مائتا جنيه
عبد الغني عبده
أول
مرة أسمع صوته. أكثر من تسع سنوات أمرُّ عليه في طريق عملي ذهابًا
وعودة. في الصباح كثيرًا ما أصادفه منكمشًا على نفسه؛ غير مكترث بلهيب
الصيف ولا برد الشتاء. ملابسه رثة وشعره تحول إلى كتلة واحدة لكثرة ما
تراكم عليه من أتربة وعوادم. بعد الظهر يبدو حيويًا أكثر. يتحرك ذهابًا
وإيابًا يتأمل نفس المباني ولا يهتم بالناس؛ لم أره يومًا يطلب شيئا من
أحد.
مرات رأيت أطفالاً يهاجمونه فلا يرد. أنهرهم فتنبسط أساريره وتظهر
أسنانه بيضاء لامعة بابتسامة رضا. ومرة رأيت شابتين تهربان فزعًا عندما
هبَّ واقفًا بينما تقتربان منه؛ فهدأتهما حتى همتا بالتوجه له باعتذار
لكنه كان قد اختفى. متقشف ولديه كبرياءه الخاص. لم أره يومًا يمد يده
تسولاً؛ بل دائما يحنو على القطط والكلاب الضالة ويجود بما يتركه الناس
بجواره من طعام لهوام الأرض؛ حتى أنه أشاح بيده ليبعدني عن سرب نمل نثر
له حبات من السكر وفتات خبز وجلس يتأمل دأب النمل في نقلها إلى مخبأه.
أغلب الوقت أشعر أنه في عالم آخر لا يهتم بما تعطيه له.
أبي كان يدخل كثيرين من أمثاله إلى منزلنا. يقدم لهم الطعام. كنت أخاف
منهم وأنا طفلة وأهرب إلى حضن أمي التي دائمًا ما رددت: دول "أهل الله"
ناس مبروكة متخافيش منهم. دول ما يتخافش منهم أبدًا.
لدي اعتقاد أن له صلة غير مفهومة بالسماء. لن أنسى أبدًا تلك الورقة
التي ناولها لي بعد أن أعطيته – ذات مرة – جنيهات قليلة. فتحت الورقة
فإذا اسم ابنتي "ريم" مكتوب في بدايتها وبعد خمسة أسطر مكتوب اسم
"إبراهيم". كنت عائدة من عيادة الطبيب الذي أخبرني مجددًا أن التقارير
الطبية الأخيرة أكدت صعوبة حملي. سميت ابني الذي رزقت به بعد خمس سنوات
من ريم (وبعد 9 شهور من قراءتي لورقة المتشرد) بهذا الاسم.
اليوم جاء صوته من خلفي، كنت قد تجاوزت مكانه بخطوتين أو ثلاث. كان
مستيقظًا رغم الصباح الباكر، وأنا كنت متعجلة لألحق بالتوقيع في دفتر
الحضور بعملي. لم ألحظ أنه كان مرتبكًا، اعتدت عليه نائمًا في الصباح.
يتعتع في الكلام، فتأتيك كلماته متقطعة. لكن صوته محبب وكلماته سليمة
رغم تثاقل لسانه ينطقها كأنه طفل تعلمها من أمه منذ لحظات.
-
عـــــــــــــــ عــــــــــ عاووووز 200 ج ج جنيه.
ظننت شخصين يتحادثان خلفي؛ فلم ألتفت. كررها: عـــــ..عـــاوز 200 جنيه
ضررروررري. هـــ هــــ هاتي 200 جنيه. وبينما تخرج كلماته الأخيرة من
فمه كان قد قطع طريقي ووقف أمامي مباشرة؛ ولأنني كنت مسرعة كدت أن
أصطدم به لولا أنه تراجع خطوتين برشاقة عجيبة تتيح لي إمكانية تجاوزه
والاستمرار في عدوي للحاق بعملي. "200 جنيه إيه اللي هايعوزهم ده؟
وياخدهم مني أنا ليه؟ وضرورة إيه اللي بيتكلم عنها؟". لو كان رجلاً آخر
لقلت: أنه فقد عقله. ما الذي تغير؟ رجع له عقله فتحول إلى بلطجي يتجاسر
على توقيف سيدة في الطريق العام ليفرض عليها إتاوة أو يسلبها مالها؟!
أخذت خطوة إلى اليسار وحاولت تجاوزه بينما عيناي تنظران إلى الأرض؛
فاستوقفني مجددًا. وقف أمامي تمامًا مرة أخرى يطلب المائتي جنيه. كلما
اقترب مني توقعت أن تزكم أنفي رائحة منفرة؛ لكن هذا لا يحدث. بل يتسرب
إلى أنفي أريج الياسمين!!
-
ما حدش هايديني الـــ 200 جنيه غيرك. هاتي 200 جنيه بسرعة.
-
لو ما مشتش من قدامي هاصوت والم عليك الناس. كنت باعطف عليك لما كنت
محترم. إنما تطلع بتستهبل وتسوق العوج هابهدلك. من فضلك وسع عشان ألحق
شغلي.
-
وحياة ودلاك. إديني 200 جنيه بسرعة.
خرجت كلماته هذه المرة مخنوقة مع تقطعها. رفعت رأسي لأجد الدموع قد
صنعت خطين أبيضين كشفا عن لون وجه الذي اختفى خلف سنوات من غبار
الشارع؛ وبللت لحيته السوداء. عيناه فيهما بريق وبراءة طفل وملامحه
لشاب لم يصل إلى منتصف ثلاثينيات عمره. "يا عيني يا اخويا!! يا خسارة
شبابك. يا ترى إيه وصلك للحالة دي؟!!".
بلعت أسئلتي خوفًا من أن يكون "مكشوف عنه الحجاب" فيقرأ ما أفكر فيه.
مائتا جنيه!! مرة واحدة. ويبكي من أجل الحصول عليها؟ كيف ولماذا؟ أي
أمر هام يمكن أن يحتاج فيه مثله لهذا المبلغ؟ للحظات خطر لي أن أعطيه
خمسين جنيها من الـ 220 التي في كيس نقودي واحتج لزميلتي التي وعدتها
بسداد الـ 200 جنيها التي استدنتهم منها بأي حجة. سأعطيها 150 جنيها
وأبقي عشرين لمواصلاتي وأعطيه 50.
شيء ما جعلني أتراجع. "ما تبقيش عبيطة. 50 إيه اللي هايخدهم وعاوزهم في
إيه؟ ده عايش في البلالا ولا داري بأي حاجة. تلاقيه طلع في دماغه يطلب
منك أي طلب وخلاص. ولا تلاقيه عارف الفرق بين الجنيه والخمسة جنيه" قلت
لنفسي وحذرته مجددًا ليبتعد عن طريقي ففعل.
عطلتني بالأونطة منك لله؛ أه لو تعرف القرف الي مستنيني فوق في الشغل
دلوقتي. الحيوان اللي ماسك دفتر الحضور الانصراف لازم ياخد كل يوم رشوة
عشان ما يغلسش علي ويقفل الدفتر بدري. النهار ده مش هاكتفي بإني أبتسم
له وهو بيقول كلام تحرش واعمل هبله زي كل يوم. ابن الكلب ممكن يكرر
محاولة لمس إيدي وأبقى مضطرة أسكت. أو أزود حتى في الهزار معاه وأزغده
في كتفه وأقوله عيب وأنا باضحك. مضطرة إني استحمل المتخلف ده أبو عين
زايغة اللي مش بيصون نعمة ربنا. زوجته ست محترمة وآية في الجمال. وهو
مش سايب واحدة في المصلحة الا بيحاول يتحرش بها.
أقلب هذا الهم في رأسي ليفاجئني الرجل المتشرد مرة أخرى بينما تفصلني
عن مقر المصلحة خطوات. يقف أمامي...
-
هاتي 200 جنيه ضروري، أبوس راسك وإيديك ورجليكي كمان، أنت ها تنقذي
حياة بالفلوس دي.
زاد بكاؤه حتى وجدت يدي تمتد لتناوله الــــ 200. خطفها واختفى في لمح
البصر.
عندما صعدت إلى مكتبي لم أجد زميلتي التي لها 200 جنيها في ذمتي. ربما
جاءت متأخرة اليوم؛ لو جاءت ماذا يمكن أن اتحجج لها؟ الندم يشل تفكيري.
"هو أنت كنتي اتخبطي في نافوخك عشان تدي واحد مخبول زي ده 200 جنيه؟ ده
لو بيسحر ما كانش خدهم بالسهولة دي!! والله لو حكيت لزميلتي أو جوزي
اللي حصل ليودوني العباسية".
انشغلت في العمل وتناسيت ما حدث ولم انتبه حتى لغياب زميلتي إلا عند
الانصراف. حمدت الله أنها لم تأتي. غدًا أتدبر المبلغ وأدفعه لها وربنا
يعوضني عن الـــــ 200 جنيه اللي راحوا الصبح.
بعدما اطمأننت على وجود 200 جنيه أخرى يمكن تسديدها لزميلتي اتصلت
لأسال عن سبب غيابها. موبايلها مغلق. اتصلت على رقم بيتها الأراضي لا
أحد يرد. اتصلت على موبايل أمها؛ فردت زميلتي. جاء صوتها متهدجًا.
اعتذرتُ ظنًا أنني أيقظتها. أخبرتني أنها في المستشفى!!
مستشفى؟! ليه إيه اللي جرا؟! بعيد الشر عنك.
تعرضتْ لحادث سيارة بينما تعبر الشارع على بعد خطوات من المصلحة.
هرعت إلى المستشفى. ليست مجرد زميلة بل صديقة كريمة، قلبها طيب، وتسعى
في الخير، كم وقفت بجانبي في أزماتي. أقرب لي من أخت.
سيارة نقل مسرعة بها أشياء بارزة. اصطدمت بها بقوة فسقطت على الأرض.
جرحت في فروة رأسها من الخلف، بينما شبكت حقيبتها في البروزات وانطلقت
بها السيارة.
-
تعرفي مين اللي وقف يزعق في الشارع ويجري رايح جاي وأنا مرمية وسايحة
في دمي ومش قادرة اتحرك؟
-
مين؟!!
-
الراجل اللي بنعدي كل يوم نلاقيه نايم في الشارع. فضل يلطم ويزعق
غيتونا يا ناس. هاتموت مني!! ورمى نفسه قدام عربية ملاكي وأجبر الراجل
اللي فيها يجبني هنا. على ما وصلت كنت غايبة عن الوعي. وعندما أفقت
أخبرتني الممرضة أنه عرف أنني بحاجة إلى كيس دم فغاب وعاد بـ 200 جنيه
ثمن الدم!!
عندما انصرفت معها من العمل في أول يوم بعد تعافيها، اقتربت صديقتي من
المتشرد؛ الذي لم يكن منتبهًا. دست في يده مبلغًا اكتشفت أنه 400 جنيها
عندما فرد النقود ومد يده لي بـــ 200 جنيها وأعطاها الثانية قائلاً:
مـــ مـــوووش باعرف اشتري هدايا. كان سعيدًا عندما رآها كطفل عثر على
أمه بعد توهة... أخذ يرقص ويتشقلب في الهواء بخفة ملفتة.
نظرت إلى وجه صديقتي. وجنتاها محمرتان والسعادة مرتسمة على ملامحها كما
لم أرها سعيدة من قبل! حتى أنها أخذت تشاركه الرقص وأخرجت موبايلها
الجديد لتلتقط معه صورة سيلفي. نشرتها فورًا على حساباتها على الإنترنت
معلقة
my hero.
كلما التقطت صورة زادت سعادته واستمر في رقصه. كتبت تعليقًا على صورة
أخرى. جعلتني أرى ما تنشره...
-
مجنون ليلى إزاي.
-
ما انت شايفة بيعمل إيه وفرحان إزاي... أنا كمان فرحانة؛ في حد مجنون
بي.... ده مجنون ليلى. مجنوني أنا.
كانت فَرِحَةً كمن رُزِقَتْ بعريسها المنتظر أو وجدت حبيبها المجهول،
بينما أنا أقف عاجزة عن الفهم ورهبتي القديمة من هذا المتشرد كما هي أو
تزيد.
القاهرة في 28 نوفمبر 2017
*** *** ***