سِحر الكلمة!
حسن شوتام
لم
يُلاحظن أو ربما لم يهتمِمْن بوجودي بينهنَّ، فعيونهن كانت تنتظر بلهفة
يُخالطها القلق استعلان المكتوم. كانت أختي الكبرى سيِّدة الحلقة،
تستعين بقاموس ضخم مُجلَّد و مقصٍّ نُحاسيٍّ حادٍّ صغير لكشف الطَّالِع
بطريقة فريدة: تغرسُ نَصْلَيْ الآلة في قلب المُعجم، فلا يظهر منها سوى
الحلقتين، تُجيزُ بينهما خيطًا متينًا وتلُفُّه حول الكتاب بإحكام..
بعد ذلك تدفع سبَّابتها بين حافة حلقة المقص والمُجلد، وتفعلُ إحدى
صديقاتها المُستشيرة نفس الشيء فيرفعان بذلك القاموس ويُبقيانه في حالة
توازن.. تُطبِق أختي عينيها وتشرع في طلب حضور "روح تائهة" بفرنسية
سريعة وبإلحاح وتكرار يُضاعف حالة الترقُّب والتوجُّس.. يتململ القاموس
ثم يدور فجأة.. "الروح التائهة" حاضرة جاهزة لكشف الأسرار.. يَمْتَقِعُ
لون المُستشيرة فيما الأخريات يُجاهدن في السيطرة على الخوف بضحكات
مكتومة.. تتجاهلهن أختي وتبدأ باستفسار "الروح" - بمقتضى حاجة
المُستخبرِة الحائرة - وإصدار الأوامر لهذه "القوة" بالتحرك يمينًا أو
شمالاً للتأكيد أو النفي.
كنتُ أتابع العرض باندهاش طفولي، ولم أجد وقتئذ معنى لأسئلتهن: هل
يُحبُّني سليم مثلما أحبُّه؟ هل سيتقدَّم كريم لخطبتي هذه السنة؟ هل
يخونني أشرف مع مروة؟...
كنتُ في المرحلة الابتدائية وكان أكثر ما شغلني وشدَّ انتباهي:
العُدَّة المُعتمدة لاستحضار تلك "القوة" أو "الروح" الكاشفة للأسرار..
في الحقيقة كنتُ أرغب في معرفة أسرار الطيران، أو بسذاجة طفل جامح
الخيال، أردتُ أن أحلِّق في السماء كما الطيور تمامًا؛ وقد رسخت في
ذهني فكرة أن لا سبيل لتحقيق ذلك دون التوصُّل إلى كلمة سحرية أردِّدها
قبل أن أقفز من علو يتناسب مع طولي. كان يجب أن أتردَّد على الحلقة عدة
مرَّات وأحفظ العبارات الفرنسية، حتى إذا خلى البيت عَصْرَ أحد أيام
شهر نونبر - من سنة 1984 - سحبتُ دُرْجَ الصَّوان حيث تحفظ أختي عُدَّة
قراءة الطَّالع، وأخرجتُ منه القطع الثلاث: المعجم والمقص ثم الخيط.
وفي دقائق معدودة، كان الكتاب بين سبابتيَّ يستجيب ويدور يمينًا أو
يسارًا، وأنا أعرض عليه الحروف الأبجدية حرفًا حرفًا آملاً إيجاد
تركيبة لفظية ترفعني للسماء. خلاصة تجربتي الخرافية كانت "كلمة"
بالحروف اللاتينية مُسِحت من ذاكرتي مع تقدم العمر.. لكن أذكر أنني
عانقتُ فضاء خاليًا رحبًا يمكنه أن يسع جنوني بعيدًا عن أنظار أصدقائي
العقلاء، وطفقتُ أركض بأقصى سرعة وأقفز من أعلى مرتفع بسيط (حسِبته
جبلاً حينها) وأنا أردِّدُ في حماس وثقة "الكلمة" السحرية القادمة من
غياهب المجهول.. أصِبتُ بخيبة كبيرة عندما اكتشفتُ أني أطير فقط لحظة
إغماضي لعينيَّ صارخًا بالكلمة الأعجمية العجيبة وأن جسدي الصغير سرعان
ما ينطرح أرضًا. لكن لم أفقد الأمل وظللت أمارس الطقس السحري وأجرِّب
كل الكلمات المُعلنة حتى تورَّمت قدماي من القفز والاصطدام بالأرض،
عندها فقط توقَّفت عن المحاولة.
ومضى الغد، ومضت في أثره أيام وشهور وتشتَّتت حلقة قراءة الطَّالع
وانصرف الكلُّ إلى الدَّرس والتحصيل والاستعداد لامتحانات آخر السنة..
وفرحت أمي باسترداد المقص النحاسي الحاد الذي يظهر لأيام ثم يختفي
ويضيع لشهور.. واستردَّ القاموس مقامه العالي فوق خزانة الأواني، وبات
مرجع كل فرد من أفراد الأسرة لمَّا تنغلق الكلمات الصعبة عن المعاني.
وكانت أمي تُحيطه بهالة من التقديس وتصرخ في وجه من يرتكب حماقة إعارته
إلى صديق وهي تُكرِّر نصيحة الكتبيِّ الذهبية: حافظي على هذا الكتاب
سيدتي فهو باهض الثمن ونافع للتحصيل الدراسي مدى الحياة!
صيف تلك السنة زارنا ابن خالي وكان شغوفًا بالمطالعة، وكنت أراه يستغرق
في القراءة لا يترك كتابه إلا لتناول وجبة أو قضاء حاجة. وفي إحدى
المرَّات وجدتُ الرواية على منضدة غرفة المعيشة وبدأت أتهجَّى عنوانها
فإذا بصوته يندلق من فوق كشلال بارد:
les ailes de courage
(أجنحة الشجاعة)! وما لبث أن التقطها بلهفة وانزوى
في مكانه المعتاد يقرأ؛ حتى إذا اطمئن واسترسل في هوايته تراه منطلق
الأسارير باسم الثغر حينًا أو مقطَّب الجبين واجمًا حينًا آخر. وكان
تقلُّب حالته تلك يُذكِّرني بالقاموس العجيب ودورانه ذات اليمين وذات
الشمال كلَّما استثرناه عن قصد مُبَطَّن بمُقتضى أهوائنا وأحلامنا
وتوقُّعاتنا.. وتلك كانت في تقديري بداية شغفي بالكتب وإيماني بسحر
وقوة الكلمة!
*** *** ***