نفسانية المفاهيم العلمية

 

موسى ديب الخوري

 

داهمني الوقت! كنت قد أعددت أفكارًا كثيرة لهذا البحث وكتبت عشرات الصفحات! وها أنذا أنبذ ما دوَّنت ولم يبقَ لديَّ من الوقت سوى يومين لكتابة محاضرتي[1]! كنت مشحونًا بمعانٍ كثيرة أريد أن أبَلْوِرَها في خلاصة من صفحات قليلة؛ لكنني شُغِلتُ في الأيام الماضية ولم أستطع العمل في موضوع أعلم أنه مختمر في "أعماقي". وها أنا أمسك بقلمي وقد غابت كافة الأفكار التي كنت ملأتُ الصفحات بها عن ذهني لأبدأ كتابة موضوعي! وهكذا فإن البحث الذي قضيت ساعات طويلة في التحضير له لا ينبثق الآن من تراكمات الأفكار، بل من انصهار المعاني في "أعماقي" ومن تفجُّرها في اللحظة!

*

إن شحنة الشعور التي تنتابني حين أكتب هي التي تصدُقُني القولَ إذا ما كانت الأفكار المتدفقة فيَّ منسجمة مع طبيعتي الذاتية أم لا. فنفسانيَّتي تبحث باستمرار عن هذا الانسجام، ولا تقبل، كما هي الحال عند جميع الناس، بأفكار لا تنبثق من ذاتية تعطي المعنى وتتقبَّله في آن واحد. وتكون هذه الشحنة الشعورية في الحالة الأولى هادئة وقوية، وتنساب معها الأفكار كجدول صافٍ؛ أما في الحالة الثانية فإنها تكون مضطربة وضعيفة، مما يشوِّش الأفكار – ومع ذلك فإن هذه الحالة هي السائدة عندي، كما عند الكثيرين. لكنني غالبًا ما أستمر فيها حتى تنبثق لحظة الصفاء، وتتحول الكتابة نفسها إلى فعل معدِّل للشواش ومهدِّئ للاضطراب. وفي الواقع فإنني، في كثير من الأحيان، أكتب ضمن مزيج من الحالتين، حيث يتلاحق الصفاء والشواش في تناوب غير إيقاعي، إنما يمكن أن يؤدي إلى صيرورة منتظمة ذاتيًّا للأفكار في نهاية الأمر. وتلكم حال أيِّ تعبير عن ظاهرة أو حالة.

*

يمكنني الآن، مثلاً، الانتقال إلى فكرة ثانية. فمنذ قليل قاطعتْني صديقة مشيرة إلى مشهد الشمس الغاربة في أفق مدينة دمشق. نظرت عبر زجاج غرفة المطالعة الثالثة في المكتبة الوطنية، وسرعان ما استغرقني المشهد. لكنني فجأة تنبهت بطرف عيني إلى مشهد آخر لسماء أخرى! – سماء ليس فيها أثر لانتشار اللون الأرجواني في المشهد الأول. فعبر زجاج آخر كانت لوحة أخرى فريدة لغيوم بيضاء ورمادية تمتزج بلون سماوي شفيف؛ ولم يكن يفصل بين اللوحتين سوى عمود! وحاولت التركيز على العمود، ورحت بطرف عيني ألمح سماءين مختلفتين! لم يكن العمود ليشكِّل أكثر من خمس اللوحة الكلِّية أو سدسها؛ ومع ذلك، كان يقسم المشهد إلى منظرين متناقضين ظاهريًّا! وللحظة... كادت معرفتي بوحدة المشهد السماوي في الخارج أن تهتز؛ لكنني تذكرت، في اللحظة نفسها، أن ثمة سماواتٍ كثيرة لا نراها، ونؤكد، مع ذلك، وحدتها مع عالمنا. فكوننا واحد، وسموات النجوم نسيج واحد مع الفضاء الكوني.

*

كنت أعتقد دائمًا – وليس لديَّ حتى الآن ما يثبت اعتقادي – أن معرفة الإنسان لا تنبع إلا من داخله. وأحب الآن أن أعدل قليلاً في هذا الاعتقاد؛ إذ ليس ثمة ما هو خارج عن الإنسان! إن نفسانية الإنسان هي نفسانية الكون كلِّه، وعقل الإنسان هو عقل الكون. إننا لا ندين بمعارفنا إلا للمعرفة الكاملة الباطنة فينا ولشعورنا بها، أي لوحدتنا مع الكون.

إن اختلاف المشهد الواحد عبر حاجز بسيط يشطره يمكن أن يتكرر عبر ذواتنا الفردية. فنحن نرى جميعًا المنظر نفسه، لكننا نحكم عليه بأشكال مختلفة – وإن استخدمنا المعايير والمفاهيم نفسها. وينطبق ذلك على مشهد التاريخ حين نقيِّمه في اللحظة. وفي الحقيقة فإن حاجز "الآن" هو نفسه الذي يعطي التاريخ معناه؛ فليس للماضي وجودٌ بعيدًا عن رؤانا الذاتية له. ومن هنا فإن الأسطورة هي تاريخنا الحقيقي. إن ما يجلوه لاوعينا في الحاضر يقسم المشهد الجمعي إلى مشاهد فردية؛ ويُولَدُ التاريخ الآن ليسجل أسطورة الماضي، أي المعنى والصيرورة.

كم من الأساطير ضاعت من سجلاتنا المدونة أو المروية، لكننا لا نستطيع مع ذلك محوها من لاوعينا – وإن كنا لا نتذكرها. كذلك فإننا لا نستطيع إنهاض تاريخ ما عبر أحداث لا نعرف إذا وقعت أم لا. وهكذا فإن الماضي يوازي المستقبل تمامًا عند هذه النقطة. إنه مشهد واحد في الحقيقة يفصل بينهما حاجز "الآن": أحدهما تغرب فيه الشمس، فتلوِّن السماء ببريق حلمها؛ والآخر تبلغ إليه ألوان الحلم عبر حاجز اللحظة. إن تاريخًا نبنيه للماضي يوازي في الحقيقة تاريخًا نبنيه للمستقبل؛ والحاجز الذي يفصل بين مشهدي الماضي والمستقبل هو عينه الحاجز الذي يحقق تعددية رؤانا الذاتية.

ومع ذلك، فإن إدراك الإنسان عبر العصور لم يكن إدراكًا لحظيًّا صافيًا. فكيف يمكن أن نفهم إدراك المعنى المتفتح عبر اللحظة الحاضرة كتفتح لمعنى متجدد مع الصيرورة؟ ربما لم يكن إنسان العصر الحجري ليهتم لمعنى الوقت؛ فحياته كلها كانت لحظة دائمة. وربما بهذا المعنى لم يداهمه الوقت وهو يقتفي أثر حيوان لاصطياده. لكنه كان يفكر في النهاية بالعودة إلى ملجئه، حيث زوجه وأطفاله، ولو بعد عدة أيام من ملاحقة الطريدة.

إن معنى الزمن يتغلغل في أعماق نفسانيَّتنا، ومع تتبُّع أثره في أبسط تفاصيل حياتنا ندرك إلى أيِّ حدٍّ يتوافق مفهوم الصيرورة مع مفهوم الحياة والدافع إلى الاستمرار. كذا فإن الإنسان لم يكف عبر العصور عن اكتناه معنى الشحنة الدافعة له؛ وهو عبر مشهدَيْ الصفاء والاضطراب كان – ولازال – يبني صورًا، مجزأة أحيانًا وموحِّدة غالبًا، لدفق هذه الشحنة الفاعل فيه ولشعوره بمعنى حياته ووجوده.

*

كذا أعرف، في أثناء تقدمي في الكتابة، أن ما أنسجه هو فعل اللحظة والصيرورة في آنٍ واحد، وأن الكتابة عمل مهذب، بما هي تقيم التوازن، بدرجة متنامية، بين شواش chaos الصيرورة وصفاء الآن. كذلك أعترف أن الشحنة التي تدفعني للكتابة تتألف من تراكُب شواشي للعديد من الشحنات النفسية؛ لكن قياس هذه الشحنات الجزئية لا يحمل أيَّ معنى. إن وجود صديق إلى جانبي، أو رؤيا سماء تغرب فيها الشمس، أو التفاتة عَجِلَة إلى مشهد سماء مختلفة الألوان، قد يلهمني أن أكتب ما لم أفكر فيه في لحظة سابقة. ومع ذلك، فلا شك أن ثمة دافعًا أعمق فيَّ للكتابة؛ وهذا الدافع يتمثل بكون مفهوم الشحنة المحرِّضة على الكتابة يكتسب هكذا كافة مفاهيمي التعبيرية. أي أن الخروج من الداخل سيوازي، عبر حاجز اللحظة، الولوج إلى الداخل. وببساطة أكثر، فإن هذا الدافع الأعمق هو توق إلى الوحدة القائمة في المشهد البكر وحنين إلى رؤيا الحلم في الواقع.

*

ترى، ألا نستطيع اليوم أن نرى إلى المفهوم العلمي للزمن، أو للشحنة الكهربائية، أو لغيرهما من المفاهيم العلمية، كتفتح أزلي للمشهد البكر الذي نراه عبر حاجز اللحظة والفرادة الإنسانية بأشكال لا تنتهي؟! كذا فإننا لا نستطيع فصل الذات عن الموضوع: فعبر حاجز كينونتنا نفسه ندرك وحدتنا مع مشهد وجودنا؛ وعبر وعينا لصور وأحلام لا نستطيع أن نحدد تمامًا مواقع مشاهدتها – أفي الداخل، أم في الخارج، أم في الاثنين معًا؟ – نستشف المعنى المنساب عبر التحديدية واللاتحديدية، وعبر صفاء وشواش اللحظة والصيرورة. وهكذا يمكننا أن نرى إلى ذاتية إدراكنا للظاهرات على أنها المعنى الكامن في علاقتنا بالظاهرات؛ وبغير ذلك لا نستطيع أن نرى إلى المعنى المتفتح في اللحظة والمتساوق مع موضوع مندرج في الزمان.

لقد حرَّضتْ لديَّ لحظة رؤيا مشهد الغروب معنى كامنًا اندرج في كتابة قد لا تبدو جلية للكثيرين إلا بعد قراءات، وربما حوارات عديدة. وما يهمني هو أن هذه اللحظة توفرت عبر لانهاية من الاحتمالات، طغى فيها احتمال التلاقي على كافة احتمالات التباعد اللانهائية. إن هذه اللحمة الفريدة للذات والموضوع هي، في الوقت نفسه، الملهِم والمعنى؛ وعبر معرفة راسخة بوحدة المشهد تنبثق كافة إمكانات التلاقي الكوني.

*

إن الإنسان، في بحثه عن الحقيقة، إنما يبحث في ذاته عن صور هذه الحقيقة. وهو، بالتالي، يبني نفسه وفقًا لصيرورة التواحد مع الكون. وهكذا فإن صيرورة إبداع المفهوم العلمي وتفتحه هي صيرورة تفتحٍ للنفس وللكون. ويكون المفهوم العلمي بذلك، ضمن جملة أوسع من المفاهيم وضمن حقل أكبر يتألف من اللغات وإمكانات التعبير، نقطة التلاقي التي يحتمل فيها المعنى الشكلَ التحديدي والإطار الأوسع للاتحديدية. إن رغبتنا في إيجاد ثوابت نرتكز عليها خلال صيرورة تفتحنا المعرفي هي التي تجعلنا نشدد على الجانب العطالي للقانون العلمي أو للنظرية العلمية أو للمفهوم العلمي. ومع ذلك، فإن هذه العطالة التي تؤدي إلى فترات من الاستقرار المعرفي توافق فترات ضرورية لهضم واستيعاب كافة مضامين المفهوم أو القانون أو النظرية، الأمر الذي ينعكس على النفس والعقل، فتتسع آفاقهما وقدراتهما على إبداع واستيعاب معانٍ جديدة.

يشكل المفهوم العلمي، من هذا المنظور، وبما هو بعد ذاتي معرفيًّا، بالنسبة للفرد كما وبالنسبة للجماعة، طيفًا للشخص أو حقلاً ممتدًّا للأنا. ويكون ثبات المفهوم الشكلي، على الرغم من تطوره المعنوي، تعبيرًا جليًّا عن معرفة لا تزال قاصرة عن إدراك تجلِّيات النفس الخارجية كتجلِّيات داخلية لها. ويُعَدُّ تعلقنا باللفظ شكلاً من أشكال هذه العطالة. ومع ذلك، فإن هذه العطالة – وهي مرتبطة في جزء كبير منها بالعطالة اللغوية – تكون ضرورية لإدراك تطور المعنى عبر شكلانية تزول شيئًا فشيئًا أهميتُها الخاصة تجاه تجدُّد معناها. ومادام إيقاع هذا التجدد للمعنى، وهذا الاضمحلال لأهمية الشكل، متوازنًا ضمن بوتقة الشواش الجماعي، كان ذلك دليل صحة نفسانية على مستوى معرفتنا.

*

ليس ثمة في الحقيقة ما يمكن أن ندعوه بالحالة المثالية للمعرفة. إن رؤيا المشهد الكلِّي تتطلب منا إزالة الحواجز والأطُر التي تقسِّم اللوحة إلى أجزاء متباينة ظاهريًّا. والمفهوم العلمي يلعب هذا الدور المزدوج في فصل المَشاهد وإبراز تبايناتها، وبالتالي، في تمكيننا من دراستها وفهمها والتعبير عنها بأشكالها الجزئية. إن المفهوم العلمي، من هذا المنظور، يُقصينا عن الحقيقة التي نسعى إليها بقدر ما يقرِّبنا منها. وهذا صحيح أيضًا على المستوى النفسي للمفهوم: فكلما ازداد مقدار مفاهيمنا زادت معارفنا وتشوشت رؤانا، ومن جهة أخرى، اكتسبتْ المفاهيم نفسانيةً جديدة – نفسانية قادرة على تجاوز نفسها شكليًّا ولفظيًّا إلى معنى أكثر تجريدًا وأقل شواشًا. وتحقق الأنا بذلك رؤيا فريدة، رؤيا ذاتية، إنما على مستوى جماعي.

إن البحث عن حقيقة موضوعية يعني البحث عن حقيقة تجريبية وقياسية. لكن القياس نفسه قائم على مسلَّمة وحدة المشهد خارج النافذة. وهكذا فإن محيط الأنا يقر، في جميع الأحوال، بوحدة الأنا مع العالم الأوسع. وبالتالي، فإن المفهوم العلمي يكتسب شخصية متميزة بحق: إنه صلة الوصل والحاجز في الوقت نفسه. يمكننا القول، إذن، إن المفاهيم العلمية تكتسب صفات النفس الإنسانية تمامًا. فهي، بشكل أو بآخر، "نفوس" المعاني العقلية التي أبدعتها النفس بالدرجة الأولى، ثم أعطاها العقل شكلاً تحديديًّا. وعلى هذا، فإن المفهوم العلمي يشتمل على نموذجي الظاهر العقلي والباطن النفسي. وتستند صيرورة المعرفة، التي تفاجئنا بما ندعوه بالكشف أو بالحدس، على هذا الأساس المكين: أن الفكرة الوليدة هي نتاج رؤيا داخلية للظاهرة.

*

ترى إلى أيِّ حدٍّ نستطيع أن نرى إلى وحدة المشهد عبر الحاجز الذي يقسمه إلى جزأين؟ وإلى أيِّ حدٍّ أيضًا نستطيع أن نرى وحدة الحاجز مع المشهد القائم خلفه؟! وإلى أيِّ حدٍّ يتواحد المشهد والحاجز معنا؟!

كلُّنا يعاني، في أثناء محاولة التعبير، من تقصير اللغة عن نقل شعورنا بالمعنى المعتمِل فينا – المعنى الداخلي الذي لا يتغير ولا يتبدل. ومع ذلك، فإن إبداعاتنا اللغوية تلقى صدى إيجابيًّا غالبًا حين تنجح في التعبير عن معنى داخلي. وينطبق ذلك على المفاهيم العلمية من باب أولى: فبقدر ما لا نستطيع التفريق بين المفهوم العلمي ونظرياتنا المعرفية فإن الحاجز الذي يفصلنا عن المشهد يظل قائمًا، إنما بحيث يشكِّل وحدة معه.

*

رفعت رأسي الآن، فإذا بالمشهد قد تبدل كليًّا! حلَّت الظلمة محلَّ الألوان الملتهبة، ولاحت بعض الأنوار الشاحبة هنا وثمة. اختفى تمامًا الفارق بين المشهدين على طرفي الحاجز. لكن الحاجز ظل ماثلاً أمامي، لم يتغير! وإني أتساءل فيما إذا كان ثباته في هذا الموقع يحمل معنى ما. وفي الحقيقة أنا أمام سؤال أصعب: ترى هل حقًّا انعدم أيُّ فارق بين لوحتي السماء المظلمة على طرفي الحاجز؟ في الحقيقة لا أشعر بأي فرق. ومع ذلك، أعرف أن الاختلاف موجود. لم أكن أتوقع هذه الإجابة بالتأكيد؛ لكنني أدركت فجأة – وأنا كلِّي دهشة – أن الحاجز الذي كان أمامي لم يكن هو الذي يقسم المشهد إلى قسمين مختلفين، وعرفت يقينًا أن الاختلاف الذي أشعر به في الخارج نابع مني! وفي الحقيقة خُيِّلَ إليَّ أن غروب الشمس وهبوط الظلام اللذين شهدتهما كانا لانهائيين وأزليين. وكم كنت دهشًا أكثر وأكثر حين رحت أعترف لنفسي أن هذا المشهد لن يتكرر! وفي الحقيقة، فإن بقاء الحاجز أكمل عندي صورة المعنى، وقد اكتسى بوجهين متعارضين. وفي حين كان الحاجز فاعلاً مع غروب الشمس في تبيان مشهدين مختلفين، أمسى غير فاعل مع حلول الليل. ومع ذلك تكشَّف لي المشهدان عبر المعنى السلبي نفسه للحاجز.

*

أوليست المعرفة العلمية، في النهاية، هي أيضًا معرفة ناجمة عن حوار بين نموذجين نفسانيين؟ ليس غرضي في هذا البحث إيجاد تحليل نفسي للمفهوم العلمي، لكن الليل الذي حلَّ ذكَّرني بالبرودة التي يمكن أن تحلَّ عبر النظر من زجاج كان يظهر من خلاله إشراقُ الحرارة في فوضى جميلة! وذكَّرني الليل أيضًا بمعنى بسؤال طالما طرحته على نفسي: لماذا نريد أن نعرف؟!

لاشكَّ أن المعرفة الإنسانية تتناسب أكثر مع مشهد غروب الشمس منها مع مشهد الظلمة الدامسة. ومع ذلك، فثمة شعور ينتابني أن سكون الليل لا يقل تحريضًا للأسئلة عن أنوار الغروب! ترى إلى أيِّ حدٍّ ترتبط حاجتنا للمعرفة بتطور لاعكوس لا نهاية له؟! وهل يمكن لمعرفة أخرى أن تحرض لدينا أيَّ تساؤل على الإطلاق؟!

خلال بزوغ العلوم ونضجها اكتسبت المفاهيم العلمية صفة أساسية عَكَسَها المنهجُ العلمي نفسه القائم على استخلاص النسق الواحد المشترك من الظاهرات الطبيعية. يقودنا التفرُّد العلمي اليوم إلى الانخراط في نسق معرفي واحد؛ ويكاد يغيب عنا ذلك الحوار بين نموذجين يطرحان إمكانات لانهائية للمعرفة. وينعكس ذلك قطعًا على إدراكنا لمفاهيمنا العلمية. فالمفهوم العلمي ليس إجابة نهائية. وحين يحلُّ الليل علينا أن نتعلم طرح أسئلة جديدة تكشف لنا عن جوانب جديدة في المشهد الماثل أمامنا – وإن كان ظلمة دامسة!

إن نفسانيَّتنا لا تقبل أنساقًا مختلفة في آنٍ واحد. لكن المفهوم العلمي يحتمل آنيًّا أكثر من نسق. وهكذا فإننا نحمِّل المفهوم العلمي صفة عقائدية، ونخضع، بالتالي، لسياق وحيد الاتجاه في فهم الظاهرة – وهو فهم مبني غالبًا على التجزئة وليس على التواصل. إننا ننسى أن تطور المفاهيم العلمية لم يتم على مستوى الشكل فقط، بل وعلى مستوى المعنى أيضًا – وهو مستوى يرتبط بنا مباشرة.

فخلال المرحلة الأولى من تشكل المفهوم العلمي لم يكن له أيُّ شكل تصوري أو إدراكي عقلي. ونلحظ مثلاً أن مفهوم المكان كان بُعدًا نفسيًّا خالصًا في الأسطورة القديمة: فهو الرحم الذي يضم العالم، وهو البيضة أو المحيط اللذان سيولِّدان الصيرورة. ومع تميز هذه المرحلة بالشواش البدئي الذي يرافق أية عملية خلق فإنها تحمل، مع ذلك، مغزى عميقًا: ثمة ههنا انتظار للخلق، وتوقع لولادة النظام. وشيئًا فشيئًا يبدأ المفهوم بالخروج إلى عالم الصور؛ وتنبثق مباشرة معه بعض الأسئلة. إن العقل يحوِّل الشعور العام بالمعنى إلى تساؤلات لا تزال تحمل أثر الشواش؛ وسرعان ما تبدأ الإجابة بإزالة هذا العماء.

هكذا تحول المكان عند الفيثاغوريين، مثلاً، إلى بناء متناسق تحكمه لغة الجمال والأرقام. لكن المكان اليوم تخطَّى المنظور الجمالي البسيط عندهم إلى هندسات فائقة التجريد وإلى بنى جمالية من نوع جديد. ويمكننا القول إن عالمًا جديدًا أوسع وأغنى تفتَّح في الإنسان مع منظورنا الحاضر للمكان. إن الهندسات اللاإقليدية كانت نماذج مكانية هاجعة في أعماقنا؛ وهي اليوم تعمل على توسيع آفاقنا النفسية والمعرفية. كذلك فإن تكامل المفاهيم وبروز الصلات بينها يشير إلى غوص أعمق فأعمق في لاوعينا، الأمر الذي يحرِّض، بالمقابل، بحثًا عن وحدة أغنى لرموزنا المعرفية والجمالية. فالزمان والمكان ينتميان إلى نموذج أكثر بدئية في لاوعينا؛ وكذلك الأمر بالنسبة للطاقة والمادة، وللشحنة والحقل، إلخ. إن الحاجز الذي غابت الألوان خلفه يكشف لنا الآن عن معنى أعمق لألوان أشف. تُرانا ألا نبحث، مثلاً، عن قوة أكثر أصالة في أعماقنا حين نعقد العزم على توحيد القوى الأساسية الأربعة في الطبيعة؟!

*

لا أعرف لماذا نريد أن نعرف؟ إن هذا السؤال الذي نطرحه من وراء الحاجز يأتينا من الجهة المقابلة أيضًا! وفجأة ندرك أن المعرفة ليست سهمًا وحيد الاتجاه. ولا يحتاج المفهوم العلمي لأكثر من تأمل بسيط حتى يكشف لنا أننا نتأمل في حلكة الليل نفسها! ففي مرحلة متقدمة من تطور المفاهيم العلمية بات التوازن القائم في المفاهيم نفسها، على الصعيدين العقلي والنفسي، يكشف لنا عن آفاق جديدة. وهكذا فإن سؤال البدء والمنتهى يتحول إلى استعداد نفسي لتقبُّل احتمالات جديدة وأنساق جديدة في مفاهيمنا، فيصبح للنظام وللشواش ولنشوء الحياة وللثوابت الكونية معنى جديد، معنى قابل للتجدد في كلِّ لحظة. وعبر هذه المرحلة من تطور المفاهيم العلمية يمكننا أن نرى إلى المرحلة المقبلة التي ستولد فيها علوم جديدة كلَّ الجدة.

إذا كان ثمة بعد نفسي للمفهوم العلمي، وكان مرتبطًا مباشرة بالتطور النفسي للإنسان، فنحن أمام صورة فريدة في الحقيقة لجانب غير ملموس تمامًا في مفاهيمنا. إن معرفتنا تقوم على هذه المفاهيم، وأسئلتنا تصاغ وفقها؛ ومع ذلك، فنحن لا نعطي أية أهمية لحرية المفاهيم نفسها.

هل نحن أحرار، مثلاً، في انتقاء مفاهيمنا؟ – ليس معنويًّا فقط، بل وشكليًّا أيضًا.

إن شكلانية معارفنا، التي تحولت إبان القرن العشرين من شكلانية تحديدية إلى شكلانية احتمالية، تُبرِز تجاوزًا لنفس سكونية وعودة إلى نفسانية بكر، متحفزة لتقبُّل معنى جديد للوجود وللحياة. إن المفهوم العلمي نفسه يفلت، بعد مرحلة تشكيله العقلية، من أطُر العقل نفسها، ويصبح خاضعًا لتطورات شواشية، وبالتالي قادرًا على المشاركة في التحرر النفساني للإنسان وفي اختيار المعنى الجديد والاتجاه الجديد للتطور النفسي.

وهكذا فإن مفاهيمنا ليست مجرد صور عقلية تقبل إسقاطًا نفسيًّا، ويمكن أن تعبِّر عن معانٍ داخلية وخارجية في الوقت نفسه، بل هي انعكاس فعال لصيرورة الإبداع والتجدد. وعبر هذه الصيرورة، تتبدَّى لنا آفاق المعرفة آفاقًا احتمالية. وهي، بهذا المعنى، دليل إمكانات نفسانية وعقلانية لانهائية. ومع تفتح هذه الإمكانات، ستظهر قطعًا احتمالات جديدة، وسيتحول الاختبار العلمي إلى اختبار للمفهوم نفسه. ويشير ذلك إلى أنه لن يكون للمفهوم العلمي بذاته في المستقبل تحديدية من أيِّ شكل على الإطلاق. وعلى هذا، فإن المعرفة في المستقبل لن تكون مرتبطة بمفهوم أو حتى بقانون علمي. ولنحدس، منذ الآن، أن هذه المعرفة ستكون فعلاً متعدد الاحتمالات، وأن القانون العلمي ومعناه الفيزيائي سيمتثلان لهذه الاحتمالية. وعندها سنخوض في علم معرفي جديد، مفاهيمه متحولة باستمرار وبعيدة عن أطُر التحديدية.

يمكننا أن نأخذ كمثال على ذلك مفهوم لاعكوسية irreversibility الزمن. فنحن لا نقبله على أبسط المستويات لأننا نأمل بتكرار الأيام وخبراتها. إننا نكبر، هذا صحيح – لكننا نريد أن نبقى أطفالاً. إن تصرفاتنا كلَّها تنحو إلى لمحافظة على وجودنا في الماضي المعاود. وبشكل أعم، فإننا نأمل بالحفاظ على معرفتنا ومعتقداتنا دونما تغيير! وليس المعتقد في جوهره سوى تعبير نفسي عن هذا العَوْد الأبدي إلى البقاء في زمن يقبل المعاودة. إننا لا نقبل المستقبل في موازاة الماضي، بل نراه عبر مرآة الماضي؛ ولهذا فإننا لا نتعلق بالماضي كذكرى وتوهم فقط، بل وكحقيقة تشكِّلنا وتخيلنا.

وعلى مستوى أعمق، فإن رفضنا عكوسيةَ الزمن سيجرِّدنا، كما يخال لنا، من إمكانية عودة إلى البدء، إلى طفولة العالم، إلى حقيقة كانت – ومازالت – "هناك"، حيث بدأ العالم! إننا نحتاج اليوم إلى ثورة حقيقية على مستوى فهمنا النفسي لذواتنا، كما ولنظرياتنا ولمفاهيمنا العلمية. فالحقيقة نفسها ليست حقيقة ساكنة–معاودة عبر الزمن العكوس أو الدوري، بل هي ماثلة في اللحظة، وتتطور معها بشكل لاعكوس عبر صيرورة حضور، هي ماثلة الآن في شكل، وستظل ماثلة عبر أشكال متغيرة باستمرار. فلابدَّ لنا أن نعترف، إذن، أن حقيقتنا حقيقة لاعكوسة، وأنها، في جوهرها، توافق سهم الزمان، من حيث إن الوجود وعلته على حدٍّ سواء يعكسان هذه الحقيقة نفسها.

إن لاعكوسية الزمان، كما تبدَّت لنا اليوم، تُشارِكنا تحررَنا من إطار تحديدي للحقيقة وتُشرِع لنا آفاق معرفة لا تنتهي. كذا فإن مفهوم الزمن يتجاوز إطار مستقبل مكبَّل بإشراطات، ويضعنا وجهًا لوجه مع لحظة تتحقق فيها وتلتقي احتمالات جديدة باستمرار.

إن ولادة مفهوم الزمن فينا يعكس، إذن، معنى أوسع لولادة نفسانية متجددة فينا. وهكذا فإن كلَّ مفهوم تولِّده يساهم في تجددنا. ومع تفتح أنماط لاوعينا الأولية archetypes يتحرر فينا المعنى الذي نشعر به ويتحول، في كلِّ لحظة، إلى خلق جديد. وفي الحقيقة، نحن مقبلون على عصر لا تتحدد فيه الحقيقة بأيِّ شكل من الأشكال، علمية أو غير علمية. فالمفهوم الذي ترتكز عليه نظرتنا العقائدية أصبح هو نفسه مشاركًا في تحررنا من التحديدية الصارمة. وهكذا، فإن البعد النفسي–العقلي يوسِّع آفاقنا ويصبح هو نفسه مجال بحثنا الأرحب عن بناء الحقيقة المتجددة.

ولابدَّ لنا أن نتصور، منذ الآن، أن هذه المعرفة المقبلة ستُسقِط أو تجدِّد كافة معايير المنطق القائم على علاقات المفاهيم التحديدية فيما بينها. وسيكون الناظم الجديد لتطورنا المعرفي هو نفسه ناظمًا احتماليًّا؛ أي أنه سيتخذ، كما هي الحال الآن، من التحولات النفسية رموز تقدُّمه الشكلانية.

*

لعلنا أن نتساءل عن احتمال تحقق مثل هذه المعرفة. إنه احتمال مرتبط، بالدرجة الأولى، بوجودنا، من حيث إنه يرتكز على تطورنا المشترك مع الكون. وضمن هذا المنظور، سيكون تطورنا المشترك بُعدًا مفتوحًا على احتمالات قصوى باستمرار. إن النهايات الحدية العظمى في المعرفة الفردية – وهي نادرة الحدوث في صيرورة تطور الأفراد معرفيًّا – تصبح نهايات قابلة جدًا للتحقق على مستوى الجماعات. وهذا القانون ليس تحديديًّا في النهاية، لكنه احتمالي بدرجة ممكنة التحقق باستمرار؛ أي أنه يعكس قانون تطورنا المشترك.

هنا فقط يمكننا أن نتحدث عن وعي جماعي كامن. وهذا الوعي الكلِّي لا يخضع قطعًا لصيرورة تطور نفسي فردية إلا بقدر ما تنصهر هذه الصيرورة في بوتقة الصيرورة الجماعية. وهكذا فإننا نلج، مع تطورنا الجماعي، عتبة مفهوم أو مفاهيم جديدة هي الحل الأمثل آنيًّا والممكن لمنظومة من الأفعال التي يتدخل فيها الوعي الفردي. وهذا الحل الأمثل – ويا لدهشتنا! – يتجاوز هذه الحالات الفردية للتدخل، ويستمدُّ دائمًا من التجربة الجماعية، كما تدلنا الخبرات التاريخية المبيَّنة، إمكانية حلٍّ جمعي قادر على استخلاص المعنى الحقيقي فقط للتجربة. ونجد أنفسنا هنا أمام إمكانية عجيبة: إذ إن التحديدية تعود إلى موطن القيمة الاحتمالية وتسبغ على المعرفة ومفاهيمها واقعًا لا يمكن النفاذ منه.

إن هذه النتيجة تَحمِلُنا على الشك في أننا نُسقِط اليوم مفاهيمنا الحالية على مستقبل مفتوح على الاحتمالات. ويشير ذلك بوضوح إلى أن نفسانيَّتنا لا تزال تبحث اليوم – وهي في أوج ترددها بين قبول الاحتمالية أو رفضها – عن مستقَرٍّ آمن لها في تحديدية أوشكت أن تتلاشى، ليس فقط من قاموس مفاهيمنا العلمية، بل ومن محيط نفسانيَّتنا العميق.

إن أحلامنا وفنوننا وعلومنا وعقائدنا وطاقاتنا الإبداعية كلَّها تتحضر لتحوُّل عميق – نشهده منذ اليوم – في تحول نفسانية المفاهيم العلمية. إننا، منذ اليوم، نرى إلى الصراع الهائل القائم في نفوسنا وعقولنا بين نفسانية الاعتقاد الراسخ والمنظور ضمن مسيرة خطية، لا يمكن أن تخرج عن أصولها ولا يمكن أن تكتشف أفقًا غير أفقها، ونفسانية وليدة جديدة كلَّ الجدة ترتكز على فعل التجدد نفسه، وعلى انفتاح الإمكانات على إمكانات جديدة دومًا!

إننا نخرج من عالم الاعتقاد إلى عالم اللاتعلق بأيِّ معتقد؛ وتصبح المعرفة بالنسبة لنا فعلاً آنيًّا مفتوحًا على حرية جديدة، حرية قائمة في اللحظة، ولا تخضع لإشراطات الشروط البدئية أو الغايات التحديدية. وهكذا فإن الحقيقة لم تعد همَّنا الأول كشكل معرفي؛ بل تحتل، منذ الآن، صيرورتُها فينا مكانة المعنى المتجدد والمجدِّد. وهكذا فإننا نخرج من عالم التحديدية إلى عالم الكلِّية الفاعلة، ويتبلور شعورنا أننا نصير الحقيقة عبر صيرورة تفتح مفاهيمنا ولغاتنا. وعبر غوصنا أكثر فأكثر في محيط لاوعينا الجمعي ينغمس كل ما يشكِّل صيرورة تطورنا أكثر فأكثر في الإبداع الآني لهذا الشعور الحاضر والمتجدد في اللحظة.

تقوم نفسانيَّتنا إذن على تجدُّد مفاهيمنا، وليس على الاعتقاد بها. وهكذا فإن نمط بحثنا عن حقيقة قصوى ونهائية يصبح نمطًا عقيمًا؛ إذ إن نفسانيَّتنا تأبى أن تحدَّ نفسها بحقيقة مشروطة إلى هذا الحد. وفي حين تزداد مفاهيمنا شفافية، يصبح المشهد الخارجي أكثر قربًا منا، ونشعر – للحظات – أن هذا المشهد يسائلنا كما نسائله، وينبع من أعماقنا كما نفيض من لانهايته.

ولكأن منهجًا جديدًا للمعرفة يبرز من هذه اللحمة: فالمفاهيم، في جلائها لآفاقنا النفسية، تفصح عن شكلانية هي أشبه باللامنهجية أو باللامعرفة: إنه الفعل وقد صار الفاعل والمفعول به. وببساطة، فإن الحقيقة التي ننشدها، من الآن فصاعدًا، ليست حقيقة مفاهيم؛ وسنشهد باستمرار توسعًا متبادلاً للمشهدين الداخلي والخارجي على حدٍّ سواء.

*

أشعر عند هذا الحد أنني استطعت، إلى حدٍّ ما، التعبير عما كنت قد فصَّلت فيه في صفحات طويلة مليئة بالأمثلة وبالتحليلات المدرسية الجافة. ومع ذلك، ثمة فكرة أحب أن أعرض لها في نهاية هذا البحث؛ إذ لابدَّ أن يتساءل بعضهم، كما أتساءل غالبًا، عن مدى واقعية تحليل يقوم على منظور ذاتي في النهاية. وكلمة "واقعية" هنا لا تحمل معنى الموضوعية في الطرح بقدر ما تشير إلى إمكانية تطبيقية للمنظور الذاتي في الإطار الراهن للمجتمع.

أين منا اليوم الشعور بالصحة النفسية لمعارفنا، ونحن نرى إلى مفاهيمنا تتحول غالبًا إلى عناصر استهلاكية؟! وكيف يمكن أن نترجَّى توسعًا لآفاقنا النفسية والعقلية ونحن لا نعطي أنفسنا فرصة فعلية لهضم معاني ومفاهيم علومنا؟!

إن تطور مفاهيمنا يؤدِّي إلى انفتاح للأنا على العالم، وإلى ظهور مجموعة من الانفعالات والتحديات والدوافع النفسية تترافق بمواجهة سلطة تأسَّست على مدى سنين طويلة – وهي سلطة نفسانية بالدرجة الأولى، تجذَّرت في أعماقنا عبر عطالة مفاهيمنا وتصوراتنا. ويؤدي ارتباط الاكتشافات العلمية اليوم بالسلطات الاقتصادية والسياسية إلى عطالة إضافية في تطور المفهوم العلمي، ويزيد من تشبثنا به بشكل عقائدي، الأمر الذي ينعكس على الحرية البشرية وعلى مجمل النشاط البشري.

ونحن لا نستطيع فصل ظاهرة تزايد الهوَّة بين العلماء والعامة عن ظاهرة تردِّي الذوق في مجمل الميادين، كالموسيقى والرسم والشعر إلخ – هذا إضافة إلى عدم الاهتمام الفعلي، المبطَّن باهتمام ظاهري، بمسائل ملحة، كتدهور البيئة وانقراض الأنواع والتزايد السكاني والأمراض والأوبئة إلخ. إن تزايد الشواش الثقافي، مع صعوبة متنامية في تجذُّر المفهوم العلمي على الصعيدين الواعي واللاواعي للجماعة، يؤدي إلى تفاقم للأزمات النفسية العامة التي تعاني منها المجتمعات.

إن هذا الواقع نفسه يفرض علينا أن نميز بين المفهوم العلمي، أو أيِّ مفهوم آخر أصيل تتفتح الأنا عبره وتدرك (حتى في عطالتها) أبعادًا جديدة من خلاله، والمفهوم التقني السائد اليوم الذي يجرد المفهوم العلمي من معناه ويجعله مجرد أداة تعبيرية لأغراض نفعية، حتى على المستوى العلمي. وبالتالي، علينا ألا نُرجِعَ سبب تردِّي ثقافتنا العامة إلى عطالة المفهوم العلمي من حيث صعوبته مثلاً، بل إلى اعتمادنا على شكلانية محددة للفهم ونمطًا خاصًّا في التعامل مع إبداعاتنا هو نمط النفعية والاستهلاكية. مثال ذلك برامج التعليم السائدة اليوم التي لا تميل إلى تقديم صورة وافية عن المعنى المتضمن في المفهوم العلمي بقدر ما تنحو إلى إيصال معلومات تقنية تؤدي في النهاية إلى تخصصات مختلفة.

إن تعاملنا مع الظاهرة هو انعكاس لطريقة تعاملنا مع أنفسنا. ومادمنا ننظر إلى نفسانيَّتنا كعامل بسيط وفردي لا أهمية له في طرح الحلول لمشاكلنا فإن صيرورة تفتحنا ستظل خاضعة لإعاقة أساسية ناجمة عن الهوة المتنامية بين فهمنا العقلي وإدراكنا النفسي. ويمكننا أن نلحظ بشكل جلِّي هذا النمط من التعامل في أدق تفاصيل حياتنا. إن إصرارنا على نمط وحيد الاتجاه في المعرفة وفي التطبيق هو ما نعبِّر عنه في مجال العلوم الإنسانية بصعوبة إخضاع النظرية للتجربة والتطبيق. وما ذاك بسبب شواش الذات والموضوع فقط. ففي علم النفس الفرويدي بخاصة يرتكز البحث على اتجاه وحيد للمعرفة. لكن تطور الموضوع والعارف، أو بشكل آخر، تطور المريض والمعالِج، يؤدي إلى علاقة شواشية غير تحديدية على مدى أفق زمني معين. وفي الحقيقة لا يمكننا التنبؤ بمدى صيرورة العلاج النفسي، ليس فقط لأننا لا نستطيع أن نأخذ بعين الاعتبار كافة المعامِلات الثقافية والاجتماعية وغيرها التي يدخل فيها، بل ولأننا لا نعرف، على بُعد معين، مدى تأثير وتأثر اللاوعي الفردي والجمعي الفاعل في التجربة. وفي الحقيقة فإن المفاهيم التي يكتسبها المعالِج والمريض على حدٍّ سواء هي مفاهيم قابلة للتعديل، ليس فقط على مستوى المعنى الخارجي، بل وعلى مستوى المعنى الذاتي الخاص، أي تفتح نفسانية كلٍّ من المريض والمعالِج. وتطور المفهوم العلمي بهذا المعنى هو تخفيف للحاجز القائم بين المريض والمعالِج، بحيث إننا لا نستطيع، عند نقطة معينة، التمييز بينهما. فانفتاح المشهد بالنسبة للطبيب هو عينه الانفتاح الذي يشهده المريض. ومن هذا المنظور لا يحتمل المفهوم العلمي بُعدًا ذاتيًا وحسب، بل يتضمن تأثر العام بالخاص والخاص بالعام، وإمكانية تطابق الخاص مع العام والحالة المنتظمة مع الحالة الشواشية في لحظة معينة.

*

كذا يوشك حلمنا القديم بمعرفة لامحدودة أن يخبو مع تشبثنا بنمط نفساني وحيد الاتجاه، محكوم بواقع تزداد فيه روح الاستهلاك جشعًا. إن صراعنا مع مشكلاتنا اليومية الصغيرة، كما ومع أزماتنا الكبرى على مستوى البيئة والصحة والغذاء والازدياد السكاني وغير ذلك، يغوص بنا في تعلق متزايد بحلول وقتية واهية. نحن لا نرى إلى الحلِّ الحقيقي الماثل في تجدد الحلم نفسه. علينا أن نتذكر أن ميثاق الإنسان الأول هو ميثاق داخلي مع نفسه؛ أي أنه ميثاق تحرر، وليس عهدًا يُلزِمُه بحلٍّ وحيد الاتجاه. وميثاقنا هو معرفة حرة غير مشروطة؛ وهو الميثاق الوحيد الكفيل ببعث الحلم الأول وإعادة المعنى لصيرورة وجودنا، أي لتخليصنا من أزماتنا النفسية والمادية. وإن كنا لن نستطيع حلَّ المشاكل التي تواجه العالم اليوم عبر الدراسات العلمية والتقنية والاقتصادية، فلابدَّ أن نتساءل عن فائدة تجاهل الجانب الموازي لأيِّ عمل يمكن أن نقوم به في هذا الإطار.

تجديد ميثاقنا مع أنفسنا وعودتنا إلى المعرفة التي تقيم التوازن بين حريتنا وشروط استمرارنا – ذلكم هو المعنى الذي تحمله نفسانية مفاهيمنا العلمية.

*

أنهيت الكتابة وبي عطش بعدُ إلى معنى لا يزال يشحن قواي ويشدني إلى سبر متزايد العمق والاتساع لنفسي وللعالم. لكن هذا العطش دفعني الآن، بعد أن أنهيت الكتابة، إلى النهوض والخروج إلى سواد الليل. تركت الحاجز الذي كان يقسم المشهد إلى نصفين ورائي، ومعه كافة المفاهيم والأفكار – وها أنذا أمام سماء رائعة! ما أجمل أن نمتد في لحظات إلى خارج معاييرنا ومقاييسنا، لنجد أنفسنا أمام المعنى الأكثر صميمية في داخلنا. وإني أرجو لكم الآن بعد خروجكم من هذه القاعة أن تشعروا – ولو للحظات – بجمال رؤيا المشهد، بعيدًا عن المفاهيم والحواجز.

*** *** ***


[1] أُلقِيَ هذا النص محاضرةً ضمن برامج الجمعية الكونية السورية في 19/1/1994. (المحرر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود