أحاديث في جامعة برانديس 1
جدّو كريشنامورتي
ترجمة: وفيق فائق كريشات
متى يسافر المرء يدرك بوضوح شديد أن المشاكل الإنسانية هي في كل مكان،
وأنها إذا كانت غير متشابهة ظاهرًا فإنها في حقيقة الأمر متشابهة على
هذا النحو أو ذاك؛ مشاكل العنف ومشكلة الحرية؛ مشكلة كيف تُعقَد بين
الإنسان والإنسان علاقة حقيقية وأحسن حالاً، كي يعيش بسلام، بشيء من
الأدب ومن غير الدخول في صراع دائب، ليس في داخله فقط بل مع جاره
أيضًا. وههنا أيضًا، على مثال ما في آسيا بأسرها، مشكلة ما يعانيه
الفقراء من فقر ومجاعة وقنوط بالغ. وههنا، على مثال ما في هذه البلاد
وفي أوروبا الغربية، مشكلة الرخاء؛ حيث يكون الرخاء من غير بساطة في
العيش يكون العنف، وتكون جميع صور الترف المنافي للأخلاق الحسنة - يكون
المجتمع الفاسد والمرذول على نحو تام.
ههنا مشكلة الدين المنظم - الذي يرفضه الإنسان على هذا النحو أو ذاك،
في سائر أرجاء العالم - ومسألة ما هو العقل الديني وما هو التأمل -
وهما ليسا حكرًا على الشرق. ههنا مسألة الحب والموت - والكثير الكثير
من المشاكل المترابطة. لا يمثل هذا المتكلم أمامكم أي نسق من التفكير
المفاهيمي أو الإيديولوجي، لا هندي ولا سواه. إذا أمكننا أن نتحدث معًا
في هذه المشاكل الكثيرة، لا كالحديث مع خبير أو مختص، لأن المتكلم ليس
بأي منهما، أمكننا أن نقيم تواصلاً صحيحًا؛ لكن ليبقَ في الذهن أن
الكلمة ليست هي الشيء، وأن الوصف، مهما يكن مفصَّلاً، ومهما يكن
معقدًا، ومهما يكن حسن الاتِّباع للعقل وجميلاً، ليس هو الموصوف.
ههنا العوالم المنفصلة بأكملها، الشقاقات الإيديولوجية بين الهندوس
والمسلمين والمسيحيين والشيوعيين، التي أحدثت هذا القدر من الأذى الذي
لا يُحصى، وهذا القدر من الخصومة. الإيديولوجيات كلها بلهاء، أكانت
دينية أم سياسية، بسبب أن التفكير المفاهيمي، الكلمة المفاهيمية، هو ما
فرَّق بين الإنسان على هذا النحو الذي يؤسف له.
لقد أثارت هذه الإيديولوجيات حروبًا؛ مع ما قد يوجد من تسامح ديني، فهو
إنما يبلغ حدًا معينًا؛ يأتي بعده الخراب وعدم التسامح والوحشية،
والعنف - الحروب الدينية. على نحو مشابه، ههنا الشقاقات القومية
والقبلية التي أحدثتها الإيديولوجيات، والقومية السوداء وشتى الصيغ
القبلية.
هل بالإمكان البتة العيش في هذا العالم عيشًا غير عنفي، في حرية، بعفة؟
الحرية ضرورية قطعًا؛ بيد أنها ليست حرية الفرد في أن يفعل ما يحب، لأن
الفرد مشروط - سواء عليه أكان يعيش في هذه البلاد أو في الهند أو
سواهما من الأماكن - مشروط بمجتمعه، وبثقافته، وبكل بنية فكره. هل
بالإمكان البتة أن يكون حرًا من حال المشروطية هذه، ليس من الناحية
الإيديولوجية، وليس من حيث الفكرة، بل أن يكون حرًا بالفعل، نفسيًا،
داخليًا؟ من غير ذلك لا أرى كيف بالإمكان أن تكون ديمقراطية أو سلوك
قويم من أي صنف. مرة أخرى، ينظر إلى عبارة "السلوك القويم" بشيء من
الاحتقار، بيد أن أملي هو أن نستطيع استعمال هذين اللفظين لنقل المراد
من غير معنى ازدرائي.
ليست الحرية فكرة؛ ليست الفلسفة التي كُتبت في الحرية هي حرية. المرء
هو إما حر أو ليس كذلك. إن المرء هو في سجن، مهما يكن ذلك السجن
مزخرفًا؛ السجين إنما يكون حرًا حين لا يبقى في السجن. ليست الحرية
حالاً عقلية تدرك بالفكر. لا يستطيع الفكر أن يكون حرًا البتة. الفكر
هو استجابةُ الذاكرةِ والمعرفة والخبرة؛ إنه دائمًا نتاج للماضي وليس
بوسعه إحداث الحرية لأن الحرية شيء كائن في الحاضر الفعال الحي، في
الحياة اليومية. الحرية ليست هي حرية من شيء - الحرية من شيء هي مجرد
رد فعل.
لماذا أسبغ الإنسان على الفكر أهمية استثنائية كهذه؟ - الفكر الذي يصوغ
مفهومًا يحاول أن يعيش بحسبه. إن صوغ الإيديولوجيات وما يُسعى إليه من
امتثال لتلك الإيديولوجيات هو أمر ملاحظ في شتى أرجاء العالم. فعلته
حركة هتلر، ويفعله الشيوعيون على نحو شامل؛ لقد قررت الزمر الدينية،
الكاثوليك والبروتستانت والهندوس وما شاكلهم، قررت إيديولوجيتها
بالدعاية طوال ألفين من السنين، وجعلت الإنسان يمتثل بواسطة التهديدات،
وبواسطة الوعود. يلاحظ المرء هذه الظاهرة في سائر أرجاء العالم؛ لقد
أسبغ الإنسان دائمًا على الفكر هذا القدر الاستثنائي من المغزى
والأهمية. كلما ازداد الفكر تخصصًا، وكلما ازداد عقلانية، أصبح ذا
أهمية جدية. ونتساءل: هل يستطيع الفكر البتة أن يحل مشاكلنا الإنسانية؟
ههنا مشكلة العنف، ليس فقط الثورة الطلابية في باريس وروما ولندن
وكولومبيا، هنا وفي بقية العالم، بل هذا الانتشار للكراهية والعنف، من
السود للبيض، ومن الهندوس للمسلمين. وههنا الوحشية غير المعقولة والعنف
الاستثنائي اللذان تحملهما القلوب البشرية - وإن رُبيت وجُعلت مشروطة
خارجيًا على ترديد صلوات السلام. إن الكائنات البشرية عنفية على نحو
استثنائي. هذا العنف هو نتيجة للشقاقات السياسية والعرقية وللفروق
الدينية.
هل يمكن للمرء أن يحوِّل فعليًا هذا العنف المغروس على هذا النحو
العظيم في كل كائن بشري، وأن يغير منه تغييرًا كاملاً، بحيث يعيش المرء
في سلام؟ من الواضح أن الإنسان قد ورث هذا العنف من الحيوان ومن
المجتمع حيث يعيش. إن الإنسان معتنق للحرب، وهو يقبل الحرب طريقةً
للعيش؛ لعل هنا وهناك قلة من المناوئين للعنف، الحاملين للشعارات
المناوئة للحرب، بيد أن ههنا الذين يحبون الحرب ولهم حروب مفضلة! ههنا
أولئك الذين قد لا يوافقون على الحرب الفيتنامية بيد أنهم سوف يقاتلون
لشيء آخر، سوف يثيرون حربًا من نوع آخر. لقد قبِل الإنسان الحرب
فعليًا، أعني الصراع، ليس في داخله فقط بل في خارجه، طريقةً للعيش.
إن الكائن الإنساني بما هو عليه، تمامًا، على المستويين الشعوري
والأعمق منه، ينتج مجتمعًا ذا بنية مطابقة - وهذا أمر واضح. ويسأل
المرء من جديد: هل من الممكن البتة للإنسان، وقد عوَّد نفسه بالتربية،
وبقبول المعايير والثقافة الاجتماعيتين، أن يُحدِث ثورة نفسية داخل
نفسه؟ - لا مجرد ثورة خارجية.
هل من الممكن البتة إحداث ثورة نفسية فورًا؟ - ليس في الوقت المناسب،
ليس بالتدريج، لأنه ليس من فسحة وقت عندما يكون المنزل في حريق؛ لست
تتحدث عن إطفاء النار بالتدريج؛ لا يكون لك فسحة وقت، فسحة الوقت هي
ضلالة. ما الذي، إذًا، سيجعل الإنسان يتغير؟ ما الذي سيجعلني أو يجعلك
بوصفنا كائنين إنسانيين نتغير؟ الحافز، أكان ثوابًا أم عقابًا؟ هذا قد
جُرِّب. الجزاءات النفسية، الوعد بالجنة، العقاب بالنار، عندنا من هذا
كثرة وافرة، ومن الظاهر أن الإنسان لم يتغير؛ ما يزال حسودًا، جشعًا،
عنفيًا، خرافيًا، خائفًا وهلمجرا. مجرد الحافز، سواء عليه أُعطي
خارجيًا أم داخليًا، لا يُحدِث تغييرًا جذريًا. هل إن العثور،
بالتحليل، على السبب في أن الإنسان عنفي جدًا، ملآن بالخوف جدًا، مولع
بالاكتساب جدًا، تنافسي، طموح بعنف جدًا - وهذا العثور سهل نسبيًا - هل
إن ذلك سوف يُحدِث تغييرًا؟ من الواضح أن الجواب هو لا، الأمر ليس هو
ذلك ولا إماطة اللثام عن الحافز. ما الذي سيفعل ذلك، إذًا؟ ما الذي سوف
يُحدِث الثورة النفسية، ليس بالتدريج، بل فورًا؟ تلك، على ما يظهر لي،
هي القضية الوحيدة.
ليس التحليل - التحليل الذي يجريه المختص، أو التحليل الاستبطاني - هو
الذي يأتي بالجواب عن القضية. يأخذ التحليل وقتًا، يتطلب قدرًا كبيرًا
من النظر النافذ، لأنك إذا أخطأت في التحليل كان التحليل الناجم عن ذلك
خطأ. إذا حللت وخلصت بخلاصة ومضيت في سبيلك من تلك الخلاصة فأنت واقع
في الإحباط، مسدودة سبلك. وفي التحليل ثمة مشكلة "المحلِّل"
و"المحلَّل".
كيف يُحدَث هذا التغيير الجذري الجوهري إحداثًا نفسيًا، داخليًا إذا لم
يكن ذاك بواسطة الحافز أو بواسطة التحليل واكتشاف السبب؟ من السهل على
المرء أن يكتشف السبب في غضبه، لكن ذلك لن يقطع عليه غضبه. يستطيع
المرء أن يكتشف الأسباب التي تسهم في نشوب الحرب، أكانت اقتصادية أم
قومية أم دينية أم كبرياء السياسيين، الأيديولوجيين، أم الالتزامات
وهلمجرا؛ مع هذا فإننا ماضون في قتل بعضنا بعضًا، باسم الله، باسم
الإيديولوجيا، باسم البلاد، باسم كائن من يكون. لقد نشبت 15000 حرب في
5000 سنة! - وما نزال بلا حب، بلا رحمة!
بولوج المرء في هذه المسألة يصادف حتمًا مشكلة "المحلِّل" و"المحلَّل"،
"المفكِّر" و"الفكر"، "الملاحِظ" و"الملاحَظ"، ومشكلة هذه القسمة بين
"الملاحِظ" و"الملاحَظ" هي مشكلة حقيقية، حقيقية بمعنى كونها مشكلة
فعلية وليست أمرًا نظريًا. هل "الملاحِظ" - المركز الذي منه تنظر، منه
ترى، منه تسمع - هل هو كيان مفاهيمي قد فَصَل نفسه عن الملاحَظ؟ عندما
يقول المرء إنه غضبان، فهل الغضب مختلف عن الكيان الذي يعرف أنه غضبان؟
- هل العنف منفصل عن "الملاحِظ"؟ أليس العنف جزءًا من الملاحِظ؟ من
فضلكم، هذا شيء مهم جدًا ينبغي فهمه. الشيء المركزي الذي ينبغي فهمه،
عندما نُعنى بمسألة التغيير النفسي الفوري هذه - ليس التغيير في حالة
مستقبلية ما أو زمان مستقبلي ما. هل "الملاحِظ"، "إياي"، "أنا"،
"المفكر"، "صاحب الخبرة"، هو مختلف عن الشيء، الخبرة، الفكر، الذي
يلاحظه؟ عندما ننظر إلى تلك الشجرة، عندما نرى طائرًا يطير، ضوءَ
المساء، هل "صاحب الخبرة" مختلف عما يلاحظه؟ هل إننا عندما ننظر إلى
شجرة، "ننظر" إليها في وقت من الأوقات؟ من فضلكم جاروني قليلاً. هل
ننظر إليها في وقت من الأوقات مباشرة؟ - أم إننا ننظر إليها من خلال
الصورة الذهنية للمعرفة، لماضي الخبرة التي مررنا بها؟ تقول: "أجل،
أعرف كم هو جذاب لونها، كم هو جميل شكلها". أنت تتذكرها وبعد ذلك
تستمتع باللذة المستمدة بواسطة تلك الذكرى، بواسطة ذكرى الإحساس بالدنو
منها وهلمجرا. هل لاحظت قط "الملاحِظ" مختلفًا عن "الملاحَظ"؟ ما لم
نبحث في هذا الأمر بعمق فلعل ما يأتي بعقب ذلك يُغفَل عنه. ما دام بين
"الملاحِظ" و"الملاحَظ" قسمة فالصراع قائم. تخلق هذه القسمة، المكانية
واللفظية التي ترِد إلى العقل مع الصورة الذهنية، مع المعرفةِ، مع ذكرى
الألوان الخريفية للسنة الماضية، تخلق "الملاحِظَ"، والقسمة عن
"الملاحَظ" هي عنف. يُحدث الفكر هذا القسمة. تنظر إلى جارك، إلى زوجتك،
إلى زوجك أو إلى صديقك أو صديقتك، أو كائن من يكون، ولكن هل تستطيع
النظر من غير الصورة الذهنية للفكر، من غير الذاكرة السابقة؟ لأنك
عندما تنظر بصورة ما لا تكون العلاقة؛ إنما تكون مجرد علاقة غير مباشرة
بين زمرتين من الصور، للمرأة أو الرجل، كل منهما بالنسبة إلى الآخر؛
تكون علاقة مفاهيمية، وليس علاقة فعلية.
إننا نعيش في عالم من المفاهيم، في عالم من الفكر. إننا نحاول أن نحل
كل مشاكلنا، من أكثرها اصطباغًا بالصبغة الميكانيكية إلى النفسي منها
الأكثر عمقًا، بواسطة الفكر.
إن تكن قسمة بين "الملاحِظ" و"الملاحَظ" فتلك القسمة هي مصدر كل صراع
إنساني. عندما تقول إنك تحب أحدًا، فهل ذلك هو حب؟ لأنه أليس في ذلك
الحب كل من "الملاحِظ" والشيء الذي تحبه، الملاحَظ"؟ ذلك "الحب" هو
نتاج للفكر، وقد اقتُطِع بوصفه مفهومًا وليس مِن حب.
هل الفكر هو الأداة الوحيدة التي لدينا للتعامل مع مشاكلنا الإنسانية
بأسرها؟ - ذلك إنه لا يأتي بالجواب، لا يحل مشاكلنا. لعله يفعل ذلك،
إننا إنما نضعه موضع التساؤل، لسنا نقرره تقريرًا دوغماتيًا. لعله ليس
للفكر موضع، أي موضع، سوى في القضايا الميكانيكية، التقانية، العلمية.
متى يكن "الملاحِظ" هو "الملاحَظ" يتوقف الصراع. يحدث هذا حدوثًا
طبيعيًا جدًا، سهلاً جدًا؛ في الظروف حيث الخطر عظيم لا يكون "ملاحِظٌ"
منفصلاً عن "الملاحَظ"؛ يكون فعلٌ فوري، استجابةٌ آنية بالفعل. عندما
تكون أزمة عظيمة في حياة المرء - والمرء يتجنب دائمًا الأزمات العظيمة
- لا يكون للمرء فسحة وقت للتفكير فيها. في ظرف كهذا لا يبدي الدماغ،
بكل ذكرياته الماضية، استجابة فورية، بيد أنه يكون ثمة فعلٌ فوري. يكون
تغيير فوري، نفسيًا، داخليًا، عندما ينتهي تفريق "الملاحِظ" عن
"الملاحَظ". نضع هذا بصورة مختلفة: يعيش المرء في الماضي، كل المعرفة
هي معرفة الماضي. المرء يعيش هناك، حياة المرء هي هناك، في الذي قد كان
- الذي يشغله هو: "ماذا كنتُ" وبناءً على ذلك: "ما سأكون". حياة المرء
مؤسسة في جوهرها على الأمسِ و"الأمسُ" يجعلنا غير قابلين للتأثُّر،
يجردنا من القدرة على البراءة، من القابلية للتأثُّر. وعليه، "الأمس"
هو الملاحِظ"؛ في "الملاحِظ" كل طبقات اللاشعوري والشعوري أيضًا.
النوع الإنساني كله هو في كل واحد منا، في كل من الشعور واللاشعور، في
الطبقات الأكثر عمقًا. المرء هو نتيجة لآلاف من السنين؛ لقد غُرس في كل
واحد منا - وهذا أمر يُمكن للمرء أن يجده إذا عرف كيف يغوص فيه، يمضي
داخله عميقًا - غُرس التاريخ بأكمله، المعرفة بأكملها معرفة الماضي.
ذلك هو السبب في أن معرفة النفس مهمة على نحو عظيم. "نفس المرء" هي
الآن مأخوذة عن الغير؛ يردد المرء ما أخبرنا به الآخرون، أكان هو فرويد
أم غيره من المختصين. إذا أراد المرء أن يعرف نفسه فلا يسع المرء أن
ينظر بعيني المختص؛ عليه أن ينظر إلى نفسه مباشرة.
كيف يستطيع المرء أن يعرف نفسه من غير أن يكون "ملاحِظًا"؟ ماذا نعني
بقولنا "عارفًا أن"؟ - أنا لا أبالغ في الوقوف عند الألفاظ - ماذا نعني
بقولنا "عارفًا أن"، أن "يعرف"؟ متى "أعرف" شيئًا ما؟ أقول: "أعرف"
السنسكريتية، "أعرف" اللاتينية - أو أقول: "أعرف" زوجتي أو زوجي. إن
المعرفة باللغة مختلفة عن "المعرفة" بزوجتي أو بزوجي. إنني أتعلم أن
أعرف لغة لكن هل يمكنني البتة القول إنني أعرف زوجتي؟ - أو زوجي؟ عندما
أقول إنني "أعرف" زوجتي فمعناه أن عندي صورة لها: لكن تلك الصورة هي
دائمًا في الماضي؛ تلك الصورة تحول بيني وبين النظر إليها - لعلها قد
أخذت تتغير. وعليه، فهل أستطيع البتة أن أقول إنني "أعرف"؟ عندما
يتساءل المرء: "هل أستطيع أن أعرف نفسي من غير الملاحِظ؟" - انظر ماذا
يحصل.
في الأمر شيء من التعقيد: إنني أتعلم أشياء عن نفسي؛ في تعلمي أشياء عن
نفسي أركم المعرفة عن نفسي وأستعمل تلك المعرفة، وهي من الماضي، في
تعلُّم المزيد من الأشياء عن نفسي. بما ركمت من معرفة عن نفسي أنظر إلى
نفسي وأحاول أن أتعلم شيئًا جديدًا عن نفسي. هل أستطيع ذلك؟ إنه
مستحيل.
أن أتعلم أشياء عن نفسي وأن أعرف أشياء عن نفسي: الأمران مختلفان
كليًا. التعلم هو عملية مستمرة لاتراكمية، و"نفسي" هي شيء متغير طوال
الوقت، أفكار جديدة، أحاسيس جديدة، تفاوتات جديدة، تلويحات جديدة،
تلميحات جديدة. ليس التعلم شيئًا مرتبطًا بالماضي أو المستقبل؛ لا
أستطيع القول إنني قد تعلمت ولسوف أتعلم. فمن الواجب، إذًا، على العقل
أن يكون في حال من التعلم مستمرة، ولذلك يكون دائمًا في الحاضر الفعال،
دائمًا منتعشًا؛ ليس مترهلاً بمعرفة الأمس المركومة. حينئذ سترى، إن
بحثت في الأمر، أنه ليس سوى التعلُّم، لا اكتساب المعرفة؛ حينئذٍ يصبح
العقل يقظًا وواعيًا ودقيق النظر على نحو استثنائي. لا يمكنني البتة
القول إنني "أعرف" أشياء عن نفسي: وكل من يقول "إنني أعرف"، فمن الواضح
أنه لا يعرف. التعلم هو عملية مستمرة، فعالة؛ ليست القضية أن التعلم قد
حصل. إنني أتعلم المزيد لكي أضيف شيئًا إلى ما قد تعلمته. من الواجب،
لأتعلم أشياء عن نفسي، أن أكون حرًا في النظر وأحرم حرية النظر هذه
عندما أنظر من خلال معرفة الأمس.
سائل: لماذا يؤدي الفصل بين " الملاحِظ" و"الملاحَظ" إلى الصراع؟
كريشْنامورْتي:
مَن الصانع للجهد؟ يوجد الصراع طالما ثمة جهد، طالما ثمة تناقض. وعليه،
أليس بين "الملاحِظ" و"الملاحَظ" تناقض - في تلك القسمة؟ ليس الأمر هو
حجاجًا أو رأيًا - يمكنك النظر إليه. متى أقل: "هذا لي" - سواء أكان
ذلك حيازة أم حقوقًا جنسية أم عملي الخاص - تكن مقاومةٌ هي التي تفصل
ولذلك يكون الصراع. عندما أقول: "أنا هندوسي"، "أنا من طبقة البراهمة"،
هذا وذاك، فإنني قد خلقت حولي نفسي عالمًا به عينت هوية نفسي، عالمًا
يولِّد القسمة. مما لا ريب فيه أنه عندما يقول المرء إنه كاثوليكي،
فإنه فصل نفسه عمن ليسوا كاثوليك. كل قسمة، سواء في ذلك الخارجية
والداخلية، تولِّد الخصومة. وعليه، تبرز المشكلة: هل يمكنني أن أمتلك
شيئًا ما من غير خلق خصومة، من غير خلق هذا التناقض المحدد، الذي
يولِّد الصراع؟ أم هاهنا بُعد مختلف تمامًا فيه يوجد معنى اللامُلكية،
وبالتالي توجد الحرية.
سائل: هل من الممكن الفعل، البتة، من غير وجود المفاهيم العقلية؟ هل
كنت تستطيع أن تدخل هذه الغرفة وتجلس على ذلك الكرسي من غير وجود مفهوم
ما هو الكرسي؟ يلزم عن قولك، على ما يظهر، أنه لا حاجة بنا إلى
المفاهيم البتة.
كريشْنامورْتي:
لعلني لم أشرح الأمر بتفصيل كافٍ. يجب أن يكون لدى المرء مفاهيم. لو
سألتك أين تسكن، فإنك سوف تخبرني، إلا أن تكون في حال من فقد الذاكرة.
"إخبارك إياي" هو وليد المفهوم، وليد التذكر - ويجب أن يكون لدى المرء
تذكرات، مفاهيم. بيد أن المفاهيم هي التي ولَّدت الإيديولوجيات التي هي
مصدر الأذى - أنت، أميركي، أنا، هندوسي، هندي. أنت معتنق إيديولوجيا
وأنا معتنق إيديولوجيا أخرى. هذه الإيديولوجيات مفاهيمية ونحن على
استعداد لقتل بعضنا بعضًا لأجلها وإن كنا قد نتعاون علميًا، في
المختبر. لكن في العلاقة الإنسانية، هل للتفكير المفاهيمي موضع؟ هذه
مشكلة أكثر تعقيدًا. كل رد فعل هو مفاهيمي، كل رد فعل: تكون لي فكرة
وبحسب تلك الفكرة أفعل؛ أعني أن الفكرة تأتي أولاً، الصيغة، المعيار،
ومن بعد ذلك وبحسب ذلك يكون الفعل. وعليه، بين المفهوم، أو الفكرة،
وبين الفعل قسمة. الجانب المفاهيمي من هذه القسمة هو "الملاحِظ". الفعل
هو شيء ما قائم خارجنا ولهذا تنشأ القسمة، الصراع. يثير هذا الأمر
مسألة وهي: هل يستطيع العقل الذي جُعِل مشروطًا، ورُبِّي، نُشِّئ
اجتماعيًا، هل يستطيع تحرير نفسه من التفكير المفاهيمي ويفعل بصورة
لاميكانيكية. هل يستطيع العقل أن يكون في حال من الصمت ويقوم بالفعل،
هل يستطيع أن يشتغل من غير مفاهيم؟ أقول إن الأمر ممكن؛ لكن ليس لذلك
قيمة حادثة عن قولي ذلك. أقول إنه ممكن، وذلك هو تأمُّل: لحل هذه
المسألة التي تُطرح عن قدرة العقل - العقل بأكمله - على أن يكون
صامتًا، حرًا كليًا من التفكير المفاهيمي، حرًا من التفكير بأسره، بحيث
أنه لا يفكر إلا عندما يكون الفكر ضروريًا. إنني أتكلم الإنكليزية،
تجري هاهنا عملية تلقائية. هل تستطيع أن تستمع إلي بصمت على نحو تام،
من غير تدخل للفكر؟ - أرى أنك في اللحظة التي تحاول فيها أن تفعل هذا
تكون في فكر. هل من الممكن أن تنظر - إلى شجرة، إلى الميكروفون – من
غير الكلمة، حيث الكلمة هي الفكر، المفهوم؟ أن تنظر إلى الشجرة من غير
مفهوم أمر سهل نسبيًا. أما أن تنظر إلى صديق، أن تنظر إلى أحد ما قد
آذاك، قد تملقك، أن تنظر من غير كلمة، من غير مفهوم هو أمر أشد صعوبة؛
إنه يعني أن الدماغ هادئ، له استجاباته، له ردود فعله، أنه سريع، لكنه
هادئ جدًا بحيث أنه يستطيع أن ينظر على نحو تام، على نحو كلي، نظرًا
نابعًا من الصمت. في تلك الحال فقط تفهم وتفعل بفعل غير متشظٍّ.
سائل: نعم، أحسبني أعرف ما تقول.
كريشْنامورْتي:
حسن، لكن ينبغي عليك أن تفعله، على المرء أن يعرف نفسه؛ حينئذ تبرز
مشكلة "الملاحِظ" و"الملاحَظ"، "المحلِّل" والمحلَّل" وهلمجرا. هاهنا
نظرٌ من غير هذا كله، نظرٌ هو فهمٌ آني.
سائل: إنك تحاول أن تنقل بالكلمات شيئًا تقول عنه إنه مستحيل فِعله
بالكلمات.
كريشْنامورْتي:
هاهنا تواصل لفظي بسبب أنك وأنا، كلينا، يفهم الإنكليزية. ليتواصل
أحدنا مع الآخر تواصلاً صحيحًا يجب علينا معًا أن نكون ملحِّين وأن
تكون لنا الاستطاعة، خاصية الجِدّ، في نفس الوقت - وإلا فإننا لا
نتواصل. إن كنت تنظر من النافذة وأنا أتكلم، أو إن كنت جادًا وأنا غير
جاد، فإن التواصل يتوقف. الآن، إن توصيل شيء جرى علي أو عليك هو أمر
صعب جدًا. لكن ههنا تواصل ليس لفظيًا، يحصل عندما تكون أنا وأنت جادين
معًا، جِدّيين ومباشرين معًا، في نفس الوقت، في نفس المستوى؛ حينئذ
يكون "تشارُك" هو لالفظي. حينئذٍ يمكننا الاستغناء عن الكلمات. حينئذٍ
يمكننا، أنا وأنت، أن نجلس بصمت؛ لكن يجب ألا يكون ذلك هو صمتي أو
صمتك، بل صمتُنا كلينا؛ حينئذٍ قد يكون التشارك ممكنًا. بيد أن طلب ذلك
هو طلبٌ لشيء كثير جدًا.
*** *** ***