نبيل المالح:
"الكومبارس" بطلاً
بشار عباس
يخبِّئ
تحت وسادته مجلَّة صور جنسيَّة مع أنَّه في أواخر العشرينيات من العمر،
وما انفكَّ يعيش مع أسرته في منزل واحد، يعمل في محطَّة بنزين، ومن حين
لآخر يعثر على دور "كومبارس" في مسرحية فيؤدِّيه مستعيدًا حلمه القديم
العاثر بأن يغدو ممثِّلاً نجمًا. ماذا يحتاج الجمهور أن يعلم أكثر عن
هذه الشخصيَّة الرئيسة؟ هذا يكفي، فشأنه في ذلك شأن جيل بأكمله من
العمر نفسه. أمَّا حبيبته الأرملة "ندى" والشخصيَّة الداعمة التي سوف
تشاركه في صياغة أيقونة السينما السورية، فإنِّها تعمل في مشغل خياطة،
وتعيش في منزل أخيها المزدحم بالأولاد. أربع دقائق من زمن الفيلم تكفي
لتقديم الشخصيَّتين والتعرُّف عليهما، وللتعرُّف أيضًا على أعضاء
الفريق الذي صنع العمل فتظهر أسماؤهم على الشاشة بالطريقة الفذَّة
التالية: صور فوتوغراف ثابتة بالأبيض والأسود لمدينة دمشق، لحشود يلتقط
من بينها الكاتب والمخرج نبيل المالح شخصيَّتين بطريقة تجلب إلى العمل
المزاج الوثائقي فتزيد من صدقيَّته لدى الجمهور، إنَّ استخدام
الفوتوغراف مع الكاميرا المتحركة المستعرضة لتفاصيله طريقة اشتهرت في
الوثائقيَّات الأميركية إبان الستينيات والسبعينيات، وإنَّها تنجح الآن
في تأسيس بداية للفيلم الروائي: "الكومبارس" إذ يظهر حقيقيًا من الواقع
الصرف؛ فالتعرُّف على الشخصيَّات، ظروفها وعملها وطبقتها الاجتماعية
والتعرُّف على أسماء أعضاء فريق العمل يحدثان معًا في آن، وتكون
البداية الفعلية للفيلم هي لحظة ولوج الشقَّة وبدء الفعل الدرامي. ومنذ
الآن سوف يتطابق الزمن الواقعي مع الزمن السينمائي حتَّى النهاية، في
عمليَّة شاقة وخلَّاقة ومفارقة تلتزم بقانون الوحدات الثلاثة الأرسطي:
الزمان، المكان، والموضوع. إنَّه شرط درامي يصعب على المسرحيين أنفسهم،
فكيف لسينمائي أن يُنجزه؟
صانع "الكومبارس" لا يعنيه هُنا إلا جوهر الفنِّ السابع، قصَّة جيِّدة،
فتمثيل مبهر، ثم كاميرا ترصد ذلك الأداء وتكون خادمة وفيَّة لتعابير
الوجه الإنساني والحركة داخل المشهد؛ أي: لأداء الممثل، لا يعنيه
المبالغة في حركاتها أو مواقعها أو في أحجام اللقطات، وأيضًا لا يستعرض
في الإضاءة، كل شيء من القصَّة ولأجلها، مع النهوض كذلك بالشرط الصعب
التالي: القصَّة تدور أحداثها في مكان واحد، وليس ثمَّة انتقال بين
مكانين مختلفين لإنهاء مشهد وتأسيس مشهد جديد، والزمن نفسه مستمرٌّ دون
انقطاع. إن ذلك يعني، على سبيل الفرض جدلاً، أنَّ الفيلم بأكمله يمكن
أن تكفيه لقطة واحدة مستمرِّة دون انقطاع، تأخذها الكاميرا من زاوية
تُماثل في الارتفاع موقع جمهور مسرحي، وتشتمل على أماكن الأداء: باب
البيت، غرف النوم، المطبخ، الأريكة حيث تردد البطلة "ندا - سمر سامي"
وراء حبيبها "سالم - بسام كوسا": "زوَّجتك نفسي" ثمَّ تسأله: "هل ما
فعلناه شرعي؟" وعندها يقول ما يتطابق مع ثيمة العمل كاملاً. فما هي
الحاجة إذًا أن تكون القصَّة مأخوذة بكاميرا بدل أن تكون على خشبة
مسرح؟ إذا استثنينا الدقائق الأربع الأولى فإنَّ هذه الدراما يُمكن أن
تؤدَّى على الخشبة. إنَّ الإجابة عن هذا التساؤل تقود إلى اكتشاف كيف
أنَّ الكاتب والمخرج مدَّ يده عميقًا في بدن الفن السينمائي، فلمس
عظمه.
المبررات عديدة في أن تكون قصَّة الكومبارس فيلمًا، من أهمِّها
براعة التمثيل أمام الكاميرا، والذي يُعتبر كشفًا إبداعيًا في تاريخ
الكاميرا السورية، سواء كانت سينمائية أو تلفزيونية، فالمخرج بعد فترات
تدريب طويلة مع الممثلين نجح في أن يعرض شخصيَّات تعيش لا تمثِّل،
إنَّه تمثيل يختلف عن التمثيل المسرحي الذي يراعي فيه ممثل الخشبة أن
جمهوره ثابت وبعضه على عشرات الأمتار فيعمد إلى المبالغة، الكاميرا في
الكومبارس والتي هي عين الجمهور موجودة في أماكنها المثالية،
بطريقة تجعل الجمهور يحوم حول الشخصيَّات فيراقبها دون أن ينكشف أمره،
ذلك سواء في اللقطات العريضة أو المتوسِّطة، وحين تتحرَّك الكاميرا فإن
حركتها ثقيلة تجعل الجمهور يعيش تمامًا حالة الاقتراب البطيء واستراق
النظر، ساهم في ذلك المونتاج الرصين؛ ففي مشاهد حوار طويلة يميل
المخرجون عادةً إلى القطع المتكرر بين وجهي الشخصيتين اللتين تتحاوران،
أمَّا هُنا فجاء القطع فقط مع كل تصعيد في الحدث، يكون بداية بين
"سالم" وصديقه "عادل"؛ كل قطع يتطابق مع درجة جديدة لنفاد صبر "سالم"
من تباطؤ صديقه في مغادرة الشقة ليتركه مع حبيبته، ثمَّ يصير بعد إذ أن
تأتي "ندى" ملائمًا لصعود الحالة العاطفية، فهذه المرَّة الأولى التي
يُغلق عليهما بابٌ، فهل نجحا بأن يلوذا من العالم الخارجي؟ إنَّهما بين
عالمين تتداخل حدودهما، وراء باب وجدران، فلن تنجح اللقطة الطويلة
زمنيًا، أو بتعبير آخر اللقطة - المرحلة الشهيرة في الواقعية الإيطالية
الجديدة، لأنَّها اشتُهرت في التصوير الخارجي، كما أن القطع المتناوب
السريع سيعطِّل الاستغراق في جمالية الأداء، هذا ما أدركه المخرج
جيِّدًا، فاختار توقيتًا للقَطْع يكون في زمن متوسِّط بين النموذجين
ففاز بمزاياهما معًا.
فبعد شهور من اللقاء مع "ندى" يظفر "سالم" بهذا المكان، لكنَّه
كالغوَّاصة التي تكاد تنفجر من ثقل ضغط الماء، كل العالم الخارجي ماثل
ويحاول الدخول؛ يكاد يحطِّم عليهما الباب والنوافذ ليقتحم؛ صوت سيارة
الشرطة، صوت الحشد في التظاهرة، العازف الجار، الجار الذي يحاول
الاحتماء به من دورية الأمن، وأخيرًا الصفعة الخاتمة.
في المسرح يكون الهاتف هو الوسيلة الأساسية الأكثر شهرة للوصل مع
العالم الخارجي، أمَّا هُنا فيأتيهما صوت موسيقى الجار الأعمى عازف
العود في حل إبداعي لمعضلة سينمائيَّة رافقت كلَّ فيلم يتضمَّن موسيقى
تصويرية؛ السؤال المطروح على كل الأعمال التي فيها موسيقى مصاحبة: من
أين يأتي الصوت؟ لدينا - مثلاً - مشهد فتاة تتعرَّض للقتل، فمن يعزف
لها تلك الموسيقى المرعبة؟ إن الموسيقى التصويرية في السينما عمومًا
تكاد تقترب من التعليق: نقطة ضعف تنجح بعض الأفلام في تجاوزها عندما
تكون موسيقاها متقنة ملائمة فلا نشعر إلا أنَّها جزء من المشهد، المخرج
اليوغسلافي أمير كوستاريكا كان بارعًا في جعل الموسيقى صادرة عن عازفين
يعيشون كشخصيَّات ضمن عالم الفيلم. لكنَّ موسيقى فيلم كومبارس كانت
أكثر وثاقة بعالمه، آلات نفخية خفيفة الحضور، ثمَّ تختفي لتحلَّ بدلاً
منها تلك التي من داخل عالم الفيلم، هذا "الجار" لم يكن موجودًا فقط
لهذا الغرض، إنَّه شخصيَّة مُستغرقة ومؤثِّرة في الوقائع وفي مصير بطل
الفيلم "سالم"، يزوِّد الشريط ببعض موسيقاه، وأيضًا يتسبَّب لبطله
بصفعة تُساهم في إيجاد نهاية حادَّة ومنطقيَّة للقصَّة. وقبل ذلك،
سيكون الجار العازف مبررًا لظهور شخصيَّة رجل الأمن، كواحد من عناصر
العالم الخارجي، والذي هو بدوره أيضًا مبرر لاستخدام تقنيَّة (الفلاش
فوروورد) عندما يتخيَّل سالم أنَّه يهجم عليه باندفاعة تحطِّم الباب،
يقع ذلك بعد أوَّل لقطة قريبة على وجهه، في خرق لنموذج حجم اللقطات
الذي كان تأسس منذ بدء الفيلم، وكان إلى هذه اللحظة يتناوب بين البعيدة
والمتوسِّطة. هذا الاقتراب المفاجئ من وجهه يشي بأن شيئًا يدور في
خلده، ثم نراه وهو يتخيَّل. وبعد ذلك تتكرَّر اللقطات القريبة، لا
سيَّما بين العاشقين.
سوف يتخيَّل شيئًا آخر عمَّا قليل؛ مع أن "ندى" على وشك الوصول، فإنَّه
يستغرق في حلم يقظة جديد "فلاش فوورود" سيدعم مع السابق سينمائيَّة
القصَّة فذلك ما يعجز عنه المسرح. المخرج يلعب بحرفيَّة عالية على
حافَّة نوعين دراميين لديهما الكثير من العناصر المشتركة، يسيرُ على
حبل مرتفع، فينجح بأن يتجاوزه ببراعة. مراعيًا من أجل ذلك تصميم المنزل
نفسه، فيجعله متوافقًا تمامًا مع مشروعه.
الفسحة أمام الباب، الموزِّع، المطبخ، وغرفة النوم، كلُّها مصمَّمة بما
يخلق أمكنة عديدة متصلة مكانيًا ومنفصلة تصويريًا؛ حلٌّ مشهديٌ لمعضلة
المكان المسرحي المكشوف كلِّه، لم تعد الكاميرا قادرة على أن تأخذ
المنزل من موضع واحد، عليها أن تتحرَّك، ليس حركة جمالية إخراجية تفي
ببراعة النصِّ فقط، بل أيضًا لأن الشخصيَّات تتوارى في أمكنة تستلزم
اللحاق بها.
كان يُمكن للنهاية أن تكون لحظة مغادرة المنزل، لكن مشاهدة "سالم" يخرج
من البناء، ثم بعد ذلك لقطة عريضة تتسع وترتفع مع الشقق والشرفات
المغلقة، ثم ترتفع مع أفق الحي ومدينة دمشق، جاءت لتؤكِّد البداية التي
كانت في الصور الفوتوغرافية وهي الآن في المشهد الختامي؛ إن العدد
اللانهائي من الشقق والأبنية يخفي خلفه عددًا لانهائيًا من قصص مماثلة
لما رأيناه طيلة مئة وخمس دقائق. بقي ربع ساعة إذًا ليأتي "عادل"
وتنتهي المهلة التي أعار فيها شقَّته للسينما السوريَّة لتشهد واحدًا
من أجمل أعمالها وأكثرها أصالة.
*** *** ***
السفير 04.07.2014