مشكلة الغد القريب
حررت عام 1964
د. بشير العظمة
مقدمة:
في كتابة صينية يعود تاريخها الى أربعة قرون قبل الميلاد، يصف الحكيم
أوضاع المجتمع بالسطور التالية:
كان
الناس في شبابي ينعمون بالرخاء فالرزق وفير والبشر قليل والناس هانئون،
فلما شخت رأيت ازدياد الناس وقلة الرزق وشدة المزاحمة وزيادة الرقابة!
لقد تبدلت الأرض ومن عليها عبر هذا التاريخ الطويل، والمشكلة التي يوجز
الحكيم الصيني وصفها في كلماته، أصبحت خطيرة تهدد الدنيا ومن عليها
بالانفجار. لقد كانت مشكلة الحكيم محلية، فإذا بها اليوم مشكلة
الإنسانية الكبرى يدرك أخطارها العالم الواعي المتطور بحساب أرقامه،
ويشعر بوطأتها مئات الملايين من المعذبين على الأرض، يدركها الأولون
ويعيش ويلاتها الآخرون.
لقد عملت الأوبئة والحروب والمجاعات، التي ما كانت تنتهي إلا لتبدأ،
فأقامت التوازن الحيوي بين الإنسان وموارد الطبيعة الغذائية.
وخلال نصف القرن الأخير حققت العلوم الطبية وتطبيق الأنظمة الصحية
معجزة مضاعفة متوسط عمر الإنسان. ومشكلة الغد القريب: الزيادة
المتسارعة في عدد البشر وعجز الأرض عن تقديم الكفاية لهم من الغذاء.
لقد تعرضت ولا تزال أجناس حيوانية أخرى لطفرات مشابهة كانت تتكاثر فيها
دون وعي، وتتجه دون وعي أيضًا، منتحرة في المحيطات. كذلك تفعل أسراب
الجراد وأسراب الجرذان وأسراب السمك. فهل يفعل الإنسان مثلها ويسير إلى
قدره دون وعي منتحرًا؟!
يقدر المؤرخون عدد سكان العالم أيام السيد المسيح بـ 250 مليون نسمة
وقد أقتضى مرور ستة عشر قرنًا حتى تضاعف العدد. ولم يبلغ تعداد البشر
على الأرض مليارًا ونصف المليار إلا عام 1900، وبعد 61 سنة فقط من هذا
التاريخ تضاعف العدد للمرة الثالثة، وتم هذا التسارع بالزيادة المذهلة
بفضل الكشوف الصحية والطبية، فأصبح عدد سكان الأرض ثلاثة مليارات من
البشر والزيادة بعد ذلك تسير بمعدل خمسين مليون إنسان، ويقدر علماء
الاحصاء أن الرقم سيبلغ سبعة مليارات بعد أربعين عامًا أي في عام 2000
القريب.
معنى هذه الطفرة أن كل قطر في الأرض، متخلفًا كان أم متطورًا، أن يضاعف
خلال الأربعين عامًا القادمة من عدد المساكن والمدارس والجامعات
والشوارع ووسائل النقل والمستشفيات والفنيين والاداريين اللازمين لكل
ذلك. ويضاعف خاصة من إنتاجه الغذائي، كل ذلك ليحتفظ فقط بمستوى العيش
الحالي لمواطنيه، ولينسى أو يهمل كاملاً تطلع الجيل الحاضر والأجيال
القادمة لتحسين أحوالها المعيشية. فإن لم توفق أقطار الأرض، كل منها
بوسائله الخاصة وأمام مزاحمة قاتلة لا ترحم، إذا عجزت هذه الأقطار،
وخاصة المزدحمة والمتخلفة منها حاليًا، عن ادراك ذلك فإن أرضها الوطنية
ستنفجر ويتفجر العالم معها.
إن الخطر الذي يتهدد العالم اليوم ليس في زيادة عدد سكانه ولكن في
تباعد وازدياد الفوارق بين مجتمعات متطورة وأكثرية بشرية متخلفة.
قال ماركس في القرن الماضي: "علم الاجتماع هو علم البؤس البشري".
إن تسعة عشرة دولة من بلاد العالم الغني يصل دخلها إلى 70% من دخل
العالم ولا يزيد عدد سكانها عن 16% من سكانه، وبالمقابل لا يزيد دخل
خمس عشرة دولة من أفقر بلاد العالم وعدد سكانها 50% منهم، لا يبلغ
دخلهم سوى 10% فقط من دخل العالم.
هذه هي الصورة المفزعة لعالم الغد، تباعد متسارع في العدد وفي مستوى
العيش بين المتخلفين والمتطورين.
يقول نهرو: "ليس الجوع جديدًا في الهند ولكن يقظة الضمير الهندي على
واقع بؤسه هو الأمر الجديد والخطير على الأرض القديمة".
ويقول رومان رولان
Romain Rolland:
"لا بطولة في العالم اليوم إلا برؤية العالم كما هو قائم فعلاً، لا كما
تريد أن يكون، وأن تحب بعد ذلك هذا العالم وتعمل فيه"؟!
أستعيد قول الحكمة الصينية التي بدأت بها حديثي لأذكر بأن لا وجود
لعالم بدون مشاكل ومتاعب وأني في حدود هذا التفكير الواقعي الواعي
لمشاكل العالم أساهم بكلمتي لأعرض الخطوط العريضة للمشكلة القديمة
الجديدة والتي تبدو حادة وخطيرة في صورة أرقامها في واقعها وفي
تناقضاتها.
*** *** ***
لقراءة
الدراسة كاملة
انقر هنا