البلاغة والإيديولوجيا
بحث في العلاقة الملتبسة بين
المعرفة
البلاغية والمطالب الإيديولوجية
د.
مصطفى الغرافي
لعلَّنا
نتفق جميعًا على أنه لا توجد معرفة بريئة، فالحياد النصيُّ وهم
إيديولوجي والبراءة الفكرية ضرب من المستحيل، ما دام كلُّ خطاب معرفي
يهدف – بالضرورة - إلى تمرير حمولة إيديولوجية. إن الإيديولوجيا ثاوية
في الخطابات جميعها، وليس ثمَّة خطاب – من وجهة النظر هاته - يمكن أن
يعرَّى تمامًا من الإيديولوجيا. في ضوء هذا الفهم سنحاول في هذا البحث
إجلاء العلاقة الملتبسة بين المعرفة البلاغية والمطالب الإيديولوجية.
في تلازم
البلاغي
والإيديولوجي
إن المتتبِّع لنظرية الأدب وتاريخ الأفكار يستطيع أن يستخلص أن ارتباط
البلاغة بالخطابات الإيديولوجية عامة، يمكن أن يرتدَّ إلى السفسطائيين
الذين اشتهر عنهم استخدام "العتاد البلاغي" من أجل استغواء المخاطبين
واستقطابهم[1].
وهذا التلازم بين البلاغي والإيديولوجي ليس منفكًا عن الرغبة في
السيطرة وبسط النفوذ، ذلك أن هاجس السلطة أي سلطة إنما يتمثل
في
تحصيل "الشرعية"، التي تضمن لسلطانها الاستقرار والاستمرار هو مطلب
عزيز ليس يسلم للسلطة إلا بكثير من القوة والعنف، ثم ما تلبث السلطة أن
تدرك – بتوجيه من حدسها الطبيعي وتجربتها الواقعية - أن السلطة لا
تستطيع الاستمرار إذا اقتصرت على القوة والعنف لانتزاع الاعتراف
بشرعيتها، فتتوجه – من ثمَّ - إلى البحث عن أساس مكين يسند استقرارها
ويضمن استمرارها. وليس من سبيل إلى ذلك إلا بتقبُّل الذوات السياسية
تلقائيًا للسلطة ومصادقتهم عليها على سبيل الرضا والموافقة، وليس على
سبيل القهر والإرغام. وهو ما تفطن إليه جاك روسو – أبرز المنظرين
لـ"النظرية التعاقدية" بين الحاكمين والمحكومين، فقد قرَّر في كتابه
العقد الاجتماعي أن
الأقوى
لا يبقى أبدًا على جانب كافٍ من القوة ليكون دائمًا هو السيد إن لم
يحوِّل قوته إلى حقٍّ والطاعة إلى واجب[2].
وبما أن هذا الصنف العميق من الاعتقاد في شرعية السلطة القائمة لا يمكن
تحصيله بالقهر والعنف الماديين، فإنه يصبح "من الضروري اللجوء إلى نوع
آخر من العنف، نوع أكثر لطفًا وتهذيبًا وخفاءً هو "العنف اللفظي" أو
"العنف الرمزي"، وقد ارتبط خطاب السلطة دومًا بسلطة الخطاب، وكلمات
السلطة بسلطة الكلمات، وبهذا المعنى فالبلاغة ليست مجرد حلية ترفيه
جمالية في الخطاب الإيديولوجي، بل هي براعات ذات وظيفة[3].
إن البلاغة واجدة في الإيديولوجيا حقلاً تطبيقيًا خصيبًا للعديد من
سماتها ووظائفها. ومن هنا وجدنا الصلة تنعقد وثيقة بين الايديولوجيا
والبلاغة، إذ الايديولوجيا – في المطلق - ليست سوى مجلى من مجالي
البلاغة. وليس من سبيل إلى تبيُّن أوجه هذه العلاقة من غير تحديد سمات
الممارسة الإيديولوجية. وهو ما نستعين فيه بدراسة لبول ريكور ترصد فيها
أهم الخصائص الواسمة للإيديولوجيا وقد حصرها كما يلي[4]:
1.
الايديولوجيا محرك اجتماعي تنشر الأفكار وتصنع القناعات عبر التحريض
على الفعل وتبريره.
2.
الايديولوجيا منتسبة – في هذا المستوى - إلى ما يسميه ريكور "نظرية
الحافز الاجتماعي". إنها تتحرك لإظهار أن الجماعة التي تجاهر بها هي
محقَّة في أن تكون ماهي عليه. لكن كيف تحافظ الايديولوجيا على
ديناميتها؟ الجواب كامن في سمتها الثالثة:
3.
كلُّ إيديولوجيا هي مبسطة وخطاطية، إنها شبكة لتحديد نظرة شاملة ليس
فقط إلى الجماعة بل وللتاريخ، وفي الحدِّ الأقصى للعالم، وهذا الطابع
المسنَّن للإيديولجيا ملتحم بوظيفتها التبريرية، لكن هذه القدرة على
التغيير مشروطة بتحوُّل الأفكار التي تنشرها إلى آراء ومعتقدات. وفي
هذه الحال تفقد الأفكار صرامتها لتزيد من فعاليتها الاجتماعية. وعلى
هذا النحو يتحوَّل كلُّ شيء إلى إيديولوجيا: الأخلاق، الدين،
الفلسفة... وهذا التحوُّل من نسق فكر إلى نسق اعتقاد هو جوهر الظاهرة
الأيديولوجية. يسمح هذا الملمح (الثالث) بملاحظة الطابع الاعتقادي
للإيديولوجيا، حيث المستوى الابستمولوجي للإيديولوجيا هو مستوى
"الرأي"، مستودع الاعتقاد عند الإغريق، لأجل ذلك فإن الإيديولوجيا
تعبِّر عن نفسها طوعيًا من خلال الأمثال والشعارات والصيغ الموجزة، ومن
ثم فلا شيء أقرب إلى البلاغة - فن الحكمة والإقناع من الإيديولوجيا.
4.
الإيديولجيا تعبير عن مقاصد عملية أكثر منها تعبيرًا عن منازع نظرية،
حيث القانون التأويلي للإيديولوجيا كامن فيما يتعوده الناس، ويؤمنون به
أكثر من تصورات يتحركون نحوها.
5.
الإيديولوجيا مطبوعة بالجمود، ترفض الجديد وتسعى إلى المحافظة على
الأنموذج القائم من خلال صيغة "التمثيل"، وهو ما يجعل الايديولوجيا في
نفس الآن تأويلاً للواقع وحشدًا للممكن، وبهذا المعنى يمكن الحديث عن
"السياج الإيديولوجي" بل "العمى الإيديولوجي".
إن الناظر في سمات الإيديولوجيا كما تحدَّدت عند بول ريكور ليخلص فعلاً
إلى تبيُّن أوجه الصلة الجامعة بين البلاغة من جهة، والممارسات
الإيديولوجية من جهة ثانية. فالبلاغة تتحدَّد أساسًا بوصفها فعالية
خطابية واستدلالية يتوسَّلها المتكلِّم لعرض فكرة أو فرض نظرية، وفي
الحالين تقوم البلاغة سياسة في القول مخصوصة يتلطف منها المتكلم إلى
تحصيل مطلوبه: حمل المخاطب على الإذعان والتسليم بما يلقى إليه من
مضامين وإن لم يعتقد فيها حقيقة قائمة، لأن التعويل في مقامات التخاطب
التي قصدها التأثير إنما يرتكز على سحر البيان وسلطة الكلام، وليس
صحَّة "المعلومة" أو صدق الخطاب. وفي هذا المستوى تظهر الصلة وثيقة بين
العتاد البلاغي والممارسة الإيديولوجية، إذ الخطاب – في المطلق - واقعة
تواصلية تلتبس فيها المقومات البلاغية بالمقاصد الإيديولوجية، فالخطاب
- كلُّ خطاب - متضمن بالضرورة لمقتضى حجاجي واستدلالي، بما هو "رسالة"
صادرة من باثٍّ إلى متقبِّل قد يكون فردًا أو جماعة أو شعبًا أو
الإنسانية جمعاء، الغرض من بثها وإلقائها إيقاع التصديق والحمل على
الاقتناع. وهو مقصد تأثيري وإقناعي يستند – بالتأكيد - إلى تصورات
المجتمع المرتهنة إلى الرأي الشائع والقناعات المشتركة، إذ لا يمكننا
أن نتصوَّر "متكلِّما" يعي ما يقول يمكن أن يتوجه إلى رفض ما أطبق
الناس على الاعتقاد فيه، أو دحض ما أجمعوا على رفضه وإنكاره. وعند هذه
النقطة (الاقتناع استنادًا إلى الرأي الشائع والمشترك) ينفتح المجال
وسعيًا لتلبُّس البلاغي بالإيديولوجي.
سحر البيان: القول سلطان
إن الناظر في علاقة البلاغة بالإيديولوجيا سيلحظ التباسًا وتعقيدًا
يطبعان – من غير شكٍّ - هذه العلاقة، ذلك أن الإيديولوجيا تسخِّر
البلاغة أداة حين تضطلع بدور تبريري ملازم لدورها القيادي – كما نبَّه
على ذلك بول ريكور- وفي هذه الحال لا تعدو البلاغة أن تكون "تقنية" في
يد الإيديولوجيا تصطنعها خدمة للمقاصد. وهي بذلك تمثِّل الجانب
التبريري في الإيديولوجيا، ذلك أن الإيديولوجيات السياسية والاقتصادية
جميعها صيغت بطرق استعارية[5]،
لكن تدقيق النظر في هذه المسألة من شأنه أن يقود الباحث لأن يستخلص أن
البلاغة – من جهة مقابلة - خاصة عندما ترتبط بالمقاصد، كما هي متجسدة
في مباحث الحجاج، عبارة عن خطاب عملي وظيفي وغائي مستند إلى خلفية
إيديولوجية في عرض القناعات والتعبير عن المعتقدات. وبذلك تغدو البلاغة
ضربًا من الإيديولوجيا: تحتجُّ وتبرِّر، تستدلُّ وتسوِّغ لحمل المخاطب
على الإذعان وإن لم يحصل له اقتناع حقيقي، بما يؤشِّر على تغليب لـ
"الغائية" واحتكام لـ"القصدية" في سعي لتحويل "الرأي" إلى "عقيدة".
إن البلاغة بوصفها فن الاقناع بالرأي – كما يعتقد كثيرون- لهي
"الإيديولوجيا" عينها، إنها رؤية للكون وموقف من الوجود متى اعتنقناهما
تحوَّلنا من مجال الإقناع بـ"رأي من آراء" إلى الحمل على الإذعان
لـ"عقيدة" تُفرض فرضًا.
وبهذا الفهم تغدو البلاغة ممارسة خطابية تنقل "البلاغي"، إذ يلتبس
بـ"الإيديولوجي"، من مجال الإمكان والاحتمال إلى مجال البداهة
والمصادرة على المطلوب، لأن "الما صدق" ليس شرطًا في الحجاج الناجح كما
هو مقرَّر
عند علماء الحجاج ومنظِّريه[6].
فالبلاغة كما نصَّ على ذلك التوحيدي:
تحقُّ الحقَّ وتبطل الباطل على ما يجب أن يكون الأمر عليه، ثم تحقيق
الباطل وإبطال الحقِّ لأغراض تأتلف، وأمور لا تخلو أحوال هذه الدنيا
منها من خير وشر وإباء وإذعان وعدل وعدول وكفر وإيمان[7].
ومن هنا كان المتكلم "لا يعدُّ في المجادلين الحذاق حتى يكون، بحسن
بديهته وجودة عارضته وحلاوة منطقه، قادرًا على تصوير الحقِّ في صورة
الباطل، والباطل في صورة الحقِّ"[8].
صحيح أن الحقَّ في المطلق واحد ولكنه في تجلياته العملية نسبي، وفي هذا
المستوى تظهر الحاجة إلى "البلاغة" سياسة في القول مخصوصة، قادرة على
قلب الحقِّ إلى باطل والباطل إلى حقٍّ[9].
ومن الواضح أن الحقائق لا تنقلب في أعيانها ولكن في صورها اقتدارًا من
البليغ وتمهُّرًا في فنون القول وسحر البيان، فكما أن السحر لا يغير من
الواقع شيئًا وإنما الساحر يجري التغيير في عقول المستمعين، كذلك
البليغ يستطيع بما يصطنع من إفصاح بالحجَّة ومبالغة في وضوح الدلالة من
بلوغ أعلى مراتب التأثير العقلي والعاطفي في متلقيه، بما يكفل تحصيل
المتكلِّم لمطلوبه في تكييف عاطفة السامع وتعديل اعتقاده على نحو
يستجيب لمقاصده ومراميه.
المتفاعلات الإيديولوجية في البلاغة العربية:
إذا كنا نستخلص مما سبق تلازم "الإيديولوجي" و"البلاغي" فإن ذلك يدفعنا
إلى التساؤل عن حال البلاغة في السياق العربي: هل ارتهنت هي الأخرى إلى
المقصدية الإيديولوجية في تشييد الأنساق الناظمة لمشاريعها البلاغية
المعتبرة؟ أم أن النظام البلاغي العربي بلور تصوراته بمعزل عن
التأثيرات الإيديولوجية المختلفة؟
يحيل متصور "البلاغة" في السياق العربي على الإبانة والإبلاغ: الإبانة
عن النفس وإبلاغ الرأي والمعتقد، لكن "البليغ"، كما تحدد في نظامنا
النقدي والبلاغي القديم، ليس من برع في الإعراب عما في خاطره، أو أحسن
"الترجمة" عن نفسه فحسب، ولكن "البليغ" حقًا من جمع، إلى ذلك، مقدرة
على استمالة متلقيه، وإقناع مخاطبيه بالأهداف والمقاصد التي إليها قصد
من إنشاء خطابه، مما أطلق عليه في المدوِّنة البلاغية القديمة "سياسة
البلاغة" التي هي أصعب من "البلاغة" فيما يروي الجاحظ عن سهل بن هارون[10].
لقد أسلمنا نظرنا في الموروث البلاغي العربي - في حدود فهمنا وطاقتنا -
إلى تسجيل ملحظ لا يخلو من أهمية مؤدَّاه هيمنة المقصدية الإيديولوجية
على هذا الموروث. وهي هيمنة يمكن تلمُّس بعض مظاهرها في مستويين: يتصل
الأول بـ"بنية الخطاب" ويخصُّ الطريقة المعتمدة عند علمائنا القدامى في
بسط المشاغل البلاغية التي استأثرت باهتمامهم. أما الثاني فمتعلِّق بـ
"فحوى الخطاب" ويهمُّ القضايا التي استأثرت باهتمام علماء البلاغة
العربية المعتبرين.
إن فحص "بنية" الخطاب البلاغي العربي باعتبار "نسق المفاهيم" و"نسق
الغايات" يكشف عن خطاب إيديولوجي صريح من طوابعه توجه سجالي يحاور
الخصوم متحديًا، ويقيم الحجة ويطلبها، بما يجعل الخطاب البلاغي – في
المحصلة - بنية حجاجية إيديولوجية عمادها الدفاع عن ملفوظ إزاء ملفوظات
أخرى. لكن فصل البلاغة العربية عن أنظمة التفكير التي حاطت نشأتها أفضى
إلى تغييب الملمح الإيديولوجي الذي وسم تشغيل المقولات البلاغية في
السياق العربي. يقول محمد مفتاح:
بقيت البلاغة العربية في الدراسات القديمة والحديثة مفصولة عن النظام
الفكري الذي نشأت فيه وترعرعت، فهي وثيقة الصلة بالمنطق والأصول والنحو
وعلم الكلام. وعدم مراعاة التفاعل بين هذه الفروع المعرفية عاق
المصلحين أن يكتشفوا الآليات العميقة التي تحكم النشاط الاستدلالي
اللغوي القائمة عليها تلك الفروع[11].
يترتَّب عن التسليم بأن نشأة البيان العربي كانت في أصلها "كلامية"[12]
نتيجة هامة مؤدَّاها أن
فهم أو تفسير العملية البيانية لابد أن يستند إلى هذه النشأة، ولذلك
فإن حاجة الفهم أو الإصلاح أو التجديد تضطرُّ إلى التحقيق في مسائل
كلامية وأصولية؟، ويترتب عن هذه الملاحظة المهمة أن حديث بعض الأدباء
مفصولاً "يصبح أبتر ناقصًا لأن مناقشته [البيان العربي] الأولى كلامية[13].
فمن المعروف لعموم الدارسين أن العلوم المختلفة المكونة لدوحة البلاغة
العربية الشريفة، (والعلوم العربية عمومًا)، إنما نشأت وتخلقت استجابة
لغاية سامية هي التدبُّر في هندسة العبارة القرآنية "البليغة"،
لاستجلاء مظاهر "الإعجاز" فيها. ومن هذه القضية، الإيديولوجية في أصل
منشأها، والمتخذة كساء معرفيًا في العرض والمناولة، تناسلت معظم
الإشكالات الثقافية والحضارية التي شغلت العقل العربي "البياني"[14]
طويلاً، فالتركيز على قضية الشعر الجاهلي إثباتًا ونفيًا، إنما كان
باعتباره شاهدًا على "الإعجاز" – السراب الذي جرى خلفه الأشاعرة
وتخفَّف منه بعض المعتزلة لقولهم بالصرفة، ولم تكن قضايا مثل اللفظ
والمعنى والفصاحة والبلاغة غير ستار بلوري يحجب صراعات سياسية حزبية،
أو كلامية فلسفية مكتمنة لتناقضات وتعارضات بين المشتغلين في الحقل
البلاغي - وكلهم صاحب نحلة أو منافح عن مذهب - حول فهم العالم وتفسير
قضاياه. وفي ذلك ترجيح للفرضية القائلة إن الخطاب البلاغي العربي كان
"ملكية مشاعة" بين المشتغلين بالحقل الثقافي العربي الإسلامي بشكل عام.
وقد هيمنت عليه – لذلك - المقصدية الإيديولوجية، وهي الفرضية التي بها
نأخذ وعنها نصدر فيما نستقبل من مباحث، انطلاقًا من تصور يرى أن "ما
يسمَّى إيديولوجيا هو شكل من أشكال البلاغة"[15].
نسق المفاهيم:
ننطلق في هذا المطلب من افتراض منهجي مؤدَّاه أن "شبكة المفاهيم"
المكوِّنة لجديلة البلاغة لا تنبثق من فراغ ولكنها تنشأ وتتخلَّق
متشابكة مع المنظومات الفكرية والمشاريع الثقافية التي تتجادل معها
سلبًا أو إيجابًا، فلا أحد ينفي أن البلاغة في التقليد الغربي إنما
تحدَّرت من أصول قضائية وفلسفية بدءًا بالسفسطائيين وأفلاطون وصولاً
إلى أرسطو. والأمر نفسه ينسحب على البلاغة في السياق العربي حيث
تشكَّلت المشاريع البلاغية الكبرى متشابكة مع الإشكالات المعرفية
والثقافية التي كانت تعتمل في قلب المجتمع العربي في الأدب والدين
والسياسة والاجتماع.
من مشكاة المفاهيم البلاغية التي لم تقطع مع المنابت الإيديولوجية التي
حفَّت إنتاجها وتلقيها:
البيان، البديع، الفصاحة:
إذا نظرنا في الخطاب البلاغي العربي من زاوية المفاهيم البلاغية التي
بلور وجدناها تنتظم في نسق أكبر تحكمه مقصدية إيديولوجية واضحة، فليس
ثمَّة شك في أن اختيار المفاهيم وتشغيلها مرتهنان – بالضرورة - إلى
مقاصد إنتاج الخطاب وشروط بنائه، كما أن هذه المقاصد ذاتها ليست مفصولة
عن الإشكالات التي تسود المجتمع في مرحلة محددة من تاريخه السياسي
والثقافي، فتخترق من ثم خطابات معرفية شتى بما فيها الخطاب البلاغي
الذي تفاعلت داخله – في السياق العربي - المفاهيم والمقاصد بطريقة
جدلية وفق منظور ابستيمي، تهيمن عليه قضايا كبرى ثلاثة هي قضية التدوين
وقضية إعجاز القرآن ثم قضية القدامة والحداثة.
فقد
ارتبط مفهوم "البيان" بالصراع بين أصحاب الملل والنحل الذي كان محتدمًا
في دار الإسلام الأمر الذي ولَّد حاجة ملحَّة إلى تملُّك أدوات الحجاج
للإقناع بالمطالب المذهبية كما يمكن أن نستبين من كتاب البيان
والتبيين للجاحظ الذي لم يكن مجرد أديب وناقد وإنما كان قبل هذا
وبعده "متكلِّمًا"، والمتكلِّم، بما هو صاحب مقالة ورئيس نحلة، لا
يعنيه الجانب الفني والجمالي في الخطاب بقدر ما تعنيه فعالية الخطاب
ونجاعته؛ أي الجوانب الاستدلالية في العملية البيانية، ومن هنا كان
"البيان"، عند الجاحظ، منظورًا إليه من زاوية وظيفته العملية
والإنجازية؛ أي القدرة على التأثير في السامع لتعديل موقفه أو سلوكه من
خلال المزاوجة في الخطاب بين الصنعة اللفظية والحجَّة العقلية.
إن عناية الجاحظ بـ "البيان" نابعة من عنايته بوظيفية الخطاب ونجاعته،
حيث المدار على الغايات والمقاصد التي يرسمها المتكلِّم لخطابه، وهو
فهم يسلمنا إلى أن حرص الجاحظ على "البيان" مرتهن إلى الوظيفة العملية
والإنجازية التي ينيطها بالعملية البيانية ككلٍّ، حيث "المتكلِّم" عنده
ناهض بوظيفة "بيانية" و"تبيينية" بطريق كشف قناع المعنى وتوضيحه
للسامع، ومن أجل أن يتحقق "البيان" (= الإفهام) ينيط الجاحظ بالسامع
وظيفة "التبين" (=الفهم) التي تقتضيه التأمل في المعنى من أجل تفهمه،
وهو جهد يجعل السامع شريكًا للمتكلم في الفضل، إذ بدونه لا تتحقق
"المقاصد" التي يهفو إليها المتكلم، ولذلك أولى الجاحظ عناية خاصة
للمستمع – المخاطب الذي أصبح محددًا أساسًا في العملية البيانية،
لأن مدار الأمر على البيان والتبيين، وعلى الإفهام والتفهم، وكلما كان
اللسان أبين كان أحمد، كما أنه كلما كان القلب أشد استبانة كان أحمد،
والمُفهم لك والمُتفهم عنك شريكان في الفضل[16].
إن البيان عند الجاحظ منظورًا إليه من زاوية وظيفته "الكلامية" هو
"سلطة" تقدر "المتكلِّم" على التأثير في السامع لإيقاع التصديق وتحقيق
المقاصد، ذلك أن
مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع إنما هو الفهم
والإفهام، فبأي شيء بلغت الإفهام، وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في
ذلك الموضع[17].
أما مفهوم "البديع" فقد ارتبط بمقاصد إيديولوجية أخرى ولدها صراع
القوميات الطارئ على المجتمع الإسلامي الجديد، الذي استوجب الدفاع
عن"اللسان العربي" أمام التيارات الشعوبية، فقد كانت غاية ابن المعتز
من تأليف كتاب البديع، كما صرح هو نفسه، الرد على دعاوى
الشعوبية الذين زعموا أن البديع صناعة دخيلة اقتبسها المحدثون
(وأغلبهم من الموالي) من بلاغة "يونان". والكتاب بهذا الاعتبار دفاع عن
أصالة البلاغة العربية في وجه منتقصيها وشانئيها من المفتونين بـ
"بلاغة اليونان". وقد بين ابن المعتز غرضه من تأليف الكتاب فأجمله في
"تعريف الناس أن المحدثين لم يسبقوا المتقدمين إلى شيء من أبواب
البديع"[18].
وتلك دعوى تلطَّف ابن المعتز في إثباتها بسوق شواهد من "القرآن واللغة
وأحاديث رسول لله صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة والأعراب وغيرهم
وأشعار المتقدمين من الكلام الذي سمَّاه المحدثون البديع، ليعلم
أن بشارًا ومسلمًا ومن تقيَّلهم وسلك سبيلهم لم يسبقوا إلى هذا الفن،
ولكنه كثر في أشعارهم فعرف في زمانهم حتى سمي بهذا الاسم، فأعرب عنه
ودلَّ عليه"[19].
وبذلك يكون مصطلح "البديع"، الذي اصطفاه ابن المعتز لوصف جماليات
النصِّ الشعري العربي غير مفصول عن ملابسات الصراع بين طريقة القدماء
وطريقة المحدثين، الذي بلغ ذروته في القرن الثالث للهجرة[20]
وطال مجالات الإبداع والسياسة والاعتقاد.
أما زوج الفصاحة والبلاغة فقد توزعته مقصدية إيديولوجية أساس تمثلت في
الدفاع عن الإعجاز القرآني من خلال البحث في "دلائل إعجازه" و"أسرار
بلاغته". فالباقلاني وهو من أبرز علماء البلاغة الإعجازية لم يستطع
تجاوز مقولة "الإعجاز" التي شكلت أسَّا أدار عليه كتابه إعجاز
القرآن؛ فانشغاله بإبراز تميز النص القرآني وتفوقه جعله لا يعتني
من الأنواع الخطابية إلا بتلك التي تقترب في تكوينها البلاغي والأسلوبي
من النص – الأنموذج (القرآن العظيم). ومن هنا كان قبول الأنواع
الخطابية أو رفضها مرتهن، عند الباقلاني، إلى حظها من الفصاحة
والبلاغة، ذلك ما نتبينه من العبارة التالية التي يوردها الباقلاني في
معرض مرافعته عن فكرة تفوق النص القرآني على "الأصول" الثلاثة، التي
قررها من قبل أجناسا خطابية توافرت لها شرائط "القول البليغ":
من كان قد تناهى في معرفة اللسان العربي [...] فليس يخفى عليه إعجاز
القرآن كما يميز جنس الخطب والرسائل والشعر[21].
إن تخصيص هذه الأجناس الثلاثة بالعناية إنما يرتد إلى اشتراكها في
"التعمل" و"الصناعة"، وبذلك يستقيم للباقلاني المقارنة بينها والقرآن
ابتداء، ليخلص – انتهاء - إلى إثبات تفوق النص القرآني على هذه الأنواع
جميعًا في مقاييس الفصاحة والبلاغة.
وإلى ذلك نعثر عند الباقلاني في المواضع التي يختصها بالحديث عن "إعجاز
القرآن" وبلاغته ذكرًا لأقسام الخطاب غير الأصول الثلاثة، إما بشكل
صريح أو ضمني يفهم من صيغ القول التي يستعمل للدلالة على أنواع أدبية
مثل أخبر (الخبر) وضرب (المثل) وذكر (قصة) يوسف...
ومما
يسترعي انتباه الدارس أن أجناس الخطاب في القرآن، فيما يرصد الباقلاني،
وفيرة تتوزع ما بين خبر ومثل وقصة وموعظة... وهي أجناس لم يتضمنها
تقسيم الباقلاني لأجناس الكلام العربي. وهو أمر يمكن أن يرتد إلى
الخلفية الإعجازية التي حكمت هذا الباحث ووجهته لأن يعتبر جميع الأجناس
الخطابية، التي تضمنها القرآن مستحقة للذكر والتنويه، لما حازت من
فصاحة وما انطوت عليه من بلاغة. أما كلام العرب فلم تتوافر شروط
البلاغة إلا لأجناس منه ثلاثة هي الشعر والرسائل والخطب. وقد استحقت،
بمقتضى ذلك، الاعتراف بها أجناسًا أدبية. أما الأصناف الخطابية الأخرى
مثل المحاورات والشعر القصصي فلم تتوافر له هذه الشروط فكان أن أسقطها
الباقلاني من خطاطته التصنيفية.
لقد اعتمد الباقلاني "مقولة الإعجاز" عيارًا في الحكم على حظِّ الأنواع
الأدبية من الفصاحة والبلاغة، الذي يستند إليه في تحديد قيمتها
"الأدبية"، وبالتالي صلاحيتها للتداول من عدمه. وهو إجراء يجليه موقفه
المعلن من جنس "القصة" الذي اتسم بازدواجية واضحة؛ فهذا الجنس يحظى
عنده، من جهة، بالاعتراف والمقبولية عندما يرد في القرآن الكريم إذ
يعتبرها، في هذه الحال، نوعًا من الخطاب ساميًا توافر له من شرائط
البلاغة ما استحق معه أن يدرج ضمن الأنواع الخطابية الأخرى التي
استوعبها النص القرآني مثل الموعظة والمثل والخبر، لكن موقف الباقلاني
من هذا الجنس يختلف تمامًا عندما يرد، من جهة مقابلة، في الشعر، حيث
يكون حظه من البلاغة، في زعمه، منعدمًا. ولذلك توجب إخراجه من دائرة
الأغراض الشعرية المعترف بها مثل المدح والفخر والرثاء...
وقد
عبر الباقلاني عن هذا الموقف الرافض للقصة نوعًا خطابيًا في جنس الشعر
في معرض مفاضلته بين بلاغة السرد القصصي في النص القرآني والنص الشعري،
حيث يقرر أن أي سورة من سور القرآن
تتضمن من القصص ما لو تكلفت العبارة عنها بأضعاف كلماتها لم تستوف ما
استوفته [...] وإن أردت أن تتحقق ما وصفت لك فتأمل شعر من شئت من
الشعراء المفلقين، هل تجد كلامه في المديح والغزل والفخر والهجو يجري
مجرى كلامه في ذكر القصص، إنك لتراه إذا جاء إلى وصف واقعة أو نقل خبر
عامي الكلام سوقي الخطاب، مسترسلاً في أمره متساهلاً في كلامه، عادلاً
عن المألوف من طبعه[22].
وإذا كان من البدهي أن المقصديات الإيديولوجية لا تتنزل في "فراغ"،
وإنما تتنزل في مناخ سياسي وثقافي ترتهن إليه في صوغ المفاهيم وتحديد
الغايات، فإن المناخ السياسي والثقافي الذي احتكمت إليه المشاريع
البلاغية التي أطلقها أصحابها في دار الإسلام، لم تكن سوى حركة التدوين
التي وجهت مختلف المواقف في الفكر العربي ومنه التفكير البلاغي، حتى
إننا إذا قلنا إن المواقف إزاء مختلف الإشكالات تحددت في ضوء حركة
التدوين لم نكن قد بعدنا[23].
المذهب الكلامي:
لقد نصَّ ابن المعتز في كتابه البديع على أن "المذهب الكلامي"
لون من ألوان البديع الخمسة التي رصد مشيرًا إلى أن الجاحظ هو الذي
سمَّاه بهذا الاسم، "وهو مذهب سمَّاه عمرو الجاحظ المذهب الكلامي"[24].
وإذا كان ابن المعتز لا يعين المقصود بـ "المذهب الكلامي"، فإن مراجعة
نصوص الجاحظ المتصلة بقواعد الخطاب الإقناعي تكشف بجلاء ارتباط هذا
المتصور بطريقة المتكلمين العقلية في الاحتجاج والجدل، والاحتيال للعلل
والمعاذير، استمالة للسامع واجتذابًا لإصغائه، ومن ثم إيقاع التصديق في
نفسه. يقول الجاحظ:
ولولا استعمال المعرفة لما كان للمعرفة معنى، كما أنه لولا الاستدلال
بالأدلة لما كان لوضع الأدلة معنى [...] وللعقل في خلال ذلك مجال
وللرأي تقلب. وتنشأ للخواطر أسباب وتتهيأ لصواب الرأي أبواب[25].
ولعله من الدالِّ في هذا الشاهد، مما نحن منه بسبيل، استخدام الجاحظ
لعبارة "استعمال المعرفة"، التي يمكن أن تحمل على مبدأ "العمل بالعلم"،
كما يمكن أن تحمل على القصد إلى "استعمال" المعرفة أداة لتحقيق المقاصد
المذهبية. وهو فرض، إن صح، يؤكد ارتباط "البلاغة" بـ"المذهب الكلامي"
أشد ارتباط وأوثقه، خاصة عندما نلم بتحديدات هذا المقوم البلاغي في
مواضعها من كتب البلاغة العربية، فقد ذكر الخطيب القزويني أن "المذهب
الكلامي هو إيراد حجة المطلوب على طريقة أهل الكلام"[26].
إن الربط الذي يقيم القزويني في الشاهد بين "المذهب الكلامي" و"طريقة
أهل الكلام" ليفيد انشداد هذا المقوم البلاغي إلى المقاصد الإقناعية
والمنازع الأيديولوجية. وهي النتيجة التي خلص إليها شكري المبخوت الذي
أفرد فصلاً من كتابه الاستدلال البلاغي لفحص هذا المفهوم وسمه
بـ"تحليل استدلالي لظاهرة بديعية"، حيث انتهى الباحث من تتبع تعريف
المفهوم وتاريخه إلى أنه
أسلوب من أساليب تركيب القول على نحو مناسب لمقتضى المحاجة؛ فهو يقوم
على علاقة استدلالية تربط بين قول حجة وقول نتيجة تكون في الغالب
ضمنية. والمهم كذلك أنه يدل على أن المقدمة (الحجَّة) موجهة لتغيير
اعتقاد المخاطب بما أنها تقتضي مخاطبًا معاندًا يسعى إلى إلجامه
بـ"الحجَّة الجامعة" (على حد تعبير الزركشي) وهذا السياق التخاطبي
الحواري الذي يشير إليه بعض التعريفات يرسخ المذهب الكلامي في بعده
الخطابي المحاجي[27].
اللفظ والمعنى:
لقد كان الجاحظ ـفيما يبدو أول من دشَّن النقاش في هذه القضية عندما
أعلى من شأن اللفظ على حساب المعنى في نصٍّ له شهير قرَّر فيه أن
المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي،
وإنما الشأن في إقامة الوزن وتمييز اللفظ، وسهولة المخرج، وفي صحة
الطبع، وجودة السبك[28].
وإذا كان الجاحظ المفكر المعتزلي المرموق لا يجد في نفسه حرجًا من
الإعلاء من شأن اللفظ على حساب المعنى، مادام هذا الإعلاء لا يتعارض مع
عقيدته الاعتزالية، فإن غريمه السني ابن قتيبة لم يكن ليسلم بذلك ولو
أراد، تمنعه من ذلك اعتبارات عقدية وتقديرات مذهبية ترى في إجراء
المفاضلة بين اللفظ والمعنى تجاوزًا لمسألة الإعجاز القرآني، التي
تقتضي مراعاة جانب اللفظ والمعنى معًا، ولذلك وجدناه في مقدمة الشعر
والشعراء يساوي بين اللفظ والمعنى[29]
حيث جعل للفظ مزيته هو الآخر في البيان، كما اعترف له بحظه من الفصاحة
والبلاغة. وعلى هذا الأساس قسم الشعر إلى أربعة أضرب[30]:
1.
ما حسن لفظه ومعناه.
2.
ما حسن لفظه دون معناه.
3.
ما حسن معناه دون لفظه.
4.
ما ساء وقبح في لفظه ومعناه.
وبهذا الإجراء في التسوية بين اللفظ والمعنى يكون ابن قتيبة قد ردَّ
على الجاحظ مذهبه في تقديم اللفظ على المعنى، محتكمًا في ذلك إلى
الخلفية الإعجازية التي تجعل "أساس البلاغة" توافق اللفظ والمعنى
وانسجامهما.
يتحصل من هذا التحليل أن السنَّة أرادوا إقامة بلاغة متوافقة مع منهجهم
في فهم أصول العقيدة، ولذلك كان إنتاج هذه البلاغة يتم في تعارض مع
بلاغة أخرى نقيضة هي بلاغة الاعتزال، التي كانت تستند إلى أصول
اعتزالية في فهم قضايا العقيدة والدين. هذا وستخضع قضية اللفظ والمعنى
لتسوية مذهبية في فترة لاحقة ومتطورة من تاريخ الفكر السنِّي ضمن
التسوية التي عرفتها قضية خلق القرآن، التي كانت مثار خلاف حاد بين
السنَّة والاعتزال. وقد حدث ذلك بالضبط عندما أنشيء علم الكلام السنِّي
على يد أبي الحسن الأشعري، الذي صاغ تصوراته الفكرية في ضوء مقررات
الحنابلة بعد ردته الشهيرة عن فكر الاعتزال وانحيازه لعقيدة السنة[31]،
ولا ينبغي أن يعزب عن بالنا أن ابن قتيبة محسوب على الحنابلة[32].
إذا كان تقديم الجاحظ للمعاني على الألفاظ، كما رأينا، لا يتعارض
وعقيدته الاعتزالية التي تقول بخلق القرآن، وهو ما يتيح له أن يجعل،
بمقتضى ذلك، الحروف والصياغة اللفظية بل وحتى المعاني كلها "حادثة"،
فإن الأشاعرة سيجدون في نظرية "الكلام النفسي" رأيًا وسطًا، أسعفهم في
تجاوز الخلاف القائم بين من يجعل القرآن كله قديمًا، ومن يجعله كله
حادثًا، ومؤدَّى نظرية "الكلام النفسي" في العقيدة الأشعرية أن المعاني
(المدلولات) قديمة، لأنها قائمة في ذات الله منذ القدم، أما الألفاظ
(الدوال)؛ أي الحروف المنظومة فحادثة.
نستبين من ذلك أن الاحتدام في النقاش بين السنَّة والاعتزال حول قضية
اللفظ والمعنى في مظهره العام نقدي بلاغي، لكنه في جوهره فكري عقدي،
باعثه المناقشات "الكلامية" التي دمغت الدراسات الإعجازية. ومن هنا رأى
الجابري أن الدراسات الإعجازية هي المسؤولة عن توجيه قضايا البلاغة،
ومنها قضية اللفظ والمعنى وجهة "كلامية"، إذ اعتبر أن
المتكلِّم الذي كان مشغولاً ببيان وجود إعجاز القرآن داخل الدائرة
البيانية ولفائدتها، كان عليه أن يكون على معرفة بالأساليب البلاغية
العربية متذوقًا لها، كما أن البلاغي والناقد الأدبي الذي كان مهتمًا
بتحليل مظاهر البلاغة وآلياتها في الخطاب العربي، كان عليه أن يعتمد
القرآن كسلطة مرجعية[...] ومن هنا اتجهت المناقشات الكلامية في موضوع
اللفظ والمعنى اتجاهًا بلاغيًا، واتجهت المناقشات البلاغية في الموضوع
نفسه اتجاهًا كلاميًا. والتتيجة اصطباغ البحث البلاغي العربي بالصبغة
الكلامية[33].
نسق الغايات:
لما كانت المفاهيم غير مفصولة عندنا عن طريقة إجرائها وتشغيلها، فإن
ذلك يقتضينا في هذا المقام التنبيه على أن فصلنا في هذا البحث بين "نسق
المفاهيم" و"نسق الغايات" إنما هو فصل إجرائي فرضته بواعث منهجية محض،
وإلا فإن النسقين معا يتفاعلان بطريقة جدلية تلازمية، حيث اختيار
المفاهيم مرتهن بالضرورة إلى الشرائط التي يفرضها إنتاج الخطاب
والمقاصد التي يروم بلوغها.
البلاغة الإعجازية:
لقد صدرت "القراءات" البلاغية الإعجازية عن قصدية إيديولوجية صريحة
أساسها اعتقاد غير مشروط في تفوق أسلوب القرآن على سائر الإبداعات
اللفظية التي أنتجها "العربي". وقد راح المنظِّرون لبلاغة الإعجاز
انطلاقًا من هذا المعتقد الشريف يستقصون مواطن الإعجاز البلاغي، ومواضع
التفوق الأسلوبي في خطاب النصِّ القرآني بطريق مقابلته بجنس أدبي عتيد
هو "الشعر"، الذي ملك على البلاغيين العرب مشاعرهم فلم يستطيعوا الفكاك
من بلاغته وسحره، حتى وهم يستشرفون نصًا "كريمًا" اعتبر قمة في "دلائل
الإعجاز" و"أسرار البلاغة"[34].
ذلك ما يستشعره قارئ أهم مصنِّف بلاغي هو دلائل الإعجاز المعتبر
غرَّة كتب البلاغة العربية، فقد بسط عبد القاهر الجرجاني الأشعري
المذهب في هذا الكتاب نظريته في "النظم"، التي جاءت جوابًا حجاجيًا –
إيديولوجيًا على أسئلة الإعجاز القرآني التي كانت موضوع مناظرة ومحل
منازعة بين أبناء العصر، حيث يحاور عبد القاهر - صراحة وضمنًا - أصحاب
النظرة الاعتزالية مثل الجاحظ والجبائي والقاضي عبد الجبار، بل وأصحاب
فكرة الصرفة مثل ابن سنان الخفاجي ليطرح – في النهاية - مفهوما للإعجاز
البلاغي يتساوق ومقصدية المؤلف المرتهنة إلى مقررات المذهب الأشعري،
الذي يصدر عنه "تلقِّي" عبد القاهر لنصِّ القرآن العظيم. وهذه المقررات
المذهبية نفسها التي وجهت عبد القاهر إلى بلورة نظريته في "النظم" التي
تجعل "الإعجاز" مختزلاً في "التعليق" بما هو علاقة بين معاني الألفاظ.
وبالجملة فإن القراءة الفاحصة لـ"دلائل الإعجاز" تكشف عن صراع أصولي
عميق اتصل بين عبد القاهر الأشعري وخصومه من المعتزلة، فجاء الكتاب –
لذلك - مطبوعًا بنبرة سجالية وحجاجية ظاهرة. وهو ما لحظه أحد الدارسين
المعاصرين في سياق بحثه "الأصول الفكرية للبلاغة وإعجاز القرآن" فكتب
يقول:
إن أثر الخصومة غالب على "دلائل الإعجاز" إلى حدٍّ يمكن معه أن يقال
عنه إنه مناظرة حادَّة في النظم وإعجاز القرآن، اتصلت من بداية الكتاب
إلى نهايته مع أولئك الذين جرى مؤلفه على نعتهم "بأنصار اللفظ[35].
إن صدور البلاغة الإعجازية عن مبدأ الأفضلية، وهو مبدأ إيديولوجي محض،
هو المسؤول – في تقديرنا - عن توجهها السجالي والاحتجاجي في مستوى بنية
الخطاب رغبة في تحقيق الاقناع والإذعان، مدخل أصحابها إلى ذلك إثبات
التشابه بين القرآن وكلام العرب في مرحلة أولى، حتى إذا استقام لهم ذلك
توجهوا، في خطوة ثانية، إلى إثبات إعجاز القرآن، وبالتالي أفضلية
أسلوبه على الإبداعات اللفظية "البليغة" التي أنتجها "العربي" وعلى
رأسها جنس الشعر. ولعل هذا أن يفسِّر لنا ذلك التوجُّه في الدرس
البلاغي الإعجازي إلى المقارنة بين القرآن والشعر لإثبات أفضلية
التعبير القرآني على ما يناظره في أشعار العرب، فقد وجدنا عبد القاهر
الجرجاني يلوذ في دلائل الإعجاز - وهو الكتاب المرصود لبحث
بلاغة القرآن - بجمالية الأسلوب الشعري، لإثبات تفوق الأسلوب القرآني
مما دعاه أحد الدارسين المعاصرين "القراءة بالمماثلة"[36].
وهي الغاية نفسها التي وجهت الباقلاني إلى عقد تلك المقارنة الشهيرة في
كتابه إعجاز القرآن بين القرآن وقصيدة
معدودة
في عيون الشعر العربي هي معلَّقة امرئ القيس الذائعة الصيت، فقد كان
الغرض من المقارنة – بالأساس - بيان تهافت القصيدة لإثبات تفوق البلاغة
القرآنية.
القدامة
والحداثة:
لم تكن قضية الإعجاز الوجه الإيديولوجي الأوحد للخطاب البلاغي العربي.
إذ نجد مشاغل أخرى في نظامنا البلاغي اصطبغت بالصبغة الإيديولوجية
معلنة حينًا ومضمرة أخرى، وفي مقدمة هذه المشاغل تأتي قضية القدامة
والحداثة. يقول عبد الله بن المعتز في مقدمة كتابه البديع:
قد قدمنا في أبواب كتابنا هذا بعض ما وجدنا في القرآن واللغة وأحاديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة والأعراب وغيرهم، وأشعار
المتقدمين من الكلام الذي سمَّاه المحدثون البديع، ليعلم أن بشارًا
ومسلمًا وأبا نواس ومن تقيَّلهم وسلك سبيلهم لم يسبقوا إلى هذا الفنِّ
ولكنه كثر في أشعارهم فعرف في زمانهم حتى سمي بهذا الاسم، فأعرب عنه
ودلَّ عليه، ثم إن حبيب بن أوس الطائي من بعدهم شغف به حتى غلب عليه،
وتفرع فيه وأكثر منه، فأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض، وتلك عقبى
الإفراط وثمرة الإسراف[37].
ويقول
أبو هلال العسكري في "الصناعتين:
فهذه أنواع البديع التي ادَّعى من لا روِّية له، ولا رواية عنده أن
المحدثين ابتكروها، وأن القدماء لم يعرفوها، وذلك لما أراد أن يفخم أمر
المحدثين[38].
يثير هذان الشاهدان، كما لا يخفى على من شدا شيئًا من علوم البلاغة
العربية، قضية حجاجية كبرى متصلة بالصراع بين أنصار القديم وأنصار
المحدث، وهي قضية لا يمكن تجاهل خلفياتها الإيديولوجية، فهي إن اتخذت –
في مستوى المعلن - صورة الصراع بين القدماء والمحدثين، فقد كانت تحجب –
في مستوى المضمر - تعارضات إيديولوجية تمثلت في الصراع الطاحن بين
الموالي والعرب أحيانًا، وبين تيار التقليد والتجديد في المجتمع العربي
أحيانًا أخرى، بما يفيد أن الموجه الأساس لهذه المشاغل البلاغية إنما
كان الداعي الإيديولوجي، وليس الهاجس النقدي أو البلاغي، فقد كان
الاختلاف حول قيم الحداثة والتقليد خاصة وسمت شتى قطاعات المعرفة
الشائعة في دار الإسلام في هذه المرحلة التاريخية من فلسفة ودين وشعر
ونقد، لأن القضية مرتبطة – في أساسها - بتحول اجتماعي وحضاري فرض على
الأطراف المتصارعة اتخاذ موقف محدد، معلن أو مضمر، إزاء القضايا
الحاسمة والمصيرية التي كانت تواجه "الأمة". وقد كان بدهيًا أن ترتهن
المواقف - في هذه الحال - إلى الزاوية الإيديولوجية. ومن هنا ألفينا
ابن المعتز يستقصي فنون البديع إلى جانب الشعر في القرآن واللغة
وأحاديث الرسول (ص) وكلام الصحابة والأعراب رغم إحساسه بأن صور البديع
خاصة بالشعر كما صرح في كتابه البديع موضوع لفنون من الشعر
يذكرها الشعراء ونقاد المتأدبين منهم فأما العلماء باللغة والشعر
القديم فلا يعرفون هذا الاسم[39].
إن بحث ابن المعتز عن "أصول" لفن البديع و"جذور" في التربة المحلية
للتراث البياني العربي الخالص، إنما يجد تفسيره في السياقات التي كان
كتاب ابن المعتز يشتبك معها في حومة الصراع الاجتماعي والاعتقادي، الذي
بلغ ذروته في القرن الثالث للهجرة. وهي سياقات تصل الجانب الاجتماعي
للشعوبية، بالجانب الاعتقادي للزنادقة من الأدباء المحدثين. ولعل هذا
أن يفسر لنا تلك النزعة الدفاعية والتبريرية التي وسمت كتاب ابن
المعتز. لقد أصبحت جدة البديع قرينة لـ "شبهة" الاتصال الفكري
والأدبي بثقافة "الآخر" غير العربي، الذي يحاول فرض أنموذج حياتي من
منظور اجتماعي شعوبي. وهو ما جعل البديع الذي ارتبط بـ"الموالي"
قرينة انقطاع عن المتصل الديني والأدبي، ومن هنا وجدنا الجاحظ يعلن، في
حماسة دفاعه عن "العروبة"، أن "البديع مقصور على العرب ومن أجله فاقت
لغتهم كل لغة، وأربت على كل لسان"[40].
إن هذه النبرة الدفاعية عن العروبة واشية بالمقصدية الإيديولوجية التي
وسمت الخطاب البلاغي العربي، الذي لم يستطع فصل متصوَّراته البلاغية عن
المقاصد الإيديولوجية كما أكَّد محمد النويري الذي انتهى في خاتمة
أطروحته عن "علم الكلام والنظرية البلاغية عند العرب" إلى تبيُّن عمق
العلاقة القائمة بين النسقين: الكلامي والبلاغي. يقول:
... لقد أمكن لنا أن نتبين إلى أي حد كانت المفاهيم البلاغية وأنحاء
إجرائها محملة بهواجس العقيدة، فهي التي توجه الفكرة وترسم آفاقها حتى
بدا لنا أحيانًا أن القاعدة البلاغية لم تنشأ إلا بغية فكِّ الإشكال
العقدي[41].
حدود التأويل: مغامرة العقل وضوابط النقل:
إذا كان السنَّة والاعتزال قد توافقوا على اصطناع "التأويل" أداة
لتوضيح "المشكل" وتفسير "المتشابه"، فإنهم تباينوا بعد في "المحتكمات"
التي وجهت التأويل عند كل فريق، فقد احتكم المعتزلة إلى الدليل العقلي
في تأول ما أشكل من الآي[42].
أما السنة فكان احتكامهم، في الأعمِّ الأغلب، إلى الدليل النقلي، حيث
حملوا النصوص على ظاهرها ودعموا تأويلاتهم بالمرويات المأثورة. وهو ما
جعل فهمهم للقرآن أقرب لوجدان المسلم العادي من التأويلات "المتعقِّلة"
التي أنتجها أصحاب الاعتزال، لأنها "أجدت على الحاسة الدينية أكثر مما
أغنى التأويل المجازي الحاد عند العقليين"[43].
وإن كان تدقيق النظر في هذه المسألة يسلِّمنا إلى أن المنهجية
التأويلية عند الفريقين مرتهنة إلى نفس الضوابط والأصول، وإن اختلفت
السبل بالفريقين بعد، فقد تحدد "التأويل" في الثقافة العربية الإسلامية
ضرورة عملية يفرضها تطور الواقع وتعدد المجتمعات الإسلامية واختلافها.
وهو وضع استتبع فتح النصِّ أمام "فعل القراءة"، بما يفيد التسليم بداهة
بتعدد القراءات التي يمكن أن تتعاقب على النصِّ تبعًا للكفايات التي
يتملكها "المؤوِّل" والمقاصد التي يوجه إليها تأويله. يقول محمد
النويري:
إن متشابه القرآن ومشكل الحديث كانا من الأسباب التي حملت المتكلمين من
مختلف الفرق على أن يجدوا مخرجًا يخلص المقالة العقدية من المزالق التي
يمكن أن تسقط فيها، فكان "المجاز" الإطار النظري والمنهج العملي الكفيل
بأن يجنِّب المعتقد هوى الإشراك والتشبيه والتجسيد. وهكذا أصبح القول
بالمجاز بالنسبة إلى المعتزلة والسنَّة على حد سواء جزءا من الإيمان
وخطوة في طريق النجاة[44].
وإذا كان التأويل عند أهل السنَّة مستندًا إلى "النقل" وعند المعتزلة
خاضعًا لـ"العقل" فإن الممارسة التأويلية، في الحالين، "استنباط" يعتمد
"الدراية" أو "الرأي" ما دام النشاط التأويلي عودة إلى أصل الشيء
لاكتشاف دلالته ومغزاه. إذ "حقيقة قولنا "أوَّلت وتأوَّلت" أنك تطلب.
والمآل المرجع"[45].
إن التأويل، في المحصلة، سواء اعتمد "الرواية" أو "الدراية" حركة ذهنية
موجهة بالعقل والرأي، إذ "يظل عقل القارئ أو المؤوِّل ذا دور أساسي في
حركة التأويل"[46].
وإذن، لا غنى عن التفكر وإعمال الذهن في كل نشاط تأويلي بحثًا عن
التعليلات والتخريجات في المواضع "المشكلة" حتى وإن اعتمد الرواية
والنقل، وعلى هذا الصعيد تلتقي الممارسة التأويلية التي كان ينهج
المعتزلة بتلك التي كان يترسم خصومهم من السنَّة.
لعل من طريف النتائج التي يمكن للباحث أن يستصفي من إمعان النظر في
المدونتين السنِّية (نموذج ابن قتيبة) والمعتزلية (نموذج الجاحظ)
ارتهانهما، رغم اتصال الخصومة بين صاحبيها، وهنا المفارقة، إلى نفس
المبادئ الموجهة للتفكير والنظر: الحدُّ من سلطة العقل مقابل سلطة
النصِّ الذي يكتمن في هذا السياق دلالات سيميائية موسعة (نصُّ الدين
والأدب والطبيعة والمجتمع).
فإذا كان ابن قتيبة الفقيه السني موسومًا بـ"المحافظة" و"التقليد"
لصدوره عن عقلية "نقلية" معتصمة بنصوص تعكف عليها تدبرًا وتأويلاً
للاستدلال بها على حكمة الصانع واستخلاص "رسائله" إلى الخلق كما يمكن
نستبين من "قراءة" ابن قتيبة للمتن المجازي في القرآن العظيم والحديث
الشريف، القراءة التي بسطها في كتابيه تأويل مشكل القرآن وتأويل
مختلف الحديث المثقلين بهموم اعتقادية واضحة. حيث يبدو ابن قتيبة
في الكتابين معًا جانحًا إلى حمل النصِّ الديني على الظاهر إذ يجوز
المعنى الحرفي عادلاً عن تفصيل القول فيه: "ونحن نسلم للحديث ونحمل
الكتاب على ظاهره"[47].
فإن اجتهادات خصيمه الجاحظ المفكر المعتزلي الأشهر لم تكن بعيدة، كما
قد يتوهم، عن هذه الطريقة في التفكير، وإن كان من اختلاف بين
الممارستين السنِّية والاعتزالية فهو ضئيل لا يمسُّ جوهر الفكر ومبادئه
المرسمة، عند الفريقين، أصولاً في النظر والتفكير. إذ "من المعلوم
الثابت، كما استخلص فرج بن رمضان، أن عقلانية الجاحظ إيمانية دينية من
جهة، بيانية بالمعنى الجاحظي نفسه للبيان من جهة أخرى، وأنها بحكم هذه
الصفة وتلك فإنها [...] حدت من مجالات تدخل العقل وطرائق اشتغاله في
شتى مجالات الفكر الديني والسياسي والاجتماعي وغيرها، ومن ثم فإن العقل
الذي أريد له على أن يكون مرجعًا وحكمًا [...] محكوم بمرجعية هي: الحق
الذي أمر الله تعالى به ورغب فيه وحثَّ عليه، وبفعل هذه المرجعية
نفسها، وبحكم ما حدَّت للعقل من حدود وما وضعت له من أدوار، اختزل
العقل في مجرد كونها أداة للاستدلال والحجاج دفاعًا وهجومًا، في طلب
هدف استراتيجي واضح: تبيين الحقيقة المسلم بها مسبقًا من طريق الإيمان،
عبر الافتنان في قراءة شتى العلامات والآيات وشتى النصوص، وخاصة منها
نصُّ الدين ونصُّ الطبيعة (الحيوان) ونصُّ المجتمع الإنساني"[48].
لقد تم اختزال العقل في الممارسة الاعتزالية إلى مجرد "أداة" تقرأ
النصَّ الديني وغير الديني قراءة بيانية لتبين "الحكمة" وتبيينها، لأن
الحقيقة محددة سلفًا ومعلومة مسبقًا. وهو وضع اقتضى أن ينحصر دور العقل
في الدلالة عليها والحجاج دونها[49].
وعلى هذا الصعيد يلتقي التصوُّر الاعتزالي بتصوُّر خصومهم من السنة حيث
العقل، بهذا الفهم، لا يختلف عن الفهم السنِّي عن "اللفظ" الذي يوصل
إلى المعنى إلا في الدرجة، ما دامت الحقيقة معلومة، في الممارستين
السنِّية والاعتزالية مسبقًا ومسلَّمًا بها سلفًا، فهي ثاوية في
"النصِّ" بمعناه السيميائي الواسع، وليس العقل سوى وسيلة من وسائل عدة
(مثل اللفظ) يمكن من القبض على "المعنى" والدلالة على "الحكمة" عبر
إخراجهما من الغيب إلى الشهادة ومن الغياب إلى الحضور.
إن عقلانية الجاحظ لما كانت إيمانية دينية وبيانية، كما نبَّه فرج بن
رمضان، فقد شكَّل هذا الملمح في تفكيره باعثًا لتقارب جلي بين أطروحاته
الاعتزالية ومقررات أهل السنة النازعة إلى النقل والتقليد. ذلك أن
المعرفة ليست نتاج التعقل وإعمال النظر، كما زعم الجاحظ، ولكنها، عند
التحقيق، أداة لنصرة الدين ودعم المذهب ما دام المعنى، عنده، موجودًا
ومحددًا سلفًا، ودور العقل، في هذا الحال، لا يزيد عن استبانة "الحكمة"
تأكيدًا للشرع وتعضيدًا للعقيدة، وبذلك "يكون الجاحظ قد استند إلى
الشرع في استخلاص المعرفة وفوقه على العقل من حيث أراد تفويق العقل
عليه"[50].
وإذن، المدلولات محددة سلفًا ومفضية إلى نفس المعنى: إظهار "الحكمة".
فماذا يبقى للمفكر سنِّيًا كان أو معتزليًا؟
لا نظن أن يبقى له، والحال ما وصفنا، سوى تسخير "العقل" لاستخلاص
"الحكمة" واستنباط "المعرفة" المتجسدتين في: توحيد المدلولات تحقيقًا
لـ"المعنى الأكبر" (الاستدلال على حكمة الخالق). وهو معنى جاهز ومحدد
ومعلوم سلفًا.
إن كلا الذهنيتين، السنية والاعتزالية، ذهنية دينية، في الأساس،
إيمانية وبيانية وجهتها، وإن تفرقت السبل، واحدة: عقلنة الكون باستنباط
"الحكمة" اعتمادًا على الشرع (النقل)، وليس "العقل" سوى "أداة" وظيفتها
الأساس استخلاص "المعنى" وتحقيق "الدلالة" بما يظهر "الحكمة" ويجنِّب
العالم "اللا معنى".
يتحصل مما تقدم أن السنة والمعتزلة ملتقيان، رغم اتصال الخصومة، في
العقيدة والمنهج: كلاهما معتقد في الكون مجلى لـ"الحكمة" وموضعًا
لـ"الاستبانة"، ولا سبيل إلى تحصيل ذلك ما لم تتساند المعرفة الشرعية
والمعرفة العقلية بما يفيد ارتفاع التعارض الظاهري بين العقل والنقل -
الثنائية الشهيرة في تاريخ الفكر الإسلامي. لأن التكليف الشرعي
والتكليف العقلي ينتهيان، في المحصلة، إلى نفس النتيجة كما نفطن إلى
ذلك نصر حامد أبو زيد عندما قرَّر أنه:
إذا كان [...] أهل السنة والجماعة يخالفون المعتزلة والفلاسفة في
الترتيب المعرفي فيقدمون النقل على العقل، ويقدمون التكليف الشرعي على
التكليف العقلي، فإن هذا الخلاف رغم أهميته من حيث مغزاه الاجتماعي
والفكري لم يؤدِّ إلى تغاير في نظرة الجميع إلى اللغة، التي هي أساس
التكليف الشرعي وأداته، بوصفها نظامًا دالاً في النسق المعرفي يرتبط
بغيره من الأنظمة الدالَّة ولا ينفصل عنها، هكذا أكَّد المعتزلة الحاجة
إلى الشرع على أساس أن الشريعة تشير إلى "مقدرات الأحكام ومؤقتات
الطاعات التي لا يتطرق إليها عقل ولا يهتدي إليها فكر" (الشهرستاني،
الملل والنحل 1/81) ولا تعارض في النهاية بين العقل والنقل، أو بين
المعرفة العقلية والمعرفة الشرعية، إذ ليس في القرآن إلا ما يوافق
العقل[51].
نستطيع أن نستخلص مما سلف أن "البلاغة" ارتبطت في نشأتها بالصراع بين
الفرق الكلامية والأحزاب السياسية. فاصطبغت، لذلك، بألوان أيديولوجية
ظاهرة كان من نتائجه ما حدث في الثقافة العربية من وصل بين دلالة
البلاغة والإقناع، حتى غدا "فن الإقناع" حدًا لها وعلامة عليها، نتيجة
بدهية لارتباطها بالجدل السياسي والاعتقادي. ومن هنا نظر للبلاغة
بوصفها فعالية حجاجية وإقناعية يقتدر بها على تحقيق المقاصد فأنيطت
بها، من ثم، وظائف أيديولوجية تتصل بإيقاع التصديق في نفوس المتقبلين
ابتداء وحملهم، استتباعًا، على الاستجابة للمقاصد التي يصدر عنها منجزو
الخطاب. يوكِّد ذلك ويدعمه التلازم المشهود بين "البلاغة" و"السلطة"،
فالعلاقة بين السيطرة سياسية أو دينية وفن البلاغة ثابتة معلومة منذ
القدم، حيث البلاغة كافلة الإقناع. وإذا تحقق الإقناع أمكن التحكم في
المخاطب وتوجيهه وفق إرادة "البليغ". لكن متى تتحول البلاغة إلى
إيديولوجيا؟
تصبح "البلاغة" إيديولوجيا عندما تتحول إلى أداة لخدمة غرض أو تحقيق
مقصد فتسقط، بذلك، في "التبرير الإيديولوجي". ويتخذ التحوُّل من
"البلاغي" إلى "الأيديولوجي" صورًا عدة جميعها متَّصل بمنطق التبرير من
أجل حيازة "السلطة" مادية كانت أو رمزية. ويحدث ذلك عندما يلوذ أصحاب
السلطة والسلطان بسحر البلاغة من أجل المحافظة على الوضع القائم بطريق
الترويج للأفكار السائدة، التي تقدم للمتقبلين بوصفها أفكارًا شمولية
وشبه كونية، فتغدو المصالح الخاصة لفئة اجتماعية مسيطرة، وهي أقلية،
مصالح عامة. كما يمكن لـ"البلاغة" أن تتلبَّس أردية إيديولوجية عندما
يسخِّرها تيار فكري، أو جماعة دينية لخدمة أغراض مذهبية بما يبرر
مشروعيتها ويسوِّغ سيطرتها الفكرية أو الاعتقادية. وإذن، ترتبط
"البلاغة" بالإيديولوجيا عندما تنـزع إلى التبرير الذي يرافق كل سلطة.
ومن هنا كان التلازم بين "البلاغة" والسلطة سمة ثابتة في مختلف المحطات
التي مرَّ بها هذا العلم العتيق، سواء في التقليد العربي أو غيره من
التقاليد البلاغية العريقة (اليونان والرومان)، كما يوضح ذلك ويجليه
تاريخ الأفكار من وجهة نظر سوسيولوجيا الثقافة التي تبرز، فيما يستخلص
بول ريكور، أن
كلَّ المجتمعات بدون استثناء تعمل بواسطة معايير وقواعد، وشبكة من
الرموز الاجتماعية، التي تصنع بدورها بلاغتها وتلتمس بيانها من الخطاب
(السياسي) العمومي. وبالفعل كيف يتمكَّن هذا الخطاب من تحقيق هدفه، من
إقناع الأفراد والتأثير فيهم؟ إن ذلك يتم بواسطة الاستعمال الدائم
لمختلف أشكال التعبير المجازي كالاستعارة والنقد الساخر والإيهام
والمفارقة والمبالغة. وهي ذاتها الأشكال الأسلوبية السائدة داخل النقد
الأدبي والمعهودة في بلاغة الخطابة اليونانية والرومانية القديمة[52].
*** *** ***