|
وحدة
في التنوُّع الأصولية
كشذوذ نفسي لطالما
كانت أعمال د. أديب صعب الفلسفية تعبيرًا
بليغًا عن ارتقاء العقل نحو المنطق والرشد
وتوافقه مع الدين بمعناه الواسع والعميق. وقد
جاء كتابه الأخير وحدة في التنوع*
تتويجًا لمحصِّلة أفكاره حول الدين والفلسفة
والعلاقة العضوية بينهما. وقبل أن ندخل في
تقويم هذا الكتاب، لا بدَّ من الإشادة بأسلوب
د. صعب الأدبي، السلس والسهل، الذي يسمح
للقارئ العادي بأن يفهم مغزى أفكار الكاتب
وأبعادها. وليت الكتابات العربية في العلوم
الإنسانية تكون بهذا المستوى من العمق والدقة
وسهولة القراءة!
أما بخصوص الفحوى فليس لدي
أية ملاحظة نقدية أو تعليق حول موقفه من
التعصُّب والتشنُّج الديني، أو في تحديده
للأصولية الدينية. ولئن نَعَتَ المؤلِّف
الأصولية مرة بأنها ظاهرة "حديثة" ومرة
أخرى بأنها ظاهرة "قديمة"، ذلك لأن
الأصولية انبعثتْ من جديد كظاهرة حديثة في
الثلاثين سنة الماضية؛ إنما جذورها عميقة في
ذهنية الإنسان الممزقة باستمرار بين الميل
المفرط إلى التحجُّر والجمود والمضي على
سُنَّة الأقدمين، من ناحية، وبين التوق إلى
التغيير والارتقاء نحو حالة إنسانية أفضل،
تجمع الناس من أعراق وثقافات مختلفة، بدلاً
من أن تفرِّق، من ناحية أخرى. والحق أن
المؤلِّف يستدرك الأمر عندما يقول: "إن
الأصولية ليست حركة جديدة... والأحرى أنها اسم
جديد لنزعة قديمة جدًّا في الفكر والحياة
الدينيين." (ص 39) وفي هذا السياق، لا بدَّ من
التأمل في أنماط العيش البشرية التي تنقسم
بين بُنى نفسية وعقلية تميل إلى عدم التحرر من
التقاليد القديمة وإلى المحافظة عليها
محافظة جامدة، رافضةً التقدُّم بحجة أن
الطبيعة البشرية لا يمكن لها أن تتغير، وأن
ثبات الأنظمة الدينية والمجتمعية والثقافة
هو الذي يناسب الطبيعة البشرية، من جهة، وبين
بُنى نفسية وعقلية تميل إلى الانتفاض على
الأوضاع القائمة وعلى الجمود المجتمعي
والثقافي، من جهة أخرى. والحقيقة أن الحياة
المجتمعية ممزقة باستمرار بين هذين النمطين
المتناقضين في الرؤية إلى أمور الدين والدنيا
معًا. ومما لا شكَّ فيه أن
المجتمعات العربية والإسلامية تمرُّ بحالة
"فصامية" معقدة، نظرًا إلى تكرار الفشل
في النهضة وفي تأمين حماية الذات من
التعدِّيات الآتية من الخارج التي أصبحت تتخذ
أشكالاً عسكرية خطيرة: من حملة نابوليون
بونابارت في العام 1798، إلى غزو كلٍّ من
إنكلترا وفرنسا ديار العرب وفرض الانتداب
عليها، إلى قيام الكيان الصهيوني بالعنف وطرد
إخواننا الفلسطينيين من أراضيهم والتمادي في
اقتلاعهم مما تبقى من الأراضي الفلسطينية،
إلى الحملتين العسكريتين الأمريكيتين ضدَّ
العراق وإنشاء مستعمرة أمريكية في بلاد ما
بين النهرين. هذا الفشل المتكرر خلق
أوضاعًا نفسية شاذة: إذ نرى بعضهم يطالب بثورة
شاملة على الأوضاع الراهنة؛ إنما تتم هذه
الدعوة تحت رايات أصوليات دينية إسلامية لا
تواكب العصر، بل تكتفي بالردِّ على الأصولية
الصهيونية، وكذلك على الأصولية الأمريكية،
التي تمتاز أيضًا بملامح قوية للأصولية
الدينية البروتستانتية، بينما الفئات الأخرى
من المجتمع، خاصة تلك التي تكيَّفتْ مع
الحداثة وأنماطها الثقافية والقيمية، لا
تطوِّر أيَّ برنامج مقنع لتغيير الأوضاع
الراهنة المأسوية في المجتمعات العربية. فكيف
يمكن للثورة على الأوضاع العربية المتردِّية
أن تتمَّ على أساس برنامج أصولي ديني؟ – هذا
مع التسليم بأن حركات المقاومة المسلَّحة
المنتمية إلى تيارات أصولية قدَّمتْ العديد
من التضحيات وحقَّقتْ مكاسب جليلة في لبنان،
وهي تجسِّد في فلسطين طموحات شعبية في الصمود
أمام آلة الإجرام الصهيوني؛ بينما التنظيمات
السياسية أو العسكرية التي استولت على الحكم
في بعض الدول العربية الإسلامية بحجَّة إرساء
دولة دينية قد فشلت فشلاً ذريعًا في تحقيق
دولة العدل والرخاء التي يتوق إليها الإنسان.
فهذه مفارقة كبيرة حَرِيَّة بالدراسة. لعلَّه هنا تظهر التساؤلات
عند قراءة كتاب وحدة في التنوع حول إمكان
تطبيق نظرة أديب صعب على الأوضاع العربية
بشكل خاص، وربما على هذه المجابهة المريضة
نفسيًّا بين غرب يصف نفسه بأنه يهودي–مسيحي،
وله قيمه الخاصة، وشرق مسلم له خصوصياته
أيضًا، ولا يمكن لهما، في نظر الكثيرين، أن
يلتقيا. د. صعب له نظرة عقلانية رائعة إلى
الظاهرة الدينية في الحياة البشرية، مع
إصراره الواضح على ضرورة التسليم بوجود
الله لكي يعطي الحياة والكون معنى ومغزى.
لكن تحالُف الأصوليين من كلِّ الأديان في
النظر إلى انقسام البشرية بين مؤمن وكافر يقف
سدًّا منيعًا أمام تطبيق الأفكار النيِّرة
الكائنة في كلِّ صفحة من صفحات هذا الكتاب. صحيح أن الكاتب يفنِّد
ببراعة شاملة ما يشوب موقف الأصوليين من
تشنُّج وتعصُّب، مخالفين بذلك روح التعاليم
الدينية نفسها، لكن لا بدَّ من الاعتراف
بأننا نعيش في زمن رديء، حيث الأصوليات من
كلِّ الأنواع هي التي تسود على الساحة
الفكرية العالمية، بما فيها أصولية
الرأسمالية الليبرالية الجديدة تحت تسمية
"العولمة"؛ وهي تتزاوج تزاوجًا وثيقًا
مع صعود الأصوليات الدينية والعرقية
والمذهبية في كلِّ أنحاء العالم. ويمكن
للقارئ الشكَّاك أن يقول بفجاجة إن مواقف
المؤلِّف العقلانية والتنويرية لا تتلاءم
وشراسة الطبيعة البشرية وتعقيداتها النفسية
وعدوانية الإنسان التي تتجسد، منذ أقدم
الأزمنة، في الحروب المتوالية، بأية حجة
كانت، دينية أم غير دينية. والحقيقة أن ما
نشهده على الساحتين اللبنانية والعربية من
استنفار للمشاعر المذهبية والطائفية
والعشائرية، ومن تقوقع حول بعض الشعارات
الأصولية الطابع، لا يشجِّع على التفاؤل
بقبول هذه الأفكار النيِّرة التي يمتاز بها
كتاب أديب صعب ورواجها. والنظرة المثالية عند
المؤلَّف تظهر أيضًا فيما يقوله حول الدولة
ووظيفتها في الفصل الرابع من كتابه، حيث يدعو
إلى أن تكون الدولة "مثال الوحدة في
التعدد، وتكون آلة إدارية لا داعية عقيدة،
وأقرب إلى جوهر الدين من النظام الذي يعلن أحد
الأديان دينًا للدولة" (ص 43). هذا الكلام
جميل، إنما يخالف طبيعة الدولة في كلِّ
الأزمنة والأنظمة، حتى الأكثر ليبرالية، حيث
إن الدولة تجسِّد في استمرار نوعًا من
القدسية، أو بالأحرى "الحرمة"، التي لا
بدَّ منها لفرض هيبتها. بل أكثر من ذلك: فقد
علَّمنا التاريخ الحديث، منذ عصر الأنوار
الأوروبية، أن الميل إلى تطوير أنظمة عالمية
وجامعة يمكن أن يتحول أيضًا إلى نزعة قمعية
وأصولية. وربما لا يوجد مثال على ذلك أفصح من
سياسات الاتحاد السوفييتي السابقة والسياسات
الاستعمارية الأمريكية الحالية التي تتستَّر
وراء المبادئ الإنسانوية لفلسفة الأنوار،
لتفرض إرادتها ومصالحها على سائر الأمم،
وبشكل خاص على المجتمعات العربية، بالقوة
والقهر. لكن هذا كلَّه ليس سببًا
وجيهًا لعدم خوض النضال الفكري الذي يخوضه
المؤلِّف بكل جرأة؛ بل على العكس، علينا أن
نهتم بنشر أفكار هذا الكتاب، ونسجِّله في
لائحة المراجع التي نعطيها لطلابنا في
الجامعة، وأن نغْني الحوار حول الأفكار
الكائنة فيه. ولا بدَّ في هذا المضمار من
مناقشات مستفيضة حول نظرة المؤلِّف إلى
الظاهرة الدينية وتاريخ الأديان المقارن وما
يسمِّيه فلسفة الدين. وأرى، بشكل خاص، ضرورة
التعمق في الفرق بين وجود الله وتوق
الإنسان إلى بُعد ماورائي في حياته، من
ناحية، وبين الدين المؤسَّسي، أي بنية
المؤسَّسات الدينية التي تتفرع عن رسالة
دينية معينة (أكانت إسلامية أم مسيحية أم
يهودية أم بوذية أم هندوسية إلخ)، لتنظيم حياة
البشر وأخلاقهم، ولكنها ليست جزءًا من
الرابط المقدَّس بين الإنسان والإله، من
ناحية ثانية. ومما لا شكَّ فيه أن معظم
الديانات المؤسَّسية، وبشكل خاص الديانات
المؤسَّسية التوحيدية الثلاث (اليهودية –
المسيحية – الإسلامية)، نسجت على مرِّ العصور
قواعد معقدة وغير ليِّنة لتنظيم كلٍّ من
علاقة الإنسان بإلهه وعلاقته بمؤمنين من
الديانة نفسها وبمؤمنين من ديانات أخرى أو
بالملحدين. لقد وقفتْ المؤسَّسات
الدينية، في معظم الأوضاع التاريخية التي
مرَّتْ بها المجتمعات، حاجزًا أمام التطور
الطبيعي، وذلك بعد انقضاء فترة تحرُّر
الإنسان من وطأة أوضاع سابقة جامدة بفعل قوة
الرسالة الدينية الجديدة. وكما هو معلوم، فإن
جميع الأصوليات الدينية والثقافية ترفض
رفضًا باتًّا النظر إلى الظاهرة الدينية
كظاهرة مجتمعية، تمرُّ بمراحل مختلفة
وتتطور وتتقدم أو تتقهقر وتتخلَّف حسب أهواء
الناس والمجتمعات، وليس حسب مشيئة خالق الكون.
فالخالق أوْجَدَ الانتظام في الكون المادي،
لكنه استثنى مخلوقاتِه البشرية التي منحها
الحرية والتعددية والأهواء المختلفة، الأمر
الذي يعطي الإنسان قيمة خاصة في الكون. هذه كلُّها أمور خطيرة
وكبيرة لا تناقَش بالعمق في عالمنا العربي،
الذي يبقى في دائرة مناقشة القشور في أمور
الإنسان العربي، لا اللب منها. من هنا أهمية
أعمال أديب صعب، التي تندرج في سياق الأعمال
الفكرية لسلسلة من روَّاد النهضة العربية
التي طُمِسَتْ في العقود الماضية لأن
الصحواتِ الأصوليةَ الدينيةَ الطابع هي التي
اكتسحت الشرق الأوسط بعد فشل الفكر القومي
والأداء السيِّئ للأنظمة السياسية العربية
الرافعة لواء القومية العربية. ولا بدَّ من ملاحظة أخيرة
تتعلق بمفهوم "التسامح" tolerance
عند المؤلِّف، الذي يستعمل هذه المقولة كبديل
للتعبير عن موقف القبول لتعددية الآراء كمصدر
إغناء، بينما يدلُّ مفهوم التسامح، في
اللغة الأجنبية أو العربية، على أن التسامح
هو قبول رأي الآخر على مَضَض قبولاً
استنسابيًّا قابلاً للزوال في أية لحظة. لكن
المقصود عند المؤلِّف بكلمة "تسامح" هو
القبول المبدئي، الشخصي والمؤسَّسي،
برأي الآخرين والتفاعل معه لبناء مجتمع أفضل.
وهذا ما يسمِّيه التسامح "الحقيقي" (ص 35).
لكن هذه العبارة لا تعطي المدلول الذي يعتمده
المؤلِّف، لأن التسامح مجرد تسامح، أكان
سطحيًّا ظرفيًّا أو "حقيقيًّا". وفي هذا
السياق، أفضِّل استعمال كلمة "علمانية" laïcité،
التي لها، سواء في اللغة الأجنبية أو اللغة
العربية، مدلول أكبر بكثير من مقولة التسامح
للتعبير عن القبول الشخصي والمؤسَّسي
لتعددية الآراء. وقد دعوت في كتابي الأخير شرق
وغرب: الشرخ الأسطوري**
إلى "علمنة" مفهوم العلمانية، بمعنى
إخراج هذه المقولة من مدلولها السياسي
الضيِّق، المتعلق بتاريخ علاقة المسيحية
بالأنظمة السياسية الأوروبية، لجعله قابلاً
للانتشار دوليًّا، ولاعتماده في كلِّ
الأنظمة الدستورية والسياسية، بغضِّ النظر
عن الهوية الدينية للشعوب المعنية.
وفي الختام، لا بدَّ من شكر
أديب صعب على جهوده الفكرية في مجال الدين
والفلسفة – وهو مجال حساس للغاية، يبتعد عنه
غالبية المفكرين العرب خشية تعرُّضهم إلى
النقد الجارح أو التكفير أو الاتهام بالإلحاد.
لذلك أحيِّي هذه الجهود، وأتمنَّى للمؤلِّف
مزيدًا من العطاء الفكري النيِّر. ***
*** *** عن
النهار، الأربعاء 28 نيسان 2004 *
أديب صعب، وحدة في التنوُّع: مَحاور
وحِوارات في الفكر الديني، دار النهار،
بيروت، 2003. **
جورج قرم، شرق وغرب: الشرخ الأسطوري،
بترجمة ماري طوق، دار الساقي، لندن، 2003.
|
|
|