|
حصان الفلسفة أم عربة الدين؟
إن المسافة إلى الله هي أقصر من أن نقطعها بحواسنا، وأبعد من أن نبلغها بأفكارنا. وبما أن الفلسفة هي فن الالتفاف على كثافة الأشياء للنفوذ إلى الماهيات، فإن فهم الذات كان دائمًا حكرًا على الفلاسفة والأنبياء. وجدلية العلاقة بين الطرفين تكمن في أنه لا يمكن إدراك فكرة أحدهما، من دون المرور إليها عبر فكرة الآخر. فما جدوى الفلسفة إذا لم تبحث في الماهية، وكيف لنا، ونحن لسنا بأنبياء، أن نفهم ماهية الدين والذات الإلهية بعيدًا عن الفلسفة؟! هذا ما جعل الرابط يبدو منطقيًا بين الدين والفلسفة، كمنطقية الرابط بين الدلو والبئر العميق، فلا جدوى لأحدهما بدون الآخر، لأنه لن يكون هناك ماء، من دون أن نقفز في البئر، لنموت عند لقاء الماء، ولكن هل الانتحار يطفئ الظمأ؟ إن ميل الإنسان إلى التعبُّد هو ميل وجداني أصيل كتلبية لنداء حنينه الدفين ولملئ خواءه الداخلي الناتج عن حيرتهِ أمام طلاسم وجوده، وفي مقدمتها الموت والفناء، فكان لا بد له من بلسم ما ليستسيغ الحياة وليعثر على مبرر وقيمة ومعنى لها. لذلك كانت كل أمة تركن إلى دين يعلل لها "محنة وجودها" بطريقة ما، وكانت تلك الطرق تتفاوت بين الاكتفاء بعبادة صنم وبين السعي للنفوذ إلى المطلق. ولكن مهمة الدين كانت تسعى دائما إلى عقلنة الجنون الذي قد يكون كامنًا في أي فرد أو جماعة أو فكرة، وليس تفعيل ذلك الجنون أو شرعنته، وأي دين في أي حقبة تاريخية كان قد ساهم في تعزيز الخيار الثاني هناك شكٌّ في أصالته أو خطأ في فهمه. ولكن ما أكثر تكرار ذلك الخطأ. إن الدين بجوهره هو سعي نحو الله كحقيقة نهائية مطلقة، ولكن الإنسان غالبًا ما يستعمله كإسقاط لمخاوفه ورغباته. إذ يصبح الدين أكثر مركزية وإلحاحًا كلما عجز البشر عن فهم الظواهر والأحداث التي تحيط بهم، أو كلما اشتدت بهم الأزمات والنوائب، حيث يصبح التوق شديدًا إلى قوة خارقة يثق بها الإنسان ويسلم لها أمور وجوده المضطرب. فقد قِيل عن اليهود، عندما كانوا يصنعون لاهوتهم، إنهم كانوا يطلقون اسم الله على أي ظاهرة لا يستطيعون فهمها، وكان تيههم واضطهادهم في الأرض بمثابة الوثاق الذي كان يشدهم إلى دينهم السماوي، بعد أن كانوا قد فقدوا ثقتهم بالأرض. وأمتنا الإسلامية ليست استثناء، فقد كان توالي الهزائم عليها في العقود الأخيرة يتناسب طردًا وعمقًا واتساعًا مع توغل الأصولية الإسلامية وامتدادها على طول العالمين العربي والإسلامي. فتعففنا عن الأرض لهول ما يحدث عليها، ولكن هل كنا حقًا نعرف الطريق إلى السماء؟ لقد وجدنا خلاصنا بالدين؟ ولكن ما الدين؟ يقول ابن رشد: "إن الله لا يمكن أن يعطينا عقولاً، ويعطينا شرائع مخالفة لها". وقول ابن رشد هو ليس ارتيابًا بالدين، بقدر ما هو ارتياب بالعقول التي تؤولهُ. فالقرآن مُنزل ولكن تفسيره ليس كذلك، والشريعة لا يمكن فهمها وتطبيقها إلا في سياق الفهم الشامل للدين، وبدون ذلك الفهم الكلي، نكون كمن أخرج الجُملة من سياقها في النص وقام بتأويلها كما يحلو له، وقد نحصل في النتيجة على فهم معاكس للمعنى المراد من تلك الجُملة عندما تكون ضمن سياقها الأصلي. وابن رشد كفيلسوف ومتنوِّر، كان ينفي وجود الفارق بين الدين والنزعة العقلانية، فكان يتَّبع الفلسفة كطريق آمن لمعرفة الجوهر الكامن وراء الشريعة، حتى يكون للشريعة السند الذي يُسوِّغ وجودها، كونها نتيجة لسبب له الأولوية المنطقية عليها. فنحن لا نصلي للصلاة، وإنما نصلي لله، ولا نعبد الشريعة، وإنما نعبد من أوجدها. والشريعة نفسها ليست سببًا للاعتقاد بالله ولكنها نتيجة لذلك الاعتقاد، وتقديسنا للعربة لا يمنحها الأولوية لكي نضعها أمام الحصان، وحتى لو كنا نملك أصدق وأطيب ما في العالم من نوايا فإن العربة لن تسير، وليس من الحكمة أن نحملها على ظهورنا ونسير بها، فالأولى بنا أن نبحث عن الحصان. هذا ما كان يدعو إليه المفكرون والفلاسفة منذ فجر التاريخ: "ابحثوا عن الحصان"، والفلسفة بدورها كانت الحصان الأصيل الذي كان لهُ الدور الفعَّال في انتشال الشعوب وسحبها من الظلام إلى النور، وأوروبا المعاصرة هي خير مثال. وبالتالي لا مناص لنا من ربط الفلسفة بالعربة التي تحمل كل إرثنا الثقافي والديني، لأن ذلك الرابط سيكون بمثابة الجسر الذي يعبر بنا من حلقتنا المفرغة إلى الضفة الأخرى التي عبر إليها من سبقنا من شعوب بنفس الآلية. قد يقول قائل: ولكن هذا تقليد أعمى وتبعية للغرب وتجاهل لخصوصيتنا. تجيب كارين أرمسترونغ: "إنه لأمر يدعو إلى التأثر والسخرية أن يبدأ المسيحيون الغربيون بالنزول إلى الفلسفة في اللحظة التي بدأ اليونانيون والمسلمون يفقدون الإيمان بها". والحقيقة أن السواد الأعظم من علماء المسلمين، في فترة ازدهار الدولة الإسلامية، كانوا فلاسفة، حيث نجحوا في أغلب الأحيان في اتباع منهج توفيقي بين الدين والفلسفة، بأناقة وحكمة حافظت على قدسية القرآن وقدسية العقل والمنطق في آن واحد. وتستشهد الكاتبة سالفة الذكر في كتابها الله والإنسان بالفلاسفة المسلمين الذين لم يروا تناقضًا بين الوحي والعقل، بين العقلانية والإيمان، لذلك طوَّروا ما يسمى بالفلسفة النبوية. أرادوا ان يجدوا جوهر الحقيقة الموجودة في قلب جميع الأديان التاريخية التي كانت تسعى إلى تحديد حقيقة الله ذاته منذ فجر التاريخ. وقد كان يعقوب بن اسحاق الكندي أول من طبَّق الطريقة العقلانية على القرآن، والذي يقول: "يجب أن لا نخجل من الاعتراف بالحقيقة ويجب أن نتمثلها من أي مصدر جاءت، حتى لو وصلتنا من أجيال سابقة ومن شعوب أجنبية [...] فلا قيمة أعلى من الحقيقة". ولم يقصر نفسه على الأنبياء بل التفت إلى الفلاسفة الإغريق، فاستخدم مناظرات أرسطو حول وجود المحرك الأول. وكذلك فقد رأى أبو نصر الفارابي أن الفلسفة هي السبيل الأفضل لفهم الحقائق التي عبَّر عنها الأنبياء بأسلوب مجازي شعري كي يفهمها الناس. أما أبن سينا الذي كان منجذبًا إلى الفلسفة الأفلاطونية المحدثة والذي قام كذلك بتفسير عقلاني لوجود الله مبني على براهين أرسطو، كان يعتقد أن الكون كان عقلانيًا، وفي كون عقلاني لا بد من وجود "وجود غير مُسَبِّب" أو "مُحرِك لا يُحرَّك". في قمة سلسلة الوجود شيء ما، لا بد أنه قد بدأ سلسلة سبب ونتيجة. وهو ما أسمته الأديان الله، ولأنه أسمى شيء، لا بد أنه كامل مطلقًا وجديرًا بالتمجيد والعبادة. إضافة إلى أن الفلسفة ليست حكرًا على دين أو ملكًا لأمة بعينها، بل هي نتاج مشاع لجهود العقل البشري، ولتراكم تجاربه. ذلك العقل الذي عندما درس هيجل تطوره من خلال فلسفة التاريخ، لم يكن يهدف إلى دراسة تاريخ أمة بعينها في زمان ما، وإنما تاريخ حضارة الجنس البشري قاطبة، وليس لاهتمامه بأحداث التاريخ لذاتها، وإنما لاهتمامه بالجوهر الكامن وراء تطورها، أي العقل البشري بوثباته وعثراته وانتكاساته عبر التاريخ. كان يتجاوز الجزئيات نحو الكلي ولمصلحة الكل، بغية استخلاص النتائج واستنباط العِبر لبناء هرم متماسك قوامه: الفرد، المجتمع، الدولة، في معادلة كان الدين مُكمِلاً لها. فالفلسفة إذن إرث للإنسانية وهي تستمد من الإنسانية مادتها، وهي كذلك ليست مُقترِنة حتمًا بالإلحاد أو تجاوز الدين، وفولتير نفسه الذي كان من أشد أعداء الكنيسة، كان يدعو إلى التفرقة بين الدين والخرافات، وعداؤه للكنيسة كان بسبب فسادها وتسلطها، وليس بسبب رفضه لقيم الديانة المسيحية أو لدورها في بث التناغم الروحي في المجتمع. علاوة على أنه كان يرفض الإلحاد رفضًا باتًا. وحتى الفلاسفة، أمثال كانط وشوبنهاور وسبينوزا، الذين تجاوزوا الدين، لم يكونوا منكرين "للذات الإلهية"، وإنما على العكس، فاتهام سبينوزا بالهرطقة والضلال الديني وحرمانه من الكنيس اليهودي، كان بسبب إخراجه لمفهوم الله من الوثنية إلى الشمول والكلية. ألم تعدم أثينا فيلسوفها سقراط بالسم بتهمة الزندقة قبل ذلك بعشرين قرنًا لأنه أنكر تعدد الآلهة ودعا إلى عبادة إله واحد؟ فلا غرابة في أن يمنح بعد ذلك كل من أفلاطون وأرسطو، وجُلَّ من أتى بعدهم من فلاسفة، الأولوية لتنوير الأفراد على حقهم في اختيار حكامهم. ألم تكن الديمقراطية هي التي أعدمت سقراط؟ هذا ما يدفعنا إلى الاستنتاج بأنه لا بد لنا من منح النخبة المتنورة في مجتمعنا صلاحيات حقيقية لتوجيهه ولإدارة شراع منظومته الروحية، من دون التفكير بالمخاطرة بترك القارب أو قلبه لأن هناك من يسيء توجيهه، وكذلك فإن رحلتنا ستكون دائمًا محفوفة بالمخاطر ما دام الخبَّاز بعيدًا عن خُبزهِ، لدرجة أن أفلاطون حذَّر من أنه لن يكون هناك خلاص للمجتمع إذا لم يصبح الفلاسفة ملوكًا أو يصبح الملوك فلاسفة، في سعيه لتحصين بنيان جمهوريته بأعمدة الفلسفة. لا شك بأن مهمة كهذه لن تكون سهلة، ولاسيما أن مجتمعاتنا محبطة ومثقلة بهزائمها، مما يجعل القوالب الجاهزة والحلول السحرية تمارس إغراءها علينا، ولكن لا مناص لنا من أن نبدأ بالعمل على عقول الناشئة، وذلك بحقن جرعات تدريجية من النور فيها، والأولى بنا أن نُدرج في مناهج تعليمهم فلسفات تحاكي فلسفة "وحدة الوجود" مثلاً، والتي تعتبر جوهر فِكر الفيلسوف الإسلامي والشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي، لتنير عقولهم وتبعث التناغم في فهمهم لما حولهم، بدلاً من إشغالهم بشيطنة أبي لهب وحكايات أبي جهل وتركهم فريسة للدجالين والمشعوذين. فنظرية ابن عربي في فهمه للدين وللوجود هي فلسفة تعكس روح الإسلام وجوهرهُ لمن فهمه بعمقه وبمركزية رسالته، وهي في الوقت نفسه طريقة لفهم الوجود والإحاطة بقضاياه الكبرى. "إن الحضارات هي نظرات للوجود [...] وتاريخ الإنسانية تاريخ حضارات، أي تاريخ طرق خاصة لتعليل الوجود، تلك هي الفلسفة" كما يصفها د. كمال الحاج، حيث يضيف "إن الفلسفة تمنح معطيات الدين مناعة المنطق". والحقيقة أنه بدون تلك المناعة فإن الدين قد يصبح أقرب إلى الوثنية أو الخرافة من قربه إلى الوجدانية المستقرة القادرة على الاستمرار والتعايش مع المتغيرات في الزمان والمكان. لا يمكن للفلسفة العقلية وحدها أن ترشدنا إلى إدراك ماهية الله، ولكن بالمقابل، لا يمكن للدين غير المتمفصل على الفلسفة أن يروي ظمأ وجدانيتنا مع ضمان عدم تعريضنا للانحرافات أو للانزلاق في المفاهيم المشوهة، لذلك كانت مهمة الفلسفة تنقية الدين من الشوائب التي أفرزتها نسبية مفاهيمنا عن المطلق، وتثبيت أركان العقيدة على أسس أكثر مرونة ومنطقية. فالقليل من الفلسفة، كما يقول جوته، قد ينزع بعقل الإنسان إلى الإلحاد، ولكن التعمق فيها ينتهي بعقول الناس إلى الإيمان. *** *** *** |
|
|