|
آلهة الأولمب
في القرن الحادي والعشرين
(1 من 2)
غسان
بركات
كلمة أولى وإهداء
أخذتُ
وقائع هذه الأساطير من النصوص الشعرية
للشعراء هسيود وهوميروس وأفيري. وقد تمَّ
التصرف بإسقاطها على أحداث القرن الحادي
والعشرين. لقد
أهدتْ الحضارةُ الأوروبيةُ العالمَ أعظم
كنوز العصر عندما قدَّمت له الثورة العلمية
والثورة الصناعية اللتين أسهمتا في تغيير وجه
التاريخ. لكن التاريخ يدين الحضارة الأوروبية
بسبب وباء روح نهم الاستهلاك المادي التي
بثَّتْها مقتضيات التجارة العالمية، مما
أدَّى إلى تشويه الإنسان، روحيًّا ونفسيًّا،
وأسهم في انحطاط قيمه ووجدانه. من
جهة أخرى، أهدتِ الحضارةُ الأوربيةُ
العالمَ، في الماضي، إكسيرًا روحيًّا
وفلسفيًّا ومعرفيًّا عظيمًا عندما قدَّمت
للبشرية الحضارة اليونانية–الرومانية.
لكن من المؤسف أن هذا الإكسير قد اختفى تحت
ردم الزمن وتحت أنقاض الصراعات العقائدية
عندما اعتُبِر ضربًا من ضروب المعتقد الوثني! مما
لا شك فيه أن هذا الإكسير يحتوي كنوزًا أهم
بكثير من الذهب والتحف التي استخرجها شليمن.
وربما كان يحتوي مبدأ الخلاص الذي طالما
استهلكت الإنسانيةُ ذاتها بحثًا عنه. إذا
كانت الأساطير تشير إلى أن عصر الخلاص يبدأ
عندما تشرق الشمس من الغرب فإن العالم يطالب
اليوم الحضارةَ الأوربية بإنتاج العشرات –
بل المئات – من أمثال شليمن، علَّهم يستخرجون
لنا الكنوز الحضارية الروحية والمعرفية
الدفينة. من
هذا المنطلق أهدي الإنسان الأوربي هذا العمل
المتواضع، مع كلِّ حبي وتقديري. *** بدء الاجتماع
ومعمعة القرن
الحادي والعشرين
دخل
آلهة
الأولمب مجمعهم بناءً على طلب سيدهم زيوس،
فوجدوه كالح الوجه متجهِّمًا، ساكنًا صامتًا,
حتَّى يخاله المرء جلمودًا قُدَّ من صخر. وقف
الآلهة صامتين. كانت الرهبة تملأ قلوبهم من
تجهُم سيِّدهم مرسل الصواعق. انقضى وقت طويل
وعظيم الآلهة غارق في تأملاته المريعة،
والآلهة تشتعل في قلبها نارُ الحيرة والفزع
من جراء ما ينتظرها من تجهم هذا الإله الغاشم. رفع
زيوس رأسه، وراح ينظر إلى كلِّ إله تلو الآخر.
ثم وقف وراح يتأمل كلَّ إله على حدة. وقال: "منذ
مدة راح كابوس ذكريات والدي كرونوس، إله
الزمن، يطاردني ويؤرقني عندما احتال على أبيه
وانتزع منه السلطة، فولدت آنذاك قوة الظلمة
والموت والخداع والدمار والانتقام." ثم وضع
يديه على رأسه وقال: "آه... ما أبشع سحنتها
وما أقسى آلامها! ثم آه، وألف آه، من الحيرة
والضياع الأبديين السرمديين." وانتصب وقال:
"لكن القدر شاء أن أولد من رحم التكوين لكي
أحرِّره من سجنه، ولكي أزيِّنه بالمحبة
والعدالة والجنان – بمساعدتكم أنتم معشر
الآلهة الأجلاء." ثم
نظر زيوس في الآلهة نظرة ازدراء وقال: "انظروا،
أيها الآلهة الأجلاء، إلى هذا الكوكب الأرضي
وحاولوا أن تبحثوا فيه عن الحب والعدالة
والرحمة." ثم تقطَّب حاجباه وبدأ الشرر
يتطاير من عينيه. تابع قائلاً: "إنه كوكب
الشر، كوكب الأحقاد، كوكب اللعنات، كوكب
الفقر والجوع والمرض. وأنتم، أيها الآلهة
الرعناء، ماذا تفعلون؟! أتشهدون بأمِّ أعينكم
احتضار هذا الكوكب الغالي على قلبي؟" ثم
رفع سبابته وقال للجميع: "كان عليَّ أن أطيح
بكم جميعًا من فوق جبل الأولمب قبل أن أشهد ما
شهدته اليوم!" اقترب
زيوس من هيرا، إلهة المُلك وأنا التميُّز،
وقال: "وأنت، يا زوجتي المخلصة، ويا رفيقة
دربي، يا من تمنحين الملك والسلطان لمن
تشائين وحيثما تشائين، أما وجدتِ في هذا
العالم سوى أولئك السفلة الأرضيين حتى
تمنحيهم الملك والسلطان وتسلِّطيهم على رقاب
العباد؟ أنظري ماذا اقترفتْ يداكِ. لقد أصبحت
السلطة قِبلة القتلة واللصوص وغاية
المستبدين ومصاصي دماء الشعوب. آه، لكم أحتقر
أولئك الزبانية الذين لطخوا تاريخ البشرية
والآلهة بالعار!" ثم
اتجه زيوس نحو ابنه هرمس، رسول الآلهة،
وأمسكه بذراعيه وهزَّه بقوة حتى كادت روحه
تفارق جسمه، وقال: "وأنت يا رسول الآلهة...
يا رسول السلام... يا من عقدتَ بعصاك السلام
بين الأفاعي... أترعى السلام بين الوحوش
والأفاعي وتترك الإنسان للشرِّ والحرب
والدمار؟ أتخذل أبطال السلام من البشر
والآلهة، وتكرِّس نفسك شفيعًا للصوص
والمحتالين والدجالين؟" ثم دفعه وهو يقول:
"اللعنة على الفضيلة المقدَّمة للسَّفلة!" وانتصب
زيوس فجأة، واتجه صوب شقيقه بوسيدون، سيد
بحار التكوين والحكمة، وقال له: "وأنت أيها
الشقيق العظيم... يا من لا تحجم بحار حكمته عن
الفيض على العوالم برجال الحكمة... يا سيد
العواصف وصاحب الحربة ذات الثلاث شُعَب... أين
رجالك الآن؟ هل تسمي حكماء أولئك الخصيان
الذين تركوا دفة الحياة ولاذوا بالفرار
وسكنوا على هوامشها، تاركين سفلة الكون تدير
عجلته؟! ثم قُلْ لي: كيف تمنح رعايتك وحمايتك
لمن فقد الغيرة على الحياة والواجب وأمسى
أرعن رعديدًا عنينًا." ثم
نظر بقوة وسرعة إلى أبولون، إله نور المعرفة
الروحية، وقال: "نا أاأأأنا لا أستثنيك أنت من
هذه التهمة. فإذا كان بوسيدون قد أذِنَ لرجاله
بالاختباء في الوكور والجحور فأنت قد مكَّنتَ
المحتالين والدجالين من امتطاء عجلة الدين
والكهنوت، حتى صارت الأديان بؤرة للأحقاد
والكراهيات ومنبتًا للشرِّ وسفك الدم. تركتَ
كلَّ دجال يقول لأتباعه: "أنتم أعظم الأمم...
أنتم شعب الله المختار... المخلِّص لكم وحدكم
دون باقي البشر... الجنة لكم وحدكم، وكلُّ من
عداكم خادم وضيع..." ثم ضرب زيوس كفًّا بكف،
ووضع يده على جبينه، وقال: "لكن ذاك الإنسان
قد صدَّقهم جميعًا!" ثم تساءل: "كيف آمن
الإنسان بأن الله رجل عصابات يتحالف مع عصابة
كي يبيد الآخرين!" ثم وضع يديه على وجهه
وقال: "لكن الحق عليَّ... أنا الذي أطحت
بآتا، إلهة الوهم، من أعلى جبل الأولمب،
فتملكتْ شرورُها الإنسان... أجل أنا شريككم في
الجريمة..." وبكى
زيوس بكاءً مريرًا، ثم رفع رأسه والدموع تملأ
وجهه، ونظر إلى أثينا، إلهة الحكمة والمعرفة،
وقال لها: "وأنت يا ابنتي... أيتها الأثيرة
إلى قلبي... يا من عجزتْ أرحام الإلهات عن حملك
فوُلدتِ من رأسي ومن جبهتي... آه، لو تعلمين كم
تألمتُ حتى جعلتُ لكِ رأسي رحمًا, كي تأتي إلى
العالم إلهة للنصر وللحكمة... لماذا؟ لماذا يا
ابنتي تركتِ آتا، إلهة الوهم، تدمر هذا
الكوكب الأثير إلى قلبي؟ أين سيفك ودرعك
اللذان لم يُخلقا إلا للذود والدفاع عن الحق
والعدل؟ ألا ترين نيران الحروب تستعر وتقتل
النساء والشيوخ والأطفال بلا رحمة؟" ثم
اتجه بقوة إلى ابنه آريس، إله الحرب، وأمسكه
من ذراعيه وهزَّه بقوة قائلاً: "ألم تشبع يا
ابن الحرب من لعق دماء القتلى؟ كان عليَّ أن
أقتلك لحظة ولادتك، وأن أكسر قلب أمك هيرا قبل
أن أراك تقتل بضربة واحدة ملايين النساء
والشيوخ والأطفال." ثم
دفعه، واتجه نحو ابنه هيفستوس، إله العلم
والممكنات، ورفع سبابته وقال: "اللوم واقع
عليك أيها الإله الأرعن! أتضع أسرار علومك
وممكناتك بيد صبيٍّ أرعن مثلك، لا يعرف من
الحياة سوى التلذذ بلعق جراحها؟! أيها العليم
الحكيم، يا من زوَّجك أخي بوسيدون من سيدة
الحكمة والكمال كي تُصلِح دمامة الكون وقبحه!" ودفعه
زيوس فأطاحه أرضًا وهو يقول: "اللعنة على
العلم الذي لا ينجب سوى الموت والخراب
والدمار!" نظر
زيوس إلى جانبه، فلاحت له ابنته أفروديتي،
إلهة العشق والجمال، فقال لها ساخرًا: "أهلاً
بإلهة الحب والجمال! قد روَّضتِ وحشيَّة
أنكيدو البابلي بالحب والجمال... فهل تستخدمين
لذَّتك وجمالك في خير هذا العالم؟!" ثم حدق
زيوس بأفروديتي نظرة ملؤها الاشمئزاز وقال:
"اللعنة على جمالك الذي زاد همجية هذا
العالم ووحشيَّته... اللعنة على الإنسان الذي
لا يفرق بين الحضارة والدعارة، بين الحب
والعهر!" كانت
قلوب الآلهة ترتعد من غضب زيوس، مرسل
الصواعق، إلا قلبي العملاقين أطلس، حامل
الكون على كاهله، وبروميثيوس، حامل همِّ
العالم على كاهله، اللذين كانت لهما خيارات
العالم سواء، حلوها ومرها، إبداعها وهدمها. لقد
سجن القدرُ العملاقَ أطلس كي يحمل الكون على
كاهله، دون رحمة ولا شفقة. وسجن زيوس العملاق
بروميثيوس كي يستخلص منه سرَّ الإنسان الذي
يستطيع التفوق عليه. لهذا قيَّده زيوس على
صخرة في أقصى أقاصي العالم وغرس في صدره حربة؛
وأكلت الطيور كبده آلاف المرات. كان
بروميثيوس ينظر إلى حيرة زيوس وضياعه ويقول
في قلبه: "لو ذقتَ من الألم الذي ذقتُه
بسببك لتفجَّرَ قلبُك ألف ألف شظية!" جلس
زيوس على عرشه حيرانًا محبطًا. أذنت زوجتُه
هيرا لنفسها أن تتكلَّم قبل أن يؤذَن لها، بما
أنها لا تسمح لنفسها بهذا عادة، خاصةً وأنه
يحق لها ما لا يحق لغيرها، نظرًا لما يكنُّه
زيوس لها من محبة. قالت
هيرا: "اسمح لي ولمجمع الآلهة أن نسجل
حيرتنا ودهشتنا لما يعتريك من حيرة وغضب على
حال كوكب الأرض، خاصة وأنه يتبع لسلطة شقيقك
هادس، إله الجحيم. ثم كيف تريدنا أن نعامل
كوكب الجحيم إلا بالجحيم؟!" ردَّ
زيوس قائلاً: "ما هذا الردُّ الأخرق، أيتها
الإلهة الجليلة؟! إن فكرة الجحيم قد أطلقناها
من أجل أولئك الجاهلين كي نرهبهم من العقاب
ونرغبهم في الثواب... أما أنتم، كآلهة، فعليكم
أن تنظروا إلى كوكب الأرض، بين الكواكب
قاطبة، ككوكب المعرفة، فيه تتعلم الأرواح ما
لم تستطع تعلُّمه في السماء. إنها تتعلم جرأة
ارتياد ذاتها عبر حريتها عن طريق معرفة الخير
والشر وممارسة المحبة والفضيلة." وأضاف
زيوس قائلاً: "إن إسار السبب والنتيجة هو
الذي يقود الأرواح مشروطةً باسم قانون كارما،
يقودها كي تكفِّر عن أخطائها عبر الألم؛ ثم
تستخدم الألم كي تدرك مكامن ضعفها وعجزها.
عندئذٍ تستطيع الاستدلال على طريق الكمال." ثم
نظر زيوس إلى شقيقه بوسيدون، سيد بحار
الحكمة، سائلاً: "ألم تعلِّم حكماءك هذه
القوانين؟" قال
بوسيدون: "إن مثل الحكيم كمثل أيِّ إنسان...
إنه يرتاد ذاته كي يرتقي بها. صحيح أن معارفه
وفضائله أسمى من الإنسان العادي، لكنما يبقى
عليه أن يكتشف حكمته في الظروف الأكثر
تعقيدًا." وأضاف بوسيدون قائلاً: "لقد
أبدى رجال الحكمة قدرتهم في أكثر الظروف
ملائمة لإثبات حكمتهم. واليوم أذنتُ لهم أن
يختبروا مقدرتهم في أسوأ الظروف، خاصةً وأن
الخلل الأخلاقي ينخر جسم العالم. فالقتلة
واللصوص في سدة الحكم، وأهل الدعارة والفسق
في سدة العلوم والفنون، وسوق الحكمة أبخس من
سوق التبن، وسوق الفجور والجهل والضياع يسيطر
على جلِّ مباهج الحياة. لقد أذنتُ، يا مولاي،
أن يكتشف الحكيم نفسه في ظل هذه الظروف." قاطع
العملاق أطلس كلام بوسيدون قائلاً: "لكنك
علَّمتَنا أن الحياة أغلى من الحكمة!" أجاب
بوسيدون: "للأسف تبقى للحياة أطوار جنون!
ألم يقتل هرقل أولاده في طور جنون؟! ألم يغتصب
كرونوس، إله الزمن، ملكَ أبيه أورانوس، إله
السماء؟!" ثم
أضاف بوسيدون قائلاً: "إن الشرَّ هو محرِّض
الخير؛ ولولا الطاقة السالبة لتعطَّلت
الطاقة الموجبة عن العمل. وهكذا تسير الحياة
قدمًا, تارةً تحكم القوة الموجبة، وطورًا
تحكم القوة السالبة." تدخل
هرمس في النقاش وقال: "هذه هي مشكلتي في هذا
العصر. لقد استترتْ القوةُ الخيِّرة العادلة،
ولاذت بالصمت، وفقدت فاعليَّتها. لهذا آثرتُ
أن أمنح القوة السالبة الرعاية كي تزيد من
غيِّها وغطرستها ولتتغذى بها بذرة الدمار
الذاتي. هنا ستتدخل قوانين الحياة لتحرِّض
الطاقة الموجبة قسرًا كي تعيد الاتزان إلى
الحياة." وأضاف هرمس: "عندما تتحرض
الطاقة الموجبة قسرًا تلتقي العوالم بعضها
ببعض!" وجد
أبولون، إله الأنوار الروحية، الفرصة سانحة
له للدفاع عن نفسه فقال: "في زمن الطاقة
السالبة كان عليَّ أن أترك الأديان المخادعة
تتكاثر عبر تناسخ ذاتها تناسخًا سرطانيًّا كي
تتغذى في ذاتها بذرةُ الدمار؛ وكان عليَّ أن
أترك الإنسان يختار بمقتضى ما يحوي في نفسه من
نور باطني؛ وكان على الإنسان أن يدفع ثمن
خياره. فما الحروب والأحقاد إلا تجلٍّ
لخيارات الإنسان الشقية." فقالت
أثينا: "وهذا ما وجدتُ عليه العالم! فمن
أنصُر، ومع من أتعاطف، والكلُّ باطل؟! لهذا
آثرت أن يصدأ سيفي ودرعي على أن ألوثهما في
شرور هذا العالم." ضحك
آريس، إله الحرب، إذ وجد أن جميع مبرِّراته قد
سبقته إلى الإفصاح عن ذاتها، فقال: "لقد
ولدت وغريزة لعق الدم في شفتيَّ، فما ذنبي؟
على من أشفق؟ مع من أتعاطف، ولا يوجد في
العالم سوى قتلى تقتل ذواتها, سمك كبير يبتلع
الأصغر منه؟ فذاك باطل وذاك فاسد." تدخَّل
بوسيدون قائلاً: "لكن رجال حكمتي لا زالوا
على الأرض!" أجاب
آريس: "أعلم ذلك. وأنا أحبهم وأحترمهم مثلك.
إن رجل الحكمة يحتاج إلى الحرب كما يحتاج إلى
السلم. فالحرب تكشف عن مثالب نفس الحكيم؛
والحكيم الحقُّ يخوض الحرب غير عابئ
بالنتائج، بل بالكيفية التي يخوض بها الحرب.
رجل الحكمة يدرك أن الحياة لا تخلو من الكفاح
والمجاهدة. رجل الحكمة يدرك أن الحياة ذاتها
هي الحرب؛ فإذا فرَّ من معركة وقع في معارك
أشد ضراوة. رجل الحكمة يخوض الحرب محترمًا
خصومه احترامه لذاته لأنه يعلم أن قوانين
الحياة تقتات بذاتها، ويعرف أن البقاء دائمًا
للأصلح. رجل الحكمة لا يحب الحرب ولا يختلقها،
لكنه لا يخاف خوضها ونتائجها. رجل الحكمة لا
يخاف الموت لأنه يعرف كيف يقضي حياته، ولأن
الموت خاتمة كلِّ تجربة. رجل المعرفة يكتشف
الزيف الذي تُظهِره له زوجتي ومعشوقتي
أفروديتي، إلهة العشق والجمال." هنا
وجدت أفروديتي الفرصة سانحة لها للدفاع عن
نفسها فقالت: "إن العالم محكوم بقانوني
الوحدة والكثرة كي يتجلَّى فيه غنى الوحدة.
والكثرة لا تأتي إلا عبر هيرا، إلهة الأنا
والمُلك والتميُّز. والتميُّز يمرُّ عبر
مرحلتين: البناء والهدم، اللذين لا يأتيان
إلا عبر الإبداع، ووهم التكوين، والفكر
والشكل. أنا الذي أعطي العالم الفكرة
والصورة، وأبث في القلب عواطف الحب والهيام،
فينطلق الإنسان كي يجسِّد الصورة والفكر عبر
الأنا ووهم التكوين. الحكيم هو من يدرك حقيقة
هذه اللعبة، فيمر من خلالي مرور الواعي
المختبر، بينما الإنسان الأحمق يقع في فخ
العهر والدعارة. لهذا أمست السياسة دعارة،
والأديان عهرًا، والإنسان مسخًا. وهذا هو
تجلٍّ لخيارات هذا العالم." *** بدء الشرخ
سمع
العملاق
أطلس كلمات أفروديتي، فضرب كفًّا بكفٍّ وصاح:
"يا ويلي! أأكلِّف نفسي طائلة كلِّ هذا
العناء حتى أحمل العالم على كاهلي، لأكتشف
بعدئذٍٍ أن العالم ما هو إلا قمامة فاسدة!"
ثم اتَّجه إلى زيوس قائلاً: "حتَّام أظل ذاك
الأحمق الذي علَّق على كاهله قمامة قاتلة؟!" نهض
بروميثيوس، ومسح العرق المتصبِّب من عضلات
أخيه أطلس، ومسح جبينه بحنان وهو يقول: "هوِّن
عليك، يا أخي! فلا أحد يستطيع أن يحرِّرنا من
هذا القَدَر الغاشم." غضب
زيوس، فانتفر وزمجر كالرعد: "أين أولادي؟
أين مخلِّصو هذا العالم؟ أين هرقل؟ أين
برسيوس؟ أين ثيسيوس؟ أين أبطال الحكمة؟" كانت
ديمترا، إلهة الخصب والفطرة، ترقب هذا الرعد
الصاخب التائه. فقالت لزيوس: "أنت تذوق الآن
ما أذقتَه لي عندما تآمرت عليَّ وعلى ابنتنا
برسفوني، فزوَّجتَها إلى هادس، إله الجحيم ذي
الوجه الكالح. والآن أذِنَ القدرُ أن تذوق من
المرارة عينها التي أذقتنيها!" نظر
زيوس إلى ديمترا والدموع تنهمر من عينيه
قائلاً: "أما غفرتِ فعلتي، إذ أردتُ ألا
يُحرَم العالمُ السفلي من الخصب والفطرة
والذكاء؛ فما كان منِّي إلا أن خطفت ابنتي
وزوَّجتُها عنوةً، عني وعنكِ، كي لا يُحرَم
العالمُ السفلي من الإبداع والإنبات. ألا
تعلمين، أيتها المخلصة الغالية، أنه في
العالم السفلي تجري مياه نهر ستيكس المقدس
الذي يحتوى أسرار الآلهة جميعًا؟ ألم تشهدي
بطولة هرقل وأوروفيوس وطيبتهما في ذلك
العالم؟" أمسك
زيوس كتفي ديمترا وقال: "آن لقلبكِ أن يلين
ويصفح عني." ردَّت
ديمترا قائلة: "لكنك دمرتَ كوكب الأرض
عشرات المرات، بل مئات المرات... وفي كلِّ مرة
كنتَ تقول لي: "لقد طويتُ الأرض كي أعيد
نشأتها، كي يولد الإنسانُ المتفوق... كي يولد
بطلُ الحياة... كي يولد بطلُ التكوين..."
والآن أشهدُ حيرتك وضياعك للمرة الألف...
وأعلم أنك ستدمِّر كوكب الأرض آلاف المرات،
ولن يولد الإنسان المتفوق، وسيبقى هادس، إله
الجحيم، يترع كؤوس اللذة المعتصَرة من آلام
البشر!" كان
هادس، إله الجحيم، يرقب ببصيرته، وهو في
مملكته، ما كان يجري في مجمع آلهة الأولمب.
فلم يستطع أن يلزم الصمت أمام التُّهم التي
كانت تكال إليه. فحضر إلى المجمع في لمح البصر.
حيَّا هادس الآلهة جميعًا، ثم اتجه بتحيَّته
إلى ديمترا قائلاً: "السلام عليكِ، أيتها
الأم المكافحة... لكم يحزنُني أن القدر وضعنا
في هذا الموقف المؤلم." ثم
أضاف قائلاً: "لقد علَّمتْنا الحكمةُ أن
لكلِّ كائن حي مخلَّفات. فالكون كائنٌ حيٌّ.
ولكي يحيا، لا بدَّ له من إنتاج مخلفات. وهذه
المخلفات هو العالم السفلي الذي ولاني القدرُ
مهامَه. لكن اعلمي، أيتها الإلهة الجليلة، أن
مخلفات الكائنات الحية لا تقتل الخصب
والإبداع، بل تتحول، عبر البكتيريا، إلى سماد
يعطي النبات قوَّة أكبر للخصب والتجدد. وهذه
أيضًا هي حال الكائنات العاقلة. إنها ترتاد
عالمي كي تعود وتولد من جديد، فتُغْني الكون
إبداعًا وتجددًا." قاطعت
ديمترا هادس قائلة: "قد مللتُ هذا التنظير
والتفلسف اللذين لا ينجبان سوى الملل ومضيعة
الوقت." ثم أضافت قائلة: "هل حيرة حكماء
بوسيدون الأخصياء وضياعهم تسميهما خصبًا
وإبداعًا؟! إنك، أيها الإله، لم تزد في الكون
سوى الفسق والمجون والمزيد من الدمار والضياع."
ثم أضافت ناصحة: "تأمَّلْ، أيها الإله، لمن
أعطيتَ الملك والسلطان في الأرض؟ هل لأولئك
الذين يدَّعون أنهم شعب الله المختار بحجة
أنهم يستطيعون إنجاب الكائن المتفوق أو
المخلِّص؟" أجاب
هادس: "السلطان في مملكتي لرجال القوَّة،
وليس لرجال الحق!" ثم أضاف قائلاً: "من
يمتلك قوة الفكر يمتلك قوة الاقتصاد والسياسة
والآلة العسكرية. لهذا كان عليَّ أن أمنحهم
الملك والسلطان. أما رجال الحق فهم مكتفون
بمعارفهم الروحية، ويعزفون عن الملك
والسلطان، وينتظرون مخلِّصًا قادمًا على
جناحي حمامة، كما يحلم الحمار بقدوم الحشيش
فوق صفحات الهواء!" وأكد هادس قائلاً: "الإنسان
المتفوق لا يمكن أن يأتي من الأوكار والجحور
أو السفوح والأدغال... الإنسان المتفوق يأتي
من الحياة، وعبر الحياة!" سألت
ديمترا ساخرة: "هل سيأتي متغذيًا من اقتصاد
مسلوب، وعلوم فاجرة، وهواء فاسد، وحكمة
مزيفة؟ هل ستستطيع عيناه تحمُّل فسق فنون هذا
العالم ومجونه؟ هل سيتحمل قلبه عهر انحطاط
العالم؟" أجاب
هادس: "الإنسان المتفوق لا يولد من الهواء.
إنه كالحبة التي تُطمَر في ظلمة أديم الأرض،
في برودة شتاء قارس. إن البرودة والظلمة،
أيتها الإلهة الجليلة، هما محرضا الوجود على
الاستمرار." قالت
ديمترا حانقة: "من تُراه يدافع عن زيوس إلا
إله الجحيم والظلام!" سمع
زيوس كلمات ديمترا الجارحة، لكن لم يكن
بمستطاعه أن يغضب منها، خاصة وأنه كان السبب
المباشر في عذاباتها. أما ديمترا فقد كانت
تعلم ما يمكن أن يجرَّه عليها غضب زيوس؛ لكن
الأم المجروحة تستطيع أن تذهب بجراحها حتى
دمار العالم. فقالت، والمكر والدهاء يكتنفها:
"يا سيد الآلهة وسيد العوالم، يا من فاقت
قدرتك قدرة جميع الآلهة... إنك قد جهلتَ سرَّين:
السرُّ الأول هو السر الذي علمه بروميثيوس
دون جميع الآلهة، وهو سرُّ قدوم من هو أعظم
منك، فأذقتَه عذاب الجحيمين، إلى أن انتزعتَه
منه انتزاعًا. أما السرُّ الآخر فهو سرُّ فساد
العالم وهو معي. كن مطمئنًّا لأني سأفشيه لك
بالمجان! ولا داعي لاستخدام همجيتك معي!" أجاب
زيوس برفق وحنان: "كنت أعلم، أيتها الإلهة
الطيبة، أن من يمنح العالمَ الخصبَ والحياة
يعرف أسرار الحفاظ عليه، ويعرف كيف يحمي
إنباته وإبداعه." وأضاف زيوس قائلاً: "إن
أحزانك، أيتها الحبيبة، قد أدمتْ قلبي ولم
أشأ أن أثقل كاهلك بالبحث في خفايا نفسك عن
أسرار النشوء والفساد، والبناء والهدم. ولكم
يسرني كرمك إذ قررتِ أن تمنحيني ما كنتُ
أتمناه، دون أن أطلبه منك." قالت
ديمترا: "إذًا اقسم لي، أمام جميع الآلهة،
بمياه نهر ستيكس المقدس قسمًا لا يمكنك أن
تحنث به، أن تسمع السرَّ وتقبل نصيحتي." وقف
زيوس على قدميه ورفع يده وقال بصوت الواثق:
"أقسم!" اضطربت
الآلهة لضعف زيوس وخضوعه أمام ديمترا. وهنا
وجدت ديمترا الفرصة سانحة لها كي تفضي بما
يجول في قلبها من حرقة ولوعة، فقالت مخاطبة
الآلهة: "كثيرًا
ما بحثتم وفتشتم، أيها الآلهة الأجلاء، في
خبايا الغيب وأسرار التكوين عن سرِّ فساد
أخلاق البشر، لكنكم فشلتم جميعًا. وها أنا ذا
أفشي لكم سرَّ أسرار الوجود، فأروني ماذا
أنتم فاعلون." ثم أضافت ديمترا قائلة: "إن
سرَّ تخلف أخلاق البشرية وانحطاطها هي
دكتاتورية حكامها. هذه الدكتاتورية مستقاة من
دكتاتورية السماء، أي من دكتاتورية زيوس،
مرسل الصواعق! ولن تنصلح حال البشر ما لم
تنصلح دكتاتورية زيوس." ثم توجَّهت ديمترا
بخطابها إلى زيوس قائلة: "يا سيد الآلهة
جميعًا! لقد كنتَ تجد لنفسك كافة المبررات
لقسوتك وجبروتك، فقهرتَ كلَّ من سبقك ولحق بك.
وقد جرَّ جبروتُك وطغيانك على البشر مرض
الدكتاتورية. ولن يستطيع أحد أن يعالج هذا
الوباء سواك أنت." ثم استدركت ديمترا قائلة:
"لكن أنَّى لك، وأنت في سطوة جبروتك
وسلطانك، أن تدرك سرَّ مرضك ومرض العالم؟
لهذا ألزمك بعهد قسمك أن تقبل خضوعك
للمحاكمة، هنا... في مجمع الآلهة!" تردَّدت
همهمات الآلهة لجرأة ديمترا. فكيف لهذا الإله
الغاشم أن يقبل هذا الموقف، وإن أقسم؟! لكن
زيوس أجاب بكل هدوء: "لقد أقسمتُ بمياه نهر
ستيكس المقدسة أن أقبل. وها أ نا ذا أبرُّ
بقسمي!" ارتعدت
قلوب الآلهة جميعًا لهذا الموقف. فإذا قبل
زيوس بمحاكمته فإن كلَّ واحد منهم صار تحت
طائلة المحاكمة! لكن
زيوس استدرك قائلاً: "كيف لمثلي أن يفشي
أسرار الكون دفاعًا عن نفسه؟ كيف للعقول
الجزئية أن تدرك أسرار العقول الكلِّية؟ لهذا
سأقبل الاستماع إلى ادِّعائكم. وليقدِّم
بوسيدون دفوعه عني." *** محاكمة زيوس
توجَّه
زيوس
إلى بوسيدون قائلاً: "أيْ أخي وصديقي، يا
سيد بحار الحكمة التي لا يُسبَر لها غور، يا
من قالت عنك الأساطير إنك اختطفت زوجتك
وتزوجتها عنوةً – أي أنك تستمد طاقة حكمتك
ذاتيًّا – يا سيد بحار الحكمة، حامل الحربة
ذات الثلاث شُعَب، أيها الإله الذي يرصِّع
مجدَه عرَّافاه تيروس وبروتيوس، كاشفا مكنون
الغيب، إليك أتجه بنيابتي، كي تقدِّم الدفوع
عني." أجاب
بوسيدون: "أعلم، يا سيد الآلهة، مدى الضيق
والحرج الذي أوقعتْك فيه ديمترا. فالدفاع عنك
يستلزم كشف أسرار التكوين التي تعجز عقول
الآلهة جميعًا عن طاقتها. وسأحاول، بكلِّ ما
أوتيت من قوة، أن أفسر الحكمة حتى الحدِّ
المسموح به، لعليَّ أوفَّق في الدفاع عنك." ثم
توجَّه بوسيدون بخطابه إلى لآلهة قائلاً: "اعلموا،
أيها الآلهة الأجلاء، أنكم لو اطَّلعتم على
الغيب لما اخترتم غير الواقع." ثم أضاف
قائلاً: "إن الواقع، مهما بدا مؤلمًا
وحرجًا، لكنه يخفي ورائه واجبات وإشراطات
واجبة الحدوث. فاحرصوا في دعاواكم على عدم هتك
أسرار التكوين؛ إذ إن بعض أحاديث كشف الأسرار
يستلزم قتل رُواتها." جلس
بوسيدون إلى جانب زيوس، وأشار بيده حتى تبدأ
الآلهة ادعائها. تقدم
أطلس، حامل الكون على كاهله، وقال: "أنا لا
أتَّهم زيوس بشيء، لكني أريد معرفة الجرم
الذي ارتكبتُه حتى سُجِنْتُ إلى الأبد حاملاً
هذا الكون الرهيب على كاهلي." ثم أضاف أطلس:
"لقد طُلِبَ مني أن أحرس شجرة التفاح
الذهبية المقدسة، فكنت أحرص عليها حرصي على
مقلتي؛ لذا أقمت حولها أسوارًا عاليةً، ووضعت
على بابها تنينًا ينفث اللهب، وحرَّمت على
أحدٍ الاقتراب منها. لكن العرافة حذَّرتْني
من أن أحد أبناء زيوس سيأتي ليسرق من الشجرة.
وبالفعل جاءني برسيوس وطلب مني أن أسمح له
بالمبيت عندي. لكني خفت من نبوءة العرَّافة،
فحاولت طرده، حرصًا مني على أمانة حماية
الشجرة. لكن برسيوس غضب ولم يستطع تقدير مهمة
حمل الأمانة وصعوبتها، فكشف لي عن رأس ميدوسا
الخبيث الذي تكلِّله الأفاعي، فأحالني إلى
طودٍ شامخ يصل السماء، واستحال شعري إلى
غابات، وهوى ثقل الكون على كاهلي. وأنا، منذ
ذاك الوقت، تئنُّ عضلاتي تحت وطأة هذا الحمل
الرهيب، وتعصف تيارات الإجهاد في كياني."
ثم اتَّجه أطلس إلى الآلهة سائلاً: "بالله
عليكم! قولوا لي أين تكمن جريمتي عندما حافظت
على أمانتي؟" حزنت
الآلهة لحال أطلس البائس وعذاباته الأبدية.
لكن بوسيدون وقف واتجه نحوه قائلاً: "المجد
لك، أيها العظيم بين الآلهة. لم يتحول شعرك
إلى غابات، بل تحولت قدماك إلى هذه الأكوان
اللامتناهية. إنك، أيها الكادح، كارما
الوجود، إسار السبب والنتيجة، الذي يصنع
عدالة التكوين. وما شجرة التفاح الذهبية سوى
ثمار تجلِّي الصفات الإلهية في الكائنات
الراقية." وأضاف بوسيدون: "أما رأس
ميدوسا الذي أحالك طودًا فهو الجدُّ والكفاح
المطلوب للحصول على ثمار تجلِّي الألوهة عبر
مواجهة آلام ومحن الطاقة السالبة، التي هي،
بدورها، علَّة انفلاش الأكوان. أما وسيلة
الحصول على التفاح الذهبي فهي حمل الأمانة
ومواجهة الطاقة السالبة." ثم
توجه بوسيدون إلى الآلهة مخاطبًا: "لقد جاء
هرقل ذات يوم وطلب من أطلس أن يعطيه ثلاث
تفاحات ذهبية من تلك الشجرة. فوافقه أطلس،
شريطة أن يحمل الكون عنه ريثما يتسنى له
الذهاب لإحضار التفاح. وهكذا هوى حِمْلُ
الكون الرهيب على كاهل هرقل، وأنَّتْ عضلاتُه
وانتفخت، وراح العرق يتصبَّب منها. راحت
الأفكارُ تدور في مخيلة هرقل: "مسكين يا
أطلس... كم تعاني في حمل هذا الكون! مسكين يا
أطلس... لم يختبر أحدٌ معنى الألم على أشُدِّه
سواك..." ثم خطرت على بال هرقل فكرةٌ مفزعة
هي: "ماذا لو هرب أطلس وترك له هذا الحمل
الرهيب على كاهله؟!" وانتهت حيرة هرقل،
وعاد أطلس، فتحرَّر هرقل من آلامه وفاز
بالتفاحات الذهبية. وهذا يعني أن الإنسان لن
يستطيع الحصول على ثمار تجلِّي الألوهة فيه
ما لم يحمل الأمانة ويتحمَّل هموم وصعاب
التكوين." قال
أطلس: "فلسفة الألم رائعة، لكن اختباره
شيءٌ آخر!" أجابه
بوسيدون: "الألم واللذة وجهان لعملة واحدة.
لا مفرَّ لنا من مواجهة الألم. إنه بوابة عبور
الوعي إلى الأكوان اللامتناهية." خاف
بروميثيوس من أن يهزم ادِّعاء أطلس، فوقف
وقال لبوسيدون: "ما أعظم دفوعك، أيها الإله
الحكيم! ربما استطعتَ، بما أوتيت من حكمة، أن
تجد مبرِّرات القسوة التي يتعرض لها أخي أطلس.
فهل تستطيع أن تجد المبررات لقسوة زيوس
عليَّ؟" ثم توجَّه بروميثيوس إلى الآلهة
مخاطبًا: "لقد علَّمتْنا الحكمةُ أن نحبَّ
الإنسان وأن نفتديه بأموالنا وأرواحنا. ولقد
ساءتني حالُ يأسه وتيهه وضياعه، ولم تردعني
قوة محبتي له من مغبَّة سرقة النار والعلوم
المقدسة من أجله. لكن القدر كافأني بسمٍّ
قاتل، وهو معرفتي أكْناهِ الغيب." صمت
بروميثيوس برهة، ثم تابع ساخرًا: "أولئك
الحمقى يتسابقون لمعرفة علم الغيب، دون أن
يدروا أية عاقبة سيحملون!" ثم
تابع قائلاً: "لقد علمتُ سرَّ قدوم من هو
أعظم من زيوس فكتمتُ السرَّ. إلا أن زيوس
قرَّر انتزاعه مني عنوةً. وعندما رفضتُ ساقني
جبَّارا زيوس إلى ذاك المكان القصي من العالم
الذي لم تطأه قدم إنسان؛ وكان برفقتهما صديقي
وحبيبي هيفستوس، إله العلم والممكنات، الذي
أوكِلَتْ إليه مهمة تصفيدي إلى صخرة كبيرة،
ثم غَرْس الحربة في صدري. لقد كنت أراه
محزونًا، منكس الفؤاد، يمسك مطرقته الثقيلة
ويجرجر خطاه بمرارة. وكنت أدرك أساه وحزنه
العميقين، لكنه لم يكن بمستطاعه معصية إرادة
أبيه زيوس، ذاك الإله الغاشم." صمت
بروميثيوس ثم أضاف: "عندما وصلنا إلى تلك
الصخرة قام هيفستوس، وبدأ بتكبيلي، بينما
كانت الدموع تنهمر من عينيه. فصاح به الجبروت:
"اضرب بمطرقتك الأصفاد جيدًا بكلِّ ما
أوتيت من قوة! فبروميثيوس حاذق ماهر،
وبمقدوره أن يجد لنفسه مخرجًا، حتى عندما
تنغلق دونه السبل. شُدَّه بكلِّ قوَّة
ومهارة، وليتعلَّم بعد اليوم كيف يكون خداع
الآلهة!"" صمت
بروميثيوس، ثم أضاف: "كنت أرقب وجه هيفستوس
وهو يطرق الأصفاد، وشعرت وكأنه يطرقها في
قلبه، فقلت له: "هوِّن عليك، أيها الحبيب!
علينا أن نتحمل تبعات خياراتنا." وعندما
أنهى هيفستوس عملية تكبيلي أمسك الحربة بيديه
ورفعها كي يغرسها في صدري، فراحت يداه
ترتجفان، وراح عزمه ينهار، فصاح به الجبروت:
"لا تتلكأ ولا تحزن عليه كي لا يستعديك أبوك."
وانهار هيفستوس بثقله على صدري، وراح يجهش
بالبكاء. فاخترقتْ الحربةُ صدري، وبدأت رحلتي
مع الألم. أمسك جبَّارا زيوس هيفستوس من
ساعديه بكلِّ قوَّة، وصاح بي الجبروت: "يمكنك
هنا أن تعتدَّ بنفسك ما شئت! فكن عاتيًا
متغطرسًا، واسرق خيرات الآلهة وقدِّمْها
للبشر، ودعنا نرى هل يمكنهم الآن مساعدتك؟"
ثم شدَّ الجباران هيفستوس من ذراعيه، وتركني
ثلاثتهم وحدي في قفارٍ موحشة، أكابد آلامي
وحسراتي. لقد حزنتْ وبَكَتْ جميع المخلوقات
الأثيرية، وكانت تنصح لي بأن لا مخرج لي من
هذه الآلام إلا بإفشاء السرِّ لذاك الطاغية.
وكنت أجيبها: "إني أكره جميع الآلهة، ولن
أستبدل بآلامي المبرحة عبوديتي. وأنا أفضل أن
أظل مغلولاً هنا إلى الصخور على أن أكون
خادمًا طيِّعًا لزيوس."" وتوجَّه
بروميثيوس إلى الآلهة سائلاً: أي إثمٍ
اقترفتُ، وأي جرمٍ ارتكبتُ، عندما ساعدت
البشر، فسرقت لهم النار من قرن هيفستوس، إله
العلم والممكنات، وعلَّمتهم القراءة والحساب
والفنون، وأهديتهم علم المعادن والزراعة
والصناعة وترويض الحيوان." ثم أضاف قائلاً:
"كل ما علَّمتُهم إيَّاه كان من شأنه تخفيف
آلامهم وشقائهم وزيادة فرحهم وسعادتهم. لهذا
ثارت حفيظة زيوس عليَّ فأنزل بي العذاب." وصمت
بروميثيوس ثم قال: "لقد منحتْني طيبتي
مقدرة كشف مكنون الغيب، وعلمت ذاك السرَّ
الذي كان سبب شقائي ومعاناتي. ورفضتُ كشفَ
السرِّ، مهما جرَّ عليَّ من عذاب ومِحَن.
لكنني، بينما كنت أعاني ما أعانيه في تلك
البلاد القصية، جاءتني إيو، جدة هرقل، وقد
تضرَّج جسمُها بالدم إثر لدغات آفة لعينة
سلَّطتها عليها هيرا، إلهة الأنا والتميُّز.
وقد طلبتْ مني أن أكشف لها حُجُبَ الغيب
وأنبئَها متى وأين ستنتهي عذاباتها. فأجبتها:
"ألاَّ تعرفين الغيب أفضل لكِ من أن
تعرفيه، لأنك، أيتها المسكينة، ستطوفين
العالم برمَّته، ويغطي دمُك سطح الأرض، ويشهد
العالمُ آلامك وأسقامك، قبل أن تصلي إلى شاطئ
نهر النيل الذي سيشهد انتهاء آلامك، وستلدين
طفلاً يأتي من نسله مَن يُخلِّصني." عندئذٍ
سمعتُها تصرخ: "يا ويلي مما سألاقيه من
مِحَن! سأجن... أجل سأجن قبل أن أحصل على الخلاص."
ثم ذهبت كالعاصفة وهي تصيح وتصرخ." وأضاف
بروميثيوس قائلاً: "كنت أعلم أن مصير زيوس
إلى زوال في يوم من الأيام. لهذا كنت مستعدًا
لتحمل الآلام. ونفد مخزون صبر زيوس، فضرب
الصخرة بصاعقة أطاحتنا إلى عالم مظلم، ومكثنا
هناك دهورًا وقرونًا. ثم رفعنا من جديد، وقد
سلَّط عليَّ نسرًا كان يأكل كبدي كلَّ يوم،
وكان كبدي ينبت من جديد." غصَّ
بروميثيوس بمرارة ثم تابع قائلاً: "وفي مصر
انتهت عذابات إيو، ووضعت حِمْلها الذي جاء من
نسله البطل هرقل، وجاء ليحرِّرني، فقتل النسر
بسهامه، وحطَّم الأصفاد بهراوته، وافتداني
القنطور الحكيم خيرون بذهابه للعالم السفلي
بدلاً عني، وأُرغِمْتُ على إفشاء السرِّ
لأبيه." تقدَّم
بوسيدون من بروميثيوس قائلاً: "فلتتقدس
روحك، أيها المكافح الجبار، الذي يفتدي
العالم بنفسه. المجد لك ولكلِّ الآلهة
الأجلاء الذين يطوفون الأكوان مشاركين
أحياءها آلامهم ونوائبهم. إنك تعلم، أيها
العظيم، أنه عبر كارما والآلام وتحمُّل
الصعاب يتطور الوعي في الإنسان. لكنك، إذا
أردت أن تحرق له بعض المراحل، لتسرِّع في
تطوُّره، فلا مفرَّ لك من أن تدفع عنه الألم
بنفسك. لهذا واجهتَ ما واجهتَ، وعانيتَ ما
عانيتَ، وأصبحت تجليًّا حقيقيًّا لصفة إلهية
في الطيبة والمحبة، ورمزًا مقدسًا لمخلِّصي
العالم." وأضاف بوسيدون قائلاً: "لقد
مكَّنتْك طيبتُك وأعمالُك الجليلة من أن
تطَّلع على أكناه الغيب، وغاب عن بالك أن
المعرفة شيء والسيطرة على العالم شيء آخر!
وغاب عن بالك شيء آخر هو أن كلَّ شيء يخضع
لقانون صراع البقاء، حتى التجلِّيات الإلهية.
لهذا كان على زيوس – من منطلق الصراع من أجل
البقاء – أن يستخدم كلَّ ما لديه من قوة
ووسيلة حتى يستخلص منك السر. وبالتالي فقد
دفعتَ قيمة الآلام التي جنَّبتَها للبشر.
وهذا هو قانون العدالة الكارمية، وإلا فسد
الكون." ثم أضاف بوسيدون قائلاً: "لقد كان
الصراع بينكما صراع قوتين: قوة الحكم
والسيطرة، وقوة الطيبة والمحبة. وصدِّقني،
أيها الإله الحكيم، أنك لو كنت مكان زيوس
لفعلت به ما فعل هو بك." كان
بروميثيوس يصغي بصمت لدفوع بوسيدون وهو
يتساءل إن كان منطلق دفوعاته حماية زيوس أم
كشف الحقيقة! لكن بوسيدون أضاف قائلاً: "أنظر
إلى إيو، جدة هرقل، كيف هامتْ في الأرض وعانت
ما عانت، حتى أهدت العالم ذلك الإنسان الإلهي." وضع
بوسيدون يده على كتف بروميثيوس وقال: "إن
العالم محكوم بإسار السبب والنتيجة. فمن أراد
أن ينير العالم بقوة عليه، في المقابل، أن
يبتلع ظلمته." وأضاف بوسيدون: "إن خيرون
لم يفتديك بدخوله العالم السفلي بدلاً عنك،
بل إنه أصبح الصورة الإلهية البشرية عنك. إنه
المعلِّم ومعبر الأرواح الساعية إلى الكمال." ثم
توجَّه بوسيدون إلى لآلهة مخاطبًا: "إذا لم
يتطور مستوى فهمنا للحقيقة وللعالم فسيظل
الجهل يحيق بنا، وسنبقى تائهين في حقل الموقف
وتيه حروف الكلمة." قال
بروميثيوس: "كم أنا بحاجة للتسليم لدفوعك،
أيها الحكيم الجليل. لكني مازلت مؤمنًا أن
الصفات والنسب الإلهية تختلف من طور إلى آخر.
وتتغير الصفات الحاكمة بمقتضى تغيُّر جملة
الصفات المحكومة. وبما أن الصفة الحاكمة
مستفيدة دومًا من جمود الصفات المحكومة، مهما
اعتراها من ضعفٍ وخللٍ، آثرت أن أغيِّر
الصفات المحكومة كي أجبر الصفة الحاكمة على
التغيُّر. وهكذا حاولت إبدال الجهل معرفة،
والعمى نورًا، والشقاء سعادة، بغية تغيير
الصفة الحاكمة التي يمثلها زيوس. ولو قُدِّر
لي النجاح لتحوَّل العالم إلى جنة!" أجاب
بوسيدون: "الحكيم الحقُّ يرتاد العالم لهذا
القصد النبيل. الشرور والطاقة السالبة كبيرة،
لذا تحتاج الحكماء إلى العودة إلى العالم
مرات عديدة، تعاني ما تعانيه، وتكابد ما
تكابده, كي تتمكن من تطهير العالم وإعادته إلى
عصره الذهبي." وتوجَّه
بوسيدون بخطابه للآلهة جميعًا: "إن عصرنا
الحالي هو العصر الحديدي، عصر كالي، أو عصر
الظلمة والجهل؛ وهو عصر خصب للكائنات الراقية
السامية لتحدِّي الصعاب وصنع المستحيل، لنقل
العالم من حضيضه إلى أوجه. فالحكيم الحقُّ
يعرف أن عليه مكابدة الآلام عصورًا ودهورًا
لأن لعبة وهم الوجود قائمة على الجسارة
والتحدي." وأكد
بوسيدون قائلاً: "إن صراع البقاء لا يخضع له
الإنسان فحسب، بل الصفات الإلهية أيضًا. لقد
صارع زيوس مستخدمًا جلَّ قواه وأساليبه
للحفاظ على بقائه، لكن العالم يسير إلى
تغيُّر وتبدُّل. فغدًا، عندما يستلم أحدكم
حكم الكون بدلاً عنه، سيتطور الكون في أحد
الأطوار؛ لكن الكون سيُدفَع إلى التطور أبعد
من قدرة تطور القوة الحاكمة. وهكذا ستعود
القوة الحاكمة إلى صراع البقاء، وربما صارت
أقسى من زيوس. لذا تقول الحكمة: ويلٌ لمن تزلُّ
به قدم! فالقوة
الحاكمة سيئة الطالع، سواء أكانت سماوية أو
أرضية." قال
بروميثيوس: "سمعنا، أيها الإله الحكيم، أن
هيا، ربة الممكنات، قد أبدعت من دم أورانوس،
إله السماء، عمالقة مروِّعين، لهم أقدام من
أفاعٍ، منحتْهم ترياقًا كي يكونوا منيعين دون
جميع أسلحة الآلهة؛ لكنها فشلت في منحهم
ترياقًا يمنَّعهم دون أسلحة هرقل. وعندما
جاء العمالقة لانتزاع ملك الآلهة فشلت جميع
الأسلحة في الدفاع عن الأولمب. هنا أرسل زيوس
في طلب مساعدة هرقل، فجاء وقتل العمالقة وحمى
ملك الآلهة." وسأل
بروميثيوس قائلاً: "قل لي، أيها الحكيم
الجليل، كيف تبسطون سلطانكم على العوالم في
وقت تعجزون فيه عن حماية أنفسكم؟" ابتسم
بوسيدون وقال: "إن القدرات في عالم الإطلاق
متساوية، لكن تغلب الصفات الإلهية. وظهور
صفات جديدة يعتمد على الإنسان؛ إذ إن الإنسان
هو بذرة التوازن الكوني. لهذا لا قيمة لأيِّ
عمل إلهي، مهما كان، إذا لم تكن له جذور في
الإنسان. لذا تأتي الآلهةُ إلى الأرض في صورة
الحكماء، وتعمل على تغيير المعطيات
الإنسانية، عبر تطوير وعي الإنسان، بغية
تغيير الصفات الكونية." وأكد بوسيدون
قائلاً: "لهذا فإننا نعتبر كوكب الأرض مركز
الكون، وليس ذرة غبار في المحيط الكوني." كانت
إيو تستمع لدفاع بوسيدون باهتمام وإصغاء
بالغين، وكانت تحاول كظم حقدها وغيظها على
هيرا، إلهة المُلك وأنا التميُّز. لكن آلامها
المبرحة لم تمنعها من مقاطعة بوسيدون والتدخل
قائلة: "ما أعظم دفوعك، أيها الحكيم
بوسيدون، وما أوسع بحار حكمتك! إن العقل ليعجز
إلا عن التسليم لحكمتك ومواعظك. لكن لي سؤالاً
أريد طرحه على هيرا، وأريدها أن تقدم لي
تفسيرًا. ولا ضير عليها فيما إذا تنازلتْ
وأجابتْ، خاصةً وأن زيوس قد رضي بمحاكمته!" نظر
بوسيدون إلى زيوس ليستطلعه الرأي، فهزَّ زيوس
رأسه موافقًا، تعلو شفتيه ابتسامة وترتسم في
عينيه نظرة وديعة. *** محاكمة هيرا
أنا
المُلك والتميُّز كانت
هيرا
تجلس على عرشها الذهبي بجانب زوجها زيوس. فلما
استمعتْ إلى إيو نظرتْ إلى زوجها نظرة
استهجان. فأشار إليها أنْ ليس بإمكانها الرفض.
عندئذٍ نزلت هيرا عن كرسي عرشها ووقفت أمام
إيو. قالت
إيو لهيرا: "هل تسمحين، أيتها الإلهة
الجليلة، أن تشرحي أمام مجمع الآلهة سبب
قسوتك عليَّ؟ وأي جرمٍ أو إثمٍ ارتكبته بحقكِ
دفعكِ لإرسال آفةٍ كبيرة مزقت لي جسمي
وأرغمتْني أن أطوف العالم حتى أقاصيه، وأعبر
بحاره وأنهاره هاربةً من آفتكِ اللعينة، حتى
وصلتُ بلدانًا لم تطأها قدم إنسان، وقد نزف
دمي وغطى تربة وصخور العالم، وامتزج بمياه
بحاره وأنهاره فكدَّرَها؟ أيَّة قسوةٍ وأيُّ
قلبٍ صخري تملكين؟!" وأضافت إيو قائلةً: "أنا
لست ضحيتكِ الوحيدة؛ فكلُّ آلام الكون
ومكائده لكِ نصيبٌ فيها. وأنا أتساءل: ما
الفرق بينكِ وبين التنين تيفون أو أفعوان
ليرني؟ لقد مارستِ قسوتكِ وجبروتكِ تحت أنظار
زيوس عندما سلَّطتِ تنينكِ تيفون على والدة
إله النور لاتونا، فراحت المسكينة تضرب الأرض
وتجوز البحار هاربةً منه. ولم تعفي حتى
الأطفال من شروركِ؛ فقد سلَّطتِ الوحوش
والأفاعي عليهم وهم في المهد. ولم ينجُ حتى
زيوس من شروركِ! فقد سلَّطتِ عليه إلهة النوم
وإلهة الخداع، فكتبتِ على هرقل المكافح أشد
أنواع العبودية والألم! وأنا أعجب لزيوس الذي
علَّقكِ بين السماء والأرض، وربط بقدميكِ
سندانًا ثقيلاً؛ أعجب له، لِمَ لَمْ يقتلكِ
ويريح السماء والأرض من دسائسكِ ومكائدكِ
ومصائبكِ!" ابتسمت
هيرا وقالت: "لقد نسيتِ، أيتها المباركة
المجيدة، أن أمِّي، إلهة الممكنات، أنبتت لي
شجرة التفاح الذهبية وقدَّمتْها لي هدية. ولا
بدَّ لكِ أن تتساءلي، مادمت أملك كلَّ ما
أملك، لِمَ أعادي كلَّ من يقاسمني ملكي لزيوس!" هزَّتْ
كلمات هيرا مجمع الآلهة فاضطرب. أما زيوس فقد
قطَّب حاجبيه منذرًا بغضبٍ رهيب. لكن هيرا
تابعت بصوتٍ عالٍ وثقةٍ كبيرة: "أجل أنا
أملك كلَّ شيء... وأملككم أنتم أيضًا! أليست
شجرة التفاح الذهبية ملكي؟ ألم يقل لكم
الحكيم بوسيدون أن التفاحة الذهبية هي تجلِّي
الصفة الإلهية في الكائن الواعي؟ هل يوجد
تجلٍّ دون "أنا"؟" وأكَّدت هيرا بصوتٍ
عالٍ: "إنني أنا "أنا التميُّز"،
وجوهري هو جوهر جميع الآلهة. بدوني لا يوجد
أول ولا آخر ولا ظاهر ولا باطن. ومن جوهري يأتي
العالم إلى حيِّز الوجود." قهقهت
إيو بصوتٍ عالٍ وقالت: "أي عالمٍ سامٍ له
جوهر هذه اللئيمة!" اشتعلتْ
نارُ الغضب في قلب هيرا، لكنها بذلتْ جهدها
لكظم غيظها وقالت: "ليس الذنب ذنبكِ لتقولي
ما قلتيه؛ لكنه ذنب العلم الذي يُستخدَم
للقهر والغطرسة بدل استخدامه كأداة استقراء
واستدلال لمعرفة الحقيقة." وخاطبت
هيرا الآلهة قائلة: "إن الكون محكوم
فيزيائيًّا بمبدأين هما: التشريد الكهربائي
والحركة. إن التشريد الكهربائي ناجم عن عدم
التوازن بين الشوارد الموجبة والشوارد
السالبة في المادة. هذا التشريد يخلق حقولاً
كهرمغناطيسية. فإذا ما خضعتْ هذه الحقول
للحركة ولَّدت حقولاً في المواد الأخرى
تساويها مقدارًا وتعاكسها اتجاهًا. ثم يقوم
الحقل المتوِّلد بتوليد حقل آخر يساويه
مقدارًا ويعاكسه اتجاهًا. وهكذا تتكاثر
الحقول وتتعاكس الاتجاهات لتنشأ المادة
وتتمظهر أمام أعيننا وفق موضوعات غايتُها
تحفيز الذات لمعاينة ذاتها ودفع وعيها للتطور.
وهذا هو أنا: دائمًا أشعل نار التناقض، وأثير
الشك والجدل، لتستيقظ النفس من الخمول
والكسل، وأدفعها عنوة لارتياد الدرب الكارمي
لكي تتطهَّر وتستيقظ أنوار الصفات الإلهية
الكامنة فيها." نظرت
هيرا إلى إيو وقالت: "لولا تناقضي معكِ،
ولولا آلامكِ ومعاناتكِ، لما جاء إلى العالم
ذاك البطل الإلهي." ثم نظرت إلى لاتونا
وقالت: "ولولا معاناة لاتونا، لما جاء إلى
العالم أبولون إله النور ولا أخته أرتيميدا!" *** محاكمة هادس
إله
الجحيم
تقدَّمت
لاتونا
من مجمع الآلهة قائلة: "جميعنا قد سمع
بالألم وبناره الكاوية. لكن من لم يتذوقه فلن
يعرف ما تحمل هذه الكلمة من معنى." وأضافت
قائلة: "أنتم جميعًا تعيشون في عالم
الأولمب، وتنعمون باللذة والسعادة والهناء،
وتقررون أقدار البشر التعساء؛ وهناك في
العالم السفلي يقبع البشر أسرى خياراتكم
ولهوكم. ولكم يؤسفني أن أرى أشد عقابكم
توقِعونه بالبشر عن طريق إرسالهم إلى العالم
الأسفل، دون أن تكلِّفوا أنفسكم عناء حمايتهم
من الأخطاء وسوء العاقبة." ثم
توجهت لاتونا إلى هادس قائلة: "أيْ هادس...
أيها الإله المجيد الذي وصفتْك الأساطير
بالكالح الوجه، وبالإله الغاشم الصخري
الفؤاد. يا مَن تقول عنك الحكايات بأنك تترع
كؤوس مجدك ولذتك من آلام المعذبين. إليك
أتوجَّه بسؤالي، فأجبني، وارفع عني كابوس
شكِّي وحزني." أجاب
هادس: "الظلم في كلِّ مكان، أيتها الآلهة
المجيدة. فكما طاردكِ التنين إلى أن أقصاكِ
وراء المكان والزمان كذلك طاردني تنين الفكر
البشري حتى مسخني شيطانًا لعينًا." ثم أضاف
قائلاً: "بماذا أجيبكِ، سيدتي، وجميع
دفوعاتي قد ارتبطتْ بأسرار القوة الحاكمة
الكونية. وكما أن أخي زيوس، سيد الآلهة، لم
يستطع الدفاع عن نفسه فأنا لا أجد أمامي وسيلة
سوى أن أحذو حذوه، وأتَّجهُ إلى بوسيدون
للنيابة عني." اتجهت
لاتونا إلى بوسيدون قائلة: "هناك في دياجير
الظلمة والمخاطر اللامتناهية تقع مملكة هادس
التي لا تصل إليها الشمس. وبالرغم من مرور نهر
ستيكس المقدس الذي ينطوي على أسرار البشر
والآلهة، إلا أن شواطئه تتردد عليها زفرات
أرواح الموتى المليئة بالأحزان. وعلى باب
مملكة الأحزان يقبع الكلب الجهنمي كيربيروس
ذو الرؤوس الثلاثة التي تنشب حولها أفاعٍ
تفحُّ فحيحًا رهيبًا. وفي وسط مملكة الجحيم
هذه، يجلس هادس على عرشه الذهبي إلى جانب
زوجته. وتقوم على خدمتهم ربات الانتقام وآلهة
الموت ومصاصات الدماء. أما الأرواح فتذوق
عذاباتها الأبدية. آه، أيتها الآلهة، لكم
يحترق فؤادي عندما أستمع إلى قصص المعذبين
البائسين. وأكثر ما يحزُّ في نفسي قصة
أوروفيوس الذي لم يرتكب في حياته إثمًا سوى
جريمة الحب!" نظرت
لاتونا إلى مجمع الآلهة، وقرأت علائم
الاستغراب والدهشة على وجوه الآلهة. ثم أضافت
قائلة: "منذ متى كان الحب جريمة تعرِّض
صاحبها للإهانة وللعذاب الأبدي؟!" ثم أضافت
سائلة: "ألم تسمعوا بقصة المسكين أوروفيوس
الذي حرمه الموت من محبوبته، فنزل إلى العالم
السفلي للعودة بها، وعانى ما عاناه وقاسى أشد
أنواع العذاب، وفشل، بسبب ما كان يشتعل في
قلبه من نار الحرقة واللوعة، فعاد منه
والحسرة تأكل قلبه دون أن يحقق أمنيته
بعودتها. لكن الباخيات الماجنات حقَّقن له
حلمه في إعادته هو إلى العالم الأسفل، بعد أن
حطَّمْن له عظامه وسلخن جلده." نظرت
الآلهة إلى لاتونا، فوجدت الدموع تغطي وجهها.
جلست لاتونا وهي تقول: "أيُّ مجدٍ عظيم تقوم
عليه هذه العوالم؟" تقدَّم
بوسيدون وقال: "ليتبارك قلبك النقي الذي
عرف الألم، فأنعم على العالم بالنور والرحمة.
لكن، يا صاحبة القلب النقي، العالم السفلي حق
تجهله العقول القاصرة. فلولا العالم السفلي
لما ارتدعت الأنانيات ولما قام العدل!"
وأضاف قائلاً: "لكي يكون دفوعي واضحًا
وجليًّا، سأطلب من هرقل أن يقصَّ علينا،
أولاً، مشاهداته في العالم السفلي، لعلَّها
تساعدنا في فهم مغامرة أوروفيوس، وتزيل عنَّا
الغموض واللبس." تقدم
هرقل والأنوار تشعُّ من محياه. فانفرجت
أسارير أطلس وبروميثيوس ولاتونا وإيو. لم لا،
وهو البطل الصنديد الذي اختبر حياة السماء
وحياة العالم السفلي، وأنجز بطولاته
السماوية والأرضية. وكم كان من العدل أن يتخذ
هرقل مكان زيوس ويزيح جميع هذه الآلهة!" قال
بوسيدون: "المجد لك، أيها البطل الكوني
المكافح. سأكون سعيدًا فيما لو شرحت، على مسمع
من جميع الآلهة، مشاهداتك في العالم السفلي.
وسأكون مسرورًا فيما إذا تركت لي الفرصة لشرح
كلِّ مشاهدةٍ على حدة، بأن تعطيني الوقت
الكافي للشرح." قال
هرقل: "بدأتْ رحلتي إلى العالم الأسفل
عندما وقفتُ على شاطئ نهر ستيكس المقدس." استأذن
بوسيدون للشرح فقال: "نهر ستيكس هو نهر
الحكمة. فمن أراد أن يدرك أسرار حكمة التكوين
عليه أن يعبر حقل الحكمة." تابع
هرقل قائلاً: "وهناك شاهدتُ خارون الشيخ،
ناقل أرواح الموتى. إنه صخري الفؤاد." تابع
بوسيدون شارحًا: "خارون، سيد روحي، هو الذي
ينقل الأرواح عبر العالم السفلي بعنايته
وبإشرافه وفق رصيدها الكارمي. فمن ُقدِّر له
أن يعيش أعمى أو كسيحًا أو مكسور الفؤاد،
فالمعلِّم يفرض عليه تحمُّل تبعات خياراته،
ثم يساعده في إنجاز مهامه في العالم الأسفل
بالطريقة المناسبة." وتابع
هرقل قائلاً: "وعند بوابة العالم الأسفل
شاهدت ثيسيوس وبيريفويوس مغلولين على صخرة،
عقابًا لهما لتجرئهما على دخول العالم الأسفل
ومحاولتهما خطف بيرسيفوني، زوجة سيد العالم
الأسفل. استنجدا بي، فقمت وحررت ثيسيوس من
قيوده. لكن عندما حاولت مساعدة بيريفويوس
جاشت الأرض ومنعتْني من تحريره." شرح
بوسيدون قائلاً: "لقد حاول المذكوران
اختطاف زوجة سيد العالم الأسفل، أي حاولا
امتلاك طاقة ذاك العالم، دون أن يعلما أن
أعباء العالم السفلي كبيرة، وأن أغلالها
متينة، فقبعا سجينَيْ الكثافة والجلافة. لكن
هرقل، بسبب ما كان يمتلك من كارما موجب،
استطاع أن يمنح جزءًا منه لثيسيوس فحرَّره.
لكنه فشل في مساعدة بيريفويوس لأنه يحتاج إلى
رصيد أعلى من الكارما الموجب بسبب ما كان
يمتلكه من حصيلة كبيرة من الكارما السالب." تابع
هرقل قائلاً: "كانت مهمَّتي هي القبض على
الكلب الجهنمي كيربيروس، حارس بوابة العالم
الأسفل ذو الرؤوس الثلاثة التي تنشب حولها
الأفاعي." وقال أيضًا: "لم يسمح لي هادس،
سيد العالم الأسفل، أن أواجه الكلب بأسلحتي؛
لكنه وافق لي أن أقمعه بساعدي فقط." قال
بوسيدون: "إن الكلب الجهنمي ذو الرؤوس
الثلاثة إنما هو الجهل والطمع والحقد. أما
الأفاعي فهي الآلام والمحن. فمن أراد أن يتحرر
من العالم السفلي وأغلاله عليه مواجهة آلامه،
والتخلص من جهله وأحقاده وأطماعه. لقد كان
هرقل بطلاً مسلكيًّا ومثلاً مقدسًا؛ ولم تكمن
قوته في عضلاته، بل كانت في إرادته وأفعاله." أنهى
هرقل كلامه وعاد إلى مكانه؛ فتوجَّه بوسيدون
إلى لاتونا قائلاً: "أما مأساة أوروفيوس،
أيتها الأم المقدسة، فدعينا نستمع إليها من
فمه." دخل
أوروفيوس مجمع الآلهة بقامته الفارعة ووجهه
الوسيم، تعلوه بسمة نشوة روحية نابعة من
أعماق سعيدة، يحتضن قيثارته بيد ومحبوبته
باليد الأخرى. كانت خطواته على الأرض تعزف
إيقاعًا على نبضات القلب، وكانت النسائم
تنساب من بين أوتار قيثارته، فيتردَّد منها
أعذب الألحان دون أن تمسها أنامل." قال
بوسيدون: "عندما تتوقف الأفكار، وتذوب
الصور, تداعب أوتار القلب موسيقى كونية. ولولا
تلك الموسيقى لبقيت الصورة والفكر صخورًا
تتحطم عليها الأبدية." ثم رحَّب به قائلاً:
"أهلاً بأوتار القلب ونغمة الروح الأبدية!" قال
أوروفيوس: "كثيرًا ما أستفيق وأرى نفسي
غارقًا في نبضة نغمةٍ مترددة خلف حدود
التكوينات. وعندما أحاول التعبير بالكلمات
والتشبيهات أرى نفسي أعمى أصمَّ أبكم، عاجزًا
عن شرح ما يجيش في قلبي. وكثيرًا ما أرى من
يلتاع لسماع ألحاني، لكنه يبقى عاجزًا عن
فهمي. وكثيرًا ما أحاول الكلام، ثم أندم وأقول:
إن الكلمات مقبرة المشاعر." ثم سأل بوسيدون:
"لِمَ طلبتَني؟ وأي فائدة ستجنيها من
كلماتي الميتة؟" قال
بوسيدون: "المقبرة التي تأكل ذاتها ولا
تنتهي هي عالم الكون. ونحن هنا في عالم الفكر
نحتاج أمواتًا كي نكفِّن الأموات! لهذا لا ضير
عليك فيما إذا تكلَّمت. إن ذكريات آلامك
ومآسيك ماثلةٌ هنا أمام مجمع الآلهة، وقد
أشعلتْ نار الشك في القلوب. لذا نرجو منك أن
تشرح، على مسمع من الآلهة، خبراتك ومشاهداتك
في العالم الأسفل." قال
أوروفيوس: "كان لعذوبة موسيقاي الأثر
الطاغي على سلطة سيد العالم الأسفل. لقد
اقتطعت وعدًا من هادس أن يعيد لي محبوبتي
إفريديكي، لكن بشرط أن تسير ورائي، دون أن
ألتفت إليها، حتى مغادرة العالم الأسفل. وأكد
لي أنه سيعيدها إليه، ويحرمني منها فيما لو
خالفتُ الشرط والتفتُّ إليها." وأضاف أيضًا:
"قبلتُ الشرط، وسار أمامي الإله هرمس
ليهديني سبيل الخروج. وسار من ورائي طيف زوجتي
ومحبوبتي إفريديكي. حاولت في البداية
معانقته، لكن هرمس أوقفني قائلاً: عُدْ إلى
رشدك... فأمامك طيف لا حياة فيه. هيا بنا كي
نخرج، فطريقك محفوفٌ بالمخاطر. وإياك أن
تلتفت إلى الوراء وإلا فستحطِّم كل آمالك. وهكذا
سرت خلف هرمس، وعبرنا نهر ستيكس، وأدركنا
بداية الدرب الذي يقودنا إلى عالم الحرية. لكن
الدرب كان صعبًا وشاقًا، مليئًا بالصخور
والمنحدرات. وخيَّمتْ على المكان عتمةُ الغسق
حتى كاد هرمس أن يختفي عن ناظري. ولاح من بعيد
ضوءٌ خافتٌ يشير إلى بوابة الخروج. لكن النور
لم يكن كافيًا، حتى لو استدرت لرؤية طيف زوجتي.
واضطربت في نفسي تساؤلات غريبة: هل زوجتي لا
زالت تسير ورائي، أم أنها لا زالت أسيرة
العالم السفلي؟ وإذا كانت ورائي، فهل تستطيع
عبور هذه المنحدرات وتسلق هذه القمم؟ وتباطأت
خطاي ورحت أصيخ السمع لخطاها ورائي. لكن متى
كان للأطياف وقع خطى؟! وغمر الضوءُ المكانَ،
فأعياني التوجس والقلق، ونفد مخزون صبري،
فاستدرتُ ورائي ورأيت طيف زوجتي وحبيبتي
إفريديكي يكاد يلامسني، فمددتُ نحوها ذراعي
كي أعانقها. لكن سرعان ما انفصل الطيف، وراح
يبتعد عائدًا من حيث أتينا." ونظر
أوروفيوس في وجه حبيبته وقال: "آهٍ، كم كانت
آلامي وأحزاني في تلك الساعة! ليتني أتمزق ألف
مرة ولا أعاود هذه التجربة مرة أخرى!" تقدم
بوسيدون من العاشقين وخاطب مجمع الآلهة
قائلاً: "في قصة هذين العاشقين تكمن أسرار
وجودنا. فكلٌّ منا أوروفيوس ولكلٍّ منا
إفريديكه. إن الأنثى ليست سوى طاقاتنا
الروحية التي أسرتْها الأعباء الكارمية، أو
أعباء الموضوع الوجودي الذي تنسجه خيوط
كارما، إسار السبب والنتيجة. جميع النفوس
الإلهية ترتاد العالم الأسفل لتحرِّر
طاقاتها الحبيسة هناك كي تعود إلى العالم
السماوي وتشهد بها مجدها. لكن مأساة أوروفيوس
هي مأساة كلِّ نفس يعتريها القلق والتوجس
ونفاد الصبر. لقد نجح أوروفيوس في إنقاذ طاقته
ومحبوبته من إسار السبب والنتيجة وحياة
الانفصال؛ لكن تبقى آفة الإنسان فقدان الصبر
وزعزعة الإيمان عندما يوشك أن يصل نهاية
الرحلة. فيعيد الكارما التجربة من جديد كي
يصنع له خلاص الأبطال." تدخلت
لاتونا قائلة: "هناك مأساة مسكين خاطئ،
عجزت الرحمة الإلهية عن غفرانه! ولازال ذاك
المعذب أسير دوامات الألم التي ليس لها قرار."
ورَجَتْ أوروفيوس أن يشرح لمجمع الآلهة ما
يلاقي ذاك المعذَّب سيزيف من أصناف العذاب." ***
|
|
|