عن رحلة غونتر
غراس إلى اليمن
نجم والي
كُتب
وقيل الكثير بمناسبة رحيل صاحب النوبل غونتر غراس. إنها أيضًا فرصة
بالنسبة لي للحديث، للمرة الأولى، عن رحلتنا إلى اليمن في ديسمبر/كانون
الأول 2002، وما دار فيها من نقاشات.
سيزيف هو الاسم الذي يأتي غالبًا على لسانه، فهو ومنذ بداية حياته
الأدبية، أدرك أن على الكاتب في مجمل عمله الإبداعي، كتابة وسلوكًا،
ألا يسلم فقط بقبول مصيره برفع هذه الصخرة إلى قمة الجبل التي تتدحرج
دائمًا منه، إنما عليه قبل كل شيء مواجهة هذا القدر بشجاعة ومسؤولية،
وألا يشتكي دائمًا، ويلعب دور الضحية، باختصار: عليه أن يكون سعيدًا
بهذه المهمة. الكتابة مهنة خطرة، تكسر المحرمات، ومن لا يملك الشجاعة
بعبور الحدود جميعًا، عليه أن يختار مهنة أخرى: "أن يكون حلاقًا أو
قصَّابًا مثلاً!".
تلك الجملة التي سبق وأن قالها غونتر غراس في أكثر من مناسبة في
ألمانيا، والتي طبقها في كتاباته، في روايته الأولى طبل الصفيح
(1959) والقط والفأر (1961) وأيام الجوع (1963)، أي ما
عُرفت بثلاثية دانتزيغ، والتي غلبت عليها جمالية الفن الروائي والصنعة
إضافة إلى صدمة المضمون، أو في رواياته اللاحقة اللقاء في تيلكتي
(1979)، الفأرة (1986)، حقل واسع (1995)، (وهي الرواية
التي ظهر شيخ النقاد الألمان مارسيل رايش رانيكي يمزقها غضبًا على غلاف
مجلة دير شبيغل الألمانية)، مشية السرطان (2002)، روايات أفكار
حقيقة، روايات مملة غلبت عليها الدعاية السياسية والبروباغندا، خلت من
كل ما له علاقة بجماليات الفن الروائي، لا يستطيع المرء إكمال قراءتها،
الأمر نفسه ينطبق على أشعاره، الأولى تميزت بفنيتها العالية، والمتأخرة
اقتربت من تصفيف كلام فارغ لا أكثر ولا أقل.
تلك الجملة عن مسؤولية الكاتب أعادها صاحب نوبل مرات عديدة خلال رحلتنا
إلى اليمن آنذاك، فمنذ اليوم الأول الذي بدأت فيه نقاشات «في البدء كان
الحوار»، في صنعاء، في فندق تاج سبأ، بين الوفد الألماني، الذي جاء من
ألمانيا، والذي ضم بالإضافة إلى غونتر غراس مجموعة من الصحافيين ورجال
الثقافة الألمان وثلاثة كتَّاب غير ألمان يحملون الجنسية الألمانية،
وكاتب هذه السطور وسليمان توفيق وفارس يواكيم (على التوالي من أصل
عراقي وسوري ولبناني)، وبين محاوريهم من الكتَّاب اليمنيين، بالإضافة
إلى حضور الشاعر محمود درويش (سافر قبل انتهاء الحوار) والشاعر أدونيس،
الذي كان إلى جانب غراس «دينامو» الحوار.
غراس الذي لا يعرف الاستسلام، والذي أدرك منذ اليوم الأول من الرحلة،
انه سيكون بمواجهة جمهور لم يألف هذا النوع من النقاشات، التي سيفجرها
الكاتب المتهم في بلاده بـ«إثارة الشغب» و«تلطيخ العلم»، كان على يقين
أنها ربما المرة الأولى في حياته، التي سيضع فيها سيزيف في أصعب
الاختبارات في حياته. سواء تعلق الأمر بطبيعة ومجرى النقاشات التي
ستدور، أو تعلق الأمر بالطريقة التي استقبل فيها الضيف النجم. فالحفاوة
التي استقبله بها اليمنيون، بدت أكثر فخامة من الخلفية المريرة لواقع
البلاد، التي عاشها الوفد الألماني عبر الرحلة الاستكشافية التي بدأت
قبل بدء أيام المؤتمر، عبر تعز التي يتجنبها السياح بسبب حوادث الخطف
المتكررة، وعبر وادي حضرموت، حيث الطبيعة الجبلية الضخمة والجرداء التي
على اليمنيين، من أجل استصلاحها، العمل بشكل مرهق، وكل الجمال ذاك الذي
تتركه العمارات الطينية المشهورة والمعروفة باسم "مانهاتن اليمن"
والمهددة بالسقوط، في وادي حضرموت وفي صنعاء (الأمر الذي حمل غراس على
التبرع بعشرة آلاف يورو لبناء مدرسة تدرس فن المعمار ببناء العمارة
الطينية)؛ عبر مدينة عدن، الميناء الذي منذ حادثة الهجوم على البارجة
الأميركية «كول»، في أكتوبر من ذلك العام، راحت تتجنبه السفن التجارية
قدر المستطاع.
لم يخف غراس على أحد من أعضاء الوفد الألماني بقوله أنه لم يعتد على
هذا الاحتفاء الرسمي، صحيح أنه لا يستطيع وصف مشاعر الغبطة للضيافة
اليمنية وغنى بروتوكول الرحلة، إلا أنه غير مرتاح بعض الشيء. وتلك قضية
لها علاقة بالمبدأ الذي بنى حياته عليه، كما ادعى: النظر بعين
الشك لكل حفاوة رسمية. هكذا حاول غراس من جانبه تجنب كل ما هو رسمي
«مبالغ به» بالنسبة إليه، قدر الإمكان. فعندما وطأت قدماه ومعها أقدام
الوفد الألماني المرافق له عند النزول من الطائرة في مطار زيون، عاصمة
إقليم حضرموت، حيث كان هناك في استقباله محافظ الإقليم مع وفد مختار من
وجهاء الإقليم، علق قائلاً للمحافظ، إنه أول بساط أحمر تطأه قدماه في
حياته، أما سيارة الليموزين المرسديس التي كان عليه الصعود بها، في
الرحلة من صنعاء حتى عدن، فقد فضل عليها الصعود بالباص مع أعضاء الوفد
الألماني، هكذا عمل غراس، كل ما في وسعه لكي يكون متواضعًا، ودودًا
طوال الرحلة، وكأنه لم يشأ مغادرة المكان الذي اختاره لنفسه، هناك بين
الناس الذين أدعى دائمًا الانحياز إليهم. وهذا ما فعله سواء عند رسمه
الشيوخ والأطفال الذين صادفهم في طريقه، أو عند رقصه مع إحدى فرق
حضرموت الشعبية، أو عند إعلان بهجته لغناء قصائده من قبل المغنية
العراقية سحر طه التي صاحبها بالعزف الفنان اليمني مراد حسين وعازفة
الناي الألمانية كلوديا أوت، حتى أنه أهداهم بعض أجمل التخطيطات التي
نفذها هناك.
كان غراس وفي كل النقاشات التي دارت في رحلتنا تلك صريحًا أيضًا، وكلما
زادت فخامة استقباله، كان أكثر صراحة بالتعريف بنفسه وبالقضايا التي
تهمه، لأن ليس هناك ما يسيء له، أكثر من سوء الفهم. فعندما أراد الرئيس
اليمني السابق علي عبدالله صالح منحه وسام الدولة من الدرجة الأولى،
خاطبه غراس، بأنه قبل أن يتسلم الوسام، عليه أن يطرح عليه قضية تثقل
على قلبه، وهي قضية أحد الكتَّاب اليمنيين المطاردين، والذي اضطر
لمغادرة البلاد بسبب شعوره بالخطر على حياته، صحيح أنه لا يعرف ما كتبه
الكاتب، إلا أن ما يهمه في المقام الأول هو حرية الكتابة، وأن يستطيع
الكاتب الرجوع إلى بلاده. وإذا أثار طلب غراس استغراب بعض الكتَّاب
العرب الذين حضروا المقابلة، واعتبروه جاء بتحريض من أحد الكتَّاب
العراقيين «المشاغبين» الذين صاحبوا غراس في الرحلة من ألمانيا (كاتب
هذه السطور، الذي كان مترجمه أيضًا لحظتها)، فإنه كما يبدو لم يثر
استغراب رئيس الدولة اليمني، الذي أكد له بأنه سيضمن شخصيًا سلامة
الكاتب، وأن عليه فقط أن يعود إلى بلاده وأن يكون شجاعًا بالدفاع عما
كتبه، أن لا يهرب، وأنه شخصيًا قرأ الرواية ويستغرب أمر منعها، لأن ليس
فيها ما يستحق الاهتمام أو الإتهام. لم يفاجئ غراس مستمعيه في ذلك
اليوم فقط، إنما فعل ذلك قبلها. إذ منذ أول حلقة حوار في جلسة مضغ قات
في مدينة تعز، فاجأ غراس مضيفيه، في حديثه عن طبيعة الأدب الذي يكتبه،
وكيف أنه تعمد في روايته طبل الصفيح كسر المحرمات وفضح رجال
الكنيسة والسياسة، وكيف أنه تعرض إثر ذلك إلى هجوم عنيف من قبل رجال
الدين، الذين ساروا على رأس تظاهرات تطالب بمنع كتابه وحرقه بعد أن
اتهموه بترويج "الأدب الإباحي" و"متعة الجنس المريض" و"الشبق السادي"
و"الفنتازيا المثيرة للغثيان" وغيرها من النعوت؛ في النهاية خسر
مهاجموه الدعاوى التي رفعوها ضده، وربح هو القضية، وهو بعد كل هذه
السنين، يعرف "أن الأدب يملك نفسًا أطول من نفس رجال الدين والسياسة".
لم يكتف غراس بذلك الطرح، إنما سأل الجالسين (وكانوا أكثر من مائة شخص
من وجهاء المدينة) "ماذا سيحدث لو أن أحدهم كتب عن صنعاء بالروح نفسها
التي كُتبت فيها رواية طبل الصفيح؟" وكان جواب محافظ المدينة
صريحًا، "سيحدث له، مثلما حدث لطبل الصفيح عند صدورها في ألمانيا"،
ولكن غراس الدبلوماسي الذي عرف كيف يصدم مستمعيه، كان يعرف أيضًا كيف
أنه قادر على استمالتهم إلى جانبه. قال لهم، عليهم أن يعرفوا أن بين
أعضاء الوفد الألماني "زملاء كتَّاب من العراق"، وأنه على يقين "أنهم
لا يستطيعون النقاش بحرية في بلادهم التي غادروها كما يفعلون الآن،
مثلما أنهم لن يخرجوا بالتأكيد سالمين من هذه الجلسة، كما يحصل لهم
الآن في اليمن، وتلك نقطة في صالح اليمن".
الحديث عن الكتَّاب العراقيين المنفيين، كرره غراس في مناسبات أخرى،
سواء عند حديثه مع الرئيس الذي لُقب آنذاك بـ"صدام الصغير"، علي
عبدالله صالح، أو في كلمته التي ألقاها في يوم افتتاح المؤتمر، وبحضور
رئيس البرلمان آنذاك الدكتور عبد الكريم الأرياني، عندما ذكر كيف أن
هناك العديد من الكتَّاب والفنانين الألمان الذين اضطروا لمغادرة
ألمانيا بعد صعود النازية، وكان معظمهم من اليهود، وكيف أن ألمانيا
تعرضت بسبب هجرتهم لخسارة ثقافية لا تعوض، خصوصًا وأن معظم الذين رجعوا
بعد اندحار النازية، لم يستطيعوا الاندماج في المجتمع الألماني من
جديد، الأمر الذي حملهم على البقاء في منفاهم. ومن خلال تذكيره بحال
الكتَّاب العراقيين المنفيين، طالب غراس بالنظر للثقافة المنفية لكونها
جزءًا لا يتجزأ من الثقافة العربية المعاصرة اليوم، والتحاور معها، لأن
المنفيين والمهاجرين هم وسطاء بين الثقافات. ربما لم يعجب البعض الحديث
عن الحالة العراقية وأدباء المنفى، وأرجعوه إلى تحريض من الكاتب
العراقي «المشاغب» الذي رافق غراس في الرحلة وجعله مترجمه في الأيام
الأخيرة من زيارته، بعد تسريحه مترجمه الرسمي من المهمة. بل أن البعض
الذين لا يعرفون غراس بالتأكيد، ابدوا استغرابهم، كيف أنه رغم نقده
للحرب التي بدأت الولايات المتحدة الأميركية بالتحضير لها ضد العراق،
جاء على ذكر المنفيين العراقيين، لماذا لم يذكر الكتَّاب الفلسطينيين؟
ووصل الأمر، بالسفير العراقي في اليمن، أن يوجه لغونتر غراس دعوة رسمية
لزيارة العراق، الأمر الذي رفضه غراس، وقال مجيبًا: "نعم بودي زيارة
العراق ولكن من دون صدام".
تلك كانت أولى نقاط سوء الفهم التي ستصاحب النقاش الذي دار على مدى
ثلاثة أيام. أما النقطة الثانية التي صدمت المناقشين، فهي موقف غراس من
أزمة الشرق الأوسط والعمليات الانتحارية والجهاد أو "الحرب المقدسة".
عندما أعلن غراس صراحة أنه "صديق لإسرائيل بقدر ما هو صديق للعرب"، وأن
شخصًا مثله "كما ينتقد سياسة شارون (كان رئيس حكومة اسرائيل آنذاك)
العدوانية، ينتقد سياسة عرفات والعمليات الانتحارية، وأن كل طفل
إسرائيلي وطفل فلسطيني يُقتل يوميًا، هو موت زائد". كما أنه لا يفهم
لماذا لا يدين المثقفون العرب العمليات الانتحارية؟ وأنه يريد جوابًا
عن السؤال الذي يطرحه "ما هو موقف الحاضرين من الجهاد أو الحرب
المقدسة؟" وهو يريد الجواب كمدخل للنقاش. من سمع أصوات الاستنكار
الحادة التي صدرت من معظم الحاضرين من اليمنيين والعرب في القاعة، ظن
للوهلة الأولى، استحالة أن ينتهي النقاش إلى نتيجة ما، ولكن فقط من
يعرف حجم وثقل صخرة سيزيف، يعرف أن على المرء التحلي بالصبر قليلاً،
والتصرف بدبلوماسية لكي يفهم المستنكرون الذين لم يعرفوا أفكار غراس
مطلقًا، وأنهم أخذوا منها فقط المقتطفات التي تليق بهم، وتؤيد أفكارهم
الجاهزة. تلك الأفكار المتعلقة برفض السياسة الأميركية وسياسة إسرائيل،
ولم يأخذوها بمجملها الديالكتيكي، وأن مواقفه السياسية هي مواقف
الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية في أوروبا، خاصة الحزب الاشتراكي
الديموقراطي الألماني الذي هو عضو فيه. لم يستوعب العديد من الحاضرين،
كيف أن المرء يمكن أن يكون "صديقًا لإسرائيل وصديقًا للعرب في الوقت
نفسه!". وأحد الحاضرين قال لغراس بالحرف الواحد: "لا نريد صداقتك، إما
أن تكون معنا وإما مع إسرائيل؟"؛ غراس الذي تعود على النقاشات
"الراديكالية" في بلاده، عرف كيف يدير دفة النقاش وبحنكة دبلوماسية، لا
تخلو بين اللحظة والأخرى من جرعات جديدة من الصدمات. فما أن يستوعب
بعضهم صداقة الصديق الذي يقول لهم، انه رغم نقده لإسرائيل، إلا أنه لا
ينفي وجود دولة إسرائيل (ينسى المناقشون حقيقة أن الدول العربية جميعها
اعترفت بدولة إسرائيل آنذاك في مؤتمر قمة لها، في بيروت!)، حتى يفاجئهم
بطرحه لتصوره بحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين. وهو في حديثه عن
اللاجئين لا ينسى تذكير الجميع، أنه في حديثه عن هذه المشكلة، إنما
يتحدث عن تجربته الشخصية التي عاشها، بعد فقدانه لمدينته ووطنه. غونتر
غراس المولود في 16 تشرين الأول 1927 قادم في الأصل من مدينة دانتزيغ
التي تقع في بولندا اليوم، وكانت قبل الحرب العالمية الثانية جزءًا من
إقليم شليسيين الألماني. وعندما انهزم الجيش النازي، سقطت المدينة في
يد القوات الروسية، وشرِّد بعدها من إقليم شليسيين 12 مليونًا من
اللاجئين الألمان (من ضمنهم عائلة غونتر غراس). غراس يقول "شكرًا
للسياسة التي اتبعتها آنذاك السلطات في ألمانيا الغربية وفي ألمانيا
الديموقراطية، التي بموجبها لم يتم توطين اللاجئين فقط، إنما عُمل على
كل ما يساعد على اندماجهم بالمجتمع الألماني". وهو يتساءل، لماذا لم
تفعل الدول العربية الأمر ذاته مع اللاجئين الفلسطينيين؟ لماذا أسكنتهم
في المخيمات؟ ألم يكن من الأجدى أن يبني الفلسطينيون حياتهم الجديدة في
المجتمعات التي حلوا بها؟ بطرحه لتلك النقطة، لامس غراس أكثر الأعصاب
حساسية عند مستمعيه، ربما أكثر حساسية من مسألة الجنس والرقابة. حتى
الشاعر محمود درويش الذي كرَّس كل عمله الشعري لقضية واحدة: القضية
الفلسطينية، تجمدت في حينه قسمات وجهه عند سماعه ذلك. ربما توقع كلامًا
آخر من غراس؟ من يدري؟ لكنه رغم ذلك، لم يجب بأية كلمة. وهنا تكمن
العلة ربما: لماذا يصعب الحوار. ليس هناك في العالم العربي ثقافة
للحوار مفتوحة على كل المواضيع كما هي الحال في الغرب، لأن من يتحدث عن
نفسه دائمًا (في الحوارات أو في الأدب) بصفته الضحية، يصعب عليه النظر
إلى نفسه بصورة نقدية، ويجد في كل نقد له، نوعًا من الوعظية التي
يرفضها. وبالذات، هنا يكمن الاختلاف، لأن ما يرفضه المثقفون العرب،
يجده غراس فرصة لاكتشاف أفكار جديدة. ولكن حتى سيزيف سيتعب أمام من يصر
على لعب دور الضحية، وعلى ترديد خطاب أصولي في الثقافة والفكر. ربما
لذلك السبب، ولرغبة من غراس ذاته، اقترح في اليوم الثاني من المؤتمر،
ورغم أن الحديث عن فلسطين واللاجئين لم ينته، الحديث عن الرقابة
والإيروسية. وكما يبدو فإن الجميع بدا مرتاحًا لانتقال الحديث إلى هذين
المجالين. إذ تحدث بعض الحاضرين عن تجربتهم الشخصية مع الرقيب أو عن
الرقابة بشكل عام. صحيح أن البلدان العربية هي نموذج مثالي لممارسة
الرقيب، إلا أن الحديث تطرق أيضًا للرقابة التي تُمارس أحيانًا في
الغرب. فبعد أن تحدث الصحافي عبده وازن عن تجربته مع الرقيب اللبناني،
أشار كاتب هذه السطور إلى أنه لا يريد الحديث عن الرقابة الرسمية، لأنه
يرفضها، لكنه يريد الحديث عن الرقابة الذاتية التي يمارسها الكتَّاب
على أنفسهم وعن تلك الرقابة البشعة التي يمارسها الكتَّاب «العسس» على
زملائهم من الكتَّاب، والتي لا تعتمد على أي معيار، باستثناء الولاء
للسلطة أو الولاء الشخصي للرقيب «الأديب»، كما هي الحال في العراق. كما
ذكر برقابة عمال المطابع في مصر، وكيف أنهم حذفوا صفحات معينة من كتبه
التي طُبعت هناك أثناء طباعتها، ليعقبه الشاعر محمود درويش الذي تحدث
بصورة مسهبة عن تجربته مع الرقيب الإسرائيلي ونقاشه معه قبل نشر أي
ديوان له. فبعد موافقة الرقيب فقط، كان يُسمح له بنشر ما يكتبه. أدونيس
الذي اختتم حلقة النقاش عن الرقابة، أعرب عن استهجانه ورفضه الأدباء
الذين يقدمون أعمالهم للرقيب لكي يجيزها، وينسون أنهم بهذه الطريقة
يعترفون بتثبيت سلطة الرقيب، كما أنهم يسمحون بأن تخرج كتبهم مفصلة حسب
طلب الرقيب، وهو يعتبر الشعر الذي سمح الرقيب بنشره "ليس شعرًا".
وتظل أمتع المداخلات وأغناها معرفة، هي المداخلتان اللتان قدمهما غراس
وأدونيس، مدخلاً لنقاش الإيروتيك. وبينما تحدث غراس عن تجربته الشخصية
مع قرائه، الذين صارحوه في أكثر من مناسبة، بأنه وعن طريق كتاباته
الإيروسية، غيَّر طريقتهم بالنظر للحياة، والتعامل مع الجنس والجسد
بسلاسة إنسانية، من دون محرمات دينية، تحدث أدونيس بشكل تفصيلي عن
التزوير الأصولي الذي يُمارسه حراس الأخلاق، مفندًا ادعاءات الرقيب
بالتحريم والنظر إلى الجسد الأنثوي باعتباره محرمًا استنادًا إلى نصوص
قديمة، لأن هذه الادعاءات غير صحيحة؛ أنها تؤسس بدل ذلك لعودة القيم
القبلية الثقافية القديمة، التي أراد الإسلام وقتئذ تجاوزها، دليلاً
على ذلك، قرأ أدونيس آيات قرآنية تتحدث بصراحة عن الأعضاء التناسلية
للمرأة، وتساءل في نهاية مداخلته، "ترى كيف سيتعامل الرقيب مع هذه
النصوص؟ هل يمنعها؟". كان من الممكن أن يستمر النقاش ويغتني بالعديد من
المداخلات «الجريئة» خصوصًا تلك التي جاءت من بعض النساء «المحجبات» في
القاعة بالتحديد، لولا دخول إحدى النساء «المثقفات» غير المحجبات
«العلمانيات» على الخط، لتفاجئ الجميع بفهمها «الفانتازي» للإيروتيك.
فهي كما صرحت، تنظر نظرة أخرى للإيروتيك، إذ كلما تريد التفكير
بالإيروتيك والشروع بتخيل تصور عن الجسد، «في أي مكان أو زمان»، يقفز
أمام عينيها جسد واحد فقط: «أنه جسد الطفل الفلسطيني الذي تقتله
الدبابات الإسرائيلية». هناك بالفعل بعض اللحظات التي حتى سيزيف يقف
أمامها عاجزًا عن الكلام. غراس الذي بدا مذهولاً، وظل صامتًا لبرهة
قصيرة، لم يجد جوابًا مناسبًا، غير التطلع إلى مدير الجلسة (كاتب هذه
السطور) وكأنه يطلب النجدة منه. لكنه لم يعرف ولحسن حظه، أن وقت الجلسة
انتهى وأن عليه أن يقرأ مع أدونيس التوصية النهائية للمؤتمر.
المشكلة هي أن سيزيف الذي، منذ بداية حياته الأدبية، أدرك أن على
الكاتب في مجمل عمله الإبداعي، كتابة وسلوكًا، ألا يسلم فقط بقبول
مصيره برفع هذه الصخرة إلى قمة الجبل الذي تتدحرج دائمًا منه، إنما
عليه قبل كل شيء مواجهة هذا القدر بشجاعة ومسؤولية، وألا يشتكي دائمًا،
ويلعب دور الضحية. خيب العالم أجمع، وأولهم أنصاره ومحبوه، عندما أفصح
للمرة الأولى في حياته عام 2006 بعد أربع سنوات من رحلة اليمن عن ماضيه
النازي وأنه انتمى بمحض إرادته لقوات العاصفة النازية وله من العمر
سبعة عشر عامًا، و"شكرًا لفترة الأسر التي قضاها في معسكر أميركي،
تغيرت حياته بعد ذلك، ولم يعد يؤمن بالنازية وبالحل النهائي".
النقد الذي تعرض له غراس لهذا السبب كان قويًا جدًا لسبب بسيط: أن
الرجل الأخلاقي الذي كان طوال حياته الأدبية يشير بالبنان إلى كل أولئك
الذين أخفوا ماضيهم النازي ومارسوا النفاق، كما أنه لم يفوت مناسبة
تاريخية لها علاقة بالنازية والحرب ولم يدل بدلوه فيها وينتقد بشكل
لاذع معسكر اليمين ودعاة الحرب: "الويل إذا كان لأحدهم ماض نازي تكتم
عليه!".
إذا كان سيزيف الألماني بعد اعترافه الأخير الذي رافق صدور كتابه
تقشير البصل، سعيدًا بحمله الصخرة إلى فوق، يظل الأمر غير معلوم،
لأن غراس يعرف، بأنه لو كان اعترف بماضيه النازي مبكرًا، لما كان حصل
على جائزة نوبل. ففي نهاية المطاف سيزيف اليوناني، سيزيف الحقيقي، كان
شخصية مخلصة لنفسه، لم يحتل على أحد، على عكس سيزيف الألماني الذي
احتال على الاكاديمية السويدية؟ على أي حال، الجواب عن ذلك السؤال يظل
عند غراس نفسه، أخذه معه في 13 نيسان الماضي، يوم وفاته في مدينة لوبيك
شمال ألمانيا!
*** *** ***
المستقبل، نوافذ