بورخيس كما رآه
ألبيرتو مانغويل
العمى جعل مهمة الكتابة صعبة على الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، إذ
كان يحفظ ما يريد كتابته ثم يقوم بإملائه على من يقوم بالقراءة له
عمار المأمون
"هذا ليس كتابًا، هذه علبة شوكولا"، بهذه العبارة صرخ الكاتب
الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (1899-1986) عندما وصلته عبر البريد نسخة
فاخرة جدًا من قصته المؤتمر التي نشرها في إيطاليا فرانكو ماريا
ريتشي، ولشدة انزعاجه قام بإهداء الطبعة إلى ساعي البريد الذي أحضرها،
هذه الحادثة إلى جانب العديد من الحوادث الشخصية تصف حياة بورخيس
وعلاقته مع المراهق ألبرتو مانغويل (1948-الآن)، فبورخيس الأعمى تعرف
على مانغويل في الستينات من القرن العشرين، حين كان مانغويل مراهقًا،
ليصبح هذا الأخير قارئًا له، هذه المغامرة التي خاضها مانغويل مع
بورخيس عمل على تدوينها في كتاب صغير غني بالتفاصيل والملاحظات
المرتبطة بحياة بورخيس الشخصية والتي تكشف طقوس الكتابة والقراءة
المتعلقة به، الكتاب صدر عام (2004)، ومؤخرًا نشرته دار الساقي في
بيروت بترجمة لأحمد م. أحمد.
يتحدث مانغويل عن أول لقاء له مع بورخيس وكيف دخل إلى منزله ليفتتح
اللقاء بينهما بعبارة بورخيس "ألن نقرأ كيبلينغ الليلة؟"، بورخيس الذي
أصابه العمى وهو في الخمسينات من عمره نتيجة حالة وراثية، يحتاج إلى من
يقرأ له، الكثيرون مرّوا في حياته وقرأوا له ما أحب الاطلاع عليه،
وكأنهم يشاركونه حميميَّة هذا الفعل، فمانغويل الذي كان بائعًا شابًا
للكتب في مكتبة "بيغماليون" رافق بورخيس كقارئ لمدة خمس سنوات (من1964
إلى غاية 1968)، وكانت لهما جولات كثيرة في بيونس أيريس مكان إقامة
بورخيس حيث عمل أمينًا للمكتبة الوطنية.
بورخيس يُعرِّف نفسه بأنه قارئ أولاً قبل أن يكون شاعرًا وقاصًا
وناقدًا، ويرى أن "العالم الفيزيائي هو استحضار لقراءاته"، فالقارئ هو
الأساس، وكل قراءة لنص تفترض معنى خاصًا بالقارئ وهذا في حدِّ ذاته
مغامرة، بل نراه يطرح تساؤلاً ينقله مانغويل على لسانه "ماذا لو قرأنا
دون كيخوته على أنها رواية بوليسية؟".
يروي مانغويل موقف بورخيس من الفنون المختلفة، فهذا الأخير كان أصمَّ
موسيقيًا، ويُفضل بعض المقطوعات فقط إلا أنه كان شغوفًا بموزارت، كذلك
يتحدث عن زياراتهما للسينما سوية لحضور فيلم ويست سايد ستوري
west side story والذي كان بورخيس
يطري على الأداء فيه برغم عماه، إذ شاهده العديد من المرات حين كان
مبصرًا، كما ينقل مانغويل موقف بورخيس من الأدب إذ يرى هذا الأخير أن
الملحمة هي أصل الفنون الأدبية بوصفها تختزن الجماليات المتعلقة
بالحكاية والقص.
الذاكرة الحديدية
يبدي مانغويل إعجابه بذاكرة بورخيس وقدرته على حفظ قصائده وقصصه التي
كتبها بأكملها بالإضافة إلى الكثير مما قرأه من شعر وقصة بلغتها
الأصلية، كما ينقل تفاصيل متعلقة بمنزل بورخيس وكتبه، فما يثير الغرابة
أن منزله لا يحوي مكتبة هائلة بل بضعة كتب في الأركان المهملة، كما أنه
لا يحوي أيَّ كتاب قام بتأليفه، فالكلمات والنصوص كلها مختزنة في
ذاكرته ويذكر مانغويل تعليق الكاتب ماريو فارغاس يوسا (1936-الآن) حين
زار بورخيس وسأله "لم لا يسكن المعلم في منزل أكثر اتساعًا وفخامة؟"،
رأى بورخيس في هذا السؤال إهانة له وقد كان جوابه على "أحمق البيرو"
حسب تعبيره "نحن هنا في بيونس أيرس لا نهوى التفاخر". كما يذكر مانغويل
بعض المواقف الصبيانيَّة التي وضع بورخيس نفسه فيها، إذ يذكر مرة أن
بورخيس هاجم ثقافة الرجل الأسود بوصفها ثقافة لا أهمية لها عالميًا،
ويذكر كذلك عدم إعجابه بالكثير من الأعمال الأدبية الهامة، واستثناءها
من قراءاته كغوته وفرانسوا رابلييه وغي دي موباسان، لكن لا يمكن غض
النظر عن التجديد الذي قام به للغة الإسبانية بسبب قراءاته الواسعة،
وقدرته على تطويع العبارات وعمله كمترجم، حتى أنه قد درَّس في مدارس
الأرجنتين بوصفه من الكلاسيكيين.
الكتابة والتلقين
العمى جعل مهمة الكتابة صعبة على بورخيس، إذ كان يحفظ ما يريد كتابته
ثم يقوم بإملائه على من يقوم بالقراءة له، هذا الشرف ناله مانغويل
ويصفه في الكتاب:
أملاها عليَّ واحدة واحدة -سطور القصيدة-، مرخمًا بالإيقاعات التي
يعشقها، متلفظًا بعلامات الترقيم، يلقي القصيدة سطرًا إثر آخر، دون أن
يضفي الإحساس على البيت التالي، بل، بدلاً من ذلك، يستريح في نهاية كل
سطر.
ثم
يطلب أن تُعاد قراءته على أسماعه، مرة، مرتين، خمس مرات. يعتذر لهذا
الطلب، لكن سرعان ما يطلب مرة أخرى مصغيًا إلى المفردات، يُحيلها مرئية
في ذهنه، ثم يضيف سطرًا آخر، فآخر.
كان آخر ما قرأه مانغويل على أسماع بورخيس هو قصة هنري جيمس
the jolly corner ويذكر أنَّ آخر مرة
التقاه فيها كانت عام 1985 في باريس، بعدها توفي بورخيس في جنيف سنة
1986، التي قرأ فيها أزهار الشر لبودلير وحفظها عن ظهر قلب.
*** *** ***
العرب