عام على فراق أكرم أنطاكي

 

نبيل مرزوق

[في العشرين من نيسان 2013 فقدت معابر وأسرتها الصديق أكرم أنطاكي، وإذا استمرت المجلة ودار نشرها رغم غيابه فإن فضله في ذلك سابق لكل شيء آخر. في نيسان لهذا العام تخصص المجلة عددها لذكراه الحاضرة في كل وقت]
أسرة معابر

 

يشارف عام على فراق أكرم، الذي رحل متعجلاً دون وداع. منذ ذلك الوقت هناك إحساس أكبر بالفراغ وبالفجيعة، إحساس أنْ لا تجد الأصدقاء الذين تستطيع البكاء على أكتافهم وطنًا وإنسانًا يتمزق. رحل توفيق ولحق به أكرم مسرعين، وكأنهما كانا يدركان ما ستؤول إليه سورية التي أحباها وحلما بازدهارها وعزتها، فآثرا المغادرة باكرًا، كي لا يشهدا ما نشهده من انهيار قيمي وإنساني. قد يكونا محقين في ذلك! لذكراهما الخلود. كنت قد كتبت شهادة في مناسبة رحيل أكرم ولم تنشر في حينه، ولدى مراجعتها اليوم لم أجد من حاجة للمزيد عليها، فما كان يتمتع به أكرم من صدق معرفي وبحث جاد من أجل الحقيقة والمعرفة، قد يكون موضوعًا لبحث في مساهمات أكرم وكتاباته، ولم أكن أتطلع إلى إيفاء أكرم حقه في العرفان والتقدير، بقدر ما كانت تلك المحطات من سيرة أكرم، ماثلة أمامي لحظة وداعة، لهذا أتمنى أن تنشر الآن كما هي دون رتوش أو تغيير.

***

كان مفاجئًا ومؤلمًا سماع ذلك الخبر، قبل ذلك بيومين تحدثنا على الهاتف وأخبرني أنه بصحة جيدة وقد تعافى من الحساسية التي أصابته، وسوف يذهب إلى عمله يوم السبت، كنت في حيرة وألم فنحن لم نلتق كفاية منذ مدة، تاركين للحياة أن تجرنا في زواريب متباعدة، وشعور بالذنب والمسؤولية عن عدم اللقاء. كنا في وداع صديقنا المشترك توفيق البطل، وكنا نواسي بعضنا بعضا، قال أكرم: "يجب أن نلتقي أكثر لنعوض غياب توفيق"، وأقريت بضرورة ذلك فتوفيق غال على قلبينا وهو السبب في صداقتنا التي نمت وتطورت سريعًا دون حواجز أو قيود. عادت بي الذاكرة إلى لقائي بأكرم وكيف نشأت تلك الثقة والمحبة بيننا بسرعة كبيرة ربما كانت تحتاج لسنوات وسنوات لتبنى. كنت مازلت في باريس وعاد توفيق إلى دمشق، وأرسل لي بعد مدة أن صديقًا عزيزًا عليه، يدعى أكرم أنطاكي، سيأتي إلى باريس، وهو يطلب مني التعرف عليه والاهتمام به. كنت أعرف أكرم عن بعد، أسمع عنه ولكننا لم نلتق سابقًا، وكنت أكن له إعجابًا وتقديرًا، فهو ذلك الشاب المتقد حماسة وجرأة في كلية الهندسة في دمشق، وهو المثقف اللامع بين شيوعيي الجامعة، شخصيته كانت مثار إعجاب حتى من قبل القوى السياسية المناوئة في الجامعة، وكان محل تقدير واحترام، وكمناضل من أجل التقدم وبناء الوطن حزم حقائبه فور تخرجه من الجامعة وغادر إلى الطبقة ليسهم في بناء سد الفرات؛ كل تلك الأشياء التي كنت أعرفها عنه جعلتني أتوق لاستقباله والتعرف عليه. لم تخب توقعاتي وسرعان ما شعرنا بأن صداقة قديمة وحميمة تجمعنا عززتها ثقة توفيق ومحبته. قضينا وقتًا جميلاً خلال وجوده في باريس، نقاشاتنا المطولة حول كل شيء، من السياسة إلى الحزب إلى الفكر والأمور الحياتية، وفي الأمسيات كنا نتبادل قراءة أشعار أراغون الذي كنا نحبه كلانا. لم يطل أكرم إقامته في باريس وعاد إلى عائلته في دمشق. تركت تلك الأيام لدي صورة لم تتغير مع الأيام ولكنها أصبحت أكثر إشراقًا، فالمهندس الشيوعي اللامع ذو الفكر المتوقد، والصلابة المبدئية والقدرة على التضحية والعطاء، قد كان رقيقًا وشفافًا ومحبًا للآخرين، مستوعبًا لأخطاء الأصدقاء وفظاظتهم أحيانًا، مغلبًا المحبة والتسامح على الكره والقطيعة.

بعد عودتي من الدراسة، احتفى بي أكرم، وكنا نلتقي بشكل متواتر وتدور بيننا نقاشات حول الحزب ودوره، ولم يطق أكرم الاستمرار في الحزب، فهو كان يرى في الشيوعية الإنسان وانعتاقه كجوهر، فلم يتقبل مراوغة السياسة وانتقائيتها ووصوليتها أحيانًا، فغادر الحزب ولم يتخذ موقفًا عدائيًا وكانت لنا نقاشات حول هذا الموقف وأهمية وضرورة وجود الحزب. اهتم أكرم في الفترة اللاحقة بالفلسفة والتاريخ بشكل أكبر من السابق، مما أثار حفيظة البعض بأن أكرم يتخذ اتجاهات دينية وإصلاحية، كنت أقول لبعضهم أنا أثق بأكرم فهو في الجوهر شيوعي، ولن يتغير وعلى العكس من ذلك إنه يزداد معرفة بالإنسان وبمحبته.

بدأ أكرم عام 2000 مشروعه الثقافي الفكري من خلال معابر التي أسسها مع مجموعة من الأصدقاء، وكان مفاجئًا لي حجم ما استثمر فيها من فكر وجهد. إن محبتنا ومعرفتنا بأصدقائنا تحول أحيانًا دون أن نوفيهم حقهم، حيث نعرف أنهم أصحاب مشاريع وطنية وإنسانية، وأنهم يحملون قيمًا عليا يناضلون من أجل نشرها وترسيخها في ما حولهم وفي وطنهم، ونعتبر ذلك أمرًا طبيعيًا وهذا ما ننتظره منهم، ولكن عندما ننظر إليهم نظرة الباحث في أثرهم وما قدموه لمجتمعهم، ندرك أنهم قد كانوا روادًا حقيقيين ومناضلين شجعان لم نوفِهم حقهم من التقدير والمؤازرة. لقد عمل أكرم دون ضجيج على المسائل الأكثر أهمية وإلحاحًا بالنسبة لمجتمعه، وحاول بصبر وأناة أن يثبت قيمًا إنسانية عليا كالحقيقة والحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان والمواطنة واللاعنف والحب والتسامح، بعيدًا عن الأضواء والشهرة، ولم يحقق من ذلك مكاسب مادية وشخصية، وهو المهندس اللامع ذو الخبرة والمعرفة الكبيرة باختصاصه والتي كان بإمكانه استثمارها وتكوين ثروة كالآخرين، ولكن أكرم فضَّل أن يحقق ذاته كإنسان وقد نجح في ذلك، أقله من منظور محبيه وأصدقائه الذين يعترفون له اليوم، وأنا منهم، بأنه كان إنسانًا حقيقيًا حبه للبشر دفعه ليكرس حياته ليجعلهم يتمتعون مثله بإنسانيتهم.

عزيزي أكرم عتبي عليك أنك غادرت فجأة فلم تتح لي الفرصة لأقول لأحدهم "يجب أن نلتقي أكثر".

*** *** ***

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني