|
حسن
فتحي
استعادة
تكريمية في معهد العالم العربي
نزيه
خاطر
جرى
في العاصمة الفرنسية من 29 كانون الثاني إلى 2
شباط 2003 معرض شبه استعادي لأحد كبار
المعماريين العرب، المصري حسن فتحي (1900-1989)،
الذي أيقظ في المجتمعات المصابة بفقر مزمن
ثقافةَ الغَرْف من التراث البلدي والأجوبة
العملية عن كيفية "البناء مع الشعب".
والمعرض المُقام في معهد العالم العربي
تكريمي، أي ينحو إلى تقديم صورة بانورامية
ملونة عن العناصر المبتكرة نوعًا ما، والفذة،
في استنباط الوظائف الجديدة الراهنة لمفردات
معمارية، مرجعيَّتها إما في العمق المعماري
الريفي، وإما في الإرث المملوكي لقاهرة
معقودة على الحضارة الإسلامية. ولا
يفوت زائر المعرض الوجهُ الرمادي لمسيرة
معمارية لم تنجح مرة في المحاولات الثلاث
الرئيسية لإنجاز مشروع يستلهم المواقف
المعنونة يومئذٍ "ثوريةً" لمعماري
اختار، وسط حركة بناء مجنونة تلت حروبًا تركت
دمارًا كبيرًا شمال المتوسط وجنوبه، أن
يركِّز نشاطاته على تصميم مساكن تحترم كليًّا
طُرُقَ عيش الناس الشعبيين المخصصة لهم، وأن
يقوم هؤلاء الناس ببناء منازلهم بتقنيات "بلدية"
يعملون بها منذ القدم. والمشروع
الأشهَر بين الثلاثة هو الذي صمَّمه حسن فتحي
في النصف الأول من الأربعينات: سكان قرية في
منطقة الأقصر تدعى "القرنة" (7000 نسمة
يعيشون في مساكن تعلو قبورًا فرعونية في
متناولهم). وانتهى المشروع يومذاك إلى فشل لأن
السكان رفضوا الانتقال إلى "القرنة
الجديدة"، كما كان مقررًا؛ واستجابت
الدولة لرغبة القرويين، متخلية عن مساندة
المعماري التي أوكلت إليه بناءه. * يختصر
عمل حسن فتحي مع البنَّائين التقليديين،
أبناء منطقة الأقصر والمنادى عليهم بحسب
اختصاصاتهم حتى أعماق السودان، حلمَه بإعادة
الحياة إلى وحدات معمارية تستمد أدواتِها
وموادَها وأحجامَها وأشكالَها وطُرُقَ
استعمالها من ساكنيها. ولدى تخلِّي الناس عنه
– وهم الدافع الرئيسي له في تصوُّر أماكن
لائقة، تحتضن العائلات، مع الإبقاء على
الأطُر التراثية لعيشهم – شَعَرَ بأكثر من
مرارة أصابته في تطلُّعاته المعمارية
وتعاطفه المثالي مع الطبقات الفقيرة
والريفية التي ينتمي إليها. فحسن فتحي ابن رجل
فقير توصل إلى اقتناء الأراضي الزراعية. ووسط
هذا الجو الزراعي ترعرع حسن وارتبط وبنى
شخصيته، حتى كاد أن يصبح مهندسًا زراعيًّا؛
إلا أنه انحاز فجأة إلى فنون العمارة، دامجًا
حبَّ الأرض بحبِّ تصميم العمارة. وتنتج شخصية
حسن فتحي من هذا التفاعل بين الأرض كموقع
زراعي والبناء كموقع عيش. وكانت قرية "القرنة
الجديدة" التي أنجِزَتْ ولم يسكنها ناسُها
صدمة خلخلتْ فيه أكثر من يقين، فابتعد لفترة
طويلة إلى مدينة القاهرة، قبل أن تدفعه إلى
خارج مصر.
من "القرنة الجديدة" في
الأقصر، مصر: المسكن والبيئة الطبيعية (1952) وأصاب
المشروعين الآخرين ما حلَّ بالقرنة الجديدة،
أي التعطيل وسط الإنجاز، بدوافع تتجاوز
الملامح المعمارية إلى قرارات إدارية تتناول
انزعاج الدوائر الرسمية من معالجات تبدو لها
غير عملية في النصف الثاني من القرن العشرين:
وهكذا رأت الإدارة المصرية في العام 1968 أن
المشروع الخاص بقرية باريص في واحة الخارجة
الصحراوية لا يخدم مصالحها، رغم التحسينات
العديدة في المشروع التي تتناول بخاصة القباب
المعدلة لتؤلف في ما بينها معابر لهواء
يبرِّد الأجواء الداخلية لغرف مطمورة
جزئيًّا في الرمال، مما يَهَبُ الدُّوْر
طابعًا سحريًّا.
السوق وقبابها ومادتها
الطينية في قرية باريص الجديدة في واحة "الخارجة"
(1970) والموقف
عينه جاءه أيضًا في العام 1980 من الإدارة
الأمريكية التي فرضت على مشروع بناء قرية دار
الإسلام في مقاطعة المكسيك الجديدة تعديلاتٍ
دفعت بالسعودية إلى حجب أموالها عن المشروع،
مكتفية فقط بالمسجد الذي كان أنجِزَ، وخاصة
أن المناخ الممطر للموقع الجغرافي فَرَضَ
إضافات معمارية للوقاية الضرورية تحت مناخ
مماثل استنفد معظم الموازنة. وكما
بعد كلِّ "فشل ميداني"، نأى حسن فتحي عن
ربط تصميمه المعماري بالأدوات الخاصة
بالتقنيات البلدية، وبالمواد المستعملة
تاريخيًّا من سكان المكان، منتقلاً مجددًا،
كما بعد مشروع القرنة الجديدة في الأقصر، إلى
بناء الفيلات من طبقتين على الطريقة
المملوكية والتركية في مصر، ووفق القواعد
الحديثة السائدة عالميًّا في اليونان وباقي
المدن التي نجح فيها في ربح المباراة
المعمارية. ومعروف
عنه رفضُه المتطرف للعمارة بحسب المنظار
القائم في المدن الصناعية، وميله القوي إلى
تصميم عمارة تتوازن معالمُها على الحدود بين
المدينة والصحراء وتبدو، في ركائزها، منحازة
إلى قطاف مقوِّماتها من تراث عريق يستمد
عناصره، في آنٍ واحد، من الإرث المعماري
للشعب ذي التقاليد الريفية، ومن البورجوازية
المعقودة الثقافة على ركائز صنعتْ العمارة في
المدينة المصرية خاصة. * كأن
ثمة فرقًا فعليًّا بين تصميم المشروع
وتنفيذه؛ أو كأن الفشل الميداني لا يعطِّل
الأهمية الإبداعية لمعماري لم يتقبل "زمنُه
البلدي" أعمالَه، رغم انتشار صيته
عالميًّا والنظر إليه كمنظِّر دولي لعمارة
شعبية تقف في كلِّ عناصرها قرب الناس الذين
سيعيشون فيها – لو تمَّ تشييدها. وباكرًا عرف
حسن فتحي المبايعة الدولية، رغم اتهام بعض
المثقفين المصريين إياه بالفولكلورية
والاستشراقية والتعامل مع التراث من زاوية
غربية، من خلال الأثر القوي للتنشئة الثقافية
الأنكلوسكسونية والفرنسية. ونيلُه
جائزة الآغا خان لمساهمته الفاعلة في خدمة
العمارة الإسلامية كان بدايةً لسلسلة جوائز
وضعتْه في الصفوف الأولى لمنظِّري فن العمارة
في النصف الثاني من القرن العشرين. حتى إن
حضوره في مطلع السبعينات من القرن العشرين
اتخذ شكل المرجع الفكري لكثير من المعماريين
الشباب الخارجين لتوِّهم من ثورات نهاية
الستينات الطلابية. وبالفعل
احتلَّ كتابه البناء مع الشعب، الصادر
بالفرنسية عن أكْتْ سود–سندباد، واجهة
التيار المُعارض لعمليات البناء على أيدي
المؤسَّسات، إلى الكتاب الآخر العمارة من
دون معماريين الذي كان الكتاب المفضل لدى
معظم المنضوين تحت شعارات أيار 1968. أي
أن حسن فتحي غرق هو أيضًا في بحر الجهل
العربي، ولم يهبْه أحدٌ فرصة. وإن كان معهد
العالم العربي يكرِّمه اليوم فإنما يكرِّمه
في باريس! *** عن
النهار، الأربعاء 29 كانون الثاني 2003 حسن فتحي
شاعر
العمارة: فشلت مشاريعُه وبقي حلمُه
البساطة
المغدورة والمستحيلة
محمد
شرف
أقام
معهد العالم العربي في باريس، منذ فترة،
معرضا استعاديًّا للمهندس المعماري المصري
حسن فتحي. تضمن المعرض رسومًا ومخططاتٍ
وصورًا فوتوغرافية تغطي مفاصل رئيسية في
مسيرته الإبداعية الغنية والفريدة من نوعها. عرف فلاحو الصعيد حسن فتحي قبل
سواهم من أبناء الشعب المصري، وعرفه أساتذة
المعمار الأوروبيون قبل الكثيرين ممَّن كان
عليهم أن يعرفوه في الوطن العربي. وُلد في بداية القرن المنصرم،
وكانت له معاناته الكبيرة من جراء سيطرة
الثقافة التقليدية على أفكار مهندسي تلك
الفترة، التي لم يَسْلَم منها حتى زملاؤه
الذين سايروا، وجاملوا، وقلدوا شتى النزعات
القريبة الحديثة. وتنبثق أهمية حسن فتحي من
تلك المعاناة، وتكمن تلك الأهمية في أمر بسيط
– والأمر البسيط يعكس، دائمًا، جوهر الحقيقة:
لقد كان فتحي أول من شخَّص مركَّب النقص عند
معماريينا بإزاء منجزات العمارة الغربية. وقد
يبدو هذا الأمر، في يومنا هذا، مسألة
اعتيادية؛ فنحن محاطون بجملة من هذه الآراء
التي نلحظ حضورها كلما جرى الحديث على واقع
العمارة العربية. لكن ما نسمعه اليوم كان قد
أشار إليه فتحي، منذ وقت طويل، حين قال: "انظروا
إلى الأرض التي تحت أقدامكم ثم ابنوا." وما
كتابه البناء مع الشعب سوى قصيدة فريدة
لمهندس من نوع خاص. عمارة
الفقراء
نُشِرَ الكتاب، في الأصل، في
العام 1969 بعنوان القرنة: قصة قريتين، في
طبعة محدودة (بإشراف وزارة الثقافة المصرية)؛
وصدرت ترجمته الفرنسية في العام 1970 بعنوان البناء
مع الشعب؛ كما نُشِرَ في العام 1973 بواسطة
جامعة شيكاغو في الولايات المتحدة
الأمريكية؛ وصدرت الطبعة المصرية سنة 1989
بواسطة الجامعة الأمريكية في القاهرة؛ أما
الترجمة العربية، شبه الكاملة، فقد ظهرت في
العام 1991 بعنوان عمارة الفقراء. يقول فتحي في مقدمة كتابه: "أهدي
كتابي هذا للفلاحين، وأودُّ لو كان من
المستطاع أن أتوجَّه إليهم مباشرة، كي
يتمكنوا من قراءته والحكم عليه [كان معظم
الفلاحين المصريين إن لم يكن كلهم، في منتصف
القرن العشرين، من الأميين]. على أنه ينبغي،
في الوقت الحالي، أن أتوجَّه إلى أولئك الذين
يقرِّرون مصائرهم، ويعملون على رفع مستوى
معيشتهم، وهم المهندسون المعماريون
والمخططون، وعلماء الاجتماع والإناسة،
والرسميون المحليون والقوميون والدوليون
الذين يهتمون بالإسكان وبرفاهية الريف. كما
أتوجَّه إلى السياسيين والحكومات في كلِّ
مكان، وإلى كلِّ من يعمل على تحديد السياسة
الرسمية تجاه الريف." وسياسة تنمية الأرياف تعني، في ما
تعنيه، معالجة مشكلة رئيسية يتعرض لها
الريفيون وتنعكس، بشكل أو بآخر، على أنماط
سكنهم وعمارتهم، وهي مشكلة الفقر. يقول وليام
ر. بولك، رئيس معهد أدلاي ستيفنسون للشؤون
الدولية، في مقدمة كَتَبَها لإحدى طبعات كتاب
حسن فتحي: "هناك مليار فرد على الأقل سوف
يموتون موتًا مبكرًا ويعيشون حياة موقوفة
النمو بسبب الإسكان المشوَّه وغير الصحي.
وهذه المشكلة ستبقى بلا حلٍّ إذا ما عولجت
بالطرق التقليدية. وتمدُّنا لجنة بيترسون، في
دراستها التي قدَّمتْها إلى البنك الدولي،
بمعطيات تبيِّن أنه لو حدث غير المحتمل وأعطى
أغنياء العالم 1% من دخلهم للمساعدة على
النهوض بفقراء الكرة الأرضية، فسوف يظل ما
يقرب من ثلث سكان العالم يعيشون في مستويات من
الفقر الماحق." إن ما يقترحه حسن فتحي، من خلال
أبحاثه وكتاباته ونشاطه العملي، هو شكل جديد
من المشاركة. وما ينبغي أن يساهم به الفقراء،
في هذه المشاركة، هو بالضرورة عملهم. كما أن
لديهم، في أنحاء كثيرة من العالم، إمكانية
العثور، بلا تكلفة كبيرة، على مادة بناء
واحدة ممكنة، وهي التربة التي تجثو تحت
أقدامهم. واستنادًا إلى هذين الشيئين: العمل
والتربة، سيكون بإمكانهم إنجاز الكثير. على
أن هناك مشاكل أخرى، تقنية في معظمها، لا
يستطيعون حلَّها بأنفسهم، أو قد يتم حلُّها،
في حال انعدام التوجيه، بطرق مكلفة أو قبيحة
وغير سليمة. وهنا يبرز دور المهندس المعماري،
الذي سيكون المرشد، في مشروع يعتمد أساسًا
على الجهد الذاتي. وتتجلى مهارة المهندس
عندئذٍ في مساعدة الناس على الوصول إلى حلٍّ
رخيص للمشاكل التي قد تعترضهم. نذكر هنا، على سبيل المثال، مسألة
التسقيف التي هي من أصعب المشاكل التي تبرز في
مجال البناء. وقد أدَّت محاولات حلِّ هذه
المشكلة، في مناطق كثيرة، إلى خلق سقوف ثقيلة
ومرهقة إلى حدٍّ هائل؛ وهي كثيرًا ما كانت
تنهار بفعل الزلازل أو الأمطار الغزيرة.
وكانت هذه السقوف مسؤولة عن عدد كبير من
الوفيات المرعبة التي حدثت في تركيا وإيران
ومناطق أخرى نتيجة للزلازل العنيفة. وقد وضع
فتحي هذه المشكلة في سلَّم أولوياته خلال
عمله على تقنيات بناء مساكن الفلاحين أو
الناس الآخرين. بين
الحلم والواقع
كان فتحي، الذي ولد في القاهرة، من
محبي الريف المصري منذ صغره. لكنه كان كمن يحب
شيئًا لا يعرفه حقًّا، ولم يكن يراه إلا من
نافذة القطار خلال رحلاته، مع أهله، من
القاهرة إلى الإسكندرية لقضاء إجازة الصيف.
أما والده الذي كان يمتلك العديد من الضياع في
الريف، فقد كان يتجنب هذا الريف لاعتباره
مكانًا مليئًا بالذباب والبعوض والماء
الملوث؛ وكان يكتفي بالذهاب إليه، مرة كل
سنة، ليلتقي بوكلائه في الأرض ويقبض الإيجار. بسبب تلك العلاقة الدفينة مع
الريف، حاول حسن فتحي الانتساب إلى كلية
الزراعة؛ لكنه فشل في امتحان الدخول، فتوجَّه
إلى كلية الفنون التطبيقية ليدرس العمارة
ولتبدأ، بعد تخرجه، علاقة أخرى بالريف. كانت
أولى زياراته لبيوت الفلاحين محبِطة، إذ فوجئ
بالظروف المعيشية السيئة لهؤلاء الناس: "لم
تكن لديَّ، حتى ذلك الوقت، أية فكرة عن
القذارة المخيفة والقبح الذي يعيش فيه
الفلاحون في عزبة. شاهدت مجموعة أكواخ من
الطين منخفضة، مظلمة، قذرة، بلا نوافذ ولا
مراحيض، ولا حتى مياه نظيفة." وقد حلَّت هذه
الصورة لديه مكان الصورة الأولى للجنَّة
الريفية التي كان يرسم صورها في ذهنه، وهو خلف
نافذة القطار. بعد هذه الانطباعات المتناقضة،
طرح فتحي تساؤلاً منطقيًّا: كيف يمكن لأيِّ
فلاح مصري يملك فدانًا واحدًا من الأرض أن
يبني منزلاً خاصًّا به، في حين يعجز صاحب
الأرض الميسور، الذي يملك أكثر من مئة فدان،
عن تحمُّل كلفة بناء منزل؟ ورأى أن الإجابة
البسيطة عن هذا التساؤل تكمن في قدرة الفلاح
على بناء بيته، بنفسه، من الطين أو من الطوب
الذي يستخرجه من الأرض ويجففه في الشمس. وقد
شكَّلت هذه الإجابة حلاً للمشكلة المطروحة؛
إذ خلال سنين وقرون كان الفلاح يستثمر، بحكمة
وروية، مادة البناء الظاهرة. وهذه الحكمة لم
تَرِدْ في برامج التعليم الحديثة التي تدفع
الطلاب إلى استعمال المواد المصنَّعة
العالية الكلفة، التي قد تعتبر فكرة اللجوء
إلى الطين ضربًا من الهزل. ولا شك في أن بيوت
الفلاحين قد تكون ضيقة ومظلمة ولا تلبي حاجات
الراحة العصرية؛ لكن ذلك ليس نتيجة لخطأ في
مادة البناء بحدِّ ذاتها، بل لضعف في التصميم
وحسن الاختيار. ففي حال توفرت إمكانات
التخطيط، التي يفتقدها منزل الفلاح، يمكن
ساعتئذٍ تعميم المسألة، بحيث تُبنى منازل
الفلاحين والمُلاَّك من المواد ذاتها
وتتوفر، في الحالتين، شروط الراحة والذوق
الجمالي. صنع فتحي عدة تصاميم لبيوت ريفية
من طوب اللبن، وأقام في العام 1937 معرضًا في
المنصورة ثم في القاهرة، حيث ألقى محاضرة عن
تصوره للبيت الريفي. وقد أتت هذه المحاضرة
بالثمار المطلوبة، إذ أتيحت له عدة فرص
للبناء حسب نظريته الخاصة. كان أصحاب
الطلبيات من الميسورين الذين وعدوا أنفسهم
ببيوت جميلة وغير مكلفة. وقد سار تنفيذ
المخططات على ما يرام إلى أن بلغت مرحلة بناء
السقف، حيث تبين أن اللجوء إلى الخشب كعنصر
دعم سيزيد من التكلفة وسيعيد الأمور إلى نقطة
الصفر. وباءت محاولات الاستغناء عن الدعامات
الخشبية بالفشل، إلى أن استعان فتحي
ببنَّائين من منطقة أسوان، بعدما كان قد رأى
بيوتًا هناك، خلال رحلة قام بها في العام 1941،
وقد بنيت قبابها من طوب اللبن من دون استعمال
أية دعامة خشبية. وقد قام البنَّاؤون، الذي
ورثوا هذه التقنية عن أجدادهم، بهذا العمل
بسرعة مدهشة وبدون أية أدوات هندسية، وجاءت
النتيجة على درجة عالية من الدقة أدهشت فتحي
الذي وجد فيها حلاً لمعضلة شائكة. سرقة
مقابر تتسبب في مشروع سكني
تقع القرنة على الضفة الغربية
للأقصر فوق أنقاض مدينة طيبة القديمة، في
مكان يحدُّه وادي الملوك من الشمال ووادي
الملكات من الجنوب ومقابر النبلاء في الوسط،
على سفح التل المواجه للأراضي الزراعية. وقد
بنيت القرية على موقع مقابر النبلاء، ويسكنها
حوالى 7000 فلاح في بيوت تتوزع على مجموعات تحيط
بالقبور القديمة. وكان هؤلاء يعتاشون من إرث
الماضي، بكلِّ ما في الكلمة من معنى؛ فقد
اجتذبتْهم إلى هذه المنطقة قبورُ أجدادهم
الأغنياء، وهي التي مثلت القاعدة الصلبة
لاقتصادهم الذي اعتمد أساسًا على نهب تلك
القبور الحافلة بأشياء ذات قيمة أثرية كبيرة.
أما الأراضي الزراعية التي تحيط بهم فلم تكن
لتكفي حاجاتهم المعيشية، إضافة إلى كونها
ملكًا لعدد قليل من أثرياء المُلاَّك
الزراعيين. لكن سكان القرنة، الذين تحولوا مع
الوقت إلى لصوص مقابر محترفين، ألحقوا الكثير
من الضرر بتلك المقابر بعد نبشها بطريقة
عشوائية، بحيث صار لزامًا على مصلحة الآثار
أن تجد حلاً لتلك المشكلة. وقد أصدرت مراسيم
تقضي بنزع ملكية الأرض من الفلاحين، لكنها
بقيت حبرًا على ورق؛ فتنفيذ تلك المراسيم كان
من شأنه أن يخلق مشكلة أخرى: نقل سبعة آلاف فرد
من هناك والتعويض عليهم بعد إيجاد مكان آخر
لهم. لكن هؤلاء، حسب كلام حسن فتحي، "لن
ينالوا من المال ما يكفي لشراء أراضٍ جديدة
وبناء بيوت جديدة. وحتى لو تم تعويضهم بسخاء
فانهم سينفقون النقود في اتخاذ مزيد من
الزوجات، وبهذا سيصبحون مشردين بلا أرض ولا
مال". وكان الحل الوحيد هو إعادة تسكينهم؛
لكن الاقتراح كان باهظ التكلفة. في ذلك الوقت، خطرت فكرة
الاستعانة بحسن فتحي، على نحو مستقل، لكلٍّ
من عثمان رستم، مدير قسم الهندسة والحفريات،
وم. ستوبلير، مدير قسم الترميم في مصلحة
الآثار. وكان الاثنان على علم بنماذج فتحي
وتصاميمه التي طُبِّقَت في بناء بيوت الجمعية
الملكية الزراعية في القاهرة في العام 1937،
وبيت الهلال الأحمر؛ وقد تركت طريقة استعمال
مادة البناء، ورخص كلفة استخدامها، لديهما
انطباعًا جيدًا. وبالتالي فقد اقترح كلٌّ
منهما على الأب درايتون، المدير العالم
لمصلحة الآثار، الاتصال بفتحي بشأن قرية
القرنة الجديدة، فوافق درايتون على الاقتراح
بعد معاينته المباني التي نفذها المهندس.
ونتيجة لذلك أتيحت الفرصة لفتحي كي يحقق
حلمًا كان يراوده منذ وقت طويل.
كان مشروع القرنة بالنسبة لفتحي
عبارة عن تجربة ومثال في آنٍ واحد، وكان يأمل
أن تتحول تلك القرية إلى نموذج يُحتذى في
عملية بناء الريف المصري بكامله؛ كما كان
يأمل أيضًا أن يتلمس عامة الناس إمكانية أن
يكون المسكن جيدًا ورخيصًا، اعتمادًا على
قاعدة "ابنِ بيتك بنفسك". وفي سعيه لنقل المعلومات والخبرة
إلى بنَّائي المستقبل، الذين سيؤدون العمل
بأنفسهم، كان عليه أن يشرع في بناء القرية
بدءًا من العنصر الأساسي: تراب الأرض، وأن
يهتم بأصغر التفاصيل العملية ويوضح كيفية
القيام بها، إضافة إلى تقدير كلفتها. وكان على
الفلاحين العمال أن يصنعوا الطوب بأنفسهم،
وأن يحفروا الطين ويستخرجوا الجير ويقطِّعوا
الحجارة؛ وهم يقومون هنا بكل المهام التي
يعهد بها عادة، في معظم المشاريع المماثلة،
إلى مقاولين محترفين. المشروع
المتعثر لكن الأمور لم تجرِ تمامًا بحسب ما
أراده فتحي لأسباب عديدة، أبرزها الطابع
البيروقراطي للسلطات المصرية المسؤولة التي
لم تفِ بتعهداتها المالية من أجل تمويل بناء
القرية الجديدة وفقًا للجدول الزمني الموضوع
أساسًا؛ وكان التأخير في صرف الأموال اللازمة
من أجل شراء بعض المواد، التي لا يمكن
استخراجها من الأرض، أو لدفع أجور العمال،
سببًا في إعاقة تقدم المشروع. أما الأسباب
الباقية فيتعلق معظمها بطبيعة الفلاحين
أنفسهم؛ إذ رفض بعضهم ترك القرنة القديمة
التي تمثل بنيتها التحتية "منجمًا أثريًّا"،
أي مصدرًا اقتصاديًّا؛ ولم يتفهَّم بعضهم
الآخر طبيعة المشروع ومعناه المعماري
والثقافي.
كلُّ هذه الأسباب أدَّت، مجتمعة،
إلى تأخير كبير في تنفيذ المخطط الأساسي الذي
وضعه فتحي، بحيث سار التنفيذ على مراحل ثلاث
امتدت ما بين أعوام 1945 و1948. ثم توقف العمل ولم
يكتمل بناء القرية أبدًا، مما دفع بفتحي إلى
نوع من الإحباط جعله يقول: "لم تكن القرنة
بالنسبة لي هدفًا في ذاتها، وإنما هي خطوة
تجريبية على الطريق إلى تجديد الريف المصري.
[...] إلا أن تجربة القرنة أصابها الفشل، ولم
تكتمل القرية قط؛ وهي، حتى يومنا هذا، لم تصبح
مجتمعًا قرويًّا مزدهرًا. ولن يكون من الصحيح
الافتراض أن المبادئ التي وضعناها ستنجح بشكل
أوتوماتيكي عند تطبيقها. وفي نفس الوقت فإني
لن أكون منصفًا لنفسي، ولا لبلدي، لو بقيتْ
هذه المبادئ مدانة أو مرفوضة بسبب فشل
المحاولة الأولى لتطبيقها." الأسلوب
اللغز بعد مشروع القرنة، أي في
الخمسينيات، غادر حسن فتحي مصر لفترة من
الزمن نحو مدينة أثينا – وهي فترة محاطة
بالألغاز، غاص المهندس خلالها في بحر
النظريات الإنسانية الشمولية الملتصقة، بشكل
أو بآخر، بموضوع المسكن. وسيُنتِج، في تلك
المرحلة، هندسة ذات وجه عالمي لا تشبهه
تمامًا؛ ثم سيعود إلى مصر وإلى خطِّه الأساسي
كي يباشر، في العام 1967، ببناء قرية جديدة في
باريص، في واحة الخارجة، حيث سيعمد إلى
استعمال طرق طبيعية للتهوية (الملقف)، من أجل
حماية المباني من درجات الحرارة المرتفعة.
لكن، في هذه المرة أيضًا، توقف العمل في
المشروع في منتصف الطريق، وعاد فتحي بعدها
إلى تصميم الفيلات، كقصر موناستيراكي في
القاهرة، الذي استلهم في تصميمه قصور
البوسفور، وبيت فؤاد رياض في الجيزة.
بيت
في العام 1980 تلقى فتحي دعوة من
التجمع الإسلامي في أبيكيو، في نيومكسيكو (الولايات
المتحدة الأمريكية)، لبناء دار الإسلام.
وسيعود هناك إلى تقنياته المعهودة. لكن
المشروع لم يكتمل؛ إذ لم ينفَّذ منه سوى
المسجد. وقد أجبرت الظروف المناخية القاسية
والأمطار الموسمية، إضافة إلى الشروط
القاسية للبناء في أمريكا، حسن فتحي على
تغطية القباب بطبقة "جلدية" خاصة
لحمايتها من الانجراف أو التفتت. كما أن تقوية
الأساسات زاد من حجم الكلفة المخصَّصة سلفًا
للمشروع، مما ساهم في "هرب" المقاولين
السعوديين، أصحاب المشروع. وبرغم ذلك، فقد
وقفت المجموعة المعمارية العالمية إلى جانب
حسن فتحي، فنال الجائزة الخاصة لمؤسسة الآغا
خان نظرًا لإسهاماته في عمارة العالم
الإسلامي، وهي واحدة من علامات التقدير
الكثيرة التي حصل عليها خلال مسيرته؛ إذ كان
قد نال أيضًا الجائزة الوطنية للفنون والآداب
في القاهرة في العام 1969، إضافة إلى جوائز أخرى. ونتذكر حسن فتحي اليوم كذاك
المهندس الفريد، صاحب الرؤية الجديدة، الذي
ترك تأثيرًا واضحًا على أجيال كاملة من
المعماريين، وكذاك الإنسان الشاعر والمفكر
الإنساني، صاحب الأسلوب الذي سيبقى لغزًا، أو
أسطورة ربما، تدور أحداثها في "قصر من رمال"! *** *** *** عن
السفير، 16/5/2003
|
|
|