|
أيقونات جديدة في زمن الثورة
حبٌّ في حشا الغريب في شهر آب المنصرم، اشتد الحصار على إحدى مناطق ريف دمشق. يومها، وقبل أن يُدمَّر المكان، اعتلى القناصون سطوح البنايات المجاورة، وبدأت طائرات الهليكوبتر بإمطار منازل الأهالي بنيرانها. أحد الناشطين المعروفين في المنطقة، الذي لم يكن من البلدة المنكوبة، لم يستطع البقاء في منزله الآمن البعيد، فأصدقاؤه يُقتَلون! من أجل هذا، قرر الغريب التسلل إلى مكان الموت، ونجح بعد محاولات عدة في الوصول إلى المستشفى الميداني حيث تمَّ اسعاف الجرحى. سجَّل ليلتها اسماء سبعة عشر شهيدًا، ولا يزال أنين الجرحى الثلاثين الممددين على البلاط حيًا في ذاكرته. عند الخامسة فجرًا هدأت النيران قليلاً، فاغتنمت العائلات الفرصة للنزوح إلى حدائق دمشق هربًا من الموت المقبل. ساعد ناشطو الحي، ومعهم الغريب، الأهالي بالفرار، لكن شعور العجز أمام فداحة المشاهد كان أشد قسوةً من أن يستطيع صديقنا احتماله، لكن ما العمل؟ لم يبق عند الشاب المسكين نقودٌ يساند بها الأهالي، فقد أعطى القليل الذي عنده حتى القرش الأخير! إحدى الممرضات المقربات من صديقنا قررت ليلتها، في لحظة يأس، أن تحمل سلاحاً تدافع به عن أهلها، أما هو فقد خطرت على باله فكرةٌ أخرى، بثَّها بهدوء في أذن الفتاة: "سأبيع إحدى كِليتيَّ لأشتري دواءً للجرحى!". ارتبكت الشابة أمام هذه الفكرة المخيفة، أما الغريب فقد كان واثقًا من طلبه: "ساعديني على بيعها"، ليضيف ساخرًا: "لكنني أريد سعرًا دسمًا!". هزت الفتاة رأسها بهدوء في محاولة يائسة لإخفاء الماء الذي انسل من العين بصمت... بين الجنة والعدم تأخذ القصة هذه بعدًا خاصًا حين نعلم أن الشاب ليس غريبًا عن المنطقة التي يعمل فيها ناشطًا وحسب، بل غريبٌ أيضًا عن عاداتها وإيمانها، فالبلدة محافظةٌ تقليديةٌ، أما صديقنا "فلا أدري"، ولا يشاطر أهلها حالهم الإيمانية! قد تدفعنا طبيعة مجتمعنا إلى مقاربة نضال شعبنا من منظور ديني، لنرى في تطلعنا إلى الحرية والكرامة نوعًا من التعبير الصادق عن "الإيمان بالله" و"نصرة الحق"، وربما أيضًا عن انسجام الإنسان "المؤمن" مع ذاته في سعيه على الصعيدين الديني والدنيوي. إلا أن النضال هذا قد يأخذ أيضًا، بسبب عوامل عدة (أهمها العنف اللامعقول الممارس على شعبنا، وتواطؤ المجتمع الدولي مع ما يجري في بلدنا)، أشكالاً متطرفة، ليرسم، أول ما يرسم، انفصال الإنسان "المؤمن" عن الواقع، وانقسامه على ذاته. لكن، أيًا تكن علاقة الدين بالثورة في نوسانها بين التشدُّد والاعتدال، سيعطي الدينُ، في غالبية الأحيان، الباحثَ "المتديِّن" نوعًا من الرضا: إنه الرجاء برحمة "الله" وعدله، ورجاء الانتصار على الموت. من المنطلق هذا، تكتسب قصة الشاب التي سردت أعلاه، وما شابهها من قصص، أهميةً خاصة، فلا "الإيمان" محرِّكها، ولا "جنة موعودة" ينتظرها صديقنا، ولا العزاء الديني المرافق لنضال "المؤمنين" حاضر فيها! أيقونات هجرت جدران المعابد بالطبع، قد تعطي التضحية بالذات صاحبَها نوعًا من الرضا حين تنسجم مع مبادئه الشخصية، وقد تحقق ربما ضربًا من الأحلام البطولية أو الصور النمطية اللاواعية العاملة في نفس كلِّ واحد منا. لكن ذلك لا ينفي حالة الهوة الرهيبة التي قد تستولي على الإنسان "اللاأدري" (وأحيانًا "المتدين" أيضًا) أمام "العدم" المقبل؛ رهبةٌ قد تستحوذ عليه قبل أن يصير الجسد ترابًا والإنسان محض حكاية يسردها من بقي على قيد الحياة. لذا قد تصير تضحية "اللاأدري" واستشهاده، في وقتٍ يكثر فيه الكلام على الطائفية في الشارع السوري، مخصِّبةً إلى الحد الذي تستطيع معه أن تطرح علينا، بصدق وجوديٍّ، السؤال المؤرِّق: لِمَ أقاوم ولِمَ أموت؟ أبحثًا عن "جنة موعودة"، أم يأسًا من الواقع، أم نصرةً لديني، أم إيمانًا مني، وقبل كل شيء، بحقنا في الحرية، وبكرامة الإنسان أيًا يكن؟ تعرض علينا تضحية "اللاأدري"، شرط أن تتجنب بدورها التزمت الذي يطغى على بعض الإيديولوجيات، نوعًا من التزام جديد يختلف عن منطق الثواب والعقاب. لذا قد يستطيع هذا الحب "اللاأدري" الملتزم الواقع أن يدفع "المتدين"، حين تسمح له نفسه بأن يتعلَّم من الغريب، إلى استقبال التزامه الديني بحلة جديدة: حلة المجانية حيث يكون الحب للحب فقط، والعبادة للعبادة، لا طمعًا في الثواب ولا خوفًا من العقاب! هكذا يمكن صديقنا الذي بقي خارج الأطر الدينية السائدة، أن يصير، على الرغم من البعد أو ربما بسببه، أيقونة حيَّة نتأمل فيها إيماننا، وفيها يتوشح الدين بألوان صوفية حيَّة، لتتمتم الشفاه مع الصِدِّيقة رابعة العدوية: اللهم إن كنت أعبدك خوفًا من نارك فاحرقني بنار جهنم، وإذا كنت أعبدك طمعًا في جنَّتك فاصرفني منها. أما إذا كنت أعبدك من أجل محبتك فلا تحرمني من رؤية وجهك الكريم! *** *** *** 17 - 11 - 2012 ٭ راهب يسوعي سوري. |
|
|