مسامرات مع
الشيطان 4
كاري الجويني
جلسنا
ذات يوم مشمس استعاره الربيع من الشتاء كما تقول أمي. حتى الفصول
تتداخل، تعقد اتفاقيات فيما بينها لكي تلون وجه الطبيعة. فالشتاء يجمع
غيومه ويريح رعوده الطبول كأنه يدفئها على أشعة الشمس كي تقرع أكثر.
وكأنما البرق يمضي نصله في صمت لكي يضيء أكثر. وكأنما المطر يملأ
قطراته حبًا لكي يروي الأرض في لقاء متجدد أروع وأحلى وأنفع. كأنما
يقول لها انتظريني لكي أتجمل أكثر لكي أكون مليئًا بالنور أكثر لأنير
أعماقك. قالي لي وهو يشير لشجرة الزيتون العتيقة هناك رابضة بشموخها:
"أتحسبيننا نراقبها أم هي من يراقبنا؟ كانت هناك من قبل أن نأتي وستبقى
بعد أن نذهب. انظري إليها لا يغيرها تكسر أغصان وسقوط أوراق ولا برد
ولا قيظ. لا يعنيها إن اصفرت أوراقها أو احمرت أو اخضرت أو تعرت منها
أو كست. لا يهمها العابرون المتنعمون بظلها والحطابون المنتفعون من
حطبها حتى إن كسروا جزءًا منها ظلت واقفة. تكون مأوى لسائر مخلوقات
الطبيعة التي تلجأ لحماها دون أن تحزن لفراقها إن طارت أو رحلت أو تفرح
وتهلل لمقدمها ورجوعها. هي موجودة هناك للكل لكنها لا تنتمي لأي فيهم.
جذورها ضاربة في أعماق الأرض وتستقيم لتتحدى الشمس. هي تثق أنها بأمان
مهما عصفت بها الرياح وغيرتها الفصول، مهما أساء لها الوافدون
والمغادرون أو أحسنوا. مهما انجرف التراب على جانبيها أو غمرها فهي
تستمد حياتها من هناك من أعماق أعماق الأرض. حتى الزلازل لم تقتلع
أشجارًا مهما كسرتها. حتى الحرائق لم تبد أشجارًا لأن جذورها في أمان.
"أتعلمين... [واصل بعد هنيهة] كلنا مثل هذه الشجرة. لو آمنا أننا بأمان
دائم مثلها. لو آمنا أن نورنا دائم من داخلنا وليس من الشمس. لكننا
نتأرجح كالأغصان. سمحنا للأوهام أن تعمينا أننا أشجار شامخة وسمحنا
للريح أن تجعل أوصالنا ترتعش وتترنح من ثقل الزائرين وترتجف خوفًا
وحزنًا لفقد الذاهبين. وإن اقترب حطاب بفأسه تأوهنا وتألمنا قبل أن
يلمس جذعنا. ونسينا أننا لم نتأثر لسقوط أوراقنا كل خريف ولم ننزعج لأن
الطقس القاسي يكسر أغصانًا منا وأن الفأس تحمل نصلاً من خشبنا وتأتي
لكي تذكرنا أن هناك من يحتاجنا في مكان آخر.
من قال إن الفأس التي تحفر بجانب الشجرة نية أن تعري جذورها تميتها؟
فهي ستحمل ما ظهر منها ولن تقدر يوما أن تصل إلى أسرار خفاياها. هناك
سر حياة كل الأشجار إن سقطت واحدة بعد زمن تنبت أخرى منها وفيها وتنتصب
من جديد مكانها.
"ااوه كم هي قوية هذه الأشجار. كيف تكون بمنأى عن التأثر وبهذا
الثبات؟" استغربت بعمق أن تتحلى الأشجار بصفات يجاهد الإنسان نفسه
ليحصل على فتات تجربتها قصد حماية نفسه من ألم الفراق والصبر على
الأذية.
"لأن وعي الشجرة أكبر من وعي آدم يا صغيرتي. ألا ترين أنها تمكث آلاف
السنوات مدة في مكانها شاهدة على ما يحيطها صامتة لا تنطق مهما اشتد
هول ما رأته؟ أيقدر آدم مهما أوتي عزمًا وصبرًا ورشدًا أن يمكث في
مكانه بضع سنين دون أن يعييه السكون؟ أيستطيع أن يقاوم فضول عقله أن
يراقب بصمت ما يحيطه؟ خطأ آدم أنه يدعي عظمة شأن لا يدركها بعد حتى وإن
ملكها. ما زال في غيبوبة أن كل المخلوقات تسجد له لأنه أعظمها وأرقاها
وخلقت لأجله، وطال به هذا الهذيان وأعماه بصره الزائف عما وراء سجود
الكل له يومها".
حبست أنفاسي. ها هو يتطرق لما حدث في ذلك اليوم المشهود. واستيقظت في
عروقي كل دمائي الآدمية فجأة. لم أنسَ بعد أنه لم يسجد يومها ولن أسمح
له بالإنكار تحت أي ذريعة.
*** *** ***