|
سعادة الروح شذا الصوفية عشقًا
وتأملات في مفهوم البرهمنية مكان لائق
بالإنسان، لكونه ذائبًا في عصارات الطبيعة؛
علمًا أن البرهمنية لا تستسيغ تصوير الأشخاص
فنيًّا أو ذاتيًّا – وإن تكن هذه الرغبة
تتسبب بإعاقة تطور الفنِّ الحقيقي. ففي كتاب
علم الجمال الصوفي الهندي ناتيا شَسْترا،
لمؤلِّفه الحكيم الأسطوري بخارتي، إرشادات
عملية ونصائح لما يجب أن يكون عليه الشاعر
والفنان.
أسوق
هذه الإشارة كمقدمة لقراءتي مجموعة كمال
جنبلاط الشعرية الصادرة عن دار النهار في شكل
أنيق، مع تثبيت للنصَّين الأجنبي والعربي على
نحو متقابل، بترجمة جيدة أنجزها فيصل الأطرش.
وهذه المجموعة المتألِّقة صدرت من قبلُ نثرًا
بعنوان آناندا – السلام، في تعريب د. خليل
أحمد خليل ونهاد أبو عياش في العام 1989.
دخل
فيصل الأطرش نسغ جنبلاط الشعري–الجمالي من
زاوية "الموزون المقفَّى"، علمًا أن
المؤلِّف، في نصِّه الأصلي الفرنسي أو
الإنكليزي، اعتمد التقنية من باب الوزن
الإيقاعي، مما جعل المناخات الشعرية مبلَّلة
بالفكر الصوفي، ناهيك عن رومانسية محبَّبة
تميَّز بها كمال جنبلاط في كلِّ نشاطاته، حتى
السياسي منها. من
مُسْتَمْلَحات قدري أنه أتيح لي مرة الإصغاء
إلى كمال جنبلاط في حديث متنوع. بدأه سياسةً،
مرورًا بالأعشاب، انتهاءً بالشعر. وكان
جنبلاط قد أصدر يومئذٍ مجموعة شعرية باللغة
العربية، ضمَّتْ قصيدة تنبؤية، روى قصَّتها
بنفسه قائلاً: "هذه القصيدة أتتْني في
المنام موزونةً، مقفاةً، وعلى هديها الفكري.
عندما استيقظت سجَّلتُها كما هبطتْ في الحلم"
– ثم قرأها. لم تكن القصيدة من عالم
الماورائيات، ولم تكن كتابة زئبقية ملتحفة
بنوع من الضبابية؛ كما لم تكن تلك القصيدة "المُنزَلة"
صوفية بحتة، بل كانت مجرَّد موقف من الوجود
ينتهي بنوع من "فلسفة اللااكتراث". ومع
سعادة الروح يُستعاد السؤال التقليدي: هل
جنبلاط صوفي النشاط الإنساني؟ سنحاول،
بدءًا، البحث عن جنبلاط في الفكر الصوفي. ففي
القرن السادس ظهر في الهند كتاب شِلْبا
شَسْترا الذي اشتمل على إرشادات عملية
وتعليمات حول بناء القرى والمساكن والهياكل
والقصور. وجميعنا يذكر غضبة جنبلاط ضدَّ فوضى
البناء الخالي من الشاعرية، الأمر الذي
أوصلنا إلى ركاميات معمارية يتمطَّى في
داخلها السَّرْدين البشري. ومع بداية القرن
الأول الميلادي، ظهر كتاب المفكِّر خامان حول
فنِّ الشعر وأساليبه. ولا نستطيع، رغم ذلك، أن
نقرر إنْ كان كمال جنبلاط قد تأثر بهذا الكتاب
أم لم يتأثر. الواضح أن كمال جنبلاط تأثر
ماديًّا بالفكر الهندي، أو بما يُسمَّى
برهمن، أصل الكون؛ بيد أننا لا نملك دليلاً
قاطعًا على تأثُّر جنبلاط الجمالي أو الشعري،
لأن الرجل سيطر على مقدرات وملَكات عقلية
كبيرة جدًّا. الصحيح
أن جنبلاط لم يكن شاعرًا، على ما يعترف، بل
كان حاسًّا بالجمال في مختلف الأنشطة
الإنسانية. لذا نرى "شعره" مرصوصًا، واضح
الملامح، يندغم في عشقه الصوفي بلا عتمة،
علمًا بأن موضوعات شعره موزعة بين التصوف
والرومانسي التعبيري. وللمقاربة: خيَّمَ
الليل، وأنت يا
حبيبي ما أتيت. الطير
الأسود قيَّدني بمخالبه، وأنا
أنتظر صابرًا،
أنتظر، حتى
لو طال الأمد للأبد. هذا
المستوى الشعري رومانسي الهبوط، لا يتوق إلى
الصبابة الصوفية فحسب، بل إلى الاندماج
العشقي الجسدي. هذا الشعر الرومانسي الوِصالي
يتناقض مع بعض خلاصات جنبلاط الصوفية من مثل:
"مع ذلك، فمتى ينعطف الذي بي نحو الأنا
الحقيقي الأوحد؟" يلاحظ
القارئ المتأنِّي أن كثافة الحضور الصوفي في
هذه الخلاصة الاستنتاجية على شيء من الوهج
الحارق، رغم أن معظم شعر جنبلاط لا يميل إلى
الصوفية الاندغامية، بل إلى الصوفية "الأنوية":
أي رفض الاندماج لمصلحة التماهي بالذات
السياسية والفكرية والثقافية. وجنبلاط،
على عكس ما يرى مترجم شعره فيصل الأطرش، ليس
غامضًا أو يتعذَّر فهمُه من الوهلة الأولى.
شعره تأملي، عشقي، حسِّي، على شيء من الهزء
بالوجود – وهو الذي كان يردِّد شعرًا (مجموعة فرح): أعيش
أم أموت، لا
أبالي. فهذا
العمر من
نسج الخيال. قارئ
مجموعتَيْ فرح وسعادة الروح لا بدَّ
من أن يرى ذاك الخيط النوراني الذي يشكِّل
جامعًا جماليًّا مشتركًا بين هاتين
المجموعتين، بصرف النظر عن كثافة الرؤى
الاندماجية بين هذه القطعة وتلك. فالشذا
الصوفي الواضح واحدٌ في قصائده كلِّها، حتى
تلك المنغرسة في تلاشيها الذاتي. التعبيرات
الشعرية واحدة في سعادة الروح وفي فرح،
حتى إنها تتماثل على مستويات عدة. استمدَّ
جنبلاط موضوعاته من تأملية مادية، أسبغ عليها
هالاتٍ من الصوفية المحلِّية أو الذاتية. كان
طامعًا إلى لا حدود في المعرفة الجمالية، حتى
في صبوته السياسية. أخذ مفهوم برهمن ليحوِّله
إلى فلسفة ذاتية مرتبطة بحركة المجتمع،
متخِذًا موقف الناشط الاجتماعي. كان
دائم الاندفاع من المعقَّد إلى البسيط، ومن
الغنى إلى الفقر – وهو وارث الأمجاد. انعكس
ذلك كلُّه في نشاطه الثقافي العام، ساحبًا
ذلك على سياساته واجتماعياته وتأملاته. متصوف
على عشق حسِّي من طراز حقيقي. ولأنه باحث
ومنقِّب في مجال الفكر حتى نزعته الجمالية،
أضرم النار في شهوانيته الاجتماعية، ليسير
جنبلاط السياسي وجنبلاط الشاعر، معًا، في
خَطْوٍ منسَّق وسرعة متقاربة من دون طغيان. أهمية
سعادة الروح، مثل مجموعته السابقة فرح،
في تواتر تلك الأفكار الشعرية، لا في الشعر
نفسه. كمال جنبلاط مفكِّر أساسًا، حلم بصبِّ
شعره في رنين الكؤوس الجمالي. لذا كانت أشعاره
صدًى لفكره الفلسفي. *** *** *** عن
النهار، الأربعاء 10 نيسان 2002
|
|
|