكن أن نواجِه به ما نلحظه اليوم من تقييم للثقافات وطرح ثقافة وحيدة كضرورة للاستمرار والبقاء.

ومن المفيد أن ننتبه إلى أن هذا الحلَّ الماثل أمامنا في الحفاظ على التنوع يأتينا من العلم حصرًا، ومن الثقافة الغربية تحديدًا. ومن المهم أن نشير أيضًا إلى أن العلم معنيٌّ بهذا الحلِّ قبل أية منظومة أخرى. ونحن نلاحظ، منذ الآن، أن صيرورة المنهج العلمي بدأتْ تتخذ هذا الاتجاه الجديد، حيث التنوع العلمي تعبير عن صيرورة التنوع الطبيعي. ويمكننا القول، أخيرًا، إن هذا العلم الجديد القادم يعلن، بثقة وبجرأة، أن أية منظومة معرفية ليست نهائية، بوصفها منظومة مؤثِّرة ومتأثِّرة بصيرورة التطور الطبيعي.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود