العزلة

 

السعيد عبدالغني

 

العزلة هي حمل الكلي الحالم إلى الداخل والابتعاد عن الهذر اليومي والعلائق الشخصية. في العزلة تكون العلاقة بين الذات والذات، بين الذات والكلية. العلاقات الشخصية لها مشاعرها الأساسية أما علاقات العزلة فلها مشاعر أخرى وأفكار أخرى، والعزلة ليست بالبعد المكاني بل بالبعد النفسي.

العزلة هي الحياة في الباطن وانتفاء اليومي، والعلاقات فيها مع المجردات، وتستجلب عددًا لانهائيًا من المدركات النفسية والتخييلية والتفصيلية والكيانية والوجودية بحيث لا يوجد برزخ بين المنعزل وبين ذاته الهلامية، ولا يوجد برزخ بينه وبين أي شيء.

الذات في العزلة لا تعترف بالزمن الآني لأنها تتخطاه، والمنعزل الشاعري هو ضد الزمن والمكان. والضدية هنا تعني التمرد بحيث أنه لا فكاك من الجبري البعدي والحدي الفيزيائي، هو يتنقل على صراطهم المعوج، أي الزمن والمكان، ويأخذ صورة من هنا وهناك، مدرك نفسي يعمُق ويتعشق به، الجميع على الصراط التكويني.

العزلة اجتناب الوثوق بالثبات بل بالحركة العبثية البعثية البحثية في الداخل وفي الخارج، وتعميق التفتيش عن اللامرئي، والتخبط في قيظ الحقائق وصناعة الأزل في لحظة التأمل الآنية وفي الرؤية الممتلئة، وفي التمرد على الصور الوراثية والتشكيلية، في محاولة لخلق كيان جديد بمفاهيم ومعاني جديدة أكثر عمقًا.

العزلة أن يكون مجهولك حاضر وحضورك وهم، لا يوجد تعاليم فيها ولا نهج، السير في شهوة السؤال وفي فيضه، ومحاولة ربط سرات المعاني العارية ببعضها البعض. كل كيان في العزلة عار. كل الأشكال عارية.

هي الجلوس لرتق ما أفسده البحث في اللغة، ولا حاجة للنفس المنعزلة إلى أية أداة تعبير لأن المشهديات فيها طاغية على الابتعاد عنها والتعبير عن ما يرى. لا يوجد فيها كسل و لا توقف عن رؤية كل شيء وكنهه. في العزلة أعرف نفسي وأعرف أنها مدهوشة من كم المجاهيل العابرة في وعيي، وأنه لا توجد حدود ولا تحديدات إلا بكونها أبعادًا لها.

المنعزل خمر العالم وصيدلية المفاهيم وجسر كل شيء غريب.

هو من يغزل خريطة مبادئه وشعوبه وموجوداته، هو الخالق الأول، المؤسس العضوي لذراته واللاعضوي لكلماته والفيزيائي لوجوده التخيلي والمجرد. إحاطي شبه تلامسي لكل شيء، والمجاز بالنسبة له فائق التصديق، لا يمكن أن يسير في المعنى إلا ويعدمه، والشهوة الانكارية لديه أعلى من الشهوة الاثباتية، لا يُسمي الأشياء ولا يعترف بالمسميات كحقائق. خالد في الضوء الجاري على العلية والتجريد. هو مطلق ذاته ومحقق لامعقوله الأول. كاملٌ وفى كماله استثارة للحاجة والإرادة. فعَّالٌ في لاوعيه ووعيه. لا توجد لديه مخاوف من أي شيء، ويستوى عنده الوجود والعدم. لا يقوم وجوده على إرادته ولا على معناه، بل على التلاشي والاحتمال. منفيٌّ في المنطق والعلمَّنة، ومتحقق في الافتراض والتصور. لا يرى الشيء رؤية واحدة وله حالات باطنية وكل حالة لها تأويل جديد لكل شيء. لديه قابلية إدراك نفسه كليًا في لحظة متمردة على الزمن.

هو نموذج الشهود النتائجي لتأمل العلم بالنفس. اختباريٌّ هو لكل شيء للوصول إلى مجرده ومجرد ذاته. له طاقة عظيمة تجذيرية وتكسيرية للبدايات والنهايات. يترك كل الشيء للانهائية. لا يشده أيُّ شيء لكي يكون شيئًا، حتى لو كان ذلك سيدمر بقاءه. مُدمِّر ومدمَّر، لأن في التدمير معرفة الذرات التي تكونه.

يصدق أنه يستطيع أن يكون كل شيء، وأنه يستطيع خلق كل شيء، ويصدق أنه العدم والوجود لأنه الاحتمال، ولكنه لا يصدق العلمنة فما هو متحقق شعريًّا متحقق وجوديًا.

الدرب إليكِ ينبح في المكان
ليبحث عن أقدامكِ التي تمشى إليَّ،
هات ارادتك وتعال
لنناقش ما أنت صدىً له أيها الضباب الكسير،
عزلاتي المزاجية تستحم في البحر
والشاطئ مليء بالشخوص الأجنبية،
أنا مرهف حقًا أيتها الربات
و
عزلاتي هي كواكبي التي تخدم وجودي
وشخوصي داخلي هم ما كنتهم في كل لحظة سابقة
وخارجي هم من خلقتهم من شروق الحاجة إلى مجدٍ.
كل شخص لي يعود إلى عزلته
ويبدأ في العمل الخيالي المكلف به
أحدهم عمله هو الوشاية على هياكل عزلاتي الأخرى
والآخر ينتزع أفكارًا تسري في فراش العقل
والآخر يصوغ العناصر الكلية للقصيدة القادمة.
ولكن دائمًا تحدث الكوارث
لأن العزلات تموت إن تحدثت
إن عانقت أية أداة تعبير
هن زنازين مشرقة بالنجوى
بسقوف هي طبل العذاب
وجدران هي أجساد دموعي
هل أستطيع أن أكرههن
وهن لعنتي وحشرجات الضحك على هزائمي؟
هل اسمعهم الصراعات التي تتعثر في لاوعيي
عن الاستسلام للجنون المنهك الذى يزود عن وجودي.
أحيانًا أجمعهن أمامي
وأجلس أعد في كل عزلة فيهن كم شخصًا أنا.
أيتها العزلات

أيتها الانجرافات في الانهيارات الداخلية الكبرى
كل شخص لي هو عزلة منفردة
تابوت قدر وتابوت صدفة
سماء غامضة وأرض مارقة
أتأمل جرح وجودهم بي
وهذا الدم الشرس الذى ينفذ من قناديل وعيهم
عيونهم درر خطرة على العالم
لأنها داخلهم
ليسوا داخلي فقط
بل داخل كل الناس والأشياء والآلهة.
هناك عزلة واحدة
مخصصة لحقيقة الوجود
إنه فؤاد قاس يتكاثر بالألم
وعزلة فيها ودائع الشؤم
الذى لا يتوهم شيئًا
بل يراهن على بصيرته والقوانين،
الآن في هذا الزمن
لا يوجد فضيلة واحدة تجعلني أخصص عزلة منهن
ل
صدفة اللقاء مع حلم تخلقه الموسيقى.

أنا عزلاتي وشخوصي
أنا ثقوب هذا الخوف من العالم
أنا الثاقب لما يجرجر الهشيم في هذا الجسد
جسد التعاسة البراق
إن انتحرت سيفنى كل ذلك
وإن أعطيت موطني هذا للخلاص
سيخرج عسل الحطام
من فضائل الخطوات إليَّ.
لن أخلق عزلات جديدة
حتى لا أجن
ولكن سأوسع العزلات الموجودة
وازينها بطيات دكنة الجهامة والضجر.

كم أنا وحيد
حيث لا يوجد في صمتي كلمة واحدة
ولا يوجد في ضجري إله واحد
لا يوجد في جنازتي وردةٌ تمجد هذا الهزل
من يريد أن يعرفني فليجن
ويشرد في السخرية التي هي جثتي المفقودة
هذا الحلم خاوٍ
وهذا الخيال بلا متن
وهذا الواقع حماقة التفاعلات.

أريد أن أنهي حياتي بطريقة جديدة
تحيط بكل الأمسيات التي لا يوجد فيها لوحات تساقط الأصداء
العزلات جرار مجهولة الباطن
وعيون مهمومة في لهيبي.

أخرج إلى جسدي الهزيل
ويخرج من المشبوب فيَّ ثمالة التمزيق
أ
وطان مفلسة من فراديس تحرق الألم
تزدحم شفاهي في هجر الغسق لجماليات الوجدان
الذى لا يوصف سوى بأنه عين الشعر.

العزلة لقيطة لا أب لها ولا أم
لكن لديها أشقاء كثر
كالبحر والشساعة والملح والسكر.

أيتها العزلة، ارقدي في سلام
في كهف الكتابة
ا
لمتوج بعباد الشمس والشكِّ.
أيتها العزلة، أنتِ بيتي الوحيد
الذى يغدو عامرًا بغضبي
ع
ندما أطرِّزك بالكولونيا وأطرز أرداف الكلمات
لكى أصنع منها زهورًا صناعية
أضعها في كواكبي السرية،
أريد أن أتلو صلاة العزلة
كى يسمع الكيان زمجرة الغيوم بها وحشرجة الله.

للعزلة وجه خال من التعبير
يرتجف كلما دخلها أحد غريب
ضل الطريق.

أيتها العزلة التي تستقرئ ثيران الظلمة
وتهرع إلى النفس كما يهرع الحبر إلى الورقة،
أيتها العزلة السوداء التي أرى الجروح في ربوعك
أيتها العزلة القديسة العاهرة
سأحرك قنينة نفسي الآن
فاقطعي حرس التأمل
وتعالى إلي بقشعريرة النار.

أيتها العزلة، ها أنا أحرك يدي على شعركِ وخصركِ
فاغتصبي صرختي ولا تُسمعيها لأحد.

أيتها العزلة، ألعن العصفور المبتورة أجنحته
لأنه لا يصلى للحرية كل يوم.
أيتها العزلة ، أنت مضطربة من المسوخ
الذين يقتلون السماء في أحاديثهم
ويحيون التماثيل المكسورة.
أيتها العزلة، قد احترقتِ
وأنا آسف لذلك
عندما فتحت أبوابك للسكارى
وكنت أقول عزلتي بلا نوافذ ولا أبواب
ولا حرس.
أيتها العزلة، أنا أبكي الآن
لأن بيضة القمر التي لقحتها آهاتك بي
قد كسرتها وأنا سكرانٌ أمس.

أيتها العزلة، يا لجمالكِ ولوقاحتكِ
عندما أدخل أحدًا إلى موتك الواسع
سأحيا بكِ وأموت بكِ
ولكن أرجوكِ ادفنيني في الحب
أيتها العزلة، لا تبكي
سأقرضك لشاعر آخر قبل أن أموت
ولكن لا تنسني في معجم مكانكِ.

أيتها العزلة، قد شعرت بكل المشاعر الممكنة والغريبة داخلكِ
وتعذيبك لي على غير قدر استطاعتي
ولكني أحمد لك أنك قبلتني بعد أن خرجت منكِ للكون
أحبك أكثر مما أحب الكون
وايسوعاه، أيتها العزلة
تزدرى جميع الفصول
لأنك باردة دائمًا كالشتاء
هذا فصلك المفضل مثلي.
أيتها العزلة حبذا لو تنثري حنانك الطاغي
على جميع من في الأرض.
ليس لديكِ أرض محددة

وأنت غير موجودة بتاتًا
احتفظي بالجمال الحبيس في نفسك إذًا
كي تصطحبينني إليه
عندما ألد الموسيقى الكونية
التي تكدر صفو التناغم الواهم القبيح للذهن.

أنتِ شرودي في اغتيال الأفكار المتآمرة عليكِ
والحماقة التي ازرعها في كل شيء دونكِ
أعرف أنكِ أقسى من أبي
الذى أغدق الكراهية في روحي
ولكنكِ من سلالة الجراح
التي تستهتر بالعالم
الخطايا الشنيعة التي ارتكبتها
ارتكبتها عندما خرجت منكِ
وعندما كرهت مثوى التراب.

*** *** ***

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني