الكتابة مقاومة
لإنهاء الأحكام المسبقة
فيرونيك برغن
أجرى الحوار:
روجيه عوطة
غالبًا ما يجري
تقديم فيرونيك برغن (ولدت في بروكسل) كفيلسوفة، لكنها، في كثير من
الأحيان، تؤكد أنها كاتبة، وأن الشعر والسرد أقرب إليها من الفلسفة.
وهي كانت دخلت مسار الكتابة في وقت مبكر من عيشها، إذ كانت تعيد كتابة
ما كانت تقرأه من نصوص، إلى أن قررت التوقف عن هذه العادة، والشروع في
كتابة غير الموجود قبل كتابتها له.
"اللغة هي حدث الكتابة" تردد في كثير من الأوقات، فلا تجد مناصًا من
صناعة واقعاتها في اللغة الفرنسية التي تتناول بها موضوعات كثيرة،
بدءًا من كتابها أنطولوجيا جيل دولوز وصولاً إلى خدشات،
وبينهما كتاب عن جان جينيه، وآخر عن المقاومة الفلسفية، وثالث عن
عارضات الأزياء، ورابع عن جان بول سارتر. بالإضافة إلى رواياتها
صرخة الدمية، ومارلين العام صفر، وكاسبار، أو جملة الريح
المفضلة.
عن كتابتها،
شغلها، اهتمامها بالفلسفة والأدب، هنا، مقابلة لـ "المدن" [المادة وكما
هو مذكور في نهاية الحوار مأخوذة عن موقع المدن] مع برغن.
***
سؤال: تقولين إنك
عندما لا تكتبين تكونين في صدد الكتابة، فخلال تلك اللحظة تجعلين
الحياة تكتب نفسها بنفسها، هل تحتاج الحياة فعلاً الى كتاب؟ أو كي أطرح
السؤال بطريقة أخرى، ما دور الكتابة تجاه الحياة، تصنعها، تتحدث عنها،
أو تصمت أمامها؟
فيرونيك برغن:
عندما لا أكتب (لكنني أعمد إلى الكتابة كل يوم تقريبًا)، يتيح ذلك
للمشاريع التي أشتغل عليها أن تتبلور وتتبدل أكثر، بمعنى أن لاوعيي، أو
ما تحت وعيي، يستمر في العمل. الصلة بين الحياة والكتابة مربكة وعسيرة،
وهي، بحسب عدد من الكتاب، وكافكا في مقدمهم، صلة منفصلة، معذِبة، بحيث
هناك صراع بين طرفيها، أي الحياة والكتابة، كأن الثانية تبعدنا عن
الأولى.
من جهتي، أبلي في إدغام الكتابة في الحياة، والحياة في الكتابة. أن
نحيا بلا أن نكتب، بلا أن نضع في الكلمات والجمل أسئلتنا، أحاسيسنا،
مفاهيمنا، إنه، في ظني، مستحيل للغاية. فحين تقع الحياة على مسافة منا،
تسمح لنا الكتابة بتذوقها من خلال إضافة التخيل عليها، وهذا ما يعيننا
على مجابهة رضات تواريخنا الخاصة أو صدمات التاريخ الكبير. الأدب
والفلسفة هما قدرتان على الفرح، مثلما أنهما يؤديان دور إطلاقي
وانعتاقي، فلا مجابهة بدون بهجة ولا بهجة بدون مجابهة. إنهما حصان
الحريات، حصان الجرأة في التفكير داخل مجتمعات تحاول، وعلى آليات
وأساليب مختلفة، منعه من العَدْو. بالتالي، قوة الخلق، التي تتمتع كل
قدرة من هاتين القدرتين بها، هي شكل من أشكال المقاومة، مقاومة الطاعة،
ومقاومة البلاهة، على قول جيل دولوز، كما أنها دحض وإبطال لكل ما
يعتقلنا ويستعبدنا. أعتقد أنه عندما نمارس عملنا، جاعلين الأفكار
متصلة، تبدأ الأشياء في التحرك نحو حريتها.
سؤال: تكتبين
الرواية والشعر والفلسفة، وأعلم انك لا تعيري اهتمامك للفوارق بين تلك
الأنواع، لكن، ما هي العملية التي تجعلك تختارين السرد بدل التفلسف على
سبيل المثال؟
ف. ب.:
بعض المواضيع التي أتناولها (كاسبر هاوزر، ماريلين مونرو، أونيكا
تسورن...) تشترط بذاتها شكلها التخيلي الذي أقدر على إحيائها عبره.
فالكتابة الروائية أو الشعرية هي كتابة مرحة، ذلك، في حين إحساسي بكون
الشكل الفلسفي هو شكل إرغامي أكثر. ففضاء التخيل يتيح الإخراج
والإستيلاء، صناعة لغة غير موجودة من قبل، أي العمل على المواد
اللغوية.
لي نهم في خلق لغة فرنسية أخرى في اللغة الفرنسية نفسها. وعلى ما يقول
بروست، الكاتب الفعلي هو الذي يكتب بلسان غريب على الدوام. وذلك النهم
يفتح الفكر على غير المفكر به، على المستقر في ظله، وبالفعل نفسه، يفتح
الكتابة على القول، على الممكن قوله، بالإضافة إلى كونه يسحر اللغة
السابقة عليه.
سؤال: في السياق
عينه، ما الاختلاف بين الاستعارة والمفهوم؟
ف. ب.:
تتولد الاستعارة من نظام الصور، إنها تصوير يلعب على إنتاج الدهشة من
خلال التناظر والمحاكاة بين تفاصيل غير متقاربة. فهي تستدعي المشاعر،
تشرع إدراك الواقعي على مصراعيه، تمد بالتأثر والإنفعال، كما أنها تقوم
بدفق من الأحاسيس والانطباعات. ذلك، في حين أن المفهوم هو رسم فلسفي،
تصميمه إفكاري: يقوم بكونه إجابة عن مشكلةٍ تربك الفكر وتجعله يضطرب.
فلكي ينوجد المفهوم، عليه أن يبني صلابته، كثافته، دعامته، مفعوله.
المفهوم معرض، وبشكل متواصل، لاختبار خصبه، ولامتحان متانته.
سؤال: هل تجدين أن
الفلسفة تشترط على شاغلها أن يصير كاتبًا؟
ف. ب.:
بعض الفلاسفة غير النظاميين، الذين اشتغلوا على جوانب الأكاديميا،
الفلاسفة المضادون، إذا صح الاقتباس من آلان باديو، آثروا الدخول في
صيرورة فنان، فتحولوا إلى فلاسفة - فنانين بحسب عبارة نيتشه. فلا يمكن
فك الربط بين همِّ التفكير وهمِّ الأسلبة. دريدا على سبيل المثال تفلسف
انطلاقًا من ضرورة تجديد الفكر والكتابة على حد سواء. لكن، كل ذلك لا
ينفي أن "بطاريات" الفلسفة هي أدوات خاصة بها، فهي لا تفرض على شاغلها
أن يكون كاتبًا بالضرورة.
سؤال: لماذا
تهتمين بجان بول سارتر وتكتبين عنه؟ هل تجدين أن فلسفته راهنة؟
ف. ب.:
مع أنني قرأت رواياته ومسرحياته خلال مراهقتي، إلا أنني لم ألتقِ
بسارتر سوى على إثر إلتقائي بأحد الأساتذة الذين علموني في جامعة
بروكسيل الحرة، وهو بيار فرسترايتن، فقد كان سارتريًا خلاقًا وخارقًا
وسابقًا لأوانه. على أن فرسترايتن حرر سارتر من السارترية، وهذا ما
جعلني أتنبه إلى راهنية فيلسوف الكينونة والعدم، وذلك ارتباطًا
بما طرحه من مشكلات: سؤال الحرية، تحليله الميكانيزمات المادية التي
تسلبنا القدرة، توفيره أدوات التفكير وأسلحته، الممارسة، المقاومة،
وحركة التمرد. لقد نسق قيمة أخرى للحرية، جعلها محرك الوجود، ومحرك
العمل، والاختيار، والالتزام. وجوديته اليوم ضرورية من أجل محاربة
السائد من الظلاميات، التي تتعلق بالفروض الدينية أو بفروض حقوق
الإنسان، التي تتصل بالاستلاب الاقتصادي أو بـ"الشعوذة الرأسمالية" على
ما تقول إيزابيل ستينغرز. الفلسفة السارترية هي ممارسة لمجابهة
العدمية، الامتثال المباشر، الخضوع غير المباشر، وهي اشتغال على التخلص
من الخمول الذي نفترض أنه عبارة عن نشاط.
سؤال: تكتبين كأنك
تقاومين كليشيهات ومقولات سائدة عن موضوع أو عن شخص، اليوم، إذا أردت
أن تتحدثي عن جيل دولوز، ما هي برأيك التجميدات والتنميطات التي تعرضت
فلسفته لها؟
ف. ب.:
استخدم الكتابة كأداة من أدوات المقاومة، كسبيل إلى نقد وإنهاء الأحكام
المسبقة، الأفكار الجاهزة، المقولات النمطية، الصور السابقة على
التفكير. عندما أكتب في إثر دولوز، وبالاستناد إلى "علبة أدواته"
المفهومية، أسعى إلى تطويل حرية التفكير المطلقة، حرية السؤال المطلقة،
التي كان قد مارسها. على أن لكل فيلسوف طلابه، أوفياءه، الخلاقين
والمتفردين منهم، الذين يحيونه بالابتعاد عنه، أو الذين يقتلونه بالسير
خلفه كأنهم حراسه. وهذا ما يجعل فكره جامدًا، والأخير، لم يتوقف دولوز
عن محاربته. بالتالي، تكثر الكليشيهات التي تنتشر حول دولوز وفلسفته،
وهي من إنتاج المعسكرات المعارضة والمقدسة له على حد سواء. لدينا على
سبيل المثال تصويرات نمطية وباطلة تروج حوله، ومفادها أن صاحب
الاختلاف والتكرار هو مفكر الماكينات الراغبة، أو أنه مفكر نسبوي،
كما أنه مفكر التفلت القيمي والأخلاقي، أو أنه مفكر الدفقات، أو واحد
من أعلام ما يسمى "ما بعد الحداثة".
على أن الانتقادات التي توجه إلى دولوز، وغيره من فلاسفة أيار 68، تؤكد
دائمًا أنهم يتحملون مسؤولية الانحدار الثقافي والفكري الراهن، بحيث
أنهم طرحوا أسس مضادة للإنسانية. لكن، كل أصحاب تلك الانتقادات لا
يذهبون بمقولاتهم أبعد من غاية التوقيف أو التدمير. إنهم حراس الزمن
الفقير الذي نعيشه، تمامًا كحراس دولوز، والذين سمموا فلسفته، وأخذوا
منها بعض المفاهيم، وتعاملوا معها كأنها مجموعة من العبارات، وراحوا
يرددونها في كل عمل، وفي كل استفهام، كما لو أنها أوامر أو كلمات
سلطوية. فهؤلاء لا يدركون أن المفهوم يُصنع عند صناعة مشكلات مهمة أو
مفيدة، ولا يدركون أن الالتقاء بفيلسوف لا يقوم بحُكم التنميط والحاجة،
بل بفعل الضرورة ومسار الخلق.
سؤال: أخيرًا،
كتبتي عن "شيوعية التفردات"، هل تعتقدين أنه من الممكن خلق خطوط هرب من
خلال خطوط مكسرة؟ ثم ما هو "الثوري" بحسبك؟
ف. ب.:
"شيوعية
التفردات" هي التي تجمع بين أفق التحرر من جهة، والحرية التي يحمل بناء
الفرادة عليها، من جهة أخرى. ليس هناك مجانسة ومطابقة بين الصراعات
الجماعية، ولكن، ثمة "سديمًا" للرغبات الجماعية في تغيير العالم،
وتغيير العلاقة معه، وفي إطلاق خيار تشييد الحاضر والمستقبل. من هنا،
خطوط الهرب هي خطوط مكسوة بالضرورة، وهذا ما يضمن لها ألا تقترن في كل
متشابه، في شكل تنظيمي واحد. لا بد من إدراك أن لجموع السياسات الصغرى
قوة فعالة وكافية من أجل إحداث السبل التي تمضي بنا إلى تغيير الأشياء
بمعنى تحريرها.
انتقلت عبارة "ثوري" إلى أيام غابرة، الثورة باعتبارها مشروع انبعاث،
تغيير للمجتمع، لم تعد واقعة لامعة. غير أن هناك رسومات جديدة للثوري
على جوانب تصويراتي المتمرد والمنتفض. في المتخيل الشائع، تبدو الثورات
كأنها تولد ميتة، بحيث أن "يومها التالي" محكوم بالفشل أو باسترجاع ما
قبل حدوثها، وبالتالي تعطيل جريانها. الفكر الذي يعتقد بذلك غالبًا ما
يتعلق بقوى نافية لأي حدث، لكنها، في الوقت نفسه، تماثله، كالانتخابات،
والذهاب الى نظام انتقالي سرعان ما يظهر أنه أبدي. إلا أن ذلك لا يلغي
أن ثورة ما، وحين لا تُخاض كمشروع، بل كتحولات وواقعات في طرق التفكير
والحياة والعيش، إنما تصير ممكنة، وربما هي كذلك لأنها مستحيلة.
نحن في أمس الحاجة إلى تفكير إيكولوجي، يواجه بحركته أي اعتداء على
الناس والحيوانات والنباتات. ضرورة هذا التفكير تساوي الحاجة الشديدة
إليه. صراعاته في كل المستويات هي نفسها. الصراع ضد الاستغلال على
أنواعه مع الصراع ضد القضاء على الشعوب الأصلية مع الصراع ضد اجتثاث
الحيوانات والنباتات البرية، صراع ضد التلوث، وصراع ضد النيوليبرالية
المخربة للعالم، والقامعة لأي صلات غير صلاتها معه.
*** *** ***
المدن