"بواب مكسيم" لخاييم سوتين: فن يزكم الأنوف برائحته!
ابراهيم العريس
حتى
ولئن كانت لوحاته المعروفة التي صوَّر في غالبيتها جثث حيوانات مذبوحة،
هي ما يقفز إلى الذهن ما أن يُذكر اسم الرسام خاييم سوتين، فإنه عُرف
كذلك في مراحل مختلفة من حياته ومساره الفني بسلاسل أخرى من لوحات تركز
في كل حين على موضوع معيَّن. وإذا كانت الموضوعات تبدو، بين سلسلة
وأخرى، مبتعدة - وأحيانًا بصورة كلية - عن بعضها بعضًا، لا شك في أن
تمعُّنًا في كل لوحة من اللوحات سيكشف لمن قد يهتم بمثل هذه الأمور
التحليلية، عن وحدة فنية من شأنها أن تصهر كل أعمال هذا الرسام في ما
يشبه البوتقة الواحدة. وحسبنا هنا على سبيل المثال أن نتأمل في لوحة
«حارس مطعم مكسيم» التي رسمها الفنان في العام 1925، كجزء من سلسلة من
لوحات اهتم فيها برسم صبيان الفنادق وخدم المقاهي وبوابي المطاعم وما
إلى ذلك من شبان ينظر المجتمع إليهم على أنهم حثالة عالم اقتصاد
الخدمات ممن يعيشون على هامش مجتمع الكبار ولا يُرى منهم سوى زيهم
الموحَّد، لكي ندرك هذا الأمر.
والحقيقة أن ما جذب سوتين إلى أولئك الصغار في المجتمع لم يكن تحديدًا
سوى ذلك الزي الموحد نفسه الذي يرتدونه. ذلك الزي الذي ينتزع منهم كل
فردانية تميِّز واحدهم عن الآخر، جاعلاً منهم مجرد تشابهات من دون
شخصية. ولنتأمل هذه اللوحة على أي حال، قبل أن نتجاوز المعاني
المضمَّرة في هذا الكلام الإجمالي. فهنا لدينا وقفة مواجهة لفتى يبدو
مستسلمًا داخل زيه لتصنيفه الاجتماعي الذي لا يمكنه منه فكاكًا. فلون
الزي الأحمر يبدو على الأرجح هنا وكأنه جلد آخر له يتطابق مع أحمر أسفل
الخلفية، ومن ثم يتكامل مع أزرق/أخضر القسم الأعلى من تلك الخلفية
نفسها - والذي يمثل باب المطعم المخملي على الأرجح -. ولكن إذا كانت
اللوحة في عناصرها تمثل استسلام الفتى لمصيره المهني و«جلده» هذا
المرتبط به، ها هو في المقابل يرسم على وجهه المتحرر نظرة ساخرة لا
تخلو من شيء من التحدي. وهو على أي حال تحدٍّ يتكامل مع حركة اليدين
المنطويتين على الخاصرتين في نوع من تأهُّب يخرج الفتى ولو نظريًا، من
«مصيره» ليعطيه بعدًا إنسانيًا معينًا. ومن الواضح هنا، أن هذا ما كان
يطلبه سوتين من هذه اللوحة من تناقض عرف كيف يصوِّره بين «الشرط
الإنساني» لذلك الصغير في عالم الكبار، وبين إدراك ذلك الصغير لوضعيته
محاولاً أن يبدي من آيات المقاومة ما لا يمكن أن يدركه سوى رسام شديد
الحساسية من طينة سوتين الذي كان قد بلغ، يوم تحقيق هذه اللوحة
(الموجودة اليوم في مجموعة أميركية خاصة ولا يزيد ارتفاعها عن 82 سم
مقابل عرض لا يزيد عن75 سم وتعتبر عادة من بين أشهر لوحات هذا الرسام
بعد سلسلة لوحاته التي صوَّر فيها تلك اللحوم الحيوانية المعلقة والتي
لا يندر أن يُصوَّر متفرج عليها واقفًا وهو يضع أصابعه على أنفه اتقاء
لرائحتها!)، ذروة مجده الفني.
والحال أننا نعرف أن خاييم سوتين هو، من ناحية مبدئية، رسام فرنسي
يعتبر في مقدَّم الذين أوصلوا إلى ميدان الرسم في فرنسا، ذلك التيار
الذي نشأ أول ما نشأ في ألمانيا وعرف فيها ازدهارًا كبيرًا خلال الربع
الأول من القرن العشرين: التيار التعبيري. ومع هذا فإن ثمة بلدين
آخرين، غير فرنسا، على الأقل يتنازعانه: روسيا ما قبل الثورة،
وليتوانيا. فالروس
يقولون إنه روسي أصلاً وفعلاً ولد في سميلوفيتشي القريبة من مدينة
منسك، بينما يقول الليتوانيون إنه ولد في ليتوانيا وإليها ينتمي، وفيها
تكون وعيه الفني.
وفي أزماننا هذه قد لا يكون لسوتين من الشهرة والحضور في الساحة الفنية
العالمية لزملاء له مثل شاغال، بل إن في إمكاننا القول إن اسمه إذا كان
قد ورد كثيرًا نسبيًا خلال النصف الثاني من القرن العشرين، فإنما كان
ذلك، والى حد ما، بفضل الحديث على زميله الإنكليزي الرسام فرنسيس
بيكون، الذي يرى نقاد الفن ومؤرخوه أنه يدين بالكثير، في مجال تفكيك
الأشكال بحثًا عن معناها الداخلي، لبعض أجمل أعمال سوتين.
ومع هذا لا تكمن أهمية سوتين، بالطبع، في كونه الركيزة التي يمتد عمل
بيكون انطلاقًا منها. فهو، في كل الحسابات، كان واحدًا من أبرز الفناين
الذين ساد عملهم خلال النصف الأول من القرن العشرين، ويكاد ينفرد بكونه
المعبر الأساسي عن الفن التعبيري في فرنسا، يوازيه جيمس إنسور في
بلجيكا...
ويعتبر الإثنان معًا أكثر الفنانين الفرانكوفونيين
جرمانية.
ولد خاييم سوتين العام 1894، وكان في التاسعة عشرة من عمره العام 1913
حين توجه ليعيش في فرنسا، بعد أن كان يقيم بين روسيا وليتوانيا حيث عرف
الاضطهاد ضمن موجة عداء للسامية، سادت روسيا القيصرية وملحقاتها في ذلك
الحين، غير أن ذلك الاضطهاد لم يمنعه من ارتياد مدرسة الفنون الجميلة
في فيلنو، ومن العمل كصبي لدى مصور فوتوغرافي. ولسوف ينمو وعيه الجمالي
كثيرًا بفضل ذلك العمل الذي أتاح له أن يراقب الكيفية التي يتكون بها
سالب ثم موجب الصورة الشمسية، ما أعطاه تلك القدرة التفكيكية
والتركيبية التي ستسيطر على لوحاته لاحقًا.
حين وصل سوتين إلى باريس، كان وعيه الفني قد تكوَّن إلى حد كبير، ومع
هذا آلى على نفسه أن يواصل تعلُّم الرسم فالتحق بمدرسة الفنون الجميلة،
ثم بدأ يخوض الحياة الفنية الفرنسية عبر استئجاره غرفة في مجمع «لاروش»
الذي كان أشبه بمحترف فني جماعي، وهناك كانت لقاءاته الكبيرة والأساسية
في حياته اللاحقة، مع فنانين مثل مارك شاغال وفرنان ليجيه وهنري
لورانس، كما مع العديد من الكتَّاب. بيد أن هذا كله لم يثمر لديه
كثيرًا أول الأمر، حيث أن التناقض الكبير بين مستوى طموحاته، وبين
فقره، قاده إلى حافة اليأس القاتل، بخاصة أن اللوحات الأولى التي رسمها
عجزت عن أن تجعله شديد الثقة بنفسه، وبات مترددًا أمام نصائح أصدقائه
له بأن يعرض تاركًا الجمهور نفسه يحكم عليه. ولقد تفاقمت حالته إلى
درجة أنه حاول الانتحار شنقًا لكنه أنقذ في النهاية. في ذلك الحين كان
سوتين، في حياته، كما في فنه، بدأ يشبه فان غوغ، غير أنه هو نفسه كان
يرفض ذلك التشبيه معلنًا أنه يفضل أن يشبه كبار معلمي الماضي الذين كان
يتأمل لوحاتهم في متحف اللوفر ساعات وساعات يوميًا.
لسنوات بعد ذلك ظل سوتين على تلك الحالة حتى 1919 حين تعرف على تاجر
لوحات شهير في ذلك الحين يدعى زبوروفسكي اشترى بعض لوحاته ثم نصحه
بالسفر إلى منطقة سيريت، حيث راح سوتين يرسم لوحات رائعة لمناظر طبيعية
وجد في تضاريسها ما يعبر عن حالاته الداخلية. وهو عاد من تلك المنطقة
يحمل مئتي لوحة حققها هناك. وحال عودته تعرف إلى جامع اللوحات الأميركي
الثري دكتور بارنس، الذي كان في سبيله لاستكمال إنشاء متحفه الخاص به.
ولقد اشترى بارنس عددًا كبيرًا من لوحات سوتين. فكان ذلك فاتحة عهد
جديد للرسام الذي رأى نفسه فجأة يملك مبلغًا لا بأس به من المال وتعرض
لوحاته لدى أشهر جامع للوحات في العالم. وهكذا ابتعد
عنه شبح الفقر بشكل نهائي، وصار في إمكانه أن يطور فنه، وأن يجعل
للوحاته بالفعل صلة بأعمال كبار مبدعي الماضي، ولا سيما بأعمال
رمبراندت، حيث نلاحظ قرابة ما بين العديد من اللوحات التي صور فيها
سوتين حيوانات مختلفة، وبين لوحات للمعلم الهولندي الكبير تتناول نفس
الموضوعات ذاتها. ولعل أشهر لوحات سوتين حتى اليوم هي تلك التي صور
فيها قطع اللحم وحيوانات مذبوحة. وهو لكي يحقق تلك اللوحات، التي ستهم
فرانسيس بيكون كثيرًا لاحقًا، كان يمضي وقته في المسالخ، بل كان يحدث
له أن يأتي بحيوانات مذبوحة إلى محترفه ليرسمها، وكان الجيران دائمي
الشكوى من رائحة اللحم العفن تلوح من بيته!
في ذلك الحين كانت أعمال سوتين قد هدأت ومع ذلك ظل يلوح فيها وعبرها
قلق لم يبرحه طوال السنوات التالية، وحتى رحيله عن عالمنا في صيف العام
1943، وهو القلق الذي يضفي على لوحاته سحرها على أي حال.
*** *** ***
الحياة،
15
سبتمبر 2018