من التَّعليم والتَّعلُّم إلى التَّعليم والتَّمييز
أديب
الخوري
في البدء كان الحبُّ، والحبُّ تمخَّض فولِد الفكر
(رج فيدا)
تروج
كثيرًا في الأوساط التَّربويَّة الحديثة عبارة "التَّعلُّم
الذَّاتيُّ"، ويحكى عن الاستعاضة عن التَّعليم على اعتباره وضع
المتعلِّم على طريق إمكانيَّة تعليم نفسه بنفسه، وبالتالي الاستعاضة عن
المدرِّس بالـ "ميسِّر". ويجري شرح الفكرة على النَّحو الآتي: تتغيَّر
المعلومات والمعطيات بسرعةٍ كبيرة، وتتقدَّم العلوم المختلفة بتسارعٍ
لا يمكن اللَّحاق به، ويحدث كثيرًا أن يحصل الطُّلاَّب على معلوماتٍ
حول قضيَّةٍ معيَّنة قبل المدرِّسين أنفسهم، والطُّلاَّب يملكون عادةً
كفاءةً في التَّعامل مع وسائل الاتصالات والبحث عن المعلومات تفوق في
بعض الأحيان كفاءة المدرِّسين أو على الأقلِّ بعض أجيال المدرِّسين.
ومن هذا المنطلق لا تبقى مهمَّة المدرِّس بعد اليوم هي إيصال المعلومة،
بل بالأحرى توجيه الطُّلاَّب نحو الحصول على المعلومات وتدريب الصغار
على التَّعلُّم بأنفسهم، من خلال إعداد برامج معلوماتيَّة و"حقائب
تعليميَّة"، والإشراف على اختيارها واستخدامها من قبل الطلاَّب، وتقويم
تعلُّمهم من خلالها.
يوحي هذا التقديم بمدى الأهميَّة التي تُعطى للمعلومات في حين أنَّ
المعلومات لم تكن في يومٍ من الأيَّام الرُّكن الأساس في التَّعليم
وعلى الخصوص في التَّربية.
الرِّياضيات، على سبيل المثال رياضةٌ للذِّهن، أكثر ممَّا هي، أو على
الأقلِّ إلى جانب كونها، مجموعةً من المعلومات. فالتَّمرين جانبٌ مهمٌّ
في دراسة الرِّياضيات وقد تفوق أهمِّيَّته أهمِّيَّة الوصول إلى
معلومات جديدة تُبنى أساسًا على معلوماتٍ سابقة لا بدَّ من تمثُّلها
انطلاقًا من الكثير من التمرين. ووفق هذه النَّظرة قد يكون ممكنًا
للرِّياضيَّات أن تُمارَس بشكلٍ فعَّال في نادٍ يشبه أندية الرِّياضة
أكثر ممَّا في صفٍّ مدرسيٍّ! لا يتعارض هذا مع أهمِّيَّة الأدوات
التكنولوجية التي يمكن تسخيرها على نحوٍ فعَّالٍ جدًّا هنا، لكنه يوضح
دورًا آخر للمعلِّم الذي سيلعب أكثر دور "المدرِّب" تمامًا كما في
السباحة أو كرة القدم، أمَّا السؤال الذي أعتبره كبير الأهمِّيَّة هنا
فهو التَّالي: هل يمكن لمدرِّبٍ أن ينجح إلا بمقدار ما يحبُّ هو نفسه
المادَّة التي يدرِّبها؟!
أطرح مثالاً من ميدانٍ آخر أيضًا:
يقرأ كثيرٌ من الناس قصيدةً في الرَّثاء، بنفس الطريقة واللَّهجة ونبرة
الصوت، التي يمكن أن يقرؤوا فيها قصيدةً في الغزل على سبيل المثال،
وبنفس الطريقة التي يقرؤون فيها جريدةً يوميَّةً أيضًا.. هذا إن كانوا
من القارئين..
في الماضي كان "فنُّ الإلقاء" من الفنون الهامَّة والجميلة والتي أصبحت
نادرةً اليوم حتى بين مَن كانت مهنتهم القراءة، ومنهم المذيعين
والمذيعات مثلاً. السُّؤال: إذا أردنا استعادة هذا الفنِّ في لغتنا
العربية، إذا أردنا النُّهوض بحسِّ تذوُّق اللُّغة وتذوُّق الأدب
العربي بين النَّاس، فهل تنجدنا التكنولوجيا أكثر أم أنَّ علينا أن
نعيد بناء عددٍ كبيرٍ من المدرِّسين والمدرِّسات، في جميع المراحل،
الذين سيسكبون أسلوبهم واستقلاليَّة شخصيَّاتهم، وأصالة كلِّ واحدٍ
منهم، في جيلٍ جديدٍ من الأبناء وعلى نحوٍ خاصٍّ خلال مرحلة التَّعليم
الأساسيِّ.
أعتقد إذًا أنَّ فكرة التَّعلُّم الذَّاتيِّ في بعدها الأعمق تتعدَّى
الحدود التي تُطرَح ضمنها، على أهمِّيَّة هذه الحدود وجدَّتها. وأعتقد
من جهةٍ أخرى أنَّ الأمر لا يرتبط بالأكثر بتكنولوجيا المعلومات
والاتِّصالات، مع كلِّ ما يمكن أن تقدِّمه هذه التكنولوجيا من فرصٍ
وإمكانيات.
فالطفل الصغير فضوليٌّ بطبعه ومحبٌّ للاكتشاف، ومن هنا يأتي دافع
التَّعلُّم الذَّاتيِّ، وهو مقلِّدٌ ماهرٌ من جهةٍ ثانية، وهذا يمكن أن
يسهم في تحديد مواصفات المدرِّب المطلوب، كما أنَّه قادرٌ، بالدرجة
الثَّالثة، على قضاء ساعاتٍ طويلة في ممارسة ما يهوى دون كللٍ أو ملل،
وهنا تتأكَّد إمكانيَّة هذا التَّعلُّم الذَّاتيِّ بقدر ما ننجح في
الابتعاد عن التَّدخُّل المباشر والتَّوجيه الفظِّ.. فالمطلوب إذًا هو
أن نتيح له فرص الاستكشاف، وأن نضع بين يديه أدوات الممارسة، وأن
نقدِّم له المثال الجيِّد للتقليد. والمثال الجيِّد يكمن باختصار في
محبَّتنا لما نعمل. إنَّ حبَّنا، حبُّ المعلِّم، للعلم والفنِّ والأدب
والرياضة والثَّقافة أساسيٌّ في كلِّ تربية، وهذا هو دوره المزدوج: أن
يبقى في تماسٍ مباشرٍ مع التلميذ، أن يقدِّم حبَّه لمادَّته، قبل
المادَّة نفسها، أمام التلميذ، وليس (أو ربَّما من ثمَّ) من وراء
البرنامج المعلوماتيِّ، وأن يكون مراقبًا جيِّدًا لاستجابة وتفاعل
التلميذ: في استكشافه، وفي ممارسته، وفي تقليده الذي يجسِّد عدواه في
حبِّ المادَّة... ثمَّ أن يشجِّعه في تقدُّمه وألاَّ يجبره حين لا يريد
من تلقاء نفسه أن يتقدَّم.
إنَّ التَّعلُّم الذَّاتيَّ هو ما يقوم به الطفل عفويًّا وعلى نحوٍ
فطريٍّ منذ لحظة ولادته، بل حتى وهو جنينٌ في رحم أمِّه. حتى أنَّه صار
بإمكان الأطباء تحديد الوقت (المرحلة من الحمل) التي يبدأ فيها تفاعله
مع المؤثِّرات الخارجية (سماع الأصوات مثلاً). إنَّ فرض أيِّ نظامٍ
تعليميٍّ، حتى ولو سمَّيناه "التَّعلُّم الذاتيُّ"، هو عمليًّا نوعٌ من
التَّوجيه، من حرف المسار الطبيعيِّ، للتعلُّم الذاتيِّ الحقيقيِّ
لأنَّه الطبيعيُّ. وهنا نتذكَّر مقولة بيير بورديو:
إنَّ كلَّ فعل تربويٍّ هو رمزيًّا نوع من العنف الفكريِّ بوصفه فرضًا
من قِبَل جهةٍ متعسِّفة لتعسُّف ثقافِيٍّ معيَّن.
لا ينسجم التَّعلُّم الذَّاتيُّ على سبيل المثال مع تقويمٍ لا يكون
ذاتيًّا. والتقويم الذَّاتيُّ هو تمامًا ما يحدِّد توجُّه الطفل نحو
موادٍّ بعينها ومع الوقت نحو اختيار فرعٍ أدبيٍّ أو علميٍّ أو فنِّيٍّ
أو رياضيٍّ، وعلى المدى الطويل نحو تخصُّصٍ دون غيره. وبهذا المعنى
تكون مسيرة التَّعلُّم مسار تمييز.
يتفجَّر الماء من الأرض نبعًا، فيشق مجراه ويأخذ طريقه بنفسه. يمكن
بالتَّأكيد، ولكن ضمن شروط، وعند نقاطٍ محدَّدة دون غيرها، تغيير مجرى
النَّهر... لكنه في هذه الحالة لن يبقى النهر نفسه...
ولعلَّ محلِّلاً نفسيًّا ما يخبر معظمنا أنَّ مشاعرنا المزمنة
بالانزعاج أو بالقلق أو بالحزن أو بالعداء... تكمن في أنَّنا لسنا
أنفسنا، وينصحنا بالبحث عن السبب في مفاصل من طفولتنا!
*** *** ***
من كتاب تعليم جديد من أجل عالم مختلف، تأليف أديب
الخوري، معابر للنشر، دمشق، 2015