في ذكرى أكرم أنطاكي: العدالة والمدينة

 

دارين أحمد

 

[...] ما يجب معرفته هو كيف نعيش حياتنا في أفضل شكل ممكن [...]، لأنه لا أحد منَّا يخاف الموت إنْ فَهِمَه على ما هو. إنما ما يخيف فعلاً هو مجرد فكرة أننا لم نعدل.

- سقراط، مخاطبًا بولوس (أفلاطون، غورجياس)

تراكَم القتل في الذاكرة، ليس قتل الأفراد فقط على فجائعيته بل قتل ما يجعل الفرد فردًا، إنسانًا ميَّزته الطبيعة بالعقل والنطق كما ميَّزت كل نوع من مخلوقاتها بما يجعل هذا الكوكب درة قائمة على الجمال وفيه قبل أي شيء آخر. لا يمكن وصف إيديولوجيات القتل بالحية رغم أنها تتسيد الحال؛ إنها نقيض الحي وإن كانت قائمة عليه وفيه، هي كذلك نقيض الموت - الموت كوجه أولي للطبيعة يتشارك المكانة مع الحياة، رغم أنها [الإيديولوجيات] تتماهى به كمعطى قسري في الشرط البشري لتبرير وجودها.

كيف يمكن وصف هذا الحال إذًا؟ وكيف آلت الأمور إلى ما آلت إليه بعد أن بدا أن عصر القتل الفاجر قد ولى، وأن الإنسان قد ترسخ نوعًا ما في مفاهيم الحداثة والحرية والحقوق والواجب؟ كيف حصل أن تم التعامل عالميًا مع تعميم القتل وانتهاك كل مفاهيم المدنية والحضارة والثقافة والقيم الأولية وكأنه واقع افتراضي مفصول عن الواقع المُعاش؟ فكرةُ أن يقف العالم عاجزًا أمام أكبر كارثة في العصر الحديث - الكارثة السورية – هي فكرة مخادعة، فالعالم ممثلاً بقياداته ودوله الكبرى لم يقف عاجزًا أمام كارثة حصلت وحدها وكبرت وحدها، بل هو ذاته المسؤول عن حصول هذه الكارثة سواء بشكل مباشر عبر الميكافيلية السياسية بأقصى تجلياتها انحطاطًا أو عبر شكل النظام العالمي مقترنًا بالاقتصاد العالمي الذي تمت بسترته وتصغيره حتى صار نظام عبودية لا تنفع كل الكليشيهات الفكرية في التخفيف من وطأة وضوحه القاسية.

لوهلة يبدو أن الربيع العربي لم يسقط أنظمته وطغاتها بل أسقط الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومنظمات المجتمع الدولي بكليتها، أسقط القيم الحقوقية التي يستند عليها هذا المجتمع في تبرير وجوده وشكله القائم. لم تعد مسألة الديمقراطية وتعميمها كنموذجٍ شماعة الحروب الحديثة هي المسألة الملحة إذ يبدو أن هذه المرحلة قد انتهت ودخلنا في مرحلة ما بعد الديمقراطية المفروضة من قبل دول العالم الأول التي نصبت نفسها قائدة للعالم الحديث ونموذجًا أوحدًا لشكل حكم يُطلب الاقتداء به قسرًا ويمنع الاقتداء به قسرًا في تناقض بلغ أوجه في ربيعنا العربي الذي أحرق الأخضر واليابس وسدَّ كل منفذ أمام الشعوب – مستخدمًا الشعوب ذاتها - في الوصول إلى ما قام عليه هذا الربيع بالذات. مسؤولية ما يحدث الآن من تصدع لا تُلقى على عاتق الشعوب التي تحركت للحصول على أبسط حقوقها في زمن الحقوق المالئة كل مكان في الإعلام وفي الحياة الثقافية والاقتصادية والاستهلاكية، بل يتحملها من جانبنا كمستهلك لمنتجات القبح السياسي العالمي طرفان: الطرف الأول هو تجار الدم من السياسيين والعسكريين، والطرف الثاني هو تجار الدم من المثقفين الذين دخلوا لعبة تبرير القتل رافضين حتى الاعتراف بالتكرار السطحي لمقولات لا تضيف شيئًا إلا الخراب المعرفي والاجتماعي والروحي.

من المفهوم أن يقصِّر التنظير الفكري أمام وضوح صورة الواقع السياسي كخطوط عريضة ولكن من غير المفهوم أن يصر مثقف ما على تكرار مقولة النجاح العسكري في حين يثبت الواقع يومًا بعد يوم وعلى مدى ثلاث سنوات فشل هذا الطريق في إيجاد حل، هذا بالإضافة إلى تصريحات ذوي الأمر من أن الحل السياسي هو الحل الوحيد، وهي تصريحات لا يشوبها خطأ فكري إنما يصدعها انهيار قيمي يتمثل في ما ذكرته سابقًا عن تناقض "الاقتداء-اللاقتداء" المتبع من قبل ساسة الغرب تجاه شعوب العالم الأخرى، إذ في حين يعيد كل ناطق باسم هذا العالم – عن الشأن السوري – أن الحل العسكري غير مجد وغير ممكن وأن الحل الوحيد هو الحل السياسي لا نجد على أرض الواقع إلا دعمًا لـ(خيار) – بين قوسين لأن مسألة كونه خيار أو لا هي موضع شك كبير – الحل العسكري وبترًا لكل تحرك نحو حل سلمي.

في الواقع السؤال المهم هنا: هل يمكن لأي حلٍّ أن يكون لاسلميًا؟ حتمًا لا. إنها لغة للتلاعب بالعقول كما قضية الإرهاب التي يتم ترويجها كأنها غزو فضائي من كوكب آخر. من هم الإرهابيين ومن صنعهم ومن يدعمهم؟ ما هي الثقافة التي ترعرعوا فيها؟ ألا يمكن للإسلام مثله مثل المسيحية التحرر من ربقة محاكم تفتيشه لو أطلق العالم السياسي سراحه وتوقف عن استخدامه كورقة لعب في لعبة السلطة؟ الثقافة التي أنتجت الإرهاب هي ثقافة العنف المُجمَّل التي تجدها في كل مكان. هي ثقافة الشد والصد المتبعة من قبل الغرب. وهي أساسًا ثقافة السلطة الميكافيلية المحكومة من قبل نظام اقتصادي فوق القانون وخارجه.

إذًا؟!

كتب الصديق أكرم أنطاكي مطولاً ودائمًا عن القيم الأخلاقية التي يجب أن نعيد ونكرر التركيز عليها، القيم الأخلاقية السياسية أولاً والاجتماعية تاليًا، فأكرم كان إنسانًا سياسيًا قبل أي شيء آخر - سياسيًا على الطريقة الأفلاطونية-السقراطية[1]، مؤكدًا أن الإنسان لا يمكن أن يوجد بغير مجتمعه وأن المجتمع لا يمكن أن يوجد بغير سياسة أخلاقية مدنية عادلة، وما سوء الواقع الحاصل إلا بسبب النخر السياسي الكبير الذي أقصى كل قيم خيِّرة وأحتفظ بشرِّ السلطة فقط.

ركز أكرم على العدالة واللاعنف في رؤيته السياسية لما يمكن أن ينقذ هذا العالم من شرور السياسة القائمة حاليًا. يقول في شرحه لفكرة العدالة - في مقال بعنوان في الإنسان والمدينة: محاولة للتفكر في واجب أسميناه عدالة - ما يلي:

إن جوهر العدالة في قلب المدينة قد يكون، من حيث المبدأ، وكما عرَّف به سقراط، "فضيلة احترام حقوق الآخرين" – تلك التي لا يمكن تحقيقها إلا بالطرق المدنية، والتي تبدأ، بحسب روسو، "بتنازُل البشر عن حقوقهم الطبيعية الغريزية لصالح تشريع سياسي مدني حقيقي". وحول هذه الحقوق تتمحور جميع الشرائع المدنية والدينية، التي تتفاوت عمقًا ورُقيًّا بحسب تطور البشر ومجتمعاتهم[2].

إذًا لم تكن العدالة في تعريف أكرم هي عدالة "السن بالسن" أي العدالة الانتقامية الرائجة جدًا هذه الأيام حتى التبست بالثأر وبالتالي خرجت من نطاق المدنية والحضارة الحديثة إلى نطاق القبلية أو الطائفية والقدامة - الملتبسة بالأصالة في هذا المستوى المنحط من الإيديولوجيا -. العدالة لا تكون إلا في عالم حقوقي، والحقوق تقتضي الواجب بالضرورة؛ من حق الإنسان أن يعيش حرًا ومن واجبه أن يقيد حريته حتى يتمكن الآخر من تحقيق حريته أيضًا. العدالة تقتضي الاعتراف بالآخر في حين يلغي الثأر مفهوم الآخر من الأساس. إذًا العدالة لا تكون إلا في المدينة (انطلاقًا من الفلسفة اليونانية) وباعتماد قيمها، هذه القيم التي تطورت وتبلورت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي ورغم التصدع الذي أصابه من جراء من حدث من تداعيات للكارثة السورية يبقى المنجى الوحيد للمجتمع والفرد من السقوط في واقع ماضوي في تخلفه إنما مع تطور تقني وعسكري، وهنا الطامة الكبرى.

العدالة بهذا المفهوم تقتضي اللاعنف أيضًا، أن تعترف بالآخر يعني أن تمتنع عن تأييد قتله حتى لو كان قاتلاً، فالقتل لصيق العنف وكلاهما حلقة مغلقة لا تنتج إلا مثيلها في امتداد أفقي مانع لكل تغير نوعي على صعيد الإنسان أو على الأقل مقيدٍ له. لا يمكن تحقيق العدالة في المدينة إلا بنبذ العنف لا تغيير قناعه، ولنا في الواقع الحالي عبرة لنتائج تغيير قناع العنف وتبرير الأقنعة الجديدة تحت مسميات الحروب والإرهاب.

يقول أكرم أيضًا عن العدالة والثورة قبل الثورات العربية بسنوات:

[...] كيف يُفترَض أن يسعى الإنسان إلى العدالة وأن يطبِّقها؟ – إن لم نقل: كيف في وسع الإنسان أن يكون "عادلاً"؟ ففي هذا التساؤل تكمن المشكلة الإنسانية الأساسية، القائمة منذ نشوء المدينة ومازالت إلى الآن. لأن العدالة التي كانت – ولم تزل – واجبًا أخلاقيًّا، مازالت تبدو متعذرة التحقق.

وأشطح بالخيال، فأتفكَّر في أن القضية، إن جُرِّدَتْ من واقعها وسياقها، فإنما تضعنا أمام إشكالية فلسفية تبدو وكأنها شبه مستحيلة! حيث أجدنا، منذ البداية، أمام مثالين يبدوان، للوهلة الأولى، وكأنهما على طرفي نقيض: مثال يمكن تجسيده في أنتيغوني، بطلة سوفوكليس، التي اختارت، من منطلق طهارتها وعنفوانها، التمرد ورفض الواقع القائم؛ وأجدنا في المقابل، أمام مثال إبراهيم، أبي الديانات الساميَّة الثلاث، الذي لم يكن يرى – وفق منطق مازال سائدًا – أية غضاضة في الخضوع لـ"ظلم" الإله، راضيًا – وبكلِّ خنوع – ارتكاب تلك الجريمة المتمثلة بتقديم ابنه إسحق (أو إسماعيل) قربانًا لها.

في الحالة الأولى – أي مع أنتيغوني – أجدنا أمام منطق الثورة، التي، إن تحققت بسحق الظالمين السابقين وإبعادهم، سرعان ما تفقد طهارتها، لتولِّد مباشرة، فور تحقُّقها، ظلمًا لاحقًا أكبر وأشرس من ذاك الذي أزيل، عوضًا عن أن تحقق عدالة جديدة. كما أجدنا، في الحالة الثانية، أمام موقف أقل ما يقال عنه إنه "لاأخلاقي"، يحلِّل ارتكاب الجريمة بكلِّ بشاعتها، باسم الخضوع للإله وباسم قوانين السماء. وفي كلتا الحالتين، نلاحظ انتفاء العدالة وانتفاء وجود الإنسان العادل، حيث تتحول العدالة إلى مجرَّد صورة كاريكاتورية، كتلك المتمثلة، وفق الأساطير القديمة، بحُكم الملك سليمان الذي أمر بشطر الطفل الحيِّ بين المرأتين اللتين كانتا تدَّعيان أمومته[3].

هانحن الآن وقد أكملنا عامنا الثالث في سوريا المحطمة وتزداد تحطمًا يومًا بعد يوم، إذ في كل إنسان يُقتل، وفي كل إنسان يَقتِل، تنكسر هذه البلاد أكثر؛ ها نحن نغرق في دم الأخوين الذي قال عنها سوفوكليس في أنتيغوني:

هذان الأ‌خوان في الدم، من أب واحد وأم واحدة، متشابهان في الغضب... تصادما وفازا بجائزة الموت المشتركة!

ما زلنا كما قلت يا صديقي نحلم:

بإنسان يتجاوز واقعه المنقوص، ليحقق إنسانيته من خلال تلك المثاليات التي يتفق حولها الجميع والراسخة في أعماق لاوعينا الجامع.

 

الرحمة لروحك ولهذه البلاد.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1]  راجع افتتاحية معابر أيلول 2003 بعنوان تأملات في الفلسفة والأخلاق والسياسة. http://www.maaber.org/issue_september03/editorial.htm

[3]  الرابط السابق.

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني