|
المسألة
العراقية:
الحق القومي
والحق الكوني
التظاهرة
العالمية بين التشبيح القومي
والتهويل الديني والتبرير
الإيديولوجي
علي
حرب
التظاهرات
الحاشدة
للألوف المؤلفة من البشر، احتجاجًا على
الحرب، كما جرت في أكثر عواصم العالم ومدنه
الكبرى، بما في ذلك بعض المدن الأمريكية،
تشكل حدثًا مهمًا له دلالاته وآثاره الفعالة
على المستوى العالمي، بقدر ما يكشف عن
المفارقات الفاضحة على المستوى العربي. 1.
الدلالات الفائقة 1.
ما جرى يعني، أولاً، أن العولمة التي ولجنا
فضاءها منذ زمن ليست كارثة، ولا هي فخ أو
وباء، كما يخشى المذعورون من فتوحاتها
وتقنياتها، وإنما هي واقع حيٌّ ومعيش، فَتَحَ
إمكانات جديدة للتواصل والتضامن بين البشر،
تجعل من المتعذر، بعد الآن، الفصل بين
المحليِّ والكوكبي، كما تشهد المشكلات
الاقتصادية والبيئية، وخاصة الأمنية؛ الأمر
الذي يجعل أي أزمة تنفجر في بلد من البلدان
تتخذ بُعدَها العالمي وتتحول إلى شأن كوكبي
يخص جميع الدول والبلدان. ولذا فالذين
يعارضون الحرب على العراق لا يفعلون ذلك فقط
لتأدية واجب أخلاقي أو إنساني، بل أيضًا
لأنهم يدركون أن الحرب التي تجري في أيِّ مكان
من العالم تُلحِق الضرر بالبشرية جمعاء.
وهكذا بات الأمن عالميًّا والاقتصاد كونيًّا
بقدر ما أصبحت المصائر والمصالح متشابكة،
وبقدر ما أخذت تتشكل هويات مُعَوْلَمَة هجينة
ومتعددة اللغة والجنسية والإقامة، هي الأفق
الرحب لإنسان المستقبل. والمثال المهندسة
زهاء حديد التي ولدت ونشأت في العراق، وتخرجت
من الجامعة الأمريكية في بيروت، ثم تابعت
تخصُّصها في لندن، وتقيم وتعمل اليوم في
الولايات المتحدة! 2.
تعني التظاهرات، من وجه آخر، تشكيكًا في
صدقية مقولة هنتنغتون حول صدام الحضارات. ومع
أن هذه المقولة قد أُطلِقَتْ مع افتتاح العصر
الرقمي الذي تضاعفت معه إمكانات التواصل
والتبادل بين البشر فإنها لا تنتمي إلى منطق
العولمة بقدر ما تنتمي إلى زمن الحرب الباردة
وإلى منطق الصراعات بين الدول والأمم. فإرادة
التضامن على نحو لا سابق له، كما تجلَّت في
الحشود الغربية الهائلة ضد الحرب على بلد
عربي ذي غالبية إسلامية، تكذِّب مقولة الصراع
بين الإسلام والغرب أو بين العرب وأمريكا.
ولعل هذا ما جعل أ. غسان تويني يعكس الآية في
واحدة من افتتاحياته الجريئة في كلامها على
الاستبداد والكاشفة للهزال والتضليل، لكي
يقرأ ما لم يقرأه سواه في الظاهرة، معتبرًا أن
جماهير "العالم المسيحي" تتظاهر لكي
تحمي "دار الإسلام" من "صليبية" بوش
التي سرعان ما أطلقها لكي يتراجع عنها. لذا
فإن التظاهرات، بقدر ما تسير في اتجاه معاكس
لمنطق الصِّدام، فإنها تجسِّد خيارًا آخر،
تفتح الأبواب والفرص أمام منطق المداولة ولغة
المشاركة، حيث الإحساس بالمسؤولية المتبادلة
عن المصير البشري المشترك. وهذا ما لا يراه،
من فرط العمى الإيديولوجي والتهويم النضالي،
المثقفون الذين تحدثوا عن طوباوية الأطروحة
التداولية. 3.
التظاهرات تعني، من جهة ثالثة، أن المجتمعات
الغربية تمارس حرياتها السياسية
والديموقراطية في التعبير والاحتجاج
والمشاركة في صنع القرار، ليس لأن فئات واسعة
منها تحتشد في الشوارع والساحات العامة، بل
لأنها مجتمعات تمارس حيويتها الفكرية بقدر ما
هي مجتمعات خلاقة وغنية، مصنَّعة
ومُؤَعْلَمة، قوية وفعالة بإنتاجها للمعارف
والقيم والثروات والسلع والأدوات إلخ. وهي
تمارس الديموقراطية ليس فقط بانتخاب حكامها (لدورة
أو دورتين على الأكثر، لا مدى الحياة!)، وإنما
تمارس أيضًا الديموقراطية بمعناها الأصلي
والمباشر، بحيث يخرج الناس عندما يستدعي
الأمر إلى الشارع، متجاوزين الحكومات
والبرلمانات، للتعبير عن رأيهم في قضايا
الساعة وفي المسائل التي يعتبرونها خطيرة
ومصيرية، على ما خرجت الجموع الغاضبة في ذلك
السبت الذي أصبح من الأيام المشهودة في تاريخ
العالم. ولا أعتقد أن التظاهرات موجَّهة ضد
الولايات المتحدة كشعب وبلد، أو كقيم وثقافة
ونموذج عيش؛ فمن السخف الاعتقاد بذلك. الأحرى
القول إن التظاهرات تعبِّر عن معارضة الإدارة
الأمريكية التي تراجعت، من حيث معتقداتها
وسياستها واستراتيجيتها، عن الإدارة السابقة
التي كانت أقل إمبريالية وأكثر عولمة
وليبرالية. فهي، إذن، مجابهة القوة العظمى
التي تجنح إلى ممارسة أحادية القطب لكي تتفرد
بإدارة العالم والسيطرة على مقدَّراته. 4.
لا شك في أن التظاهرة تركت أثرها على الإدارة
الأمريكية التي فوجئت بهذا الحشد الدولي الذي
لم يسبق له مثيل. ربما لن تتراجع هذه الإدارة
عن قرار الحرب؛ لكن الضغط الشعبي العالمي سوف
يجعلها تُراجِع حسابها وتعيد بناء موقفها
للبحث عن وسائل وأُطُر ومسوِّغات جديدة لشنِّ
الحرب تأخذ في الاعتبار الإجماع الدولي
والرأي العام العالمي. مهما
يكن من أمر فإن التظاهرات الحاشدة، مضافة إلى
المعارضة القوية من جانب الدول الأوروبية
الفاعلة، تكشف عن مأزق الولايات المتحدة في
سياستها الأحادية. وإذا كان ثمة احتمال أن لا
تقع الحرب، كما يأمل الكثيرون في العالم،
وبعكس ما يفكر الأكثرون في العراق، ممَّن
يأملون بسقوط النظام القائم، فلن يكون ذلك
بسبب ضغط العرب الذين لا حول لهم ولا قوة، بل
سيكون ثمرة الضغط الدولي والتضامن الشعبي من
جانب أكثرية من نوع جديد، تمارَس على المستوى
العالمي، بقدر ما تجسِّد المواطِنية الكونية
أو الهوية العالمية. وتلك
هي ثمرة التفكير في هذا الزمن الكوكبي
المُعَوْلَم: لم يعد بوسع أمة أو دولة، أيًّا
كان مبلغ قوتها وغناها، أن تنعزل عن غيرها أو
أن تنفرد بنفسها في حفظ أمنها وتأمين غذائها.
من هنا فإن الذي يتعاطى الشأن العالمي،
بعيدًا عن لغة الشراكة ومنطق الاعتماد
المتبادل، سوف يورِّط نفسه ويخلق أزماته، كما
نسمع اليوم ونقرأ، حيث سياسة الانفراد داخل
المعسكر الواحد تثير النزاعات بين الدول
والقارات. ومن ينفرد ويشذُّ عن الإجماع
الدولي، لكي يتألَّه ويتجبَّر ويضرب عرض
الحائط بإرادة التضامن والشراكة، سوف تدور
عليه الدوائر، وهو الذي يمارس القرصنة
والمروق أكثر من سواه، كما هو، على نحو خاص،
دأب إسرائيل الذي يستحق صفة الدولة "المارقة"
بامتياز. وإذا كان الذين تظاهروا قالوا "لا"
قوية وصريحة لأمريكا، فإنهم قالوا أيضًا "لا"
مضمرة لإسرائيل، إذا شئنا أن نقرأ المسكوت
عنه في الظاهرة. 2.
المفارقات الفاضحة إذا
كانت التظاهرات والمعارضات والاحتجاجات
الرسمية والشعبية ذات مردود إيجابي على قيم
الحقيقة والحرية والتضامن والشراكة والسلام،
فأين العالم العربي مما جرى ويجري؟ لا مراء أن
الحدث ترك آثاره وتداعياته على أكثر من مستوى: 1.
على المستوى الرسمي تحركت الحكومات خشية أن
يفوتها الحدث وتزداد هامشية – الأمر الذي حمل
مصر – أكبر الدول العربية – على تعديل موقفها
بعض الشيء، إذ سارعت بدعوتها إلى عقد قمة
عربية طارئة لبحث المسألة العراقية. ولعلها
تأخرت كثيرًا في تحركها؛ فذلك ما كان على
العرب أن يضطلعوا به منذ زمن: ممارسة الضغط
على النظام العراقي، باسم الرابطة القومية
التي يرفع لواءها هذا النظام، لا استقبال
أركانه ورموزه الذين ساموا أهل الكويت سوء
العذاب! قد
يقال هنا: كيف يسع عرب الأنظمة مطالبة صدام أو
محاسبته، وبعض ما يأخذونه عليه يؤخذ عليهم؟
قد يكون للأنظمة العربية عجزها وآفاتها أو
استبدادها وظلمها؛ ولكن من الظلم مقارنتها
بالنظام العراقي الذي سبَّب كارثة قومية على
العرب. هل باستطاعة الحكومات العربية التي
تتحرك الآن أن تفعل شيئًا بحيث تستلم هي نفسها
الملفَّ العراقي؟ هذا هو الرهان، مع أن
التجارب أثبتت أن العرب يجتمعون على
العموميات التي لا تحتاج إلى تنفيذ. أما
المشكلات العالقة والأزمات العملية المشتركة
فلم يثبتوا حتى الآن جدارتهم في معالجتها
والاتفاق في شأنها بصورة عقلانية تداولية
فعالة ومنتجة. 2.
على المستوى الشعبي كانت حركة الشارع معدومة
أو هزيلة وخجولة قياسًا على حركة الجموع
الغاضبة في العالم (باستثناء التظاهرات في
دمشق وبيروت). وكانت حركته أقرب إلى ردِّ
الفعل، لأن العرب يتأثرون أكثر مما يؤثرون.
ولا عجب: فالمجتمعات العربية هي مؤسَّسات
معسكرة أو مدجَّنة، تُحسِن الامتثال
والتصفيق، وتمارس طقوس العبادة للزعماء
والرؤساء، بقدر ما تعامَل كقطعان جاهلة أو
ككائنات بلهاء من جانب النخب الثقافية
والدينية والسياسية. إنها مجتمعات ميتة
سياسيًّا وفقيرة اجتماعيًّا بقدر ما هي بائسة
ثقافيًّا؛ ولذلك فهي قليلة الفاعلية والأثر،
ليس فقط في أحداث العالم، بل في قضايا العرب
المصيرية – إلا على نحو سلبي أو عقيم أو
مدمِّر! 3.
أما النخب الثقافية فهي، في غالبيتها وفي
الشرائح الأوسع منها، الأكثر بؤسًا وسلبية
بعقولها القاصرة ومقولاتها المفلسة،
بشعاراتها الخاوية وتهويماتها التحررية،
بمشاريعها الفاشلة ورموزها المتهالكة. ولذا
تَراهم مازالوا يفكرون بالعقلية والوجهة
والطريقة نفسها، مستخدمين العدة الفكرية
نفسها التي قادت العرب من هزيمة إلى هزيمة ومن
إخفاق إلى آخر. وهذا ما يفعلونه الآن، على ما
نرى ونسمع الكثيرين الذين يقولون عبر الصحافة
والشاشة: ليس الوقت لمحاسبة نظام صدام! فضلاً
عن الذين يؤكِّدون أن الدفاع عن النظام
العراقي نفسه بات واجبًا لأن مصيره مرتهن
بمصير القضية القومية والمصلحة العربية
العليا! تلك
هي المفارقة الفاضحة التي تكشف مدى الفرق
بيننا وبين الغربيين: فهم أصحاب المبادرة
للتظاهر والاحتجاج؛ في حين نحن نتظاهر كصدى
لتظاهراتهم. وهم يخرجون بالملايين لكي يقولوا
لا للحرب، أو لا لبوش، أو لا لحكوماتهم
المؤيدة لشنِّ الحرب. أما عندنا فالتظاهرات
والاحتجاجات، في الشارع ومن جانب النخب
المثقفة وصُنَّاع الرأي، إنما توظَّف للدفاع
عن نظام امتاز بجَلْد شعبه وتشريد خبرائه أو
تصفية مثقفيه. ولعله من سوء حظ الشعب العراقي
أن تهب رياح التغيير بعكس ما يشتهي، فيما لسان
حاله كلسان حال الشعب الكويتي إبان الغزو
المشؤوم: انتظار من يساعده على التحرر من نير
النظام العراقي! قد
يقال إن الحرب على العراق تستهين بالوجود
العربي، وتنتهك القانون الدولي، فضلاً عن
تدخلها في الشؤون الداخلية العراقية. ولا
جدال أن تغيير النظام في العراق هو شأن داخلي
– هذا لو كانت الأمور تُطرَح وتجري على
المستوى الوطني الصرف. ولكن أكثر العرب
يتعاملون مع المسألة العراقية بصفتها مسألة
قومية؛ فضلاً عن أن أركان النظام العراقي لا
ينسون لحظة أن يذكِّرونا بأنهم يدافعون عن
حقوق الأمة وكرامتها! وإذا كان الأمر كذلك، أي
إذا كانت المسألة العراقية تملي على العرب
واجب التضامن والدفاع عن العراق، فإن من حقِّ
كلِّ عربي أن يحاسِب ويطالِب برحيل من صنعوا
الهزائم والكوارث. وإذا كان التحرر من كابوس
النظام هو مسؤولية الشعب العراقي، فإنه،
بموجب الحقِّ القومي، يحقُّ على الأقل القول
لمن يدَّعون الدفاع عن كرامة العرب: إنكم لا
تحسنون الدفاع، بل أنتم عملتم على إهدار
الكرامة وتبديد الثروة! ثم
إن الحقَّ الوطني صار جزءًا من حقٍّ أشمل يخص
المجتمع الدولي. فمع الدخول في عصر العولمة
باتت قرارات الدول وأعمال البشر ذات بعد
عالمي لا يُجدي تجاهلُه. يترتب على ذلك حقٌّ
كوني، بموجبه يجوز للمجموعة البشرية أن تتدخل
في شأن أيِّ دولة ترى أنها تهدد أمن العالم. وإذا
كانت الظاهرة الجديدة، كما تمثَّلت في
التظاهرات الشعبية العالمية، تشكِّل إرادة
دولية في مواجهة هيمنة الولايات المتحدة،
فللأمر وجهُه الذي ينبغي ألا نتناساه؛ بمعنى
أن للمجتمع الدولي الحقَّ بمحاسبة العراق
ومطالبته، كما هو يعارض الولايات المتحدة
ويطالبها بوقف الحرب المحتملة على العراق. وإذا
كانت الولايات المتحدة تبحث عن ذرائع أو
تطالب بحقٍّ يراد به باطل، بتركيزها على قضية
أسلحة الدمار الشامل، بدليل أنها تدعم
إسرائيل الذي يملك مثل هذه الأسلحة ويمارس
البربرية على أرض فلسطين، فإن ذلك ليس ذريعة
لنا لكي ندعم أو نتواطأ مع النظام القائم في
بغداد، لأننا نعرف حقَّ المعرفة أنه، سواء
امتلك أسلحة الدمار أم لم يمتلكها، يشكل
خطرًا على أبناء العراق وعلى العرب أجمعين
أشد من الخطر الآتي من الخارج، أي أشد من
الخطر الإسرائيلي. فإسرائيل احتجز أسرى
وعذَّبهم ولكنه أطلقهم في النهاية؛ أما
الأسرى الكويتيون في العراق فما زالوا مجهولي
المصير، إن لم يكونوا قد قُتِلوا – هذا ما
نتناساه. كما أن النظام القائم في بغداد قد
استخدم الأسلحة الكيميائية ضد جزء من شعبه،
بقدر ما نجح في تشريد أو تهجير فئات واسعة منه
إلى الخارج. وهكذا
فنحن نحاول، منذ أكثر من نصف قرن، إرجاع
الفلسطينيين إلى ديارهم فيما نعمل، من جهة
أخرى، على تهجير الملايين إلى الخارج من سائر
البلدان العربية، بسبب الفقر والجور والتسلط
والبربرية. هذا ما يتناساه العرب ونخبهم
المثقفة. فهم يظهرون غيرتهم الكاذبة على شعب
العراق، فيما هم يعملون على تحسين سمعة
النظام العراقي بالهروب من أسئلة الحقيقة
والواقع، لكي يلتقوا مع من يعمل على
استئصالهم ويقفوا ضد الشعوب التي يزعمون
الدفاع عن مصالحها. إنهم أعداء الشعب العراقي
– بأفكارهم ومواقفهم. ولذا نراهم يتماهون
الآن مع النظام الكوري الذي يمتاز هو الآخر
بتدجين شعبه وتجويعه! بهذا
ندافع عما ندَّعي محاربته ونحصد ما نشكو منه،
لكي نشكل الوجه الآخر للإمبريالية
والصهيونية والشارونية وأندادها أو أشباهها
في البلدان العربية. وتلك هي الأكذوبة
والفضيحة والكارثة. ولا
عجب أن ندافع عما ندَّعي محاربته وأن نشتغل
بخسارة القضايا والمشاريع بعد عقود من
النضالات الفاشلة دفاعًا عن العروبة
الاستبدادية أو عن الإرهاب الإسلامي، فيما
المنتظر والمجدي، لمن يملك تراثًا هائلاً
وموارد غنية، أن يمارس إسلامه بصورة حضارية
تواصلية، بقدر ما يمارس عروبته بصورة خلاقة،
منتجة وبنَّاءة. وهكذا فنحن لا نحسن سوى
الإضرار بأنفسنا ومجتمعاتنا، بعجزنا وجهلنا
وأوهامنا وادِّعاءاتنا التي تجعلنا نحسب
المشكلة حلاً والهزيمة نصرًا والشتيمة
اعتذارًا. 3.
نقد الداخل هو الأَوْلى ولذا
فإن ما يمكن المثقف أن يفعله الآن هو الاعتراف
بفشل المهمة وإخفاق الدور في ما يخص الشعارات
التي رُفِعَتْ حول الحرية والديموقراطية
والعقلانية والتنمية. من هنا فالأولوية لنقد
الذات؛ ولكننا نهرب دومًا من حمل المسؤولية،
فنرميها على الإمبريالية والعولمة والأمركة،
لكي نشهد بذلك على جهلنا المركب وعجزنا
المضاعف. وهكذا فنحن نُثني على الكتَّاب
الغربيين الذين ينتقدون الثقافة الغربية
والنظام العالمي، ولكننا لا نرى الوجه الآخر
للعملة، أي لا نتعلَّم منهم نقد الذات
لاجتراح ممكنات جديدة للمعرفة والعمل تتيح
صناعة الحياة بصورة غنية ومثمرة، والتأثير من
مجريات الأحداث بصورة فعالة وراهنة. لينظر
المثقف، على سبيل الاعتبار، إلى فتسلاف هافل،
الكاتب الرئيس أو الرئيس الكاتب، الذي أجرى،
قبل انتهاء ولايته جردة حساب، كاشفًا بذلك عن
ادِّعاءاته وأوهامه وأخطائه وسذاجته. فمن باب
أولى أن يفعل المثقفون العرب ذلك بعد كلِّ هذه
القضايا الخاسرة والدفاعات العقيمة. وأول
النقد فكُّ الوصاية عن الأمة والهوية
والحقيقة والحرية، بحيث نُخضِع للتشريح
والتفكيك ما أسهم في توليد "طبائع
الاستبداد" وفي إنتاج الأزمات الحضارية في
العالم العربي على صعيد المفاهيم والنظريات
التي هي من اختصاص المثقفين العاملين في
ميادين المعرفة. فجذور الأزمة والآفة كامنة
في نماذج الثقافة وأنظمة الفكر؛ والمهمة هي
أن نتقن عملنا لتجديد شبكات الفهم وصيغ
العقلنة، في ضوء التحولات والمتغيرات في مشهد
العالم. لذا
فإن المسألة صارت تتجاوز الانتقال من مقولة
"الجماهير" إلى مقولة "الشعوب".
يُخشى أن لا نضيف جديدًا إذ نقول ذلك. فنحن
نعلم أن أسوأ الديموقراطية التي مورست في
القرن الماضي هي الديموقراطيات الشعبية
لحركات التحرر الوطنية. هذا ما جعل مقولة "الشعب"
ترتبط بالديكتاتورية، بقدر ما ترتبط مقولة
"الجماهير" بالقطيع البشري. المسألة أن
نغير مفهومنا للشعب والمجتمع بعدما تغيَّر
المعطى المجتمعي الذي صار يُفهَم بمصطلحات
جديدة، مثل "الفاعل الاجتماعي" و"عمال
المعرفة" أو "عملاء الإعلام". ثمة
إمكان لتشكل مجتمع جديد يمكن تسميته "المجتمع
التداولي"، بعدما استُهلِكَت شعارات
المجتمع المدني والديموقراطي بقوالبنا
المتحجرة ونماذجنا الجاهزة. والمجتمع
التداولي ليس مجتمع نخب وجماهير، بل مجتمع
قطاعات وحقول يمارس العاملون فيها تأثيرهم
ويشاركون في صنع مصائرهم، بقدر ما هم منتجون
أو مبدعون للوقائع والحقائق في مجالات
اختصاصهم، وبقدر ما يفكرون بعقلية المشاركة
والمداولة وحمل المسؤولية المتبادلة في
معالجة المشكلات وتنمية القدرات، سواء على
مستوى حقل أو قطاع أو دولة أو وطن، أو على
مستوى المعمورة بأسرها. إن
التظاهرات العالمية المعارضة للولايات
المتحدة في شنِّها الحرب على العراق تفضح
هزال الوضع العربي بقدر ما تكشف هشاشته
الثقافية والسياسية. وليس ذلك مدعاة لليأس
والإحباط. بالعكس: إنها فرصة لكي نغيِّر أنظمة
اقتناعاتنا وسياساتنا الفكرية لإنتاج أفكار
وقيم ومواقف وبدائل حول الذات والغير، أو حول
الواقع والعالم، أو حول الحرب والسلم. وذلك
يحتاج إلى أن نتخلَّى عن طريقتنا في التفكير
وعن استراتيجيتنا في إدارة الوقائع، حيث نعيد
النظر في المرجعيات والخيارات والأدوات
والوسائل التي نستخدمها في التقييم والتشخيص
كما في العمل والتدبير، وعلى النحو الذي
يمكننا من استثمار طاقتنا الحية في الخلق
والابتكار، وبما يتيح لنا بناء القدرة
وممارسة الفاعلية للمشاركة في صناعة العالم
وإدارته عبر المساهمة في إنتاج المعرفة
والقيمة والثروة والقوة. فمن لا يخلق الوقائع
ولا ينتج الحقائق لن يمارس حريته، لأن الحرية
ثمرة القدرة والفاعلية؛ والقدرة هي فعل خلق
وبناء، بقدر ما هي صناعة تحويل وتوليد. هذا
ما يفعله الأمريكيون الذين يوجهون أعنف النقد
لسياسة حكومتهم. وإذا كنَّا نحن في موقع
الأضعف ولسنا في موقع الأقوى مثلهم، فلا يعني
ذلك أن ما نحتاج إليه هو التعصب للذات والتوهم
بأننا على حق، أو التفكير بعقلية الحراسة، أو
إتقان لغة الندب، أو الغرق في هواجس الهوية.
بالعكس: إننا نحتاج إلى النقد أكثر منهم،
بإتقان لغة الفهم الذي يفتح أبواب الممكن،
ويتيح الانتقال من موقع الضعف والقصور
والتبعية وردِّ الفعل والهامش إلى موقع القوة
والفعل والمشاركة. وإذا
كانت حشود الناس في العالم قد تحملت
المسؤولية وقالت "لا" لبوش وللحرب، فما
يُنتظَر منَّا أن نشكِّل شطرهم الآخر، بحيث
نقول أيضًا، حكامًا وشعوبًا وصُنَّاع رأي،
"لا" لمن صنع الهزائم والكوارث ومارس
التسلط والطغيان. بذلك نحمل المسؤولية
الجسيمة، ونحاول أن نمسك بملف المسألة
العراقية لكي نثبت جدارتنا في تدبُّر حياتنا
ومعالجة أزماتنا بالمشاركة مع المجتمع
الدولي. أما
أن ندافع عن الديكتاتورية العراقية، أو أن
نطرب للديكتاتورية الكورية، بحجة مواجهة
أمريكا، أو أن نواصل، بذريعة الدفاع عن
العراق، التبرير الإيديولوجي والتشبيح
القومي أو التهويل الديني، فذلك يعني أننا لن
نصنع قدرتنا ولن نستحق حريتنا، بل سوف نظلم
أنفسنا ونمعن في تشويه صورتنا. لكي نحول
المردود الإيجابي للحدث العالمي إلى مردود
سلبي. وتلك
هي "أم الهزائم والكوارث"! ***
*** *** عن
النهار، الاثنين والثلثاء، 24-25 شباط 2003
|
|
|