موضع الإنسان في الطبيعة والكون
قراءة في كتاب رؤية الماضي لتيار دُهْ شاردن

ندرة اليازجي

 

في كتابه موضع الإنسان في الطبيعة، يحدثنا العالم-الحكيم تيار دُه شاردن، الاختصاصي بعلم الپاليونطولوجيا، عن الذروة التي بلغها التطور بظهور الإنسان في الوجود الأرضي. وفي رأيه أن التطور بلغ قمَّة ديناميكيَّته وغايته. وفي كتابه ظاهرة الإنسان، تبلغ نظريته التطورية أوجها. وهكذا، يؤلِّف هذا العالم المبدع بين الخطَّين اللذين يتفاعل ضمنهما التطور، وهما: الباطن، أي الخصائص النفسية والعقلية، والظاهر، الذي هو الشكل، ليلتقيا على نحو متكامل ومشترك في الإنسان. هكذا، يتحقق كمال التعقيد الأرضي، الصاعد إلى غايته النهائية، في الإنسان.

في كتابه رؤية الماضي، وهو موضوع بحثي، يتحدث تيار دُه شاردن عن موضع الإنسان في الطبيعة وفي الكون. وفي حديثه هذا، يكشف عن الموقع الذي يحتلُّه الإنسان في الكون، بحيث إنه يمكننا أن نتصوَّر أو ندرك الغاية النهائية للتطور بعد وجود الإنسان، أي الغاية التي يهدف التطور إلى تحقيقها في النطاقات العقلية والنفسية والأخلاقية والروحية.

أعتقد أن الأهمية الكامنة في هذا البحث تكمن في السؤال التالي: ما موضع الإنسان في الكون؟ يتأمل الإنسان القضية الهامة الماثلة في هذا السؤال، ويدرك أن أهمية هذه القضية تتأكد على صعيدين:

1) صعيد المعرفة: يتمثل هذا الصعيد في الإجابة عن الأسئلة التالية: ما أنا ؟ مَن أنا؟ ما حقيقتي؟

2) صعيد الأفعال: يتمثل هذا الصعيد في السؤال ذاته، إنما في أبعاده الثلاثة: ما قيمتي؟ إلى أين أمضي؟ كيف أوجِّه حياتي؟

ظل الاعتقاد بأن الإنسان هو مركز الخليقة سائدًا حتى القرن السادس عشر. وإذا ما سعينا إلى تفسير هذه المركزية، أجبنا: الإنسان، الذي هو المركز الهندسي والقيمة المركزية لكون مؤلَّف من نطاقات أو مستويات، صُمِّم على نحو متراكز، أي متحد المراكز، حول الأرض. والحق أن الأمر لم يكن يحتمل غير هذا التفسير.

في غضون القرون الثلاثة التالية، التي بلغت نهايتها في القرن التاسع عشر، رأى العلماء، وهم يختبرون تجاربهم، عبث هذا المعتقد أو المنظور. ونتيجة لذلك، بدأ الإنسان يرى نفسه مختزَلاً إلى حدِّ اللَّاشيء في ضخامة كون تُعتبَر الأرضُ، في داخله، ذرة من الغبار وسط مجموعة كبرى من النجوم. وفي هذا المنظور، لم يعد الإنسان يحتل موضعًا هامًّا في الكون. وفي الوقت الحاضر، يعيد العلماء النظر في موضع الإنسان. وقد بدأوا يدركون أنه لا يحتل مركز عالم سكوني، بقدر ما يمثل مبدأ هامًّا في عالم ديناميكي، حيٍّ ومتحرك.

تعتمد هذه الدراسة على اكتشاف الإنسان للإنسان؛ أي أن الإنسان يكتشف نفسه في المعرفة. لذا، تتمثل هذه الدراسة في المبادئ الثلاثة التالية:

اللَّانهاية الكبرى واللَّانهاية الصغرى، أو "الوجود قبل ظهور الحياة".

اللَّانهائي المعقَّد، أو "ظهور الحياة في الوجود".

يتمثل الكون بلانهايات ثلاث؛ هو كون يتألَّق فيه الإنسان برفعته وتفوُّقه.

أولًا: اللَّانهائي الكبير واللَّانهائي الصغير أو "الوجود قبل ظهور الحياة"

تقضي ضرورة البحث اعتبار مناطق الكون وأبعاده ومستوياته وفق ما ترى الفيزياء الفلكية الحديثة، وذلك في سبيل إحياء وإعلاء شأن القيمة الإنسانية التي قلَّصتْها بعض النظريات العلمية لدى مقارنة هذه القيمة الإنسانية بالقيمة الكونية الشاملة. تتمثل هذه المناطق والمستويات والأبعاد في النقاط التالية:

البنية الجسيمة للعالم: تكشف المادة عن ذاتها على نحو عناصر معايَرة أو متدرِّجة ذات حجم متزايد؛ وتشكِّل هذه العناصر كثرة في كل مستوى أو نطاق أو حالة.

وجود ثلاثة أنظمة أو نطاقات من الحجم أو المقدار داخل العالم: وفق مصادفة فريدة من نوعها، يقف الإنسان، على نحوٍ تقريبي، في وسط المجموعات الكلِّية، بحيث إن اللَّانهائي الصغير يقع تحته واللَّانهائي الكبير يقع فوقه.

وجود اختلاف كبير، أو فرق كبير، بين الجسيمات أو الدقائق الخاصة بهذه النطاقات الثلاثة. يحيا الإنسان بين اللَّانهائي الصغير واللَّانهائي الكبير.

هكذا، توجد لانهايات ثلاث هي: 1) لانهاية الصغير؛ 2) لانهاية الكبير؛ و3) الإنسان الذي يمثل اللَّانهاية الثالثة؛ أي أنه يمثل تشابك اللَّانهايتين. وهذا يعني أن الإنسان يمثل الموضع الذي تلتقي فيه اللَّانهاية الكبرى واللَّانهاية الصغرى.

تُعَدُّ هاتان اللَّانهايتان، وفق تعبير تيار دُه شاردن، قطبين متقابلين، ليس على نحو كميٍّ فقط، أو وفق مفهوم الاتساع أو الضخامة أو الصغر، بل أيضًا وفق مفهوم النوعية، التي تشير إلى أن غالبية الخصائص الأساسية للكون تصبح مختلفة في النطاق الكبير وفي النطاق الصغير عمَّا هي عليه، في ظهوراتها، في النطاق الأوسط الذي هو الوسط الإنساني، الذي يمثل تشابك اللَّانهايتين وتعقيدهما.

هكذا، يُعتبَر الإنسان لانهاية ثالثة يبلغ فيها التعقيد الأرضي أقصاه، ويتسنَّم الوعي المرافق لهذا التعقيد أعلى مستوياته. ويتمثل هذا التعقيد في لقاء اللَّانهايتين، الكبرى والصغرى، في الإنسان. ويمكننا أن نشبِّه هذا اللقاء بشجرة أرضية، تتعمَّق جذورها في المادة، وتمتد أغصانها وتتسع في الفضاء اللَّانهائي، وتلتقي، في نقطة وسطى، مع شجرة كونية تتعمَّق جذورها في اللَّانهاية، وتمتد أغصانها وتتسع أو تنتشر في المادة الأرضية. في هذا التعقيد، يتجلَّى التغاير المتبادل والودي الملازم للَّانهاتيين.

وفي هذا المنظور، نشاهد التشابك الذي يتصف به الكون الذي يقع فوقنا وتحتنا. وإذ نجد أنفسنا مستغرقين في هذا الوضع الكوني، نطرح على أنفسنا السؤال التالي: ما هو التأثير الأول الذي يخلِّفه ظهور أعماق هذا التشابك على عقولنا؟

في هذا الوضع الكوني، نرى أنفسنا مستغرقين في العمق الذي يحتجزنا بين اللَّانهائي الكبير واللَّانهائي الصغير. وعندئذٍ، تبدو لنا الحياة والإنسانية برمَّتها وكأنهما قد تجرَّدتا من القيمة والمعنى نتيجة للتيه في هذا التشابك المعقَّد. والحق أن ردَّ فعل العقل الإنساني على هذا العمق، الذي يؤدي به إلى الشعور بالتفاهة وهو ماثل في وسط لانهايتين، يجعله يعتقد بأنه يبحث عن ملجأ أو ملاذ داخل ثنائية تشير إلى استحالة توحيد العقل والمادة في كونين منفصلين يمتدَّان في اللَّانهاية دون أن يُسهِما في تحقيق بُعد واحد مشترك.

يعتقد تيار دُه شاردن أن الخلاص من هذا الوضع الظاهريِّ التناقض بين العقل والمادة، بين الفكر والموضوع، أو بين الروح والمادة، لا يتحقق إلَّا بإضافة لانهاية ثالثة إلى لانهايتي الصغير والكبير، هي، كما ذكرت سابقًا، التعقيد اللَّانهائي، أو تشابك اللَّانهايتين الكبرى والصغرى في لانهاية ثالثة هي الإنسان.

ثانيًا: التعقيد اللَّانهائي أو ظهور الحياة في الوجود

ماذا نقصد بكلمة "تعقيد"؟ لا يشير التعقيد، الذي يظهر على نحو تجمُّع، إلى عدد العناصر المكوِّنة لهذا التجمع وتنوُّعها فحسب، بل وإلى ترتيبها أيضًا. والحق أن وضع النويَّات الذرِّية الثلاثمئة وستين بعضها مع بعض دون ترتيب يُعَدُّ مجرَّد تجمُّع يشير إلى التغاير وليس إلى التعقيد. لذا، يُعَدُّ التعقيد تغايُرًا منظمًا ومركزًا في آنٍ واحد. وعلى هذا الأساس، يقتضي تعقيد منظومة وجودَ عاملين أو عنصرين مختلفين. في هذه الحالة، تصبح الدقائق أو الجسيمات المادية أكبر فأكبر. وإذا ما تساءلنا: كيف تصبح أكبر؟ أجبنا: إنها تشكل تجمُّعات تتضخم على نحوٍ متزايد نتيجة لاتحادها بعضها مع بعض بطريقة تؤدي إلى تشكيل "تعقيدات" حقيقية على نحوٍ تجتمع فيه الجواهر في ذرَّات بسيطة، والذرَّات البسيطة في ذرَّات أكبر، والذرَّات الأكبر في جسيمات مُكَهرَبة في مادة شبه غروية، وهذه في خلايا، وهذه في نباتات وحيوانات.

نحاول الآن أن نقيس درجة هذه الجواهر والذرَّات، آخذين بعين الاعتبار عامل عدد الجواهر والذرَّات المتجمِّعة. وفي هذا الصدد، يقول تيار دُه شاردن: لم يحسب العلماء، لحدِّ الآن، عدد الجواهر المضمونة في أصغر خلية حيوانية. فإذا كان جسد الإنسان يشتمل على ألف مليار خلية تقريبًا، فيمكننا أن نقول إن عدد الجواهر في هذا الجسد تتساوى أو تتعادل مع ترتيب أو نظام المقدار العددي للمجرات. والحق أن الجواهر ليست مقسَّمة بطريقة متجانسة. فهي تشكل منظومة تراتبية متصلة مع الوحدات الجسيمية، أو وحدات الدقائق ذات الأنظمة أو الترتيبات المختلفة، بحيث إن الصلات أو الروابط الميكانيكية تتوضَّع على حلقات تنافذية تتوضَّع، بدورها، على حلقات إلكترونية. وهكذا، يتمثَّل الكون بلانهايات ثلاث، يفعل فيها الوعي والحرية التي تعني الخلاص من الإشراطات والقيود.

ثالثًا: الكون المتمثل بلانهايات ثلاث، أو رفعة الإنسان وتفوُّقه

يُعَدُّ التماسك أو الترابط والإنتاجية الاختبار الأعظم في نطاق العلم وفي النطاقات الفكرية الأخرى. وبالنسبة لعقولنا الباحثة، يتوطَّد اليقين الذي نعهده في نظريةٍ ويزداد، على نحوٍ أفضل وأكثر تأكيدًا، بمقدار زيادة النظام الذي تفرضه هذه النظرية على النظرة التي تتبنَّاها عن العالم، وعلى قدرتها على تعزيز الحركة المتقدِّمة لقدرتنا على البحث والبناء وتوجيهها. في هذا المنظور، يحتل الإنسان مركزه في كون يتميَّز بلانهايات ثلاث. وسوف يتصرَّف، وفق هذا المنظور، وكأن هذا الكون هو الكون الحقيقي، فيحاول أن يرى ويدرك ما يحدث:

تقوم علاقة طبيعية بين علم الفيزياء وعلم النفس؛ علاقة هي، في نظر بعضهم، غير قابلة للمصالحة. في هذه العلاقة، تتصل المادة بالوعي. ولا تعني هذه الصلة أن الوعي يصبح قابلاً للقياس على نحوٍ مباشر؛ وعلى غير ذلك، تعني هذه العلاقة أو الصلة أن الوعي يعمِّق جذوره وأصوله، على نحوٍ فيزيائي وعضوي، في عملية كونية واحدة تمثل الاهتمام الأكبر والأهم للفيزياء.

في هذا الواقع، لا يُعَدُّ الوعيُ في ظاهره حدثًا غير مألوف، اتفاقيًّا أو تصادفيًّا، ويخرج عن كونه مجرَّد مصادفة عشوائية في الكون؛ وعلى غير ذلك، يُعَدُّ ظاهرة عامة ونظامية للاتجاه أو للانتقال التدريجي، العالمي والشامل، للمادة الكونية التي تتجه إلى تشكيل تجمُّعات ذرية أعلى على نحوٍ متزايد. وفي هذه الحالة، تظهر الحياة حيث تُتاح لها إمكانية الظهور في الكون.

تتجه ظاهرة الوعي إلى الإفصاح عن ذاتها على نحوٍ أساسي وجوهري وهام، بحيث إنها لا تُعتبَر ظاهرة فيزيائية... إنها الظاهرة ذاتها.

نستطيع أن نخلص إلى نتيجة تجعلنا ندرك أن الإنسان، وهو يقف على منحنى أو منعطف التشكل الجزيئي، لا يحتل المرتبة الأولى بجسده؛ فبحسب مقدار أو كمية الجزيئات أو الدقائق المتجمِّعة في جسده، يقع موضعه، على سبيل المثال، دون مستوى الفيل أو الحوت. ومن المؤكد أن ملايين الخلايا المتجمِّعة في دماغه تشير إلى أن المادة قد بلغت ذروتها في نطاق التعقيد المتصل بالتنظيم المركَّز. ومن حيث الترتيب الزمني والبنيوي، يُعتبَر الإنسانُ الكائن الأخير المشكَّل أو المكوَّن، الكائن الأكثر تعقيدًا وتركيزًا بين جميع الذرَّات والجواهر. وهكذا، يكون الإنسان الموضع الأعلى الذي يحتلُّ المركز الأعلى في سلسلة البحوث الاختبارية. ففي كيانه، تسنَّم التطور الكوني ذروة وعي ذاته.

عندما نتأمل هذه الحقيقة، ندرك أن النظرية التجسيمية أو التشبيهية (الأنثروپومورفية) القديمة أخطأت في تقديرها أن الإنسان مجرَّد مركز هندسي كوَّنتْه الضرورة في كون ستاتيكي. وعلى غير ذلك، يظهر الإنسان، من جديد، على مُنحنٍ أو منعطف التشكل الجوهري والذري وهو يحمل العالم ويدفعه إلى الأمام. هكذا، يحتل كلُّ شيء مكانًا، أي موضعًا، ويتخذ كلُّ شيء شكلًا، انطلاقًا من الأدنى إلى الأعلى، في حاضر وماضي كونٍ تنجح فيه الفيزياء، في وضوح يخلو من التشويش أو الالتباس، في تضمين ظاهرة الطاقة الإشعاعية والظاهرة الروحية في حقيقة واحدة تتمثل في التماسك والترابط. بالإضافة إلى ذلك، نشاهد كلَّ شيء وهو يتألق في وسط الضياء، متجهًا إلى المستقبل: إنها الهناءة المنطوية في الغبطة أو السكينة السامية العظمى.

تؤكد الصفة المميَّزة للتشكل الجوهري والذري، الذي نتحدث عنه، عدم تعرُّضه للتوقف أو للانغلاق. وفي الوقت الحاضر، نشاهد موضع الإنسان عند نهايته. ومع ذلك، نتساءل: هل نجرؤ على القول أو التفكير بأنه يستطيع، أو يجب أن يمتدَّ ويتسع إلى ما هو أبعد؟ كيف يمكنه أن يتجاوز وضعه الحالي؟ ألا يحتل الإنسان، في وضعه الحالي، ذروة الوجود والكون؟ أليس هو فرعًا أو غصنًا قائدًا يؤكد، بنفسانيَّته الفائقة، انبثاق الوعي في جميع الأشياء، ويوجِّه هذا الوعي المنبثَّ في كل شيء؟ ومع ذلك، نتساءل مرة ثانية: ألا يمكن أن يكون البرعم الذي ينبثق منه كيانًا أكثر تعقيدًا أو أكثر تركيزًا ممَّا هو عليه الآن؟ يُحتمَل أن يتحقق هذا التساؤل الذي لا يقوم على براهين قاطعة. والحق أن هذا المنظور يفترض هذا الانبثاق لكون بلانهايات ثلاث.

تشير الدراسة العلمية إلى أن العلماء، حتى الوقت الحاضر، لم يأخذوا إلَّا بالبنية الفردية للإنسان؛ وأقصد الجسد الذي يتألف من الآلاف المؤلفة من الخلايا، بالإضافة إلى الدماغ الذي يتشكل من الآلاف المؤلفة من النويَّات العصبية. وعلى الرغم من كون الإنسان فردًا مركزًا في ذاته، لكننا مع ذلك نتساءل: ألا يُعَدُّ عنصرًا يتسنَّم رتبة أعلى في علاقته مع تأليف جديد أعلى وأسمى؟ وإذا كانت الذرَّات تتشكل من مجموعات الإلكترونات والنويَّات، وتتشكل الجزيئات من مجموعات الذرَّات، وتتشكل الخلايا من مجموعات الجزيئات، فإنما لنسأل أنفسنا: ألا يُحتمَل وجودُ كيان يتشكل فوقنا هو أنسنة فائقة تتألف من مجموع الأشخاص المنظَّمين؟ ألا يُعَدُّ هذا التنظيم، الذي يتميَّز به أولئك الأشخاص المنظَّمون، الطريقة المنطقية الوحيدة للامتداد والتوسع باتجاه تعقيد أكثر تركيزًا، ووعي أعظم وأسمى، ندعوه "منحنى التشكل الذري أو الجوهري الشامل والكوني"؟ يمكننا أن نقول إن الرؤيا التي حلم علماء الاجتماع بتحقيقها بدأت تجد قواعد لها في العلم الذي بدأ، بدوره، يتيقَّن من وجود اللَّانهايات الثلاث.

يعتقد بعض العلماء أنه لا يزال يستحيل علينا أن نشكِّل فكرة عن صيغ أو أشكال الظهورات التي يمكن أن يتبنَّاها التشكل الذري الفوقي الأعظم الذي هو "دماغ الأدمغة"، أو يتبنَّاه النطاق العقلي الذي تحوكه أو تنسجه جميع العقول المفكرة الواعية على سطح الأرض. والحق أن كلَّ ما يستطيع العلماء قوله، بهذا الصدد، هو أن الحريات الفردية، في هذا النمط الجديد من التركيب أو التأليف البيولوجي، كما يمكننا أن نتصور، تبلغ أقصاها عبر العلاقة العميقة والودِّية القائمة والمتبادلة بين التجمُّعات. وعلى الرغم من الخطورة المحدقة بتصوُّر وجود هذا التأليف البيولوجي المقبل وأبعاده، إلا أن العلماء، مع ذلك، بدأوا يفهمون ما يجب عليهم أن يفعلوا خلال مليارات عصور الحياة التي، وفق ما يقول علماء الفلك، تتوقع تطورًا مقبلًا للبشرية. وبالتالي، يستطيع العلماء أن يحدِّدوا، وهم يعتمدون على معرفتهم لمدى اتساع الكون وكثافته، الخطَّ العام للتقدم الذي يجب على الإنسان اتِّباعه على الطريق الذي يؤدي إلى المزيد من الانطلاق باتجاه وحدة أعظم. والحق أن مجرد السير على هذا الطريق يعني عدم القدرة على التوقف.

يُعَدُّ صعود الإنسان منحنى التعقيدات، وبلوغه نطاقات الوعي، قضية تشير إلى أمرين:

-       استيقاظ خصائص جديدة وانبثاقها إلى الوجود.

-       ظهور شكل أو صيغة خاصة للطاقة، يُحتمَل أن يكون أو تكون منحنى أو منعطفًا جديدًا يكشف عن ذاته على نحوٍ تتآلف فيه أشكال الطاقة الأخرى.

وإذ يبلغ الإنسان هذه المرحلة، يصبح قادرًا على تأليف جديد هو أبعد وأعلى من ذاته؛ وبالمثل، يصبح قادرًا على امتلاك الإرادة الحرة التي تؤهِّله للقيام بهذا التأليف. وفي الوقت ذاته، يجب على الإنسان أن ينجذب إلى الأعلى بفعل جاذبية تفعل في داخله؛ وما لم ينجذب الإنسان إلى الأعلى، باتجاه "كينونة أسمى وأعظم"، فإنه، بالتأكيد، يحكم على نفسه بالفناء. في هذا المنظور، يلقي الإنسان على نفسه السؤالين التاليين:

-       ماذا يتطلَّب التأليف الكوني من الإنسان الذي يوافق على التقدم في نطاق هذا العمل الحافل بالصعوبة والتعقيد؟

-       ما هي الشروط أو الحالات التي تقضي بإنجاز الكون لها ليكون الإنسان قادرًا على الانجذاب باتجاه وعي يزداد على الدوام؟

يمكننا أن نجيب عن هذين السؤالين بما يلي: تقتضي الإجابة ألا يتخيل الإنسان توقُّف الحركة التي تدعوه إلى التقدم إلى الأمام أو تقهقُرها؛ هذا، لأنه يتعذر على الطبيعة أن تكون عكوسًا، أي أنها لا تقبل التقهقر أو التوقف، أولًا، ولا تقاوَم، لسبب هو أن منحنى أو منعطف التشكل الجوهري والذري لا يتوقف، ثانيًا. وهكذا، لا ينضوي التطور تحت مقولة "الخلَّاق" أو "المبدع" فحسب، بل نرى فيه التعبير الصادق للخلق والإبداع اللذين نحياهما أو نعانيهما في تجربتنا عبر الزمان والمكان.

في نهاية حديثي، أود أن أقول: في تكامله أو وحدة أبعاده، يعاين العلم، وهو يسمو إلى أو يعلو فوق عظمة الإنسان المكتشَفة حديثًا وعظمة البشرية المتجلِّية، الحقيقة الإلهية السامية التي تكشف عن ذاتها من جديد في المنظور الكوني الحديث.

في الوقت الحاضر، يتحدث العلم عن آفاق جديدة تحثُّ الإنسان على التفكير الواعي. والحق أن التوازن، الذي يراه الإنسان في العالم، لا يجد تعبيره الكامل في معادلات أينشتاين التي تَصدُق في عالم يتميَّز بلانهايتين بقدر ما يجد التعبير عنه في عالم يتميَّز بلانهايات ثلاث؛ عالم يدعو إلى تعقيد أكبر ووعي أعظم متى أفسح الإنسان مجالًا لفعالية التوقير والإجلال والأمل. ويشير هذا التوقير والإجلال والأمل إلى حقيقة تشتمل على المبادئ التالية:

-       اليقين، أي الوعي، الذي يدعو إلى التأكيد على أوَّلية الإنسان في الطبيعة.

-       اليقين، أي الوعي، الذي يدعو إلى التأكيد على وجود حقيقة سامية ومطلقة تملأ الكون.

-       اليقين، أي الوعي، الذي يدعو إلى التأكيد على الحياة ضمن شموليةٍ تجمع أبناء البشرية في إنسانية واحدة، وتوحِّدهم في كيان كوني واحد.

يمكننا، كما يقول تيار دُه شاردن، أن نؤلِّف أو نُجمِل هذا الوعي-اليقين الثلاثي، الذي هو إيمان واعٍ ومعرفي، على النحو التالي:

-       وصال مع الحقيقة الإلهية السامية؛

-       وصال مع الأرض والطبيعة؛

-       وصال مع الحقيقة الإلهية السامية عبر الأرض والطبيعة.

*** *** ***

من كتاب حديقة الحكمة

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني