|
الانقلاب
الحتمي[1]
ليف
تولستوي
«ملكوت
الله في داخلكم، ويُؤخَذ بالجهاد.»
الإنجيل
«أصمُّ
الناس هم أولئك الذين يرفضون الإصغاء.»
مثل
فرنسي
1 أعلم بأن كثيرًا من الناس –
وخصوصًا أولئك الذين يُدْعَوْن بالمتعلِّمين
– حين يرون مقالتي هذه، ويدركون فحوى الحديث،
سيهزُّون أكتافهم فحسب؛ سيبتسمون ساخرين ولن
يكملوا القراءة. سيقولون: كلُّ هذا قديم. "اللامقاومة"؟!
كيف لا يشعره هذا بالملل؟ أعلم بأن هذا ما سيكون،
أولاً، بالنسبة لمن يُسمَّوْن بالعلماء
الذين لا تتلاءم أقوالي مع معارفهم؛ وثانيًا،
للناس المولعين بالأنشطة الثورية والسلطوية،
الذين ستسبِّب مخطوطتي هذه معضلةً لهم: إما
الاعتراف بسخف ما فعلوه ويفعلونه لسنوات –
ذلك الأمر الذي ضحَّوا من أجله بكلِّ هؤلاء
البشر – أو بسخف ما أقول. وسيحدث الأمر ذاته
بالنسبة لمن يدعونهم بالمتعلِّمين الذين
اعتادوا، في أهم مسائل الحياة، ألا يفكروا
بعقولهم، وإنما أن يستسيغوا الآراء التي
تعترف بها الأكثرية في محيطهم لتوطيد مكانتهم.
لكنني أعلم بأن الناس الذين يفكرون ذاتيًّا،
وكذلك أكثر الكادحين، الذين لم يفسدهم ركام
المعرفة الكاذب، والذي يُسمَّى في وقتنا
الراهن بالعلم، سيتفقون معي. أعرف هذا، لأنه في وقتنا
الحالي، كما بالنسبة للناس الذين يفكرون
ذاتيًّا، كذلك في نظر أكثر العمال الكادحين،
أمست عبثية الآلام، الحمقاء واللاأخلاقية،
التي يسببونها لأنفسهم، أكثر وضوحًا. هؤلاء
وأولئك لا يمكنهم، في وقتنا الراهن، عدم
الإقرار، أخيرًا، بتلك الحقيقة البسيطة
والقاطعة، بأنه من أجل تحسين الحياة يلزم
أمرٌ واحد فقط: التوقف عن فعل ما يسبب هذه
الآلام. تبدو الظروف الخارجية التي
تعيشها البشرية، الآن، كفيلة بإيصالها إلى
أعلى مستويات الرخاء. فالأراضي المناسبة
للزراعة التي في متناول الناس هي من
الاتِّساع بحيث إن في مقدور الناس كافة
استخدامها بوفرة لشتى مناحي الحياة. وسائل
نقل الأفكار والمواصلات (الطباعة، البريد،
البرق، السكك الحديدية، المحركات البخارية
والكهربائية، الطائرات، وغيرها)، أي تلك
الأدوات التي يحتاجها الناس أكثر من أيِّ شيء
آخر، والتي هي وسائل مساعدة لأجل خير الناس
وتؤدي إلى مرتبة عالية من الكمال، باتت
متوفرة. لقد تمَّ ابتكار وسائل مصارعة
الطبيعة، وتخفيف عبء العمل، بشكل يبدو فيه أن
في مقدور كلِّ الناس أن يحصلوا على ما يرضيهم
تمامًا، بعيدًا عن ضغط العمل الذي يحرم من وقت
الفراغ ويدمِّر الصحة. كلُّ شيء متوفر لكي
ينتفع الناس أكثر. وبدلاً من ذلك، فإن بشر
زماننا يعانون، ويتعذَّبون جسديًّا
وروحيًّا، كما لم يعانوا ويتعذبوا من قبل؛
وهذه المعاناة والآلام تزداد عامًا بعد عام.
سيقولون إن المعاناة من طبيعة البشر عمومًا.
نعم, المعاناة أمر طبيعي, وإنما ليس ذلك النوع
من المعاناة التي يعانيها الناس في عالمنا
الآن. المعاناة التي هي من طبيعة الحياة
البشرية خارجيةٌ: أنواع الأمراض كلِّها,
الفيضانات, الحرائق, الزلازل, الجفاف. طبيعية
كذلك هي المعاناة العرضية, المؤقتة, بسبب
الحروب أو جور بعض الحكام؛ وإنما ليست تلك
المعاناة التي يعاني منها كلُّ الناس
باستمرار الآن. الجميع يعاني: أولئك الذين
يتسلَّطون على الآخرين, سواء بالقوة المباشرة
أو بواسطة الثروة؛ وكذلك أولئك الذين يكابدون,
بكراهية لا تتوقف, استعباد المتسلِّطين
والمترفين. والكلُّ يعاني، ليس لأسباب خارجية,
ليس بسبب الزلازل والفيضانات, وليس من
النيرونات, والإيفانات,[2]
والجنكيز خانات، وغيرهم, وإنما يعانون من
جرَّاء بعضهم بعضًا. الجميع يعانون لكونهم
منقسمين إلى معسكرين عدوين لا يطيق واحدهما
الآخر: فريق يعاني من الاستعباد والكراهية
تجاه الذين يتسلَّطون عليهم, وفريق آخر بسبب
الخوف, وكذلك من مشاعر الاحتقار الخبيثة تجاه
أولئك الخاضعين لسلطانهم. هؤلاء وأولئك
يعانون بسبب معرفتهم هشاشةَ وضعهم, بسبب ذلك
الصراع الأصم المستمر البالغ الضراوة,
والمندلع لآماد طويلة, بين معسكرين يكره
واخدهما الآخر. يعانون خاصة – وبقسوة شديدة –
بسبب أن كلا الطرفين يعرفان، في أعماق نفسهما,
بأن سبب هذه المعاناة يكمن في داخلهما, وأن
بإمكان الجميع التخلص من الألم الذي ينزلونه
بأنفسهم؛ لكن يبدو أنهم غير قادرين على
القيام بذلك, باعتقادهم أنهم ليسوا المذنبين,
بل أعداؤهم؛ ولهذا فإنهم يهاجمون بعضهم بعضًا
بحقد شديد, وبذلك يجعلون وضعهم أكثر سوءًا. وهكذا فإن سبب
بؤس حال البشر الآن هو سبب خاص تمامًا,
استثنائي, يَسِمُ زمانَنا فقط. 2 منذ ذلك الحين الذي عرفنا
فيه الحياة الجماعية للبشر, نعرف بأنهم
اتحدوا فيما بينهم دائمًا. فعدا الروابط
الأسرية, القبلية, التبادلية, التجارية, كذلك
خضوع الأغلبية لمتسلِّط أو أكثر. هذا النوع من
خضوع بعض الناس للآخرين, الأكثرية للأقلية, هي
صفة عامة لكلِّ الشعوب. كان الأمر هكذا منذ
زمن بعيد, بحيث إن كلَّ الناس, سواء أولئك
الذين تسلَّطوا على الآخرين أو أولئك الذين
خضعوا لهم, اعتبروا أن نظام الحياة هذا حتمي,
وطبيعي, وهو الوحيد الممكن من أجل المجتمع
الإنساني. هكذا كان نظام الحياة
المتأسِّس على القسر. ولقد عاشت البشرية
قرونًا على هذا المنوال. هكذا كان في الهند,
وفي الصين؛ هكذا كان في اليونان، وروما,
وأوروبا القرون الوسطى. وبالتالي, لم يتعارض
هذا الأمر مع وعي البشرية في زماننا, ولازال
مستمرًا بالنسبة لأكثر الناس الآن أيضًا. لم تدلِّل المسيحية على أن
المحبة هي وسيلة تعامل الناس التي تمنحهم
الخير فحسب, بل وعلى أنها القانون الأسمى في
حياة البشر. ولهذا فإن قانون المحبة لا يتوافق
مع القانون السابق, المبني على القهر كنظام
للحياة. تكمن أهمية المسيحية
وخصوصيتها عن كلِّ التعاليم التي سبقتها,
الداعية إلى المحبة, في كونها, بإعلانها
المحبة قانونًا أسمى للحياة – الذي لم يستثنِ
شيئًا والذي يجب أن يتحقق – أشارت، كذلك، إلى
الارتدادات المعتادة عن قانون المحبة, التي
على الرغم من اعترافها بحسنات المحبة, فقد
قبلت بنظام الحياة السابق, القائم على سلطة
المتسلِّطين المدعومة بالعنف. في نظام الحياة
السابق, كان لابدَّ من العنف, المتضمن في ذاته
القتلَ دفاعًا عن النفس, عن الأقارب أو الوطن,
أو الممارَس عبر إنزال العقوبات بالمجرمين،
إلخ, من أجل تأمين شروط الحياة الجماعية. أما
المسيحية فإنها، بوضعها للمحبة كأسمى قانون
للحياة – وهي التي تقرُّ بضرورة مجازاة الشر
بالخير – لم يعد بإمكانها قبول ظلم الإنسان
للإنسان، بأيِّ حال من الأحوال, الذي ينتهي
دائمًا, في مظهره الأخير, إلى القتل حين يتطلب
الأمر. وهكذا فإن المسيحية، في حقيقتها,
باعترافها بالمحبة قانونًا أساسيًّا للحياة,
ألغت, بشكل واضح تمامًا, ذلك العنف الكامن في
أسس نظام الحياة السابق بكلِّيته. هكذا كان معنى المسيحية,
وسيبقى. لكن المؤمنين بالمسيحية, ممَّن عاشوا
قرونًا بموجب نظام الحكومات المعقد, المبني
على العنف, آمنوا، دون أن يفهموا معنى
المسيحية بتاتًا؛ هذا من جهة. ومن جهة أخرى,
فهموا؛ ولكنهم, في محاولتهم لإخفاء الحقائق
عن أنفسهم وعن الآخرين, أخذوا منها وحسب ما لا
يتعارض مع مخزون حياتهم. عاش الناس خاضعين للعنف,
وممارسين له, على الرغم من إيمانهم بتعاليم
المحبة المناقِضة للعنف بشكلٍ جليٍّ. عاش هذا
التناقض الداخلي في العالم المسيحي دائمًا؛
وبالتناسب مع التطور العقلي للبشر, أصبح هذا
التناقض أشد وضوحًا. 3 «إذا
كان ممكنًا إخضاع الناس بالقوة, فالعدالة لا
تقتضي, على الإطلاق, جواز إخضاع الناس بالقوة
لكي تعمَّ العدالة.»
باسكال
«إن
إحقاق العدالة بالإكراه, يمنع الناس، قبل كل
شيء, عن إمكانية العيش بعدالة دونما إكراه.»
لقد استوعب الناس قانون
المحبة, الذي يجب أن يحلَّ محلَّ العنف أكثر
فأكثر، ومع ذلك يستمرون في الحياة وفق الأسس
السابقة. دامت الحال على هذا المنوال
قرونًا. لكن حان وقت إدراك حقيقة أن المحبة هي
أسمى قانون للحياة الإنسانية. ولهذا فلا يمكن
للعنف، الذي لا يتعايش مع المحبة, أن يكون
القانون الأعلى للحياة. هذه الحقيقة تُعَدُّ
سمة من سمات الطبيعة الروحية للإنسان, وهي
تتجلَّى, بشكل أو بآخر، في تعاليم كلِّ
الأديان, وواضحة, بشكل خاص في المسيحية،
ويعيها الناس شيئًا فشيئًا, بغضِّ النظر عن
كلِّ جهود المتسلِّطين ومساعديهم؛ ولقد
أصبحت في وقتنا الراهن, بهذه الدرجة أو تلك, من
استحقاق أكثر الناس. وكما أنه لا يمكن إطفاء
النار برمي نشارة الخشب فيها, كذلك لم يعد
ممكنًا تغييب الحقيقة التي انبلجت في وعي
البشر, والمعبَّر عنها بجلاء في تعاليم كافة
الأديان, والقريبة إلى حدٍّ كبير من قلب
الإنسان – حقيقة أن الوحدة الملائمة للطبيعة
البشرية هي الوحدة المبنية على الحب, لا على
القسوة والخوف. وهذه الحقيقة, وإنْ في صورتها
غير المباشرة, وإنما في شتى الحالات والأوضاع
المنبثقة عنها, ظهرت في العالم كلِّه أكثر
فأكثر, باحثة عما يربطها بالحياة. وهكذا ظهرت
هذه الحقيقة في العالم المسيحي قبل البلاد
الأخرى, وفي العمل من أجل المساواة بين
المواطنين, الناس (ولو في إطار الدولة الواحدة),
في القضاء على العبودية, في الاعتراف بحقوق
المرأة, في التعاليم الاشتراكية, الشيوعية,
الفوضوية. ظهرت هذه الحقيقة – ولازالت – في
مختلف التجمعات, في مؤتمرات السلام, وتظهر
كذلك لدى مختلف ما يسمى بالطوائف، كما في
الطوائف المسيحية, كذلك لدى الطوائف
الإسلامية التي رفضت العنف بوضوح والتي
حرَّرت نفسها من الخضوع له. لقد أدرك الناس في العالم
المسيحي، وفي العالم الإسلامي القريب إليه،
هذه الحقيقة بوضوح أكثر. بله حتى في الشرق
الأقصى قامت هذه الحقيقة بعملها, بلا توقف،
لدرجة أنه في الهند والصين, حيث يؤيِّد
النظامُ الديني العنفَ, أصبح الناس، في وقتنا
الحالي، يعتبرون أن تعسف نظام الطبقات في
الهند ليس من الطبيعة البشرية في شيء. كلُّ شعوب العالم, على الرغم
من عدم فهمها لقانون المحبة بكافة معانيه,
بدأت تشعر بعدم إمكانية استمرار الحياة بموجب
القانون السابق: العنف, وباتت تبحث عن قانون
آخر يتوافق مع التطور الروحي للبشرية, أساسِ
التعايش المتبادل. يوجد أساسٌ واحد؛ وقد
تكلَّم عليه أفضل البشر في الدنيا منذ آلاف
السنين. 4 لم يعد الناس، في وقتنا
الحالي، يثقون ثقةً عمياء بالأساس السابق
لوحدة البشر: الإكراه، كما في السابق، وإنما
على العكس من ذلك، بات يُعَدُّ أمرًا مناقضًا
لوعيهم. لقد بات أكثر الناس يشعرون
الآن، بدرجات متفاوتة، بضرورة إيجاد أسلوب
حياة مبني على أسس أخرى غير الإكراه. لكن
التقاليد القديمة، التراث، التربية،
والعادات، تؤثر إلى درجة أن أهم أسلوب حياة هو
على هذا النحو، بحيث إن الناس، حتى عندما
يرغبون بالقيام بأفعال نابعة عن قانون
المحبة، فإنهم يقومون بذلك باستخدام العنف،
أي بالطريقة التي تتناقض تمامًا مع قانون
المحبة، ويفعلون ما يفعلون باسمه. وهكذا، يقوم الثوريون،
والشيوعيون، والفوضويون، في وقتنا الراهن،
باسم المحبة ومصلحة الشعب، بالقتل والتدمير.
كذلك، باسم المحبة، وأيضًا من أجل خير
الشعوب، تبني الحكومات سجونها، قلاعها،
أشغالها الشاقة، وإعداماتها. باسم المحبة،
ومن أجل الخير الأسمى لكلِّ الشعوب، هذه
المرة، يقيم الدبلوماسيون اتحاداتهم
ومجالسهم، المستندة إلى القوات التي تتضخم
أكثر فأكثر من حيث العدد والعتاد. كذلك،
يؤسِّس الأغنياء، الذين جمعوا ثرواتهم
ويحمونها فقط، بفضل القوانين المدعومة
بالقوة، كلَّ أنواع مؤسَّساتهم الخيرية التي
يُحافَظ عليها، كذلك الأمر، بواسطة العنف. هكذا هو الأمر في كلِّ مكان.
العنف الأشرُّ هو الأخفى عن عيون الناس، الذي
يُمارس بسخرية متعمدة، باسم الخير. وهذا
الأمر – ولا يمكن أن يكون غير ذلك – ليس فقط
لا يحسِّن الوضع، وإنما بالعكس من ذلك،
يجعله، قطعًا، أسوأ. ولهذا فإن أوضاع الناس،
في زماننا الذي يزداد سوءًا، قد أمست أسوأ من
أوضاع الناس في الأزمنة القديمة، بشكل غير
قابل للمقارنة. لقد أمست أسوأ لأن وسائل
العنف، في زماننا، قد تضاعفت مئات المرات،
وازدياد وسائل العنف أدى إلى ازدياد الشرِّ
الناتج عنه. 5 إن حال الناس، في وقتنا
الراهن، سواء المتسلِّطين منهم أو أولئك
الذين يخضعون لهم، كما هو عليه الآن، قد صار
غير ممكن بشكل متزايد. يشعر هؤلاء وأولئك بهذا
على نحوٍ محسوس. كانت حياة البشرية ممكنة في
أثناء انقسامها إلى عشرات الدول المعادية
بعضها لبعض، بأباطرتها، وملوكها، وقواتها،
ودبلوماسييها، مع سلبها جهودَ شعوبها من أجل
بناء الجيوش وتسليحها. في ذلك الزمان، عندما
كانت الشعوب لا تزال تعتقد – كلٌّ عن نفسه،
وبسذاجة – بأنه الشعب الحقيقي الوحيد، وبأن
الشعوب الأخرى المعادية همج،[3]
ولذلك، فإنها لم تمنح جهودها وحياتها للدفاع
عن شعبها وزعمائها بغيرةٍ فحسب، بل اعتقدت
بأن الأمر لا يمكن إلا أن يكون على هذا النحو،
وبأن هذا طبيعي، كالمأكل، والزواج، والتنفس.
كانت حياة البشر هذه ممكنة عندما كان الناس
يؤمنون بأن الفقر والغنى من طبيعة الحياة،
وقد قدَّرها الله. عندما كان المتسلِّطون
والأغنياء، ليس فقط لم يساورهم الشك في
مشروعية وضعهم، بل، وفي قرارة أنفسهم، وأمام
الله، افتخروا به، معتبرين أنفسهم مختارين،
صنفًا خاصًا من البشر، وعدُّوا باقي أفراد
الشعب "الأراذل"، الذين يمارسون الأعمال
اليدوية، أو حتى التجارة، صنفًا بشريًّا أدنى.
وكذلك، آمن الخاضعون والفقراء، بأن
المتسلِّطين والأغنياء صنف خاص من البشر،
اختارتْهم للسلطة الذاتُ الإلهية، وبأن الله
هو الذي قدَّر حياتهم ليكونوا خاضعين وفقراء. دامت الحال على هذا النحو
قرونًا. لكن حان الوقت الذي بدأ يتداعى فيه
كلُّ ما كان يجعل تلك الحياة ممكنة. ولقد
أدركت شعوب العالم، أخيرًا، وخصوصًا، في
العالم المسيحي، وبدرجات متفاوتة من الوضوح،
بأنه ليس هم فقط – ألمان، فرنسيين، يابانيين،
روسيين – من يعيشون في هذا العالم، وليس هم
فقط يريدون الدفاع عن مصالح شعوبهم، بل إن كل
شعوب العالم تعيش ذلك الوضع نفسه؛ ولهذا فإن
أية حرب ليست مميتة فحسب، لجموع البشر –
الذين لا يجنون أية فائدة من الحرب، بل فقط
الفناء – وإنما هي بلا معنى على الإطلاق؛
وعدا عن ذلك، فقد توصَّل الناس، في وقتنا
الحالي، بنسبٍ متفاوتة، إلى إدراك أن كلَّ
الإتاوات المأخوذة منهم لا تُستخدَم
لمصلحتهم، وإنما تُصرَف، في قسمها الأكبر،
للإضرار بهم، على الحروب، ومن أجل رفاهية
المتسلِّطين، وبأن الغنى ليس أمرًا محددًا من
أعلى، كما كانوا يعتقدون فيما سبق، وإنما
نتيجة لسلسلة كاملة من الأكاذيب، والابتزاز،
والتعسُّف، بحقِّ الكادحين من البشر. بل حتى
المتسلِّطون والأغنياء يعلمون هذا كلَّه في
قرارة أنفسهم، ولكنهم لا يملكون القدرة على
رفض وضعهم، ويحاولون الحفاظ عليه، سواء
بالقوة الفظة، أو بالأكاذيب، أو بالتنازلات.
ولذلك، فإن البشر، الآن، عدا عن كونهم
منقسمين فيما بينهم إلى أعراق مختلفة، فإن
المضطَّهَدين الذين يتمنون التحرُّر، أو
الذين يتمنون استمرار ذلك، منقسمون، كذلك، في
كل مكان، إلى معسكرين معاديين واحدهما للآخر
بحقد: أحدهما هو معسكر العمال المستغَلِّين،
المُذَلِّين، الذين يدركون لاعدالة وضعهم؛
والآخر هو معسكر المتسلِّطين والأغنياء
المدركين، كذلك، للاعدالة وضعهم، ولكنهم رغم
ذلك يدافعون عن استمراره في الآن ذاته. هؤلاء
وأولئك مستعدون، في سبيل الوصول إلى أهدافهم،
أن يرتكبوا – بل ويرتكبون – أبشع الجرائم في
حقِّ بعضهم بعضًا: الكذب، السرقة، التجسس،
القتل، الانفجارات، الإعدامات. من الواضح أن
وضع البشر هذا لم يعد بإمكانه الاستمرار. حقًّا، يوجد أيضًا مثل
أولئك الناس الذين يريدون أن يقنعوا أنفسهم
والعمال بوجود تفسير رائع، مختلف، لأسباب
اللاعدالة السائدة، تفسير واحد أيضًا،
النظرية الأكثر روعةً لنظام الحياة المقبل.
يلزم، فقط، شيء من الصراع العنيف ضد الأعداء:
وسيُقام، أخيرًا، ذلك النظام الجديد الذي
سينتهي الشرُّ في كنفه، وسيعيش الناس في نعيم.
يوجد أمثال هؤلاء حتى بين المتسلِّطين. يحاول
هؤلاء الناس أن يقنعوا أنفسهم والآخرين بأن
البشرية لا يمكنها أن تعيش بطريقة مختلفة عما
عاشته لقرون، لآلاف السنين؛ بأنه لا حاجة
للتغيير، وإنما يكفي فقط – كم هو غير مقبول
هذا الكلام! – قمع كل محاولات تغيير البناء
السائد بقسوة لامتناهية؛ وبدون التخلِّي عن
المطالب "الحكيمة" للشعب، يجب قيادته،
بصرامة، على درب التقدم المعتدل، وسيكون
الجميع بخير. يوجد من يؤمن بهذا الكلام في
هذا المعسكر وذاك؛ ولكن الناس لا يصدقونهم،
وكلا المعسكرين المعاديين واحدهما للآخر
ينقسمان أكثر فأكثر: إنهم يصبحون أكثر حسدًا
– كراهية العمال تجاه المتسلِّطين والأغنياء
– ويصبح هؤلاء أكثر خوفًا وكراهيةً تجاه
العمال المضطهَدين. كلا الطرفين ينقل عدوى
الكراهية المتبادلة فيما بينهما أكثر فأكثر. 6 وضع
البشر، في وقتنا الراهن، مرعب. أما سبب هذا
الوضع المرعب، فهو أننا نحن – بشر زماننا –
لا نعيش بموجب العقيدة الملائمة لوعينا،
وإنما بموجب العقيدة التي كانت ملائمة
لأسلافنا منذ آلاف السنين قبل الميلاد، لكنها
لم تعد قادرة، الآن، على إرضاء متطلباتنا
الروحية. سبب كوننا – على الرغم من أننا ندرك،
بدرجات متفاوتة، أساس المحبة ذاك الذي، إن
حلَّ محل العنف، يمكنه، ويجب عليه، أن يوحِّد
البشر – ما زلنا نعيش ذلك العنف الذي كان
يوحِّد البشر في الأزمنة السابقة؛ ولكنه،
الآن، لا يناسبنا، ويتناقض مع وعينا؛ ولهذا
فإنه ليس فقط لا يوحِّد، وإنما يفرِّق الناس
الآن. 7 منذ قرنين أو
ثلاثة من الزمن، لم يكن الناس المطلوبون
للجيش، بموجب إعلان رئيس الحكومة، يشكُّون
أبدًا – مهما كان الأمر صعبًا، ومهما طُلِب
منهم – بأنهم، بذهابهم إلى الحرب، لا يقومون
بعملٍ جيد فحسب، وإنما هو أمر ضروري لابدَّ
منه. كانوا يضحُّون بحرياتهم، وأعمالهم، وحتى
بحياتهم، في سبيل أمرٍ سام: الدفاع عن الوطن
ضدَّ أعدائه، والأهم من هذا، تحقيق إرادة
الله الممثَّلة في شخص الحاكم. يعرف
الآن كلُّ شخص يأخذونه إلى الحرب (ولقد ساعد
التجنيد الإلزامي العام على القضاء على الكذب
الوطني، بشكل خاص)؛ الكلُّ يعلم بأن أولئك
الذين يحارب ضدَّهم هم بشر تخدعهم حكوماتهم
مثله. وبمعرفته لهذا الأمر، لا يمكنه إلا أن
يرى، وخصوصًا في العالم المسيحي، كلَّ حماقة
ولاأخلاقية ذلك العمل الذي يجبرونه عليه.
وبإدراكه لحماقة ولاأخلاقية الأمر الذي
يدعونه في سبيله، لا يمكنه إلا أن يحتقر ويكره
أولئك الذين يُلزِمونه به. كذلك
الناس قديمًا، بالضبط، بدفعهم للإتاوات، أي
كدحهم من أجل السلطات، كانوا على يقين، بأن
عطاءاتهم للسلطة ضرورية لأجل أمور مهمة
ولازمة؛ عدا ذلك، فقد اعتبروا أولئك الناس،
الذين يستولون على نتاج كدحهم هذا، أقرب إلى
القداسة، أناسًا أطهارًا. أما الآن، فكلُّ
عامل، تقريبًا، يعتبر أن السلطة، إن لم تكن
عصبة مجرمين، فإنهم في كل الأحوال، أناس
منشغلون بمصالحهم، وليس بحاجات الناس بأيِّ
شكل من الأشكال، وأن ضرورة إعطاء كدح عملهم هو
بؤس مؤقت، ويتمنون من كلِّ قلوبهم، ويأملون،
أن يتحرروا منه بهذه الوسيلة أو تلك. نظر
الناس، منذ مائتي عام، بل حتى مائة، إلى
الثراء كاستحقاق، وإلى جمع الثروة كفعل خير،
واحترموا الأغنياء، وحاولوا تقليدهم. الناس
الآن، وخصوصًا الفقراء، يحتقرون الأغنياء
ويكرهونهم؛ وإن كلَّ محاولات الأغنياء في
اقتسام الثروة معهم، بهذه الطريقة أو تلك،
تثير لدى هؤلاء الفقراء أنفسهم كراهية أكبر
تجاه الأغنياء فحسب.[4] في
الأزمنة الماضية، آمن المتسلِّطون والأغنياء
بوضعهم، وعلموا بأن الشعب العامل، أيضًا،
يؤمن بقانونية وضعه؛ ولقد آمن الشعب، فعلاً،
بالتحديد المسبق لوضعه ولوضع المتسلِّطين.
أما الآن، فهؤلاء، والآخرون كذلك، يعرفون
بأنه لا يوجد أي تبرير لتسلُّط الحكَّام، ولا
لغنى الأغنياء، ولا لاضطهاد العمال. ولكي
يحافظ المتسلِّطون والأغنياء على وضعهم، أو
لكي يتحرر العمال من الاضطهاد، فإن هؤلاء
وأولئك لا يستنكفون عن استخدام كافة الوسائل
الممكنة: الأكاذيب، الرشاوى، القتل. وكلا
الفريقين يفعل هذا؛ وأسوأ ما في الأمر أنهم
بقيامهم بذلك، يعرف أغلبهم، في أعماقهم،
بأنهم لن يتوصلوا إلى شيء بهذه الطريقة، وبأن
استمرار حياة كهذه أضحى غير ممكنٍ أكثر
فأكثر، ويبحثون عن مخرج من هذا الوضع، ولا
يجدون. والمخرج حتمي ووحيد، ويصبح أكثر
وضوحًا للناس. المخرج
الوحيد هو: تحرير النفس من ذلك الإيمان الذي
كان، ذات يوم، متوافقًا مع البشرية، الإيمان
بضرورة العنف وقانونيَّته، والتخلُّق
بالإيمان الذي يتجاوب مع النضج الحالي للبشر،
والمبشَّر به في كافة أديان العالم – الإيمان
بضرورة وقانونية المحبة، الذي ينفي كلَّ
أشكال قسوة الإنسان تجاه الإنسان. أمام
هذه الخطوة الحاسمة التي تواجه البشرية
جمعاء، يقف بشر زماننا بتردد، الآن. لكن سواء
أراد الناس أم لا، فليس بمقدورهم عدم إنجاز
هذه الخطوة. لا يمكنهم إلا القيام بذلك، لأن
العقيدة الدينية، التي أسَّست لسلطة بعض
الناس على الآخرين، قد ولَّى زمانها،
والعقيدة الجديدة المتناسبة، زمانيًّا، مع
قانون المحبة، باتت تلج إلى وعي الناس أكثر
فأكثر. 8 ربما
يبدو أن البؤس الناتج عن العنف الذي يمارسه
البشر ضدَّ بعضهم بعضًا يجب أن يثير لديهم
فكرة كونهم هم مسبِّبي هذا البؤس لأنفسهم.
وإذا كان الناس مذنبين لوَجَبَ على كلِّ فرد
أن يقول لنفسه: أنا إنسان، يعني أنني مذنب؛
وبعد ذلك، يسأل نفسه: ما هو ذنبي فيما أعانيه
ويعانيه الناس من البؤس؟ يبدو
أن الأمر يجب أن يكون على هذا النحو؛ لكن
خرافة أن بعض الناس ليس فقط يملكون الحق، بل
هم مدعوون ويستطيعون أن ينظِّموا حياة
الآخرين نتيجةً للحياة المديدة المبنية على
العنف، الذي تجذَّر في عادات الناس إلى درجة
كبيرة، بحيث إن فكرة المسؤولية الذاتية عن
نظام الحياة الأخرق لا تخطر على بال أحد. الكلُّ
يتهمون الكلَّ. بعضهم يتَّهم أولئك الملزَمين
– بحسب رأيهم – بتنظيم حياتهم، ولا
ينظِّمونها كما يجب أن تكون. أما الآخرون
الذين ينظِّمون حياة الغرباء فهم غير راضين
عن أولئك. وكما هؤلاء، كذلك أولئك، يفكرون في
أعقد وأصعب المسائل، لكنهم لا يطرحون على
أنفسهم – على ما يبدو – السؤال البديهي الأهم:
ماذا يجب أن أفعل لكي يتغير نظام الحياة هذا،
الذي أعتبره غبيًّا، والذي لا يمكنني عدم
المشاركة فيه بهذا الشكل أو ذاك؟ «يجب
أن تحلَّ المحبةُ مكانَ العنف. لنفترض أن
الأمر على هذا النحو – سيقول الناس – لكن
كيف، وبأية طريقة يجب، ويمكن أن يتمَّ هذا
الانقلاب؟ ما العمل لكي يُنجَز هذا الانقلاب
وتُستبدَل بالحياة العنيفة حياةٌ مسالمةٌ،
مُحِبة؟» ما
العمل؟ يسألون السؤال نفسه: المتسلِّطون،
والخاضعون للسلطة، والثوريون، والمصلحون
الاجتماعيون، ويقصدون بسؤال «ما العمل؟»،
دائمًا، كيف يجب أن تُنظَّم حياة الناس. الكلُّ
يسأل: «كيف يجب أن تنتظم حياة الناس، أي: ما
العمل مع الآخرين؟» الكلُّ يسأل «ما العمل مع
الآخرين؟»، لكن لا أحد يتساءل: ما العمل مع
نفسي؟ إن
خرافة عطالة الدين، التي ولَّدتْ الاعتراف
بقانونية تسلُّط بعض الناس على الآخرين،
ولَّدت أيضًا خرافة أخرى، منبثقة عن الأولى؛
خرافة تعرقل انتقال الناس من الحياة العنفية
إلى حياة سلمية ودِّية؛ خرافة أن بعض الناس
يجب، ويستطيعون، أن ينظِّموا حياة الناس
الآخرين. يجدر
بالناس التحرر من هذه الخرافات المعروفة؛
ولقد صار واضحًا للجميع، الآن، بأن حياة كلِّ
وحدة بشرية تنتظم، فقط، عندما ينظِّم كلُّ
شخص حياته بنفسه. ولو أن الناس فهموا هذا
التنظيم – أولئك الذين يديرون حياة الآخرين،
والذين يخضعون – لأصبح واضحًا للجميع بأن
كلَّ أشكال عنف الإنسان ضدَّ الإنسان لا يمكن
أن يكون مبرَّرًا بأيِّ شكل، وبأنه ليس
مخالفًا للمحبة أو حتى للعدالة فحسب، وإنما
كذلك للعقل السليم. وهكذا
فإن خلاص الناس من ذلك البؤس الذي يكابدونه في
زماننا يكمن، قبل أيِّ شيء آخر، في تحرير
أنفسهم من خرافة ثبات الدين، وبالتالي، من
التعليم الديني المنافق الذي لم يعد يحتمله
البشر في هذا الزمن، والذي يقول بقدسية
السلطة، ويعترف بمشروعية وفائدة العنف
المنبثق عنها. الجواب
على سؤال: ما الذي يجب أن يفعله الإنسان، الذي
يدين نظام الحياة السائد، ويتمنى تغييره
وتحسينه؟ بسيط، بديهي، ووحيد لكلِّ من لا
يؤمن بخرافة حتمية عنف الإنسان، وهو على
النحو التالي: أولاً.
التوقف ذاتيًّا عن العنف المباشر، والإعداد
له كذلك – هذا أولاً. ثانيًا.
عدم المشاركة في أيٍّ من أعمال العنف مهما
كانت، التي يمارسها الآخرون، وكذلك التوقف عن
الإعداد للعنف. ثالثًا.
رفض كافة أشكال العنف. 1.
عدم ممارسة العنف المباشر:
يعني عدم إيذاء أي شخص بيديك، عدم الضرب، عدم
القتل، عدم القيام بهذا، سواء لغايات شخصية،
أو بدعوى العمل الاجتماعي. 2. عدم
المشاركة في أيٍّ من أعمال العنف: يعني ليس فقط أن
لا تكون قائدًا للشرطة، أو محافظًا، أو
قاضيًا، أو خفيرًا، أو جامع ضرائب، أو
قيصرًا، أو وزيرًا، أو جنديًّا، وإنما كذلك
عدم المشاركة في محاكم الالتماس، محاميًا،
حارسًا، أو محلَّفًا. 3. رفض
كافة أشكال العنف: يعني كافة أنواع العنف
المستخدمة للمنفعة الشخصية، لا في الأقوال،
لا بالكتابة، لا في الأفعال؛ عدم مدح العنف أو
الموافقة عليه، أو على الأمور المشتملة على
العنف أو المبنية عليه. من
الممكن جدًا، فيما لو تصرَّف المرء على هذا
النحو، أن يمتنع عن الجندية، عن المحاكم، عن
جوازات السفر، عن دفع الضرائب، عن الاعتراف
بالسلطات. سيفضح القساة وأنصارهم؛ وقد
يتعرَّض للاضطهاد. من المحتمل جدًا أن
يعذِّبوا إنسانًا كهذا، في الأزمنة الحالية:
قد يصادرون ممتلكاته، ينفونه، يسجنونه،
ويمكن حتى أن يقتلوه. لكن يمكن للإنسان الذي
لم يفعل شيئًا من هذا القبيل، وإنما على العكس
من ذلك، يطيع أوامر السلطات، أن يعاني لأسباب
أخرى تمامًا؛ بل ربما، قد يعاني أكثر من ذلك
الذي يمتنع عن الخضوع. كذلك يمكن لامتناع
الإنسان عن المشاركة في العنف – الامتناع
المبني على المحبة – أن يفتح عيون الآخرين،
وأن يجذب الكثيرين نحو موقفه، بحيث لا يكون في
مقدور السلطات أن تستخدم العنف تجاه كلِّ
المعارضين. يمكن
لهذا كلِّه أن يكون، أو لا يكون. ولهذا فإن
الردَّ على سؤال: ماذا على الإنسان الذي يقرُّ
بحقيقة قانون المحبة وارتباطه بالحياة، أن
يفعل؟ يجب ألا يكون مبنيًّا على نتائج
افتراضية. إن
نتائج أفعالنا لا تخضع لإرادتنا. نحن نسيطر
على أفعالنا فحسب. أما الأفعال، فأيُّها أفضل
للإنسان، والأهم من ذلك، أي الأفعال يجب عدم
القيام بها – يعتمد هذا على إيمان الإنسان
فقط. إن كان الإنسان يؤمن بضرورة العنف – يؤمن
عقائديًّا – وهكذا فسيمارس العنف، ليس باسم
العواقب الخيِّرة التي ينتظرها من العنف،
وإنما لأنه يؤمن وكفى. فإذا ما كان الإنسان
يؤمن بقانون المحبة فإنه، كذلك بالضبط، سوف
يحقق متطلبات المحبة، وسيمتنع عن الأعمال
المناقضة لقانون المحبة، بغضِّ النظر عن أيِّ
تصوُّر كان للنتائج، وإنما فقط لأنه يؤمن؛
ولهذا السبب، فلا يمكنه التصرف بطريقة مغايرة. ولأجل
تحقيق قانون المحبة في الحياة، وإحلاله مكان
قانون العنف، يحتاج الأمر لشيء واحد فقط: أن
يؤمن الناس بقانون المحبة كما يؤمنون بضرورة
العنف الآن. اجعل الناس يؤمنون بقانون المحبة
كما يؤمنون بضرورة العنف، الآن، ولو بشكل
تقريبي؛ وسؤال: كيف يسلك الناس، الرافضون
للعنف مع ممارسيه؟ سيتوقف عن أن يكون سؤالاً،
وستتحول حياة البشر، بدون جهد أو صدمات، إلى
شكل حياة مجهول لنا – وهو الذي تسير البشرية
نحوه، والذي سيخلِّصه من تلك الشرور التي
يعاني من جرَّائها الآن. هل
هذا ممكن؟ 9 إن
حلَّ كل المسائل التي تهمُّ البشرية، وليس
مسألة النظام الاجتماعي وحدها، يكمن في أمرٍ
واحد: نقل المسألة من المجال الذي يبدو واسعًا
وهامًّا، ولكنه، في حقيقته، المجال الأضيق،
الأكثر ضآلةً، والمريب دائمًا: من مجال الفعل
الخارجي (الذي يُقصَد به، على ما يبدو، خير
مجمل البشرية، النشاط العملي، والاجتماعي)
إلى المجال الذي يبدو ضيقًا، لكنه، في جوهره،
الأوسع والأعمق، والأهم من ذلك، لا مجال
للشكِّ فيه: إلى محيطنا الشخصي، لا الحياة
المادية وإنما الروحية، إلى المجال الديني. فقط،
قُمْ بذلك مع نفسك، أيها الإنسان. اسأل نفسك،
ذاتك الحقيقية، روحك: ما الذي تحتاج إليه أمام
الله، تجاه ضميرك (إن كنت لا تريد الاعتراف
بالله)؟ وستحصل، فورًا، على الإجابات الأبسط،
والأوضح، التي لا يُداخِلُها الشكُّ، على
الأسئلة التي تبدو مستعصية، وغير قابلة
للحلِّ. سيتمُّ التخلُّص من قسم كبير من
الأسئلة ذاتها؛ وكلُّ ما كان معقَّدًا،
مربِكًا، مقلِقًا، وغير قابل للحلِّ، سيصبح
بسيطًا، واضحًا، مفرحًا، وحقيقيًّا على
الفور. أيًّا
كنت: إمبراطورًا، ملكًا، جلاَّدًا،
مليارديرًا، سجَّانًا، مُعدَمًا، وزيرًا،
لصًّا، كاتبًا، أو راهبًا – توقَّفْ عن عملك
لدقيقةٍ واحدة، وارنُ إلى قدس أقداسك، إلى
قلبك، واسأل نفسك: ما الذي أنت بحاجة إليه
حقًّا، لكي تمضي الساعات أو العقود التي
تبقَّت من عمرك على الشكل الأفضل؟ وأيًّا
كنتَ، فقط إن سألت نفسك، بصرامةٍ وجديةٍ، عن
ذلك، فلن يمكنك عدم الإجابة على نفسك، كذلك،
كما أجاب ويجيب كلُّ الناس الذين يتوقفون
ويتساءلون بصرامة وجدية. إنك بحاجة إلى أمرٍ
واحد – وربما وحيد – ذلك الذي كان الجميع
دائمًا، والآن كذلك، بحاجةٍ إليه: الخير،
الخير الحقيقي، وليس ذلك الخير الذي قد يكون
كذلك اليوم، ويصبح شرًّا غدًا؛ أو ليس ذلك
الذي قد يكون خيرًا لك وحدك، وشرًّا على
الآخرين، بل خيرٌ حقيقيٌّ، خيرٌ حقٌّ، بحيث
يكون خيرًا لك ولكلِّ الناس، اليوم، وغدًا،
وفي كلِّ مكان. خيرٌ كهذا، يمكن أن يُعطى،
فقط، لذلك الذي ينفِّذ قانون حياته. وأنت تعرف
هذا القانون، سواء بالعقل، أو بموجب تعاليم
كافة حكماء العالم، أو بهوى قلبك. هذا القانون
هو المحبة، محبة الكمال الأسمى، محبة الله،
ومحبة كلِّ ما هو حي، وخصوصًا الكائنات
المشابهة لك: البشر. فقط
إن فهم كلٌّ منَّا هذا الأمر، فسيدرك كلُّ
إنسان سبب معاناته ومعاناة العالم كلِّه –
فورًا؛ المعاناة التي لا تكمن في وجود أناس
أشرار يرتكبون هذا الشرَّ الذي يجري، وإنما
تكمن في أمرٍ واحد: في أن الناس يعيشون ضمن
شروط حياة مبنية على العنف، شروط تناقِض
المحبة، ولا تتوافق معها. وبالتالي، فإن سبب
ذلك الشرِّ الذي نعاني منه كلُّنا لا يكمن في
البشر، وإنما في ذلك النظام الكاذب المبني
على القهر، والذي يعتبر الناسُ أن لا فكاك منه. أفهِمْ
هذا لكلِّ إنسان، وسيدرك بأن اللص السارق،
والغني الذي يكدِّس ويحتجن الثروة،
والمتسلِّط الذي يوقِّع على أحكام الإعدام،
والجلاَّد الذي يقوم بتنفيذها، والثوري الذي
يلقي قنبلة، والدبلوماسي الذي يجهِّز للحرب،
والعاهرة التي تدنِّس روحها وجسدها، والجندي
الذي يطلق النار على من تُصدَر إليه الأوامر
بذلك – سيدرك أن الكلُّ غير مذنب بنفس
الدرجة، وإنما يفعلون ما يفعلون فقط لأنهم
يعيشون وفقًا لاعتقاد موهوم بضرورة العنف،
الذي لا يمكنهم تصوُّر الحياة بدونه. إن
فَهِمَ الإنسان هذا فسيرى بوضوح كلَّ ظلم
وقسوة ولاعقلانية مجادلات الناس، المتكئين
إلى عقيدة العنف التي ولَّى زمانُها، وما
ينبثق عنها من ظروف حياة صعبة، بسبب أفعالهم
المناقضة للمحبة، وسيفهم بأن الناس يرتكبون
الحماقات، ليس لأنهم مجرمون، وإنما بسبب وجود
خرافة العنف، التي يمكن التخلُّص منها، ليس
بالعنف، بأيِّ حال من الأحوال، وإنما فقط
بتحرير كلِّ إنسان ذاتَه من هذا الوهم القاتل. 10 إن
استمرار الحياة، في وقتنا الراهن، على أسس
ولَّى زمانُها، وتناقِض، بشدة، الحقيقة التي
تشرَّبها الجميع، لم يعد ممكنًا. ولهذا،
فعلينا، سواء شئنا أم أبينا، أن نضع قانون
المحبة ضمن نظام حياتنا بدلاً من العنف. لكنْ
كيف ستنتظم حياة الناس على أسس المحبة التي
تنفي العنف؟ لا يمكن لأحد أن يجيب على هذا
السؤال؛ وعدا ذلك، لا أحد يحتاج إلى هذا
الجواب. إن قانون المحبة ليس قانونًا للنظام
الاجتماعي لهذا الشعب أو ذاك، لهذه الحكومة
أو تلك، ويمكن الاستعانة به عندما تتنبأ، أو
بالأحرى، تتصور بأنها [أي: الحكومة] يمكن أن
تتوقع تلك الظروف التي يمكن بموجبها أن تحدث
تغييرات مرغوبة.[5]
قانون المحبة هو قانون حياة كلِّ إنسان على
حدة، وهو كذلك، قانون حياة للبشرية جمعاء؛
ولهذا فإن من الحماقة تصوُّر أن من الممكن
معرفة، أو الرغبة في معرفة، الهدف النهائي
للحياة الشخصية، ناهيكم عن حياة البشرية
بكلِّيتها. ما
لا نعرفه، وما لا يمكننا حتى تصورُه، هو كيف
ستكون حياة الناس المؤمنين بقانون المحبة،
كما يؤمنون، الآن، بضرورة العنف. نرى، فحسب،
بأننا، باتِّباعنا لقانون المحبة، نعيش
حقًا، قائمين بما يجب أن يقوم به كلُّ فرد
بنفسه، وبما يجب، من أجل الحياة البشرية
عمومًا. نحن نعرف ما علينا أن نقدِّمه
لأنفسنا، مهتدين بقانون المحبة، وما علينا
فعلُه لصالح البشرية، لأننا نعلم بأن خير
البشرية يكمن في الاتِّحاد؛ ولا يوجد شيء
بمقدوره توحيد البشر بهذه القوة والسعادة
أكثر من قانون المحبة ذاته، الذي يمنح الخير
الأسمى لكلِّ إنسان على حدة. هذا
كلُّ ما أردت قوله. أؤمن،
بكل جوارحي، بأننا نعيش على أعتاب انقلاب
عالمي عظيم في حياة الناس، وبأن كلَّ جهد
يُبذَل من أجل تقريب أمد التخلُّص مما لا
يمكنه إلا أن يُهدَم، وتقريب أمد إحياء ما لا
يمكنه إلا أن يحيي، أي جهد – حتى أضعفه –
سيساعد على قدوم هذا الانقلاب. ولم أستطع،
وأنا أعيش أيامي الأخيرة، على الأغلب، إلا أن
أحاول أن أنقل عقيدتي هذه للآخرين. نعم،
نحن نقف على عتبة حياة سعيدة، جديدة تمامًا؛
وإن الانتساب إلى هذه الحياة يتوقف، فقط، على
تحريرنا أنفسَنا من وهم حتمية العنف – الذي
يزعجنا باستمرار – في الحياة الجماعية
للبشر، وإدراك أن تلك المحبة الأبدية تعيش في
وعي الناس منذ أمدٍ بعيد، ويجب، حتمًا، أن
تحلَّ مكان العنف الذي انقضى عهده، والذي لا
حاجة إليه منذ زمن بعيد، والذي هو وَبَالٌ
فحسب. موجز،
1909 ***
*** *** ترجمه
عن الروسية: هفال يوسف (نيُّو) [1]
يبدو أن تولستوي قد ألقى هذا الخطاب
ارتجالاً، بسبب ما يتكرر فيه من الألفاظ
ومن بعض نقاط ضعف الصياغة، بشكل لا يتناسب
مع عبقريته الأدبية. ولذلك اقتضى التنويه. (المترجم) [2]
يقصد القيصر إيفان الرابع، الملقَّب بـ"إيفان
الرهيب"، الذي كتب تولستوي رائعته أهوال
الاستبداد لوصف مدى الظلم الذي ألحقه هذا
الطاغية بشعبه. (م) [3]
يستخدم تولستوي هنا كلمة "برابرة"؛
ولم أترجمها هكذا لما فيه من إهانة
لإخواننا "البربر". وأرجو أن نحاول رفع
هذا الحيف اللغوي الإغريقي عن هذا الشعب. (م) [4]
يشير تولستوي إلى تجربته الشخصية في توزيع
ممتلكاته على فلاحيه الأقنان وكلِّ ما بذله
لتعليم أطفالهم إلخ. (م) [5]
يقصد تولستوي بأن قانون المحبة ليس
نسبيًّا، ولا يمكن استخدامه براغماتيًّا
لأهداف معينة، ولفترة محددة. (م)
|
|
|