|
في
بُقَعِ الصَّمْت
جونوفييف
كلانسي*
1.
في التضحية
(مقاطع)
التمرُّد الذي
يتمُّ لغايةٍ واحدةٍ: أن يفرضَ احترامَ
الإنسان – كرامةً وحضورًا – ضدَّ القمع الذي
يُهدِّمهما، لا يمكن أن يخضع
للمساومة، إنه تمرُّد محتوم
ولا مردَّ له. الصفحةُ التي
يكتبها هذا التمرُّد لا يُفلِتُ منها
أيُّ شاهد. كمثل ضوء موجةٍ
عميقة، كمثل دمٍ جامدٍ
في أنهار الأفق، كمثل حديد
الجزَّارين الثقيلِ الذي يشحذُ
الظلمات. التحليلات،
الدعايات، التصريحات الصدئة، تلك هي أعمال
مشرِّحين يجرفهم في النهاية سيلُ البرودةِ
التي يحاولون أن يغطوا بها التضحية
العَمودية لجميع الذين
يشهدون في العالم، رجالاً ونساءً، للعظمة
الإنسانية. هناك لا شكَّ
تواطؤٌ بين تهديم الروحانية البشرية وعَقْلَنَةِ
الأشياء الأكثر سوءًا. ولئن كَان
السياسيون الظلاميون يصرُّون على رفض
التضحية ومعناها، فلأنهم على الغالب
يرتعبون من أن يروا
حتى هذا الجمال
الأول الذي ينهض خارجهم، والذي دمَّروه في
دواخلهم ذاتها. كمثل تمزُّقٍ
يلتطمُ بالعلوِّ كمثل ظلٍّ
يمتحنُه ليلُه كمثل ينبوعٍ
ترجعُ مياهُه إليه. الحق أنه يستحيل أن نسجن تحوُّل
الحياة إلى حياةٍ بالموت، في تمثُّلٍ
يقلِّص الحياة إلى وجودٍ يتمُّ فيه قبول
الإذلال للعيش حتى كمثل
ما يعيش النبات. كمثل الموتى
هنالك يُعَرُّونَ كلَّ شيء كمثل الجمال يحجب
سرَّ العمل كمثل علوِّ الذين
ينثرون البذار. أولئك الذين
يكافحون حتى التضحية الواعية بحياتهم، يذكِّروننا أن
الإنسان لا يعيش بأيِّ ثمن. أن كينونته لا
ترتسم في فضاء علاقات القوة، أو الخطط، أو
الاقتسامات التي يديرها تُجَّار التاريخ. يوضحون لنا أن
الموت ليس عقبةً في وجه الحياة، وأنَّ القبض عليه
بوصفه سلاحًا إنما هو إبقاء
للحياة خارج كلِّ استلاب. أن نموت في موت
الآخر إنما هو احترام للإنسان الذي نواجهه؛
وهذا أمر يختلف جذريًّا عن الحرب. إطلاق الرصاص
والقنابل في الحرب يكشفُ عن العقلية نفسها
التي ترشُّ بالمبيدات الكائناتِ التي تظنُّ
أنها ضارَّة. فالحرب تنظر إلى الإنسان بوصفه
شيئًا. ولهذا تقوم على الكراهية. لكن، أن
نموتَ في موت الآخر لا يعني أننا نقضي عليه
لكي نبقى: أليس في هذا ما
يمحو الكراهية؟ أليس فيه ما
يرتبط بالاحترام المطلق لجمالِ الإنسان؟ أليس لمثل هذا
العمل صيرورةٌ كمثل صيرورة
الحب؟ كمثل ظهيرةٍ
تمتزج باللانهاية كمثل صراخٍ يعود
إلى الكلمة كمثل جانبٍ
محيطيٍّ من اللامرئي. التَّضحية
تُخَلْخِلُ المنظوراتِ، وتذكِّر بكلِّ ما
يبقى عصيًّا على الاستلاب. إنها تنتمي إلى
النُّور الصوفي في تاريخ البشر. والموت الذي
يستقبلها إنما هو جَعَدُ الحضور المجازي
للكينونة في العالم. *** 2.
مياه النسيان
(مقاطع)
بين الظلمات والليل رصيفٌ شاهق الجرح حيث الهوى يراقب
الولادة. في منفى السؤال ظلُّ منحدَرٍ
لدمٍ في المغيب، عشيقٌ محيطيٌّ
لما لا يُرى. الفضاءُ يحصد
الكلمة من يعبر خطَّ
الظهيرة الأعلى؟ *** 3.
أرصفة
(مقاطع)
تُعانق الموجة
سرَّ ليلها. للصمت عينا الألم
العاريتان كمثل قدمي نافذةٍ
زجاجية شاحبتين. انكسارٌ أبدي
يتسلَّق الكلمة. يضع الطيران على
عتبته تجلِّياتٍ، تحرِّرها الريحُ
من أغوار الرمال. *** 4.
حديقة على طرف السماء
ظِلُّ اللاعودة
المريرُ، عسلٌ يحترق فوق
المنفى مغرب طيرانٍ
يتشرَّد في دفاتر للأطفال. الغيابُ سَمَّى
النهرَ بانحرافه. المحيطُ يريدُ
الولادةَ تحت الرماد. مركبٌ يحرِّر
ضياءَ أرضٍ تُمسِكُ بها
الأنقاض أعراسٌ سُمرٌ
للصراخ والصمت أرضُ شعراءٍ في
مساء يجهلُه الشروق. الصحراء تواكب
الحضور الهشَّ كمثل سرابٍ
شفَّاف. *** 5.
دموع جامدة لحجاب الحجر بين جدران الصَّفحة،
وَضَعَ الدَّمُ المائدة ووضعتِ الكلمةُ
سُجونَ الكلمة. كمثل ما تخشعُ
الأرض تحت جناح طائر ضائع، عرقٌ يتشرَّب
الليل، حاميًا دُوارَ الطفولة. في بقع الصمت يلوِّن حريقُ
القمر العتبةَ بألوان قزحية، بين الجسد
والتبلُّد. ***
*** *** وضعها
بالعربية: أدونيس *
جونوفييف كلانسي Geneviève Clancy
شاعرة فرنسية وأستاذة في جامعة السوربون (باريس
4). خصَّ أدونيس بهذه المقاطع الشعرية
زاويتَه "مدارات" في صحيفة الحياة،
الخميس 9 أيار 2002؛ وقد لفت انتباهَنا إليها
صديقُنا وصديق معابر الشاعر جبران سعد،
فقمنا بإعادة نشرها بعد استئذان أدونيس. (المحرِّر)
|
|
|