في مقولات الحرية والثورة

 

إميل جعبري

 

يفتح السؤال عن ماهية الحرية بوابة واسعة تفضي إلى حقول عديدة من المفاهيم المتشاكلة، المرتبطة بمفهوم الحرية وما يتعلق به مما يخص علاقة الفرد بذاته والمجتمع والكون.

لا يشكل تعريف الحرية وعلاقتها بنقائضها كالعبودية والاسترقاق والاستغلال والقيود... إلخ إلا بداية طريق طويلة وشاقة من البحث والعمل مستمرة ما استمر الإنسان والتاريخ، مرتبطة بمآلات التحرر والانعتاق الإنساني، مرادفة لماهية الإنسان ذاته، تطال كل ما يتعلق بحياته ونشاطه وحركته وسلوكه، على صعد النفس والمجتمع والاقتصاد والثقافة والسياسة والكون. هذا ما اتفقت جميع الاتجاهات الحديثة، التي ناقشت مختلف جوانب نظرية الحرية، على تناوله مرتبطًا بمفهوم الدولة والثورة. وهو ما تبلور وتعقد من خلال موقع الثورتين الفرنسية والأمريكية في التاريخ الحديث.

وسنحاول فيما يلي تناول مسألة الحرية كمفهوم أولاً معتمدين بشكل رئيسي على كتاب عبد الله العروي مفهوم الحرية، ثم علاقة الحرية بالثورة كما قاربها كتاب في الثورة للفيلسوفة الألمانية حنة أرندت. وسنحاول أخيرًا الخروج ببعض الاستنتاجات حول الحرية والثورة وعلاقتهما بالأحداث التي عصفت بالمنطقة العربية مؤخرًا.

قد يكون تتبع المراحل المختلفة التي مرت بها الليبرالية، والمواقف العديدة القريبة والبعيدة، المتقاطعة معها والمخالفة لها، أحد السبل المهمة والميسرة لفهم ومتابعة إشكالية الحرية. يقسم المفكر المغربي عبد الله العروي مسيرة الليبرالية إلى أربع مراحل مختلفة من حيث المفهوم والسمات:

-       أولاً: مرحلة التكوين التي شددت على مفهومي الفرد والذات المميزين للفلسفة الغربية الحديثة المنطلقة من الإنسان باعتباره الفاعل صاحب الاختيار والمبادرة.

-       ثانيًا: مرحلة الاكتمال التي ارتكزت على مفهوم أساسي ينطلق من الفرد العاقل المالك لحياته وبدنه وذهنه وعمله، والذي على أساسه شُيد علم الاقتصاد العقلي المخالف للاقتصاد الاقطاعي وعلم السياسة العقلية المبنية على التعاقد بين أفراد عقلاء متساوين ومستقلين.

-       ثالثًا: مرحلة الاستقلال حيث انتقد فيها مفكرو الليبرالية الدولةَ العصرية التي ورثتها أوروبا عن الثورة الفرنسية، إذ رأوا فيها أن الدولة نفت حقوق الفرد المالك الخلاق باسم حقوق مجردة أُسندت للفرد العاقل الذي يعتبرونه خياليًا غير موجود أو غير واقعي.

ويمكن القول، وهذا ما لم يتطرق إليه العرويّ في كتابه، أن هذه الرؤية بالإضافة إلى أنها تنتقد بعض مآلات الثورة الفرنسية فهي تهدف إلى إعادة إنتاج النظام الرأسمالي بشكله القائم خوفًا من تطورات المسار الديمقراطي بحجة واقعية التفاوتات بين البشر، (مع أن العروي يذكر قول ستيوارت ميل بهذا الخصوص: "إن مشكلة الحرية تطرح بإلحاح داخل الدولة الديمقراطية. بقدر ما تزداد الحكومة ديمقراطية بقدر ما ينقص ضمان الحرية الفردية"، دون أن يسوقه في هذا الاتجاه)، متغافلة أن الفرد العاقل هو فرد خلاق واقعي وأنه ابن بنية اجتماعية تاريخية تشكل لحظة الخلق فيها لحظة واقعية بالمعنى الديالكتيكي، كما هو حال كانط وهيغل و فرويد وماركس وأينشتاين وغيرهم.

-       رابعًا: مرحلة التقوقع التي ارتكزت على مفهوم المغايرة والاعتراض، اللذين تتجاوز الدولة الديمقراطية الحديثة فيها حقوق الأفراد المتميزين لصالح الأغلبية بهدف تنظيم حياة الناس. ولذلك فإن الليبرالية أصبحت تعتبر نفسها في هذه المرحلة محاطة بالأخطار، وأن تحقيقها بات صعبًا إن لم يكن مستحيلاً لما تستلزم من مسبقات غير متوفرة لدى البشر في غالب الأحيان. ونعتقد أن هذا الرأي ربما يكون نابعًا أساسًا من قصور في الفهم الفلسفي لماهية الحرية الحقيقية أو الكاملة بالنسبة للإنسان العاقل، الأمر الذي يجد سنده في إشارة العرويّ غير مرة إلى أن الليبرالية لم تبحث في التأصيل الفلسفي لمفهوم الحرية.

هكذا نرى أن الليبرالية في مختلف مراحلها وضعت الحرية الذاتية الفردية في بداية تفكيرها كمعطى بديهي، الأمر الذي رفضه هيغل قائلاً: "كون الإنسان في ذاته ولذاته لم يوجد ليستعبد، فهذه حقيقة ندركها كضرورة عقلية فقط، ولكي نكف عن إدراكها كمثلٍ مجرد علينا أن نعترف أن فكرة الحرية لا توجد بالفعل إلا في واقع الدولة" ورأى "أن الحق بالحرية ينقلب إلى ظلم إذا أنكر المرء كل شيء سوى ذاته ولم يشعر بالحرية إلا عندما يبتعد عن قيم الجمهور ويتوهم أنه سيكتشف قيمة خاصة به."

إذًا، اعتبر هيغل أن الفهم الليبرالي للحرية فهم سطحي، لأنه من الصحيح أن الحرية هي العنصر المكون لمفهوم الانسان لكن الوعي بهذه الحقيقة، الذي عمل كغريزة عبر قرون وقرون، ومعرفتها لم يحصلا إلا في عهد قريب، أي أنها مفهوم تطوري يتطابق مع تطور التاريخ الذي يجد تجسيده الحقيقي في الدولة التي يعتبرها هيغل في آخر التحليل لب تطور التاريخ، معبرًا عن العلاقة بين الإرادة الفردية والحرية والدولة بالقول: "عندما نقر ونقبل أن من واجب الإرادة الفردية أن توجد ما هو ضروري عقلاً في المجتمع وفي الدولة عندئذ نكون قد حددنا تحديدًا علميًا ما يعبر عنه عامة بالحرية."

يتضح مما سبق أن نظرية الحرية عند هيغل تتضمن نقضًا نظريًا وعمليًا للحريات الليبرالية بهدف تحقيق ظروف تتضمن حرية أكمل وأعلى، الأمر الذي نراه مماثلاً إلى درجة كبيرة في نظرية الحرية الماركسية.

يشارك ماركس هيغل إطلاق مفهوم الحرية إلى حد يجعله مرادفًا لمفهوم الإنسان، بيد أن ماركس لا يؤله الدولة كما يفعل هيغل بل يضع محلها طبقة العمال الصناعيين الذين يمثلون الإنسان الإنساني الصرف (وهذا الرأي حول الطبقة يتشاركه العروي في كتابه مفهوم الحرية مع الكثير من المفكرين الماركسيين، ويختلف حوله مع الكثير من المفكرين الماركسيين أيضًا الذين يرون أن الماركسية نظرت إلى الطبقة العاملة كحامل مرحلي للمشروع التحرري بهدف الوصول إلى الإنسان الإنساني الذي يقهر الاغتراب والتشيؤ والاستغلال بصفتها المشاكل الأساسية التي تعيق الوصول إلى الحرية). يجب التأكيد مرة ثانية، كما يقول إريك فروم، على أن هدف ماركس ليس محددًا بانعتاق الطبقة العاملة، بل يشمل انعتاق الوجود الإنساني عبر إعادة الفعالية اللامغربة وبالتالي الحرة للبشر، وللمجتمع الذي يكون فيه الإنسان، وليس إنتاج الأشياء، هو الهدف، والذي ينتفي فيه الإنسان كشيء شاذ ومشلول، ليصبح كائنًا إنسانيًا كلي التطور*.

هكذا أتت الماركسية لتقلب وضع هيغل للحرية في بداية التاريخ وتجعلها في النهاية عندما يختفي المجتمع الحالي بكل ما يحمله من أثقال ينوء بها كاهله ليصل إلى الإنسان الحر المنسجم مع ذاته والطبيعة والكون.

لا بد في سياق مرورنا على المفاهيم المختلفة للحرية من التوقف عند المذهب الوجودي الذي التقى مع النظريتين الهيغلية والماركسية باعتبار الحرية مفهومًا إنسانيًا أي أن الإنسان حر بالتعريف، لكنه اختلف معهما في اعتبارها علاقة بين الذات والموضوع تتطور تاريخيًا مع إدراك المرء جدلية المجتمع والتاريخ. ذلك أن الوجودية تحارب الموضوع الذي يعني عند هيغل كل شيء خارج الوجدان، بينما يشكل الوجدان عند الوجوديين المعطى الوحيد الذي لا جدال فيه، يقول سارتر: "إننا لا ندرك ذواتنا إلا من خلال اختياراتنا وليست الحرية سوى كون اختياراتنا دائمًا غير مشروطة."

وهذا الاعتراض على الشرط يعني رفضًا لما اعتبرته الوجودية انتظار نهاية التاريخ لتحقيق المجتمع الكامل وإنجاز الحرية ورفض إخضاع حرية الفرد للجماعة، وتقديم الحرية السلوكية على الحرية الوجدانية.

يفرد العروي مساحة مهمة من كتابه مفهوم الحرية، الذي اعتمدنا عليه، ليشرح جانبًا من المفهوم الإسلامي الحديث للحرية مقارنا إياه برؤية هيغل الذي يقول "إن الحرية هي المطلق والمطلق هو العقل المجسد في التاريخ وفي الدولة. أن يكون الإنسان حرًا هو أن يقبل ضرورة الحرية أي أن يستوعب منطق التاريخ ويتماهى مع هدف الدولة".

بينما يقول المنظر الإسلامي إن الحرية في مفهومها إلهية، فأن يكون الإنسان حرًا يعني أن يكون على صورة الله، أي أن يريد الحرية التي أرادها الله له في حكمته، تلك الحكمة التي بينها لنا الشرع... إلخ وهنا نقع على إشكالية أو تناقض في محاولة العروي مقاربة موضوعية الرأي عبر مقارنة الدولة بالشرع، ذلك أن الشرع ليس واحدًا حتى في الدين الواحد، كما أن نقد الدولة يؤدي إلى السير قدمًا في طريق الحرية، بينما قد يؤدي نقد الشرع في النهاية إلى الخروج على الدين. المسألة التي سنجد تجلياتها واضحة في مشكلة الحامل الإسلامي لقضية الحرية في التمردات العربية الأخيرة.

بعد المرور على بعض المقولات الرئيسية في نظرية الحرية لا بد من الوقوف عند محطة أساسية تبين علاقة الحرية بالثورة. يتضمن كتاب في الثورة لحنة أرندت أفكارًا أساسية حول هذه العلاقة من أمثلتها مقولة المشرع الثوري الفرنسي المركيز دو كوندروسيه: "إن كلمة (ثورة) لا تنطبق إلا على الثورات التي يكون هدفها الحرية". وتعقب أرندت على ذلك قائلة: "إن من الأمور الجوهرية في أي فهم للثورات في العصر الحديث أن تتزامن فكرة الحرية مع التجربة لبداية جديدة". ما هي هذه الحرية، إذًا؟ إنها كما تصفها أرندت ليست ظاهرة سياسية إنما على العكس هي السلسلة الحرة من الأفعال غير السياسية التي يبيحها كيان سياسي معين ويضمنها للأفراد الذين يكوِّنونه. إذًا، لا يكمن السياسي في تعريف الحرية أو في ماهيتها بل في الطريق إليها وفي ما يضمنها ويحميها. تقول أرندت: "إن حرية التجمع والتنقل والتحرر من الخوف والحاجة، كلها سلبية من الناحية الجوهرية، إنها نتائج التحرر ولكنها ليست المحتوى الحقيقي للحرية بأي حال من الأحوال والذي هو المشاركة الحرة في الشؤون العامة أو الدخول في الميدان العام."

إذا كانت الثورة قد هدفت فقط إلى ضمان الحقوق المدنية فهي إذًا ما كانت تهدف إلى الحرية وإنما إلى التحرر من الحكومات التي تجاوزت سلطاتها وانتهكت الحقوق القديمة والثابتة. إن الثورة في العصر الحديث معنية بالتحرر والحرية معًا، وبذلك لا يمكن الحديث عن الثورة إلا عندما يحدث التغيير ويكون حقًا بداية جديدة. وهذا يعني كما تؤكد أرندت حرفيًا: "إن الثورات أكثر من تمردات ناجحة، وليس لدينا ما يبرر تسمية كل انقلاب يجري بأنه ثورة، ولا أن نتلمس ثورة في كل حرب أهلية تحدث. إن الشعوب المضطهدة غالبًا ما تقوم بتمرد..."

أخيرًا وبالنظر إلى الأوضاع التي سادت المنطقة العربية منذ 17/12/2010 تاريخ حادثة البوعزيزي في تونس وما تلاها من احتجاجات ومواجهات أفضت إلى تنحي زين العابدين بن علي عن السلطة وفراره من تونس في 14/1/2011 والتي كان أحد شعاراتها: "تونس حرة حرة، بن علي على برَّه"، مرورًا باعتصام ميدان التحرير في القاهرة في 25/1/2011 وشعاره الرئيسي "تغيير.. عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية"، وما تبعه من أحداث انتهت بتنحي الرئيس حسني مبارك عن السلطة في11/2/2011 ، ثم انطلاق احتجاجات دمشق ودرعا في سوريا في شباط وآذار 2011 وقد كان أحد شعاراتها في البدايات شعار الحرية، وذلك بالتزامن مع أحداث اليمن منذ مظاهرات 11/2/2011 وما تبعها، ثم احتجاجات البحرين 14/2/2011، فإننا نقول: لا شك أن موضوعة الحرية كانت أساسية في جميع هذه الأحداث لكنها تناءت كثيرًا أو قليلاً تحت ضغط الأنظمة العميقة وبنيان الدولة غير المكتمل والشروط المؤثرة فيها داخليًا وخارجيًا، وكذلك بسبب طغيان الحوامل الدينية المتخلفة التي قامت في معظمها، (مع استثناءات قليلة)، على رؤية فكرية محدودة غير متماسكة لمفهوم الحرية.

لذلك كله فإن إطلاق صفة الثورة على جميع هذه الظواهر وما وقع بعدها من تغيرات، يحتاج انطلاقًا من المفاهيم المختلفة للحرية، ومن ارتباط الجدة والحرية بالثورة، يحتاج إلى دراسة متأنية لكل تجربة منها على حدة بكل ما فيها من عناصر وتفاصيل وعلاقة تلك العناصر بمقولات الحرية والتغيير وما صارت إليه، وإلا وقعنا في الكثير من التجاوز والمغالاة وإضفاء الرغبة بتسمية ثورة على ما لا يمكن اعتباره أكثر من تمردات تحولت إلى أشكال مختلفة من الصراع على السلطة والنفوذ، لاشك أن لها أهمية تاريخية كبيرة وأنها ستكون محطات مهمة في الطريق الطويل والشاق الذي تكابده شعوب المنطقة للوصول إلى دول التحرر والحريات.

لكن يمكننا القول بخصوص منطقتنا: إن التاريخ الحي قد فعل فعلته بأقسى صوره بالمعنيين الهيغلي والماركسي. الهيغلي الذي رأى في الدولة شرط الحرية ونقيضها، والماركسي الذي رأى في عوامل جدل الصراع التطوري صورة الحرية ودرجاتها.

*** *** ***


 

horizontal rule

* مفهوم الإنسان عند ماركس، إريك فروم، دار الحصاد، ترجمة محمد سيد رصاص، ص 71.

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني