قراءة جديدة لقصة أضحية إبراهيم

 

محمد علي عبد الجليل

 

إنَّ القول بأنَّ إبراهيم شخصية تاريخية حقيقية أشبه بالقول بأنَّ "شتربة" في "كليلة ودمنة" شخصية تاريخية حقيقية!

على ضوء قصة "البيضة الذهبية" التي رواها أنتوني دو مِــلُّو في كتابه أغنية الطائر، أوضحنا في مقال سابق بعنوان "كيف نقرأ قصص الأنبياء؟* وجود مستويين على الأقل لقراءة القصص الديني:

1.    القراءة الحَرْفية، وهي قراءة متطرِّفة لا تتجاوزُ حَرْفية القصة، وهذه القراءة الحَرْفية ضربان:

·        قراءة متطرِّفة متقبِّـــلة تَـــتقبَّـــل المعنى الحَرْفي للقصة باعتباره حقيقة، وهي قراءة رجال الدين والمتديِّنين [بالمعنى الدارج لكلمة "متدِّين"]؛

·        وقراءة متطرِّفة رافضة ترفض القصة بأكملها باعتبارها سخافة منافية للمنطق وللخبرة البشرية، وهي وقراءة اللادينيين والملحدين والمؤمنين بعقيدة لا تقبل بهذه القصة؛

2.    القراءة التأويلية باعتبار القصة مَثلًا مضروبًا للعِبرة، أي باعتبارها حكايةً رمزية غير واقعية يجب تأويلها لفهم مغزاها. وقد أشار إلى هذه القراءة الواعية الباحث المصري محمد أحمد خلف الله عام 1947 في رسالة دكتوراه بعنوان الفنّ القصصي في القرآن الكريم رفضها الأزهر.

ومثلما أنَّ حكاية "البيضة الذهبية للإوزَّة" لا علاقة لها دلاليًا لا من قريب ولا من بعيد لا بالبيض ولا بالذهب ولا بالإوز بل بالتحذير من البخل، فإنَّ قصة تضحية إبراهيم (سواء بابنه إسحاق أم بابنه إسماعيل، [القرآن، الصافَّات، 102-107؛ رسالة بولس إلى العبرانيين، 11: 17-18]) لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد لا بإبراهيم ولا بإسحاق ولا بإسماعيل ولا بالكبش، هذا على افتراض وجود هذه الشخصيات تاريخيًا.

فإذا قرأنا حكاية إبراهيم على ضوء قراءة فلاديمير بروب للحكاية الخرافية الروسية وذلك بحسب وظيفة الشخصية السردية (حيث حدَّد سبع دوائر فعلٍ: 1-دائرة فعل البطل، 2-دائرة فعل الشخصية المرغوبة، 3-دائرة فعل المانح 4-دائرة فعل الشرير، 5-دائرة فعل المرسِل، 6-دائرة فعل المساعد، 7-دائرة فعل البطل المزيَّف)، فيمكننا أنْ نعتبرَ:

1)-أنَّ إبراهيم هو البطل؛

2)-وأنَّ ابنه يُـمثِّـــل دورَ الأميرة وأبيها، أي الشخصية المرغوبة (أي يرمز إلى الغرض الذي يشتهيه البطلُ [إبراهيم] ويهدِّده الخصم [الموت])؛

3)-وأنَّ الله هو الواهب (أو المانح) الذي يقدِّم الغرضَ السحري (أو المساعد السحري بحسب غريماس، وهو الكبش) الذي سيساعد البطلَ في التغلب على الخصم الشرير (الذي هو فكرة الذبح أي الموت).

نلاحظ في حكاية إبراهيم:

1)-غياب الشرير (أو الخصم) كشخصية سردية، ولكنَّ فكرة ذبح الابن بحد ذاتها كفكرة مكروهة تحل محل شخصية الشرير أو الخصم؛ وستكون مهمة البطل غير المعلَنة في الحكاية هي تفادي الشر الذي هو ذبح ابنه والقضاء على نسل البطل؛

2)-غياب المرسِل كشخصية سردية وربما يحل محلها رؤيا إبراهيم (اللاوعي الجمعي) التي أخبرَت البطلَ بوجود خطر ودفعَته إلى البحث عن إيجاد حل (وإذْ هو يجده أمامه وهو الكبش كهبة من السماء أو الطبيعة)؛

3)-غياب المساعد كشخصية سردية، وهنا يمكن أن نعتبر أنَّ الكبش يأخذ دور المساعد لأنه يساعد البطلَ إبراهيم في معركته ضد انقراض نسله؛

4)-وكذلك غياب شخصية البطل المزيَّف التي هي غير أساسية بل اختيارية في منهج بروب.

نرى إذًا أنَّ حكاية ذبيح إبراهيم تعكس ما تبقَّى في النفس الجمعية البشرية من ذكرى مرحلة اعتماد الإنسان على الحيوان لإنقاذ جنسه من الانقراض خلال فترات الجفاف التي مرَّت بها على ما يبدو أجزاءٌ من الكرة الأرضية في حقبة سحيقة من الزمن.

فكما يعكسُ تحريمُ لحم الخنزير بقايا أساطيرَ شرقيةٍ قديمةٍ بحسب فراس السواح (حيث إنَّ الخنزير يقتل الإله أو ابن الإله)، فكذلك تعكس أسطورةُ أضحية إبراهيم على الأغلب بقايا ذكريات الخافية الجمعية عن حقبة الجوع والجفاف التي مرت بها مجموعاتٌ من الجنس البشري في مرحلة ما من التاريخ.

فالبطلُ إبراهيم رمزٌ للجنس البشري. وابنُه إسحاق أو إسماعيل رمز للذرية البشرية. و"الذِّبْـــحُ العظيمُ" (الكبش) رمز للحيوانات الطرائد التي وهبتْها الطبيعةُ واعتمدَ عليها الإنسانُ في فترات القحط لكيَ ينجوَ من الانقراض. ورؤيا إبراهيم رمز للخافية الجمعية البشرية. فالكبش كان فداءً لابن إبراهيم، أي أنَّ الحيوان كان فداءً للإنسان. فربما لولاه لانقرض الإنسانُ.

هذه إحدى القراءات الممكنة للحكاية.

كما يمكن تأويل الحكاية على أنها إشارة إلى نهاية تقديم الأضاحي البشرية واستعاضتها بالأضاحي الحيوانية أو على أنها رمز للخضوع للسلطة كفكرة مؤسِّسة للديانات والحكومات.

ولكنَّ قُـــرَّاء هذه الحكاية تحت تأثير مخدِّر العقيدة أو بسبب القراءة الحَرْفية للحكاية أو لأسباب أخرى راحوا يتجادلون مثلًا في اسم الذبيح أهو إسحاق أم إسماعيل (ربما لأسباب تتعلق بمحاولة إثبات الهوية) أو في تأويلها كإشارة لتضحية ما يسمَّى بالرب بابنه المدعو يسوع "المخلِّص" أو كاختبار لإيمان إبراهيم (على اعتباره شخصية حقيقية) أو كإشارة إلى وجوب الأضحية لغفران خطيئة آدم والخلاص من الموت أو غير ذلك. أي أنهم يقرؤون القصة باعتبار أنَّ شخصياتِها وأحداثَها حقيقيةٌ فتفــلِتُ منهم معانٍ كثيرةٌ لشدة تشبُّثهم بالمعنى الحَرْفي.

*** *** ***

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني