تأملات في الفلسفة والأخلاق والسياسة

(في الذكرى السنوية الثالثة لوفاة أكرم أنطاكي تستعيد معابر هذه الافتتاحية الهامة التي كتبها في عام 2003)
له ولهذه البلاد الرحمة والسلام

 

أكرم أنطاكي

 

On veille, on pense à tout, à rien.

On écrit des vers, de la prose

On doit trafiquer quelque chose

En attendant le jour qui vient…

Aragon

نسهر، نتفكَّر بكلِّ شيء، وبلا شيء.

نكتب الشعر، نكتب النثر

لأن علينا تزجية الوقت

بانتظار النهار الآتي...

أراغون

 

1

وأفكِّر في السياسة...

ولماذا، يا ترى، في بلدان كبلداننا – وإن كان الجميع يتحدث فيها بهذا الشكل أو ذاك – يتجنب الناس تعاطيها عمومًا؟ ألأنها من شأن السلطان، وبالتالي مخيفة هي – كما هو واقع الحال عندنا، كان وما زال، منذ القدم – من جهة، أم لأنها أيضًا، من جهة أخرى، غير نظيفة؟

وأفكر أنه في بلدان أخرى، هي اليوم أرقى من بلداننا بما لا يقاس، حيث لا يثير تعاطيها ذلك الخوف الغريزي الذي يثيره عندنا، يتجنَّبها الناس أيضًا بشكل عام. وأتساءل: هل يا ترى لأنها عندهم أيضًا، كما هي عندنا، قذرة؟

وكلمة "سياسة" (بالفرنسية politique) في أصلها اليوناني (مشتقة من كلمة polis، أي المدينة) تعني أساسًا كلَّ ما له علاقة بحياة مجتمع المدينة. وبالتالي فإنه من المفترض، نظريًّا على الأقل، أن تعكس السياسة، من خلال ممارستها، فهمًا ونظرةً أخلاقيةً نبيلةً إلى الشأن العام وإلى الحياة، نظرة لا تنمُّ عن أية وضاعة – اللهم إلا...

إذا أعدنا الكلمة – وأعادها الجميع في كلِّ أصقاع المعمورة (مجازًا) معنا – إلى بعض من أصولها "العربية"، حيث السياسة (المشتقة من فعل ساس) تعني، في جملة ما تعني، "قيام المرء على دابَّته ورياضتها وتأديبها"! فيغدو الحاكم في حالنا هو "السائس" لـ"قطيع" ناسه الذين تحولوا عمليًّا، كتحصيل حاصل، إلى ما يشبه الدواب. وهذا الفهم "العروبي" للسياسة هو ما يبدو، لأول وهلة اليوم، الأقرب إلى واقع الحال على صعيد بلداننا، وإلى حدٍّ كبير على صعيد إنسانيَّتنا، وفي الكثير من بلدان العالم الثالث.

فسياق الحياة قد أحدث شرخًا عميقًا بين السياسة – هذه الكلمة المدنية بالاستحقاق – وبين جذورها الأخلاقية. فقد أمست السياسة اليوم – كصفة على الأقل – تعني كلَّ ما يمسُّ أمور الحكم والدولة والسلطة وعلاقتها بعضها ببعض وعلاقتها بالآخرين، وخاصةً بحكومات ودول وسلطات أخرى في بلدان أخرى. وواقع الحال هذا أضحى، بحكم تحكُّم المصالح المادية به وتشابكها معه، مخيفًا وملوَّثًا إلى حدٍّ كبير.

ولكنْ إن عدنا، بالخيال، إلى اليونان القديمة... فإن الأسطورة تحدِّثنا أول ما تحدثنا عن...

2

قيم خالدة...

عن زمان كان كبار الفلاسفة فيه يحلمون وينظِّرون لـ"مدينة (تخيَّلوها) فاضلة"؛ حيث كان فيثاغوراس وكان سقراط... وكان أفلاطون و(مشروع) جمهوريته... وكان أرسطو. ونحاول، من خلال أسطورة هؤلاء العظام وتعاليمهم، استخلاص تصوراتهم لتلك "المدينة" التي كانوا بها يحلمون... فنجد ما قد يثير الدهشة، وخاصةً في أيامنا هذه، أنهم جميعًا تخيَّلوها شيوعيةً وأرستقراطيةً معًا:  

مدرسة آثينا للفنان رافاييل

شيوعية بمعنى أنه يجب أن تقوم المدينة الفاضلة على المفاهيم والقيم الخالدة للعدالة الإنسانية، تلك العدالة التي عرَّف بها أفلاطون (في جمهوريته) على لسان سقراط بأنها "... قول الحق وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه...". وأيضًا، في الوقت نفسه، يجب أن تكون حكومة هذه المدينة...

أرستقراطية بمعنى أن من المفترض أن يترأس هذه المدينة و/أو الدولة ويقودها، من أبنائها طبعًا، أفضلُهم علمًا ومعرفةً وأخلاقًا. وهذا منطقي، وطبيعي أيضًا، لأنه فقط أمثال هؤلاء البشر – الذين بوسعهم الارتقاء بروحانيَّتهم ومعرفتهم إلى مصاف الآلهة – يستطيعون تحقيق العدالة ومنع الظلم الذي كان – ومازال – المُفسِد الأساسي لأية مدينة و/أو لأية دولة.  

أفلطون وأرسطو - قطعة من لوحة مدرسة أثينا للفنان رفائيل

فالدولة، كما عرَّف بها أفلاطون على لسان سقراط، وكما يُفترَض أن تكون، هي "الإنسان مكبَّرًا" l’homme en plus grand. والإنسان، كما تخيَّله فيلسوفُنا، هو من تمثَّل هذه القيم ووعى وحقَّق من خلالها شرطه الإنساني. ولكن...

3

واقع الحال...

... حين نتأمل في النتيجة/المحصلة، بدءًا من ذلك الزمان السحيق وصولاً إلى أيامنا هذه، نتبيَّن أن كبار الفلاسفة (كالأنبياء) قد " فشلوا" عمليًّا في التوصل إلى ما كانوا يحلمون به و/أو يدعون إليه. ونجد أن معظمهم دفع حياته – بهذا الشكل أو ذاك – ثمنًا لما كان يبشِّر به من عدالة وقيم خالدة. وفي المقابل، نجد أن الذين "نجحوا" على أرض الواقع كانوا فلاسفة صغار، كذلك المدعو تراسيماخوس الذي حاول، منذ أيام سقراط، تعريف الحقِّ بأنه "... ما يفيد الأقوى..."!

و"الأقوى"، في أية مدينة و/أو دولة، هو، بطبيعة الحال، من يمتلك المقدرة و/أو السلطة لتحقيق مآربه. وهو على أرض الواقع في مدينتنا التي – لم تصبح "فاضلة" بعد – ليس ذلك الفيلسوف المسكين وأتباعه من الحالمين، إنما هو من يمتلك المال، أو الثروة، أو القوة المادية، المباشرة، أو هذه جميعًا.

لأن هؤلاء "الأقوى" هم الذين يمتلكون، أكثر من غيرهم، المقدرة على الاستيلاء على المدينة و/أو التحكم بها وقيادتها. وهؤلاء ليسوا قطعًا أفضل البشر معرفةً وأخلاقًا، إنما (ربما) أحطَّهم، إن لم نقل من أكثرهم جهالةً. وهؤلاء، إذا حققوا و/أو حين يحققون، بطرق متعددة، سيطرتهم على المدينة، فإن ذلك غالبًا ما يكون عن طريق العنف المباشر، عبر الثورة أو الانقلاب، أو حتى عن طريق الديموقراطية، التي سرعان ما تتحول على أيديهم، حين يضعف الوعي، إلى مجرد ديكتاتورية للعوام...

تلك العوام التي اغتالت فيثاغوراس في زمانه والتي أجبرت سقراط أيضًا على "الانتحار". وأسجل هنا أن أفلاطون صنَّف "ديموقراطية" زمانه كأحد الأنظمة الفاسدة!

لكن، ورغم كل شيء، كان هناك في تلك الأزمنة السحيقة بعض من خيرة البشر يحلمون ويجاهدون من أجل مدينة فاضلة تقوم وتستند إلى قيم ومبادئ خالدة...

مدينة لم تكن قطعًا من الناحية الأخلاقية كتلك التي سعى إليها، وكرَّس نفسه لخدمتها، بعد حوالى 1800 سنة من أفلاطون، شخص يدعى...

4

ماكيافيلِّي

ونتوقف قليلاً هنا، وقد انتقلنا إلى ما يُعرَف بـ"عصر النهضة"، ذلك العصر الذي ازدهرت فيه العمارة والعلوم والفنون والآداب إلى حدٍّ لم يُشهَد له مثيلٌ من قبلُ في تاريخ الإنسانية. نتوقف في إحدى أهم مدن إيطاليا حيث بدأت النهضة، وتحديدًا في فلورنسا، حيث عمل صديقُنا موظفًا وسياسيًّا وديبلوماسيًّا في خدمة آل ميدتشي، الأسرة الحاكمة لتلك المدينة آنذاك، فنسلِّط بعض الضوء على من أضحى في زمانه – وما زال إلى يومنا – رغم وضاعته الأخلاقية، أحد أهم فلاسفة السياسة في عالمنا...  

ماكيافيلّي

ففي مؤلفه الأمير، درس ماكيافيلِّي الطرائق والسبل العملية التي تمكِّن الأمير–الحاكم من البقاء والاستمرار في حكمه "إلى ما شاء الله". وكان "مثاله الأعلى" حينئذٍ، على ما يبدو، سيزار بورجيا، أحد أهم القادة العسكريين والسياسيين في إيطاليا تلك الأيام، الذي ينطبق عليه العديد من تلك المزايا التي افترضها صاحبُنا للقائد الناجح الذي لا يهمه سوى تحقيق أهدافه والاستمرار في الحكم.

وتوصل صاحبنا إلى نتيجة مفادها أنه، من أجل هذا، باتت الضرورات تقتضي أن لا يتقيد الأمير–الحاكم الناجح بالمحاذير الأخلاقية التقليدية لتحقيق مبتغاه. فالهدف الرئيسي لم يعد بالنسبة له تحقيق رفاه شعبه وسعادته بمقدار ما صار البقاء في الحكم وتحقيق مآربه. لذلك بات ينبغي على الأمير–الحاكم، وفق ماكيافيلِّي، تجنُّب تلك الفضائل المفترضة التي قد تؤدي إلى إضعافه، واعتماد تلك الرذائل، المفترضة أيضًا، التي قد تدعم موقفه. فالواقع والحياة قد علَّما الأمير أن الكثير من الفضائل التي يتطلبها الحكَّام من شعوبهم بشكل عام قد تؤدي إلى إضعافهم (وبالتالي إلى إسقاطهم) إن طبَّقوها على أنفسهم بشكل خاص. مثلاً وليس حصرًا...

يُفَضِّل ماكيافيلِّي أن يكون الأمير–الحاكم بخيلاً يجمع الأموال بدلاً من أن يكون كريمًا يبذِّرها (فقط يجب أن يكون الأمير كريمًا مع جنده حين يغزون مدينة معادية وعلى حساب هذه الأخيرة طبعًا). وأيضًا يُفَضِّل أن يكون الأمير–الحاكم مرهوب الجانب، قاسيًا شديد العقاب، بما يخيف رعاياه وخصومه معًا، عوضًا عن أن يكون محبوبًا وطيِّبًا ومتسامحًا، بما قد يغريهم بالتطاول عليه... وأخيرًا، يستخلص بشكل أساسي ضرورةَ أن يكون الأمير–الحاكم مخادعًا، يتقن الكذب والمراوغة، فيحقق مآربه بأية وسيلة ملتوية، ويعطي شعبه، في الوقت نفسه، الانطباع بأنه رحيم، نزيه، إنساني، مستقيم ومتدين معًا، إلخ.

ونتأمل – للعبرة – كم انحطَّت في ذلك الزمان التنويري والنهضوي (الذي ازدهرت فيه العمارة والعلوم والفنون والآداب إلى حدٍّ لم يسبق له مثيل) القيم والمفاهيم الأخلاقية، وانحطَّت معها، بالتالي، كتحصيل حاصل، المفاهيم والقيم المدنية والسياسية. ولكن...

سرعان ما تبيِّن الحياةُ أن الأمور على أرض الواقع ليست بهذه البساطة، ولا حتى بهذا السوء...

لأنه، ربما، بالترافق مع تقدم العلوم وازدياد الوعي الإنساني، من جهة، ومع ظلم وجبروت حكَّام ذلك الزمان، في أوروبا النهضة على وجه التحديد، من جهة أخرى، حدث ما كان لا بدَّ من حدوثه. فكانت تلك التراكمات الكمِّية من المعطيات التي أدَّت، وفق جدلية الحياة، إلى حدوث تغيرات نوعية هزَّت عمق الواقع الإنساني السحيق. وكان ذلك الانفجار الهائل الذي بدا وكأنه قد غيَّر آنذاك، إلى غير رجعة، مسار الإنسانية. تلك الأحداث التي طبعت القرنين الماضيين بطابعها والتي لم تكن، ربما، بمقياس الزمن سوى مجرَّد...

5

استقطاعات معاصرة...

حيث عادت من جديد لتطفو على سطح الأحداث في أوروبا آنذاك تلك المفاهيم والقيم الإنسانية الخالدة التي بدا لبعض الوقت وكأنها ضمرت... عادت لتكتسح العوالم المتحجرة لنظم ملكية و/أو أوتوقراطية مطلقة ذات ادعاءات دينية و/أو روحانية زائفة.

عادت تلك المفاهيم والقيم عبر مبادئ الحرية والمساواة والإخاء وإعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي طرحته، لفرنسا ولأوروبا وللعالم أجمع، حينئذٍ الثورةُ الفرنسية في العام 1789. فكان حق الاقتراع العام وما نجم عنه (هناك) من نظام جمهوري ديموقراطي أعطى الشعب، بمختلف فئاته، مباشرة و/أو عن طريق منظماته ومؤسَّساته وأحزابه، حقَّ الاختيار الحر لممثِّليه وحقَّ المشاركة الفعلية في إدارة الحياة العامة وتسيير شؤون المدينة.

إذ إنه مع التقدم العلمي وانتشاره، لم يعد العوام (ربما) مجرد جهلة كما كانوا في الماضي؛ إنما أصبحت لديهم نخبُهم الناطقة بلسانهم والمعبِّرة عن مصالحهم وتطلعاتهم؛ تلك النخب المنبثقة عن مختلف الطبقات الاجتماعية، وخاصة الوسطى منها، التي صارت، من خلال تمثُّلها الإيجابي لأفكار عصر التنوير، ترفض الحكم المطلق وتطالب بحقها في الحياة الكريمة – تلك الحياة التي كان الظلم فيها ما يزال مهيمنًا والطغيان فيها مسيطرًا، حيث استعرت واستفحلت كلُّ أنواع الصراعات، بما فيها تلك التي أسميت بـ"الطبقية" والناجمة عن التمايز الاجتماعي.

لذلك، أيضًا وخاصةً، عادت لتطفو على السطح أيضًا من جديد، وبإلحاح حينئذٍ، المبادئ والقيم الشيوعية التي سبق أن دعا إليها فيثاغوراس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وجميع الفلاسفة العظام – تلك المبادئ الداعية منذ القدم إلى إزالة الظلم وإلى تحقيق العدالة بين البشر.

فكانت كومونة باريس عام 1870 – تلك الثورة اليائسة التي سُحِقَتْ حينئذٍ بالنار والحديد. وكان مطلع القرن العشرين، وتلك الحرب العالمية الأولى التي فجرت الأوضاع في بلد كان من أكثر البلدان الأوروبية تخلفًا، حيث بدا وكأن هذه المبادئ والقيم (الحلم) قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى من النجاح، وحيث بدا وكأنه أصبح بالإمكان تطبيقها على أرض الواقع غداة انتصار إحدى أهم ثورات العوام في التاريخ الإنساني – وأقصد ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا القيصرية في العام 1917.

لكن ربما لأن الأمور ليست، ولم تكن قطعًا، بهذه البساطة، تعود الحياة لتذكِّرنا من جديد بأن...

6

الطريق إلى جهنم يبقى معبَّدًا بالنوايا الطيبة...

فتعود المبادئ و"القيم الإنسانية الخالدة"، من خلال صَغائر البشر والممارسات الفعلية للإنسان، للضمور على أرض الواقع، وتفقد بريقها من خلال ممارسات أبنائها وصَغائرهم وجشعهم وصراعاتهم وحروبهم وما تسببوا فيه من مآسٍ، فتُفرَّغ معظم هذه التجارب الإنسانية الكبيرة من محتواها، ثم تنهار بشكل مُخْزٍ...

بما يعطي الانطباع اليوم، من جديد، وللوهلة الأولى، أن الإنسانية لم تتقدم، من الناحية الأخلاقية، خطوةً واحدة إلى الأمام!

حيث عادت لتطفو على سطح المدينة، من جديد، في معظم أصقاع المعمورة، مكتسحةً الحياة العامة، مختلفُ أنواع الجهالات، وخاصة منها تلك الأصوليات – الدينية و/أو القومية و/أو العرقية و/أو حتى... العقائدية التي أفلتت من عقالها حين وجدت الفرصة سانحة لاستعادة بعض من شعبيتها المفقودة، مستفيدةً مما تركه هذا الانهيار من فراغ أخلاقي وسياسي مريع – خاصةً وأن من انتصر بسبب علومه وتقنياته والفعالية المباشرة لنظامه الاقتصادي والسياسي كان – ومازال – يفتقد فكرًا وممارسةً للكثير من المبادئ والقيم الأخلاقية الأساسية.

ذلك الواقع الذي يعيدنا أول ما يعيدنا إلى عالم السياسة...

وأشرد بالخيال هنا قليلاً، فأتذكر قصة كنتُ قرأتُها ذات يوم عن لقاء حصل بين ديغول (الذي كان رجل مبادئ وقيم)، وكان حينئذٍ رئيسًا لفرنسا التي تحررت من النير النازي، وبين الموسيقي الفنلندي الشهير سيبيليوس الذي كان آنذاك وزيرًا لخارجية بلاده (وكان أيضًا، كديغول، رجل مبادئ وقيم). يومذاك سأل ديغول سيبيليوس: "هل أنت حقًا سيبيليوس الموسيقي وعازف الفيولونسيل؟" فأجابه سيبيليوس: "نعم يا سيدي الرئيس، أنا هو." ويهزُّ ديغول رأسه ويعلِّق بحزن قائلاً: "يا له من انحطاط! يا له من انحطاط!"

وأفكر أنْ نعم (ربما)...

هو انحطاط عظيم! أن يتحول الموسيقي، المتواصل، في سموِّ ما يقدمه من نغم، مع عالم الآلهة، إلى مجرد سياسي في عالمنا المعاصر...

هو انحطاط فعلاً بحكم الواقع القائم – حتى وإن كان هذا الموسيقي الذي أضحى سياسيًّا هو سيبيليوس! حتى وإن كان هذا المفكِّر والقائد العسكري الفذ الذي جعلتْه الحياة سياسيًّا هو شارل ديغول!

لأن السياسة اليوم أصبحت تمثل، تمثيلاً شبه كامل، المصالح المادية من حيث الهدف، ولأنها صارت تنطوي أيضًا، بالتالي، من حيث الممارسة والأسلوب، على الكثير من الخداع والمراوغة و"التقية" (بمعنى التفكير المزدوج والكلام المزدوج) بهدف تحقيق تلك المصالح. لأن السياسة لم تعد عمليًّا (ولا حتى نظريًّا اليوم) تلك الممارسة المدنية النبيلة المفترضة وفق المفاهيم والقيم النبيلة لأمثال فيثاغوراس وسقراط وأفلاطون وأرسطو، وكما كانت تفترض المبادئ والقيم الإنسانية الخالدة. وأيضًا وخاصةً... لأن فلسفة السياسة أضحت اليوم وبشكل شبه كامل...

7

ذرائعية و/أو براغماتية...

وأمعن النظر قليلاً في تلك التي – وإن كانت تمارَس عمليًّا منذ القدم – أضحت اليوم سائدة، كفكر وكممارسة، في الحياة بشكل عام، وفي عالم السياسة بشكل خاص. تلك التي نشأت أول ما نشأت كـ"فلسفة سياسية معاصرة" في الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر القرن التاسع عشر على يد تشارلز بيرس، وليم جيمس وجون ديوي.

وقد نشأت هذه الفلسفة حينئذٍ، على ما يبدو، كردٍّ علموي بهدف مجابهة عقائدية ماركسية بَدَتْ في تلك الأيام وكأنها كاسحة لا تقاوَم؛ فحاولت تفسير ظواهر الأشياء والتوفيق بين المتناقضات في عصر ساده منطقُ علوم وتقنيات فرضت نفسها على الجميع.

اعتُبِرَتْ هذه الفلسفة نفسها منذ نشوئها، بشكل عام، خطًّا توفيقيًّا وسطًا بين مفهومين متناقضين: المفهوم الأول هو ذلك الخط التقليدي الرجعي الجامد للطبيعة وللأشياء الذي يدعى باصطلاح الماركسية بـ"المثالي"؛ والمفهوم الثاني هو ذلك "الثورجي" و/أو الرافض و/أو اللاعقلاني، ذلك المادي المفترض (كما يدعى بحسب الاصطلاح عينه) الذي ساد أوروبا بشكل عام في نهايات القرن التاسع عشر. وكان ما افترضتْه هذه الفلسفة من أسس ومبادئ يمكن تلخيصها بما يلي:

1.    عدم الإيمان بأيِّ مطلق، وخاصةً فيما يتعلق بالحقيقة و/أو المعرفة. فكلُّ الأشياء، بنظر هذه الفلسفة، يجب أن تخضع للتجربة وأن تثبت صحتها من خلال هذه التجربة قبل اعتمادها. وأيضًا، وخاصةً، وبالتالي...

2.    لا تؤمن هذه الفلسفة بوجود أية مفاهيم أخلاقية مطلقة (كمفاهيم الخير و/أو العدالة)، إنما تعتقد بأن هذه المفاهيم ما هي إلا ابنة ظروفها؛ وبالتالي، فهي عرضة للتغيُّر بتغير تلك الظروف.

وتبرهن الحياة، بالتجربة العملية، وعلى أرضية الواقع الأخلاقي السائد في عالمنا المتحول باستمرار، "صحة" أسس وأطروحات هذه الفلسفة وتثبتت فعاليتها...

لأنها كانت، أولاً، فلسفة تتبنى وتدافع عن التجربة العملية كطريق واقعي فعَّال لتحقيق التقدم الاجتماعي – وهذا أمر جيد لا يمكن نكرانه.

ولأنها رفضت، ثانيًا، دون أيِّ ادِّعاء، جميع المفاهيم والعقائد الجامدة التي أثبتت الحياة عدم فعاليتها – وهذا أيضًا أمر يُسجَّل لصالحها.

ونسجِّل بموضوعية، إن شئنا أن نكون صادقين مع أنفسنا، أن الذرائعية كانت فعلاً، استنادًا إلى منطلقاتها التي بينَّا، ناقدًا حادًّا وفعالاً لجميع الفلسفات الغربية المعاصرة، وخاصة منها تلك التي باتت متحجِّرة بسبب مما ادَّعتْه إيمانًا وقناعةً بمفاهيم وممارسات سرعان ما تبين أنها بالية و/أو غير صالحة (كالماركسية وتطبيقاتها الواقعية، على سبيل المثال)، من جهة؛ وخاصةً أيضًا لأن ما طرحتْه هذه الفلسفة من نسبية للأشياء جميعًا – وهو ما يشكل قوَّتَها – صحيح إلى حدٍّ كبير، من جهة أخرى.

وهذه حقيقة كما هو واقع قد يجعل بعضهم يقف حائرًا أمام ما تطرحه هذه الفلسفة أمامه من إشكالية معرفية وأخلاقية: إشكالية تدفعنا إلى المزيد من التعمق في طرائق تفكيرنا وممارساتنا وفي كلِّ ما آمنَّا به من مبادئ وقيم؛ خاصةً وأن...

هذه الفلسفة التي هي، أولاً وأخيرًا، فلسفة واقعية تنطلق من المستوى القائم للطبيعة الإنسانية كما هي على أرض الواقع، الأمر الذي يوجب المزيد من التعمق والمناقشة...

وهذا ما يدفعنا للمزيد من التأمل في عالم كان – وسيبقى دائمًا – أعقد بكثير مما بوسعنا أن نتخيل...

لأننا، وقد وصلنا إلى ما وصلنا إليه، نجد أنفسنا مجبرين على الإبحار في مستويات أخرى للواقع، مستويات يحاول جميع أصحاب النسبيات و/أو المطلقات تجنبها، وتتعلق بالواقع الفعلي والنسبي والمفترض للأشياء و للإنسان.

ونجد أنفسنا، وقد عدنا من جديد إلى عالم الفلسفة، نواجه، حقيقةً وليس خيالاً، مقلوبةً على رأسها ربما (و/أو واقفةً على قدميها في الحقيقة)، الإشكاليةَ الفعلية لواقعنا الإنساني القائم منذ بدأ وعيُ الإنسان لذاته – وأقصد إشكالية ذلك التناقض الذي يبدو وكأنه أزلي بين ذلك الإنسان المادي، المجبول منذ سحيق الزمن – كان ولم يزل – على مفاهيم الفردية والأنانية والتسلُّط والهيمنة، وبين حلمه، أيًّا كانت التجلِّيات الدينية و/أو الفلسفية لهذا الحلم؛ أو لنقل إشكالية التناقض القائم بين هذا الذي "حمل الأمانة" وهو، في الوقت، نفسه "منَّاع للخير معتدٍ أثيم"، كما وصفه محقًّا القرآن الكريم (القلم 12).

ونتفكَّر فيما تبدو وكأنها...

8

مستويات واقع مختلفة ...

لأن ما تطرحه الذرائعية في عالمنا اليوم من نسبية مفاهيم، باتت ترفضها عمليًّا كقيم خالدة بحجة أنها لم تُثبِت فعاليتها على أرض الواقع، يبقى منقوصًا جدًّا ولا يصمد أمام النقاش الجديِّ على أرضية الواقع نفسه.

لأننا حين نلغي من على أرض الواقع مفاهيم وقيمًا خالدة، كمفهوم العدالة مثلاً، بحجة أن هذه المفاهيم (القيم) لم تثبت فعاليتها، فإن ما يبقى ويحلُّ محلَّها، في المقابل وكمحصلة حاصل، هو تلك القيم والمفاهيم المنبثقة من قلب هذا الواقع القائم والمتمثلة بالمصالح المادية المباشرة (ليس حصرًا).

والحياة العملية قد أثبتت فعالية هذه المفاهيم المصلحية، إلى حدٍّ كبير ربما، ولكن... ضمن مستويات محدودة جدًّا ومحصورة جدًّا من الواقع، بما فيه تلك الأماكن حيث يبدو، لأول وهلة، وكأن نتاج التطبيق العملي لهذه الفلسفة قد نجح...

لأن النتيجة، إن نُظِرَ إليها على صعيد بشر مختلفين وفي نفس المكان، و/أو على صعيد الإنسانية والكرة الأرضية بشكل عام، لا تبدو نجاحًا على الإطلاق، مع الأسف، وإنما هي فشل إنساني ذريع...

فشل متمثل في تلك الحال المستعصية من الأزمة التي نعيش والتي باتت تهدِّد حتى بتدمير الحياة على كوكبنا حيث لم يعد "... تفاقم الأزمة الشاملة التي تجتازها الإنسانية اليوم أمر [...] بحاجة إلى برهان، ولم يعد بوسعه أن ينكره إلا كل متقوقع على نفسه في عالم وهمي من صنعه هو، لا يريد أن ينغِّص عليه هذا الوهم منغِّص..."

وهذه الأزمة ناجمة فعلاً، بشكل مباشر، عن "... أنموذج paradigm فكري ونفسي ساد على التيار "الرسمي" للثقافة الإنسانية... [و] يقوم... على عدد من المفاهيم والقيم السائدة، التي من أهمِّها اختزال الكون إلى منظومة ميكانيكية مكوَّنة من لبنات بناء أولية؛ والنظر إلى الأجسام الحيَّة كآلات؛ واعتبار العلم الوضعي التحليلي التخصصي الطريق الأوحد إلى المعرفة، واعتبار كل ما عداه من خبرات ثقافية وروحية من قبيل الترف الفكري؛ والنظر إلى الحياة في المجتمع كصراع تنافسي من أجل البقاء؛ والمراهنة بكلِّ شيء على التقدم المادي غير المحدود الواجب إحرازه عبر النمو الاقتصادي والتكنولوجي..."، أي بالضبط عن تلك الفلسفة التي أرادت أن تكون واقعية، فحصرت نفسها ضمن إطار ما افترضتْه، من حيث قيمه وأخلاقياته، ثابتًا لا يتغير. ولكن يا ترى...

ألا تجبرنا هذه الأزمة، من حيث عمقها، وإن على مستوى آخر، أن نبحث – ذرائعيًّا – عن مصلحتنا؟ وهذا الصعيد... ألا يعيدنا من جديد يا ترى إلى تلك الأخلاقيات والقيم الخالدة التي لم تثبت فعاليَّتها على مستوانا اليوم، ربما، إنما التي يفترض أن تنجح ضمن وفي...

9

مستويات واقع أرقى؟!

لأن الضرورة تقول إن "... الإنسان المعاصر [وقد بلغ] من تطوره الفردي والاجتماعي شوطًا يقتضينا بأن ننمي فينا نظرة منظومية systemic أوسع نستطيع من خلالها تبصُّر الكلِّ حتى نفهم الأجزاء..." تقول إنه بات يجب عليه أن يرتقي في العمق وأن يتغير...

لأننا، وقد وصلنا إلى ما وصلنا إليه، بحكم طبيعتنا وكأبناء لهذا "العصر الحديدي"، لا يمكن نستمر في السير بأنفسنا نحو هاوية تبدو لنا اليوم وكأنها المصير المحتوم لجنسنا البشري! فإنه بات يجب علينا أن نبحث عن طريق آخر...

طريق قد تكون خطوته الأولى، من أجل مجرد البدء بالتخفيف من حدة الأزمة التي نعيش، التمعنَ في واقع آخر، مازال اليوم وليدًا، و"... الإقرار [من خلال هذا التمعن] بأن الانقلاب الثقافي العميق المطلوب تحقيقه للتغلب عليها قد بدأ يتحقق..." واقع يقول لنا إنه "... بدأ باحثون على التخوم المتقدمة للعلم، و[في] شبكات معرفية بديلة، و[في] حركات اجتماعية متنوعة، [بدأوا] يستلهمون الحكمة القديمة ويتلقون تأييدها... [فبدأوا] بتطوير رؤية جديدة للواقع [قد] تصبح قاعدة للعمل الإنساني في سبيل التحول التدريجي نحو أنموذج جديد، ينطوي على مفاهيم وقيم جديدة..."

مفاهيم وقيم هي في الحقيقة انقلاب "... هو ثمرة خبرة روحية عميقة [باتت] تُترجَم عمليًّا [وكـ]ـنقلة نوعية في الوعي وفي النظرة إلى العالم: نقلة من رؤية آلتية mechanistic للواقع، محدودة الأفق، إلى رؤية كلانية holistic وإيكولوجية ecological الآفاق، تبيَّنَ أن المفاهيم والقيم التي تتبناها هي عينها المفاهيم والقيم التي توصلت إليها الحكمة الإنسانية المعبِّرة عن النضج النفسي والروحي للإنسان العاقل فيما يتعدى الزمان والمكان..."

طريق يُلزِمنا أخيرًا، من جهة، أن نبقى متمسِّكين، دائمًا وأبدًا، بتلك المبادئ والقيم الخالدة – التي يقولون اليوم إنها لم تثبت فعاليتها – لأنه لا يمكن من دونها تحقيق أيِّ ارتقاء إلى واقع أعلى؛ ومن جهة أخرى، يجبرنا أن نكون واقعيين، فنسعى لتحقيق تلك الأهداف – التي يجب أن تبقى ماثلةً دومًا في الأذهان وفي القلوب – بهدوء ورويَّة لأن هذا ما تفترضه وتتطلَّبه طبيعة البشر. لأن...

ليس كلُّ الناس كسيزان

لذا نكتفي بالقليل

نبكي ونضحك كيفما تيسَّر

في هذا العالم من الخمرة الرديئة...

أراغون

Tout le monde n’est pas Cézanne

Nous nous contenterons de peu

On pleure et l’on rit comme on peut

Dans cet univers de tisane...

Aragon

*** *** ***

horizontal rule

تعليق نُشر بتاريخ 10 نيسان 2015

قول على قول - بشار العظمة

انتهز تساؤلي حول ما يمكن أن يكون فجوة توثيقية صغيرة في افتتاحية معابر الأخيرة  الرائعة "تاملات في الفلسفة والأخلاق والسياسة" بقلم صديقي أكرم لأثير تداعيًا موضوعيًا أوسع يتعلق بكيفية تطوير "معابر" إلى ما أتصوره  أحد أهدافها الأساسية  في جسر الأفكار عبورًا نحو الآخر في اتجاهين لمزيد من التواصل والتفاعل بين أطراف من الممكن أن تتصور، في وقت ما، بأنها تتموقع على ضفاف مختلفة وربما متناقضة إن لم تحاول العبور اكتشافًا!!

الفجوة هي في ما أورده أكرم (من غير ايراد المرجعية) حول إشغال الموسيقي الشهير سيبيليوس لمنصب وزير لخارجية بلاده فنلاندا بعد الحرب العالمية الثانية وحواره من موقعه ذاك مع ديغول الذي اعتبر قبوله لذلك المنصب تنازلا عن مكانته الأهم كموسيقي عالمي شهير. أقول الفجوة لأنني لم أستطع ببحث مستفيض في ثنايا الشبكة العنكبوتية الهائلة الاتساع أن أتوصل إلى أية معلومة تؤكد بأنه شغل فعلاً ذلك المنصب، كما لم أعثر على ما يوثق مقولة ديغول الواردة في نفس المقالة. ومع ذلك أميل إلى اليقين بأن أكرم لم يورد قصته هذه جزافًا وهو الدقيق في المعالجة والتحقق، لذا أرجو مساعدة قراء معابر من المهتمين في محاولة تحقيق المرجعية وتوثيق المعلومة.

ما أحاول إثارته من خلال تعقيبي هذا باختصار هو التالي:

-        تشجيع توثيق أية معلومة يستند عليها استنتاجًا، ولحسن الحظ فإن الكم الخرافي من المعلومات (الصحيح منها والمغلوط) في تلك المنظومة الاخطبوطية يتيح امكانية ايجاد المعلومة والتحقق منها، أو التشكيك بها وصولاً إلى النفي.

-        تشجيع تحويل معابر إلى موقع تفاعلي تبدى عبره التعقيبات، ردود الفعل العقلانية، والآراء النقدية بل ومحاولة النقض ضمن أصول الحوار العلمي الموضوعي.

-        بالتشكيك/الاعتراض على ما جاء في مقالة صديق عزيز راحل، أمارس بتواضع حقي والآخرين من قراء معابر وغيرهم في تقييم ومناقشة ما ورد ويرد فيها، بما في ذلك ما دونه الراحلون، وبغض النظر عن مواقعهم والقابهم، طالما أن ذلك يخدم تطور فكر ومنطق ومحاولة تقدم الأحياء منا على وجه رقعتنا من هذه البسيطة.

لو كان بالإمكان عبور ما تناولته خاطرتي إلى ذهن أكرم في مقره اللانهائي، لتصورت محقًا بأنه كان سيسعد بتساؤلي، إذ لم يكن من محبي المسلمات، وكان من المتطلعين دومًا لاكتشاف أوجه أخرى للحقيقة خدمة للمعرفة البناءة!

horizontal rule

تعليق نُشر بتاريخ 10 نيسان 2015

رد من معابر

تشكر معابر الصديق بشار العظمة على تعليقه وتؤكد ترحيبها بأي تصحيح أو مقال نقدي للرد على إحدى المقالات المنشورة في الموقع طالما يلتزم معايير النشر في معابر - يمكن مراجعة صفحة الاسئلة المتكررة -. نفضل أن يأخذ الحوار طبيعة المقالات لأن ذلك يمنح وقتًا للتفكر على العكس من فتح باب التعليقات التي عادة ما يحكمها التسرع، هذا بالإضافة إلى عدم توفر الإمكانات الفنية والبشرية لتدقيق كل تعليق قبل نشره. كل الشكر والمحبة.

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني