|
أين أصبح علم النفس في
عصرنا؟ علاجات
تتفاوت مُدَدُها وتتكامل لتحرير الفرد من
عوارضه العُصابية أصدرتْ
مجلة Psychologies
الفرنسية الشهرية عددًا مميزًا وخاصًّا بعلم
النفس، يتناول العوامل التي تدعو الإنسان إلى
اللجوء إلى المعالجات النفسية، وكيفية تلك
المعالجات، الموزعة بين القصيرة الأمَد
والمتوسطة والطويلة، والتي تصل إلى خمسين
وسيلة مستقلة بعضها عن البعض الآخر، وتتداخل
أحيانًا فيما بينها، لتتكامل وتلملم شتات
الإنسان حول ذاته. أن نفهم أسباب مشاكلنا النفسية
المنعكسة على صحة أجسامنا، أن نعالجها
ونتصالح مع ذواتنا والحياة، لنكمل الاكتشاف
ونسبغ عليه المعنى – ذاك هو المسار الذي لا
يخلو من الألم والأمل عند كلِّ منعطف من
منعطفات الروح.
تسيغموند
فرويد (1856-1939)، أبو التحليل النفسي في الستينات، كان العلاج
النفسي يعني المعالجة بالتحليل النفسي Psychanalyse؛ وكانت مرحلة المعالجة النفسية العائلية
والمقاربة المسلكية في طريقها إلى التطور.
واليوم تتوافر التقنيات التي تهتم بتفتح
الفرد انطلاقًا من مبدأ حقِّه بحياة أكثر
انسجامًا وانشراحًا، ومعالجة مشاكله النفسية
والنفسجسمية psychosomatiques على السواء، مقدِّمة إليه رؤية
مختلفة لآلامه، تحرِّره من سجنه الداخلي
وتشرِّع أمامه آفاقًا جديدة. بين العلاجات النفسية
المطروحة، كيف نحدِّد اختيارنا؟ – هذا إذا
كانت الخيارات العديدة متوافرة كما في بلدان
الغرب! في البلدان العربية يختلف الموضوع
كليًّا لأن مبدأ اللجوء إلى المعالجة النفسية
عبر طبيب أو معالِج يخضع للتردُّد، أو يصطدم
برفض مبرم، أو يُغلَّف بسرية تامة. عالِم النفس psychologue هو الشخص الجدير بتوجيه الراغب في
المعالجة النفسية وإرشاده إلى الطريقة
المثلى، إنْ بواسطة الطبيب النفسي أو عبر
معالجة أخرى، متوسطة أو قصيرة الأمَد، تبعًا
للمشكلة التي يواجهها ولمعطياته الشخصية
والاجتماعية. فالعلاج بالتحليل النفسي
يستلزم نَفَسًا طويلاً، لثلاث سنين على
الأقل، يتم إبانها الغوص في اللاوعي لمدة قد
تصل إلى عشر سنين أو أكثر. ولا يضع هذا العلاج
في أولوياته تخفيف الألم، بل مصالحة صاحبه
مع حقيقته العميقة: الفهم أولاً، والتغيير
لاحقًا – إذا أمْكن! أما المعالجات غير
التحليلية فتضع نصب عينيها شفاء الفرد وفسح
المجال له لحياة أفضل: التغيير أولاً، والفهم
إذا أمْكن. وإذا كان التحليل النفسي يولي
ماضي الفرد أهمية أساسية، فالعلاجات النفسية
الأخرى تشدِّد على الحاضر والمستقبل، من دون
أن تتجاهل الماضي، الذي يظل شديد الحضور في
التجربة الإنسانية، وتحاول، في المقابل، أن
تعالج انعكاساته السلبية عليها. يوصَف العلاج السريع أو
المختصر جدًّا، الذي تتراوح مدته بين شهر
وثلاث سنين، حين تكون المشكلة معروفة ومحددة
في دقة، كالتدخين، مثلاً، ورغبة المدخن في
الإقلاع عنه. أما العلاج المتوسط المدة فيوصف
في مرحلة الأزمة الحادة، كالصعوبات
العلائقية (الزوجية، الجنسية، المهنية...)، أو
في الاضطرابات التي تظهر آثارها على الجسم
فتعوقه، أو لدى إبداء رغبة حقيقية في التغيير.
كما يلجأ البعض إلى التحليل النفسي الطويل
الأمَد من غير أسباب مؤلمة ظاهرة على السطح،
بل في سبيل معرفة الذات والطريقة التي
تتجذَّر فيها الآلام المكبوتة ضمن المسألة
الشخصية. لا تتعارض العلاجات الطويلة
والقصيرة فيما بينها، بل تتكامل أحيانًا
كثيرة بحسب ظرف الشخص الذي يلجأ إليها ونضجه
واستعداده لها. ثمة وقت للشعور بالذات، ووقت
للتغيير، وآخر نتعلَّم فيه العيش الأفضل.
جميعنا معرَّضون بالتأكيد لمراحل صعبة في
حياتنا. وحتى ننجح في اجتيازها، ينبغي لنا أن
نضمِّد جروح ماضينا، ليس بالضرورة من خلال
معالجة نفسية طويلة قد تمتد سنين، إنما عبر
معرفتنا الصائبة للعلاج الملائم لنا اليوم. تستقطب العلاجات السلوكية
والإدراكية cognitives في فرنسا الكثير من الراغبين في حلِّ
مشاكل معينة ومحددة. والعلاجات هذه لا تهتم
بقصة الفرد، ولا بطفولته، بل بالقسم السطحي
الظاهر من جبل الجليد، القسم الذي يعوق ويؤلم.
وهي تستخدم تقنيات استرخائية كي تخفض
تدريجيًّا المخاوف والرُّهاب والوساوس،
وتعيد صاحبها إلى الحياة السوية. كما تعمل
العلاجات الإدراكية على الأفكار والآراء
والمعتقدات المغلوطة والسلبية التي لدى
الفرد حيال نفسه ومحيطه، فتستبدل بها أخرى
إيجابية تعزِّز تقدير صاحبها لنفسه وتحفزه
على القيام بمبادرات إيجابية. الصوفرولوجيا Sophrologie علاج نفسي قصير، يسعى في توحيد
الجسم والفكر، بغية الوصول إلى انسجام الوعي
من خلال تقوية الصور الفكرية وتحفيز الخيال.
وهو علم يدرس الوعي الإنساني؛ كما أنه فلسفة
إنسانية ومجموعة أساليب تدريبية تستعمل
الاسترخاء، وتستوحي من التنويم المغناطيسي (وهو
علاج نفسي فاعل) بعض تقنياته؛ إذ تُبقي النشاط
الواعي للفرد عند حدود التنويم: إغماض
الجفنين، التحكم في النفس، والتركيز على كلِّ
قسم من أقسام الجسم، يَصِلُ الفردَ سريعًا
بعالمه الداخلي. أن يعيش جسمانيته "هنا
والآن" على هذا النحو أمر يفتح أمامه باب
وعيه، فيستعيد الفرد توازنه المفقود.
الطبيب
الإسباني ألفونثو كاثيدو، مؤسِّس
الصوفرولوجيا لا تقترح الصوفرولوجيا، مثل
تأمل زِنْ Zen،
على ممارِسها أن يعمل على الفراغ، بل على
العكس أن يسكن في مستوى الوعي المطوَّر، وأن
يزوِّده محتوًى إيجابيًّا يحارب به
الطفيليات السلبية التي تنخر أفكاره، وتؤثر
على تصرفاته وإحساسه حيال الآخرين، فتقتات من
حيويته، وتمنعه من تطوير شخصيته. تلائم هذه
المعالجة كلَّ الأعمار، وتساعد على استعادة
التوازن، كما تزيل الاضطرابات الناجمة عن
الأرق والقلق والخجل وضعف الثقة بالنفس
والتشنجات العضلية اللاإرادية، على غرار ما
يفعل اليوغا – وهي تستوحي منه الكثير. وعلى عكس العلاجات المعتمدة
على التبادل الكلامي، نشأت علاجات تعتبر
الجسم الإنساني ولغته مدخلاً إلى الشعور
بالامتلاء. وهي تندرج أيضًا في العلاجات
القصيرة الأمَد التي تعتمد وسائل الاسترخاء
والسيطرة على النفس لبلوغ التناغم الداخلي،
وتسمح بالسكن الأفضل إلى داخل الجسم، والتحكم
في قدرات العقل وتفريج الضغوط. وهي لا تطرح
نفسها كعلاجات شافية، بل كوسائل للتفتح
الشخصي. وتدخل في إطارها عناصر كثيرة، منها
التدليك (على اختلاف مناحيه وأصوله)، التنفس (على
اختلاف أنواعه)، الإصغاء إلى الموسيقى،
الغناء والعمل على الصوت، الذي يملك قدرة
هائلة على تهدئة الجسم وتنشيطه معًا، والذي
يتيح الاتصال مع الذات العميقة ويدعو إلى
المشاركة مع الآخر. وبالانتقال إلى العلاجات
المتوسطة الأمَد – بين ستة أشهر وثلاث سنين –
تتعدد الاختيارات؛ ونذكر منها: التحليل
التصالحي، العلاج العائلي، التمثيل النفساني
Psychodrame، الذي يستعير من المسرح اللعب
والارتجال العفوي، ومن التحليل الفرويدي
عمقه، ليستكشف استيهاماتنا ومكبوتاتنا من
دون رقابة ذاتية. كما نذكر العلاج بالفن،
وهدفه الانطلاق، في سياق إبداعي، من آلام
الفرد ونقاط عنفه وتناقضاته نحو بناء ذاته من
خلال إنتاج فني؛ والتحليل البيوطاقي Analyse bioénergétique (المتعلق بالطاقة الحيوية)، وهو علاج
يتداخل فيه الجسم والروح، ويهدف إلى استعادة
الفرد دورته الطاقية المجمدة بسبب نزاعات لم
تجد طريقها إلى الحل منذ زمن الطفولة،
فتساعده هذه الطاقة على الوصول إلى نضج
عاطفي، علائقي وجنسي.
روبرتو
أساجيولي (1888-1974)، مؤسِّس مدرسة التأليف
النفسي ومن العلاجات الأخرى، نذكر
التأليف النفسي Psychosynthèse الهادف إلى إعادة تركيب "الأنا
المثالي" الذي فينا، وإعادة التناغم في
شخصيتنا، بمختلف وجوهها، وتنشيط إرادتنا،
كما في الفرقة الأركسترالية، فيصبح الأنا
القائد المنسِّق بين الآلات المختلفة.
يُعتبَر هذا العلاج مدرسة حقيقية في علم
النفس، ذات مبادئ نظرية خاصة بها، يحدِّدها
مؤلِّفها طبيب النفس الإيطالي روبرتو
أساجيولي بـ"مفهوم تام ودينامي للكائن
البشري". تتألف الحياة النفسية، في نظره،
من روح جوهرية وخالدة ومن شخصية أساسية، لكنْ
سطحية ومتغيرة نسبيًّا. وتتكون هذه الأخيرة
من ثلاثة أقسام رئيسية: وعي الذات، الأنا،
والذات العليا. فالأكثرية تكتفي بالعيش في
حقل وعي ضيق، هو الواقع اليومي، ولا تتصل
بأجزاء النفس الأخرى. أما الأنا فيتوسط نجمة
ذات ستة شُعَب؛ شعاعاتها هي الرغبات،
الانطباعات، الأحاسيس، الخيال، الحدس،
والتفكير. تلك الوظائف الستة وقنوات التعبير
بين الواقع النفسي والعالم الحقيقي هي أدوات
الأنا التعبيرية؛ ويظهر عدم التوازن عندما لا
نستعمل منها إلا وظيفة أو اثنتين فقط.
كارل
غوستاف يونغ (1885-1961)، إمام علم النفس التحليلي أما العلاجات الطويلة الأمد
فتندرج في إطار التحليل النفسي على الطريقة
الفرويدية (فرويد) أو اليونغية (يونغ) أو
اللاكانية (لاكان)، التي تسعى في تحرير الفرد
من عوارضه العُصابية وشذوذ أطباعه
ومكبوتاته، في عمل يمتد لسنين، ويتطلَّب جرأة
كبيرة والتزامًا ومثابرة من صاحبه لمواجهة
ظلماته الداخلية، في مغامرة قد تؤلمه في بعض
مراحلها، لكنها تقوِّيه، وتساهم في تطويره
ضمن تجربته الذاتية، فيكتسب معها القدرة على
الإصغاء لذاته وللآخرين.
جاك
لاكان (1901-1981)، مؤسِّس المدرسة البنيوية في
التحليل الفرويدي "حياتكم سفر عبر الزمن. لا
نقطة وصول ولا نهاية دائمة. استفيدوا منها!
إنكم تتحركون باستمرار"، يقول الفيلسوف
فردريك هوسدون. ومن هذه السرعة لحركة الحياة
تولد الصعوبات أحيانًا، ونصطدم بالحواجز
النفسية، ونخاف على ثوابتنا التي خلناها
محصَّنة: الحب، الصداقة، الزواج، التربية،
المبادئ الأخلاقية والعلاقات الاجتماعية
والطموحات المهنية – كلها أمور معرضة
للاهتزاز إذا لم نتدرَّب على مواجهة نفوسنا
في صدق وشفافية. تلك النفوس المجهولة تستلزم
العون كلما تألمتْ في صمت ونطقت بها الأجسام. *** *** ***
|
|
|