فرويد في الموقف الديالكتيكي
إميل جعبري
الديالكتيك، كما أنجز فريدريك انجلز أول تعريف كلاسيكي له في كتابه
الشهير ضد دوهرينغ، هو: "علم القوانين العامة لحركة وتطور
الطبيعة والمجتمع الإنساني والفكر". وهو فوق ذلك "علم الترابط الشامل"،
مثلما عرَّفه في مؤلفه ديالكتيك الطبيعة.
اعتبر إنجلز أن قوانين الديالكتيك الأساسية الثلاثة قد استخلصت من
تاريخ الطبيعة والمجتمع البشري، وأشار إلى أنها قوانين واقعية تفعل في
الطبيعة وتسري على العلوم الطبيعية النظرية[1].
وهذه القوانين هي:
أولاً- قانون تحول الكم إلى كيف.
ثانيًا- قانون تداخل الأضداد (ويعبر عنه بقانون وحدة وصراع الأضداد).
ثالثًا- قانون نفي النفي.
يشكل مفهوم الديالكتيك وقوانينه عماد نظرية المعرفة المادية والمذهب
المادي الجدلي. وستكتفي هذه المقالة بتتبع علاقة هذه القوانين بصياغة
واستنتاج آراء ونظريات فرويد في التحليل النفسي. أما علاقة آراء فرويد
ونظرياته بالمذهب الجدلي ونظرية المعرفة الماديين فلهما مقام آخر.
اعتمد فرويد على عدد كبير من الدراسات والمشاهدات والتجارب ليصوغ منها
استنتاجاته وتعاليمه. وافترض أن الحياة النفسية للإنسان هي وظيفة لجهاز
نفسي له امتداد مكاني ويتألف من عدة أقسام. واعتبر أن ما حصَّله من
معرفة لهذا الجهاز آتية من دراسة التطور الفردي للوجود الإنساني[2].
وههنا نجد فاتحة العلاقة بين التحليل النفسي وبين الديالكتيك بصفته علم
قوانين التطور.
يقسم فرويد الجهاز النفسي للإنسان إلى ثلاث مناطق أو منظمات: منطقة
"الهو" ومنطقة "الأنا" ثم منطقة " الأنا الأعلى". وكلٌّ من هذه الأجهزة
هو ناتجٌ تطوريٌّ ديالكتيكيٌّ لمكوناته. إذ "الهو" منطقة الميول
الغريزية الأساسية، مضمونه كل ما هو موروث، وكل ما يظهر عند الميلاد،
وكل ما هو مثبت في الجبلَّة[3].
أدت العلاقات فيما بين هذه المكونات، التي يعتبر كلٌّ منها بحد ذاته
نتاج تاريخ عميق الغور من تطور النوع الإنساني، إلى تشكل منظومة "الهو"
التي تصدر عنها إحدى أعقد الكيفيات النفسية، تلك التي يسميها فرويد:
كيفية اللاشعور.
كذلك يرى فرويد أن منطقة "الأنا" تنشأ عما يسميها الطبقة اللحائية من
"الهو" تحت تأثير العالم الخارجي الواقعي مشكلة منظومة نفسية تتوسط بين
الهو وبين العالم الخارجي. إذًا هو مرة أخرى تحول ديالكتيكي حسب قانون
الكم والكيف، تؤدي فيه عمليات يتجادل عبرها الواقع من خلال مؤثراته مع
البنية الجسدية وجهازها الإدراكي، ومع منظومة "الهو" إلى نشوء "الأنا"
الذي "يشرف على الحركة الإرادية ويقوم بمهمة حفظ الذات ويقبض على زمام
الرغبات الغريزية التي تنبعث عن "الهو".. إلخ. تقع العمليات النفسية
الشعورية على سطح الأنا، أما كل شيء آخر في "الأنا" فهو لاشعوري[4].
وبذلك تتشكل طبيعة الأنا من هذه العلاقة الديالكتيكية بين النقيضين
المتحولين، الشعور واللاشعور.
وعبر القوانين ذاتها تتشكل المنظومة النفسية الثالثة "الأنا الأعلى"،
منفصلة عن الأنا تحت تأثير فترة الطفولة الطويلة وعلاقة الطفل بوالديه
أولاً، ومن في حكمهم تاليًا (المربون والمعلمون والمجتمع.. إلخ). هكذا
يمثل "الأنا الأعلى " في جوهره ما أُخِذ عن الآخرين أي الماضي. تقوم
بين هاتين المنظومتين /الماضويتين/ (الأنا الأعلى والهو)، و بين الأنا
/الحاضر/ علاقة صراع معقدة من المراقبة والتهديد، والثواب والعقاب،
والهدنة والحرب، والثورة والاستسلام، والتمرد والخضوع... تنتج عنها
كيفيات نفسية شديدة التنوع من حالات السواء النفسي ومجاوراته المتداخلة
القريبة والبعيدة.
وعلى المنوال ذاته ينطلق فرويد لطرح نظريته في الغرائز، التي يشكل
قانون تداخل الأضداد عمادها الأساسي إلى جانب قانوني الديالكتيك
الآخرين. فقد استقر رأي فرويد، بعد تعديلات عديدة، على افتراض وجود
غريزتين أساسيتين متجاورتين متداخلتين متصارعتين متضادتين: الأولى
غريزة الإيروس أو الحياة، والثانية غريزة الموت أو التدمير. والغريزة
حسب فرويد هي ذلك الضرب من الطاقة التي تصدر عن التكوين الأساسي
للإنسان والتي تنبع أصلاً من مقوماته البيولوجية[5].
ومن المعروف أن دراسة قوانين تحولات الطاقة أساسية في علاقتها بقوانين
الديالكتيك. الأمر الذي يسري بدوره على دراسة تحولات الطاقة الغريزية،
التي يؤدي التراكم التكراري لتنبيهاتها إلى إحداث حالات نفسية متمايزة.
يقول فرويد "إن الظواهر السوية والشاذة التي نلاحظها تستلزم أن نصفها
من زاوية الديناميات والكم، وفي حالة الوظائف الجنسية من زاوية التوزيع
الكمي للطاقة الليبيدية"[6].
حتى أنه يرى أن من الحقائق التي لا يمكن إنكارها أن القلق ينشأ مباشرة
عن الليبيدو[7].
في حالات الامتناع الجنسي أو في حالات الاصطدام غير المناسب بعمليات
التهيج الجنسي، أو في حالات انحراف عمليات التهيج الجنسي عن مظاهرها
السيكولوجية[8].
من أهم التطبيقات العملية التي تناولها التحليل النفسي الحالات
(الأمراض) العصابية. يرى فرويد أن من الطبيعي أن يكون المصير النهائي
للنضال الذي يخوضه المحلل النفسي من أجل مدِّ يد العون للأنا العصابي
المريض وإعادة النظام إليه يتوقف على علاقات كمية، أي على النسبة بين
كمية الطاقة التي يستطيع المحلل أن يعبئها في المريض لصالحه، وكمية
الطاقة التي تعمل ضد المحلل (وبالتالي المريض)[9].
هذه العلاقة الكمية ينتج عنها ديالكتيكيًا إما حالة الشفاء/السواء، أو
حالة الفشل/العجز. ويعبر فرويد عن ذلك بشكل أدق في التحديد التالي:
"يمكن أن نقول إن أعراض الأمراض العصابية لا تعدو أن تكون إشباعًا
إبداليًا لحافز جنسيٍّ ما، أو إجراءاتٍ للحيلولة دونه. وهي في الأغلب
الأعم توفيق بين الاثنين من ذلك النمط الذي ينشأ طبقًا للقوانين التي
تجمع بين الأضداد في اللاشعور"[10].
من المعروف أن أكثر الانتقادات حدَّةً التي وجهت لفرويد تدور حول
نظريته الجنسية، وحول عقدة أوديب والتهديد بالخصاء الذي يتعرض له الطفل
في المرحلة القضيبية من نموه. ومحور تلك الانتقادات يقوم على أن علاقة
الأبوين بطفلهما ليست واحدة لدى كل الشعوب سواء البدائية أو ما تلاها.
والرد الفرويدي على هذه الانتقادات متضمن في التعبير التالي: "لا شك أن
التهديد بالخصاء لا يفضي دائمًا إلى هذه النتائج الرهيبة في الحياة
الجنسية المتفتحة لدى الصبي. وهنا أيضًا يتوقف مبلغ الضرر الحادث
والضرر الذي يمكن تفاديه على علاقات كمية"[11].
واللافت للانتباه هنا أن رأي فرويد ورأي منتقديه كليهما يقعان في
الموقف الدياليكتيكي بل يتكئان عليه، لأنهما يرجعان حصول الكيفية
النفسية أو عدم حصولها إلى علاقات كمية.
كذلك اقتبس فرويد مفهوم "الميل المزدوج" الذي يشكل إحدى السمات
المميِّزة لمرض الفصام، حيث يتخذ المريض من الموضوعات والأشخاص مواقف
موجبة وسالبة (كالحب والكراهية، أو الرغبة ونقيضها) في الآن عينه، وعمل
وأسبغ على هذا المفهوم معنىً ديناميًا جديدًا، بدراسته للدوافع
الغريزية في نشأتها وتطورها، مبينًا كيف تتميز الدوافع الأولى بشدَّةِ
الثنائيَّةِ، وكيف تبقى الدوافع المميِّزة لمرحلة من مراحل تطور
الليبيدو بجانب الدوافع الجديدة، وكيف تتحول الدوافع إلى نقيضها[12].
ومن الواضح أن هذا العمل يستند إلى اثنين من قوانين الديالكتيك: تداخل
الأضداد، ونفي النفي الذي تبقى بموجبه آثار القديم في الجديد.
لا شك أن جميع القضايا التي تناولها فرويد صعبة شائكة وإشكالية، لكن
ربما يكون من أعقدها والذي يشكل في ذات الوقت من أعقد ما يخص الإنسان،
مسألة الفكر. يتساءل فرويد: "... ولكن ما هو شأن تلك العمليات الداخلية
التي قد نطلق عليها جميعًا في شيء من الغموض وعدم الدقة اسم العمليات
الفكرية؟ إنها عبارة عن عمليات بديلة للطاقة العقلية، تمت في مكان ما
في داخل الجهاز أثناء اتجاه هذه الطاقة نحو الحركة"[13].
إن هذا التفسير الديالكتيكي لعملية الفكر بذاتها التي يسميها إنجلز
الديالكتيك الذاتي، نجدها كذلك عند دراسة فرويد للعمليات الشعورية
والقبلشعورية واللاشعورية، إذ يؤكد أن الفرق الحقيقي بين المعنى (أو
الفكرة) اللاشعوري والمعنى القبلشعوري يتلخص في أن الأول ينشأ عن مادة
تظل غير معروفة، بينما يكون الثاني بالإضافة إلى ذلك مرتبطًا ببعض
الصور اللفظية.
في هذا المجال تعتبر نظرية فرويد في الأحلام إحدى أهم أسس الظواهر
النفسية التي تفعل قوانين الديالكتيك فعلها فيها. إذ رأى أن عملية
تَشَكُّل الحلم، وإخراجه وصياغته وروايته، تقوم على تحولات في الطاقة
الغريزية اللاشعورية والقبلشعورية. وعلى تضافر نقائض وانتقالات عديدة،
أبرزها على الإطلاق وأشدها أهمية تلك التحولات المعقدة بين المكونات
اللغوية والبصرية وإليها، انطلاقًا من الطاقات الغريزية... ويرى في
النهاية أن نتيجة صياغة الحلم هي التوفيق بين الأضداد[14].
في السياق الفكري ذاته اعتمد فرويد التفسيرات الديالكتيكية في رؤيته
للحالات التي تؤدي إلى ظهور الأعمال الفكرية والفنية والإبداعية،
بصفتها كيفيات لتحولات الليبيدو مستمدة طاقتها من مصادر جنسية متسامية[15].
كذلك في رؤيته للواقعة المعاكسة للتسامي الإبداعي، ألا وهي عملية
الكفِّ أو التعطيل، حيث تنتج حالة العجز الوظيفي بسبب الاشباع الزائد
لأحد أعضاء الجسم بالطاقة الجنسية. الأمر الذي ينطبق على ما يسميه
فرويد "العَرَض" وهو علامة أو حالة من حالات أحد أعضاء أو أجهزة الجسم
تدل على وجود رغبة غريزية حرمت من الإشباع بسبب حالة شديدة من الكبت[16].
جميع هذه الحالات إذًا (الإبداع والتعطيل والأعراض) هي كيفيات محددة
لتحولات ديالكتيكية للطاقات الغريزية.
إلى جانب ذلك تعتمد الآليات الأساسية، التي يرى فرويد أن الغرائز تعمل
بموجبها، مبدأين رئيسيين: مبدأ إجبار التكرار، الذي يسبق تطوريًا
المبدأ الثاني، مبدأ اللذة والألم. وكلاهما يعملان وفق آلية اقتصادية
تراكمية، ينجم عنها في النهاية كيفيات نفسية مختلفة، حسب المسارات
والعوائق والمقاومات التي تتعرض لها. وهذه العملية كلها تحصل تبعًا
لقوانين الديالكتيك الثلاثة.
يمكن تلمس الطرح النظري لرؤية فرويد في الميتاسيكولوجي أي ما بعد علم
النفس بما هو دراسة الظواهر النفسية دراسة فلسفية نظرية، وكان فرويد قد
أطلق هذا التعبير على دراسته للظواهر النفسية من نواح ثلاث، أولاً:
الناحية الدينامية وهي دراسة الدوافع الغريزية والقوى الدافعة للظواهر
النفسية؛ وثانيًا: الناحية الطوبوغرافية أو المكانية أي تحديد مراكز
الظواهر النفسية في الجهاز النفسي؛ ثالثًا: الناحية الاقتصادية أو
الكمية وتعنى بدراسة القوانين أو الشروط التي تحدد نشوء الطاقة النفسية
وتوزيعها واستهلاكها[17].
وراء هذا الخصوص النظري يغوص فرويد في كتابه ما فوق مبدأ اللذة
إلى أعماق النشوء الحيوي، محاولاً التقاط أصول الغرائز ومبادئها،
والنفاذ إلى أعماق النفس الإنسانية. ويعبِّر الدكتور اسحق رمزي مترجم
الكتاب عن نتائج سعي فرويد قائلاً إنه: اهتدى إلى وجود الصراع في صميم
التكوين العقلي للإنسان، وقرر أن أهم خصائص العقل هي الصراع الدائم
الذي ينطوي عليه، خاصة في طبقاته العميقة التي أطلق عليها اسم
اللاشعور، وارتأى أن الحياة ليست صراعًا بين الأفراد والأمم فحسب، بل
بين بعض الإنسان وبعضه الآخر، بين جانب من نفسه والجانب الآخر. ويمكن
أن يعتبر حديثه عن طبيعة هذا النزاع كأنه البحث الذي قامت على أساسه
نظريته في التحليل النفسي. ذلك أنه رغم التغيرات والتطورات التي أجراها
على آرائه فقد بقيت نظريته من مطالعها حتى نهايتها رأيًا إثنينيًا
يسلِّم بوجود طرفين أو جانبين يتنازعان نفس الإنسان[18].
ويمكننا الإضافة إلى هذا الاستنتاج الصائب وإكماله بالقول: إن ما يعرفه
المهتمون والباحثون في الفكر الفلسفي والعلمي أن قوانين الميتاسيكولوجي
وقوانين الصراع الاثنيني سالفة الذكر، ما هي إلا قوانين ديالكتيكية،
كما حاولت هذه المقالة أن توضح، حول مجمل الأفكار الرئيسية لنظرية
فرويد في التحليل النفسي، وعلم نفس الأعماق.
ختامًا نقول: يمكن لبحث شامل في أعمال فرويد العديدة أن يقدم إحاطة
أكبر لموقع فرويد في الموقف الديالكتيكي لكن ذلك يحتاج مقامًا أوسع من
هذا بكثير. ويلح في هذا المجال سؤال مهم وملغز: هل اعتبر فرويد في
مطرحٍ ما أن القوانين التي انتظمت نظريته هي قوانين الديالكتيك، وإن لم
يفعل فلماذا؟
*** *** ***