|
المبدأ الكلي
لقاء
الحكمة القديمة والعلم الحديث
سمير
كوسا
الأستاذ
ندره اليازجي محاضر ومفكر وكاتب سوري. صدرت له
مؤلفات عدة في مواضيع مختلفة تشتمل على
الفلسفة والدين وعلم النفس والاجتماع وغيرها.
يعالج كتاب مدخل إلى المبدأ الكلي،*
من
خلال سلسلة دراسات، تلك الرؤية التي ترى
الكون ومركِّباته على شكل كلِّيات تتفاعل
ديناميًّا ويندرج كلٌّ منها في كلِّية أشمل.
ويعتمد البحث خاصة على النظريات الحديثة في
الفيزياء. تطغى،
منذ قرون، الطرق التحليلية على فروع البحث
العلمي والفكري، وتعتمد هذه الطرق على
الافتراض القائل بأن عالمنا يتألف من "لبنات"
(أو جواهر) صغيرة، بُنِيَتْ بها مختلف الأجسام.
وقد زيدت إلى هذا الافتراض افتراضات أخرى،
منها إمكان فهم ظاهرة ما من خلال معرفة
مركِّباتها الأساسية (وهو ما يسمى بعملية
الاختزال reduction)؛
ومنها أيضًا العلاقات الحتمية وغيرها. ونرى،
هكذا، كيف عمدت العلوم إلى تقسيم المادة
وتشريح الأجسام لمعرفة خواصها (عملية التحليل).
ولما كان كلُّ الأجسام، الحي منها وغير الحي،
يتألف من المواد ذاتها فقد ساد الاعتقاد أن
فهم خواص هذه المواد سيؤدي – من خلال عملية
استقراء – إلى فهم الجسم المدروس: عملية
الاختزال. وهكذا تُفَسَّر النفسُ بخواص المخ (أي
بالبيولوجيا)، وتُفَسَّر البيولوجيا
بالكيمياء، والكيمياء بالفيزياء، إلخ. ويمكن
أن نقول، في عبارة أخرى، إن كل العلوم حاولت
أن تقلِّد الفيزياء في أساليبها ومقولاتها.
فنجد، مثلاً، أن علم النفس (ولاسيما التحليل
النفسي) يقوم على البحث عن الأزمات وعقد
الطفولة الأولى التي عاشها المريض ليتمكن من
فهم الحالة الراهنة لهذا المريض، تمامًا كما
يدرس عالم الفيزياء الشروط الابتدائية أو
الحالة الأولية لجملة ما ليتمكن من تصور
حالاتها المستقبلية. ويمكن في سهولة أن
نبيِّن هذا في فروع المعرفة البشرية الأخرى،
من اقتصاد وعلم اجتماع وعلوم بحتة. ومع
مطلع القرن العشرين، بدأت الفيزياء تتبدل
لتحيل مقولاتها السابقة إلى حالات خاصة أو
لتنسفها تمامًا. فدراسة العالم
الميكروسكوبي، مثلاً، ترينا أن عملية
التحليل السابقة الذكر لا تصحُّ على هذا
المستوى. فقد يتحلل، مثلاً، بروتون إلى
قسيمات أخرى، يكون بروتون آخر في عدادها!
وبالطبع لا يمكن لبروتون أن يكون – منطقيًّا
– مركَّبًا من بروتون وقسيمات أخرى! أما
مفاهيم الزمان والمكان والحتمية وغيرها فقد
تقوَّضت تمامًا مع ولادة نسبية أينشتاين
والنظرية الكوانتية. وهكذا عادت إلى الظهور –
في حلة جديدة – تياراتٌ فكرية قديمة ترى أن
تحليل ظاهرة ما إلى العناصر المركِّبة لها لن
يؤدي سوى إلى إفناء هذه الظاهرة. فتشريح خلية
ما، مثلاً، يؤدي إلى قتلها. ويمكن أن نقول إن
عالمنا، وفقًا لهذه النظرة، يتألف من كلِّيات
لا يمكن إرجاعها إلى عناصر أصغر دون أن نضيِّع
الصفة الأساسية المميزة لهذه الكلِّية
الحيوية.
عبر
كتابه هذا يقدم لنا الأستاذ اليازجي عرضًا
لأوجُه مختلفة للمبدأ الكلِّي، في تطبيقاته
الكثيرة وفي لقائه مع بعض مقولات الحكمة
القديمة. يقول
المؤلف لدى دراسته لظاهرة التطور: "إن
التطور هو مسيرة الحياة على مستوى كوكب
الأرض، انطلاقًا من حالة اللاتمايز
المتجانسة إلى حالة تمايز واسعة تتفرع، حتى
تصل أخيرًا إلى الإنسان." ويضيف أن "التطور
هو الكشف عن الوعي أو عن خصائص الوعي المتضمنة
في كلِّ شيء، بما فيه المادة..." ثم يقول إن
"التطور هو الكون في تكوُّن". ويجد
القارئ دراسات حول النموذج الهولوغرافي، وهو
طريقة تصوير تكون كلُّ قطعة من اللوحة
الفوتوغرافية حاملةً للصورة بكاملها؛ وهذا
النموذج يسمح بإعطاء صورة مناسبة لمفهوم
الكلِّية. ونجد أيضًا دراسات حول الحرية
والإبداع: فمفهوم الكون الواحد يفضي إلى أن
الإنسان الذي يعيش شعورًا كونيًّا يصبح حرًّا
من حتمية التجزئة. وتدور دراسات أخرى حول علم
النفس الكلِّي وحول الفيزياء الحديثة في
مضامينها ومساهمتها في تبديل المجتمع. أخيرًا،
نرحِّب بالمبدأ الكلِّي، لكننا نشدد على أن
المنهجين – التحليلي والكلِّي – لازمان سوية
لفهم الوجود ودراسته. ***
*** *** *
المبدأ
الكلي: لقاء الحكمة القديمة والعلم الحديث،
الطبعة الثانية، مطبوعات اتحاد الكتاب
العرب، دمشق، 1989.
|
|
|