قصة أسطورة 2: النسر ذو الرأسين

أكرم أنطاكي

 

من غلب فإني اجعله عمودًا في هيكل إلهي فلا يعود يخرج، وأكتب عليه اسم إلهي واسم مدينة إلهي أورشليم الجديدة النازلة من السماء من عند إلهي واسمي الجديد.
العهد الجديد، سفر الرؤيا، 3:12

سوف أقدِّم لكم سرَّ الأسرار. حيث المرايا هي البوابات التي يدخل ويخرج الموت من خلالها. لذلك انظروا إلى المرآة مليًا طيلة حياتكم وسترون الموت يفعل فعله كالنحل في قلب خلية من زجاج...
جان كوكتو، وصية أورفيوس

1
في رمزية الحياة

يقدِّم الشاعر والكاتب الفرنسي الكبير جان كوكتو (1889 – 1963) في واحدة من أشهر مسرحياته (وأفلامه) التي أخرجها عام 1948، النسر ذو الرأسين، قصة حبٍّ أسطورية بين ملكة كانت تعيش في قلب عزلة أحزانها، لأنها فقدت في ليلة زفافها زوجها الذي كانت تحبُّه، وبين شاب فوضوي معاد للملكية يدعى ستانيسلاس، اخترق مخدعها ذات ليلة من أجل قتلها، فرأت فيه صورة حبيبها الراحل كما رأى هو فيها أميرة أحلامه. ويجتمع الحبيبان، وتتحول الملكة إلى ثورية وفوضوية ويتحول الثوري إلى مؤيد للملكية. لكن الأجواء المحيطة بهما، لنقل البلاط، لا يمكن أن يسمح لقصة حب كهذه أن تكتمل. فتكون النهاية أن ينتحر ستانيسلاس من أجل أن تبقى ملكته على رأس مملكتها وتقتل الملكة نفسها بيده من أجل أن تلتحق به إلى عالم الموت الذي سيجمعهما إلى الأبد.

وأتساءل وأنا أعاود قراءة هذه القصة الحزينة لماذا اختار جان كوكتو النسر ذو الرأسين عنوانًا لمسرحيته؟

2
استطراد

كان الجوُّ عاصفًا حين وصلت إلى تلك البلدة الجبلية تلبيةً لدعوة شرَّفني بها بعض الأخوة. وهناك استقبلتني، مع الأخ الذي جاء للقائي، وكأني في قلب مشهد سوريالي، أنوار البرق وأصوات الرعد التي أخافتني وخلتها لهنيهةٍ كأصوات القذائف التي تنهمر اليوم على الأبرياء في بلدي.

ودعاني الأخوة إلى زيارة محفلهم.

-         مبدئيًا لا يسمح لمن لم يتلقون المساررة بالدخول إلى المحفل يا أستاذ.

هذا ما قاله لي أحد الأخوة الذين كانوا يرافقوني ليفهمني أنهم أخصُّوني بشرف كبير. فشكرتهم على ذلك. وتمعنت بفضولٍ في المحفل الذي بدا لي نظاميًا من حيث أساسه وفرشه. ونظرت إلى سقفه الأزرق المزين بنجوم اصطناعية متلألئة وإلى أرضيته التي تشبه رقعة الشطرنج بلونيها الأبيض والأسود. وتمعنت في المنضدة التي عليها ثلاثة شمعدانات تحيط بكتاب مقدَّس. وتأملت صدر الغرفة حيث يفترض أن يجلس رئيس المحفل ومساعديه. وتمعنت كذلك في الصور التي تزين جدرانه والتي كان أبرزها مجسَّم لنسر مذهب ذو رأسين. وقال لي الأخ الذي كان يرافقني:

-       أنت تعرف حتمًا يا أستاذ ماذا يعني هذا الرمز.

فهززت برأسي ولم أعلِّق. ربما لأني لم أشعر في حينه، وأنا أتأمله بأيِّ خشوعٍ إنما شعرت بغصَّة، وكأن شيئًا ما كان يشدُّني إلى الخلف ويدعوني إلى المزيد من التفكير، وكأنه ملاكي الحارس يمسك في تلك اللحظة بيدي لينبِّهني إلى خطر محدق. ملاك شبيه بذلك الذي تحدَّث عنه جان كوكتو في أحد أجمل قصائده حين قال مخاطبًا ذلك الذي رافقه طيلة حياته:

أيها الملاك، يا حارس الأخوات التسع
أنت وحدك تعرف سرَّ مساري
ذلك الدرب الذي إن حدت عنه
سارعت للإمساك بيدي
.

3
في البدء كان طائر الفينيق

 

بعجبٍ وبصمتٍ كان كهنة معبد رع في هيليوبوليس يتأملون النسر المحلِّق في أعالي السماء. كانوا ينظرون بإعجاب إلى انعكاس أشعة الشمس على ريشه ما يجعلها تتلألأ بألوان زاهية وعجيبة. كانوا يتأملوه وهو يدور ببطء محركًا رأسه بسرعة يمينًا ويسارًا ما يجعله يبدو وكأنه ذو رأسين.

-       إنه رع ينظر إلينا ويتأمل أفعالنا!

هكذا قال أحد الكهنة بصوتٍ منخفض...

-       إنه رع الذي يذكِّرنا دائمًا بأن أوزيريس لا يموت إنما يعود دائمًا من جديد!

وينقض النسر من علٍ على فريسته التي حدَّدها، ويختفي عن الأنظار. ويصرخ الكهنة بخوف وبتعجب:

-       لا تخافوا... سيعود حتمًا... لأن رع خالد لا يموت... وسيقوم أوزيريس من الموت من جديد...

في مصر القديمة كان الإله رع يُرسم دائمًا وله رأس نسر. وفي مصر القديمة كانت أسطورة طائر الفينيق الذي لا يموت ترمز إلى الخلود وإلى القيامة.

ونتفكَّر بخشوع أنه من اللافت للنظر كون العديد من المقابر التي بنيت هناك قبل آلاف السنين من عصرنا، وخاصةَ منها تلك التي تعود إلى ما قبل توحيد المملكتين العليا والسفلى، أي قبل أن يفكِّر أحد ببناء الأهرامات، كانت تحتوي على نقوش وتماثيل حجرية لنسر ذي رأسين.

فقد كان النسر على مرِّ العصور رمزًا لآلهة السماء. حيث يرمز النسر الكوني إلى أقصى ما تتطلع إليه الروح الإنسانية من سمو وإلى انتصارها على طبيعتها الشهوانية. لهذا السبب ربما كانوا غالبًا ما يصورون النسر وهو في حال صراع مع الثور الذي يمثل الشهوات الأرضية أو مع الثعبان الملتصق بالتراب والذي يمثل الشرَّ. وأيضًا...

غالبًا ما كان النسر يستخدم كرمز للشمس، وأحيانًا كرمز للبرق وللرعد. كما أن الأصول الأسطورية للنسر الإلهي كانت تتصوره كائنًا هجينًا أو إنسانًا متحولاً غالبًا ما يكون ملكًا و/أو بطلاً أسطوريًا. وأيضًا...

تنجيميًا كان ينظر إلى النسر وكأنه التجلِّي الأعلى لبرج العقرب الذي يعتبر الثعبان تجلِّيه الأسفل. أمَّا من منظور الخيمياء فإنه يرمز إلى الهواء الذي غالبًا ما يتمُّ ربطه بعملية التصعيد. كما يمثِّل النسر ذو الرأسين مبدأ تزاوج الأضاد. وأيضًا...

في الأسطورة اليونانية القديمة، كان النسر Aquila (الذي كان فيما مضى الملك باريهاس) حامل بروق زيوس كبير الآلهة وناقل رسائله. من هذا الأصل اليوناني للكلمة اشتقت التسمية الإنكليزية للنسر eagle وكذلك تسميته الفرنسية aigle.

كما كانت البومة وهي من فصيلة النسر الشعار الذي تبناه اليونان القدماء لإلهة الحكمة آثينا ولمدينة أثينا عاصمتهم وأعرق المدن اليونانية.

كذلك تبنى قياصرة روما شعار النسر ذو الرأسين الذين اقتبسوه (يا للصدفة) من أعدائهم الفرس. وأيضاً...

 

وقد انتقلنا إلى حضارات بلدان ما بين النهرين، فإن الأساطير تتحدث عن النسر الذي حمل الملك إيتانا الباحث عن شجرة الحياة إلى السماء. فالقصائد السومرية القديمة تحدثنا عن نسر وثعبان كانا يتعايشان بشكل مثالي حتى جاء اليوم الذي اختلفا فيه، فافترس النسر الثعبان الذي كان يتعايش معه، ما أغضب الثعبان الأكبر الذي قبض على النسر وسجنه في بئر عميق حتى جاء إيتانا لإنقاذه. وأيضًا، كانت الحضارات القديمة لممالك ما بين النهرين، تستخدم رمزية النسر ذو الرأسين للتعبير عن عظمتها القائمة على تزاوج السلطتين الدينية والدنيوية.

ثم أصبح النسر في المسيحية شعارًا للقديس يوحنا الإنجيلي وأحد رموز الأناجيل الأربعة المعتمدة.

وأتفكَّر أن كلَّ هذا كان يعرفه حتمًا جان كوكتو الذي استخدم الرمز الأسطوري المغرق في القدم للنسر ذو الرأسين عنوانًا لمسرحية ولقصة حبٍّ مأسوية لا علاقة لها ظاهرًا به. وأتفكَّر المزيد متسائلاً عن السبب ما يقودني قبل كل شيء إلى...

4
سرَّانية جان كوكتو

الذي كتب عام 1959 قصيدة أهداها إلى ليوناردو ده ينشي، ذلك الإنسان الذي يكن له كاتبنا أعمق مشاعر "المحبة الأخوية"، تقول:

يا لعجب فعلٍ أصبحتُ له مستسلمًا
صمتٌ متواطىءٌ ويدٌ فهمتها
لملاكٍ يحمل في جعبته على حافة الطريق
ومن دون أدنى شك ابتسامة السيدة[1]

كوكتو الذي لم يعلن يومًا في حياته عن انتسابه إلى أيِّ توجهٍ أو إلى أيِّ محفل أو إلى أيَّة جماعة! إنما، عبَّر بمنتهى الجمال في جميع أعماله عن روحانية ورمزية سرَّانية عميقة.

كوكتو الذي نشر عام 1929 قصة خيالية محيرة عنوانها البوتوماك تحدث فيها عن وحش لزج خفي يعيش في حوض سمك خفِّي أيضًا يقع تحت الساحة الباريزية الشهيرة بالمجدلية (Place de la Madeleine). قصة تختلط فيها الرواية التي تتحدث عن المجدلية بالشعر وبالسيرة الذاتية وتحتوي على رسومات تبدو للوهلة الأولى وكأن لا علاقة لها بالموضوع. وكأنه عن طريق وحش الأعماق المقدَّسة هذا أراد صاحبنا أن يوجه رسالة إلى من يهمهم الأمر. رسالة يفهمهم فيها ربما لماذا أصبح يغوص في أعماق هذا العالم وما الذي غيَّر منذ ذلك الحين مسار حياته. لأني...

منذ ذلك الحين (منذ البوتوماك) أصبحت أبحث عن طريقي الذي سأبقى أبحث عنه حتى النهاية...

لأنه منذ تلك اللحظة التي يعتقد البعض أنها كانت لحظة تلقيه مساررةً عظيمة، أصبح لكوكتو صديق دائم – ملاك حارس – رافق خطاه حتى النهاية. ملاك اتخذ شخصية مركِّب الزجاج في مسرحية أورفيوس، وشخصية السائق (الذي يعرف الطريق) في فلم أورفيوس في الجحيم، وشخصية القاضي في وصية أورفيوس. ملاك يتواصل من خلاله مع ما يفترض أنه العالم الآخر، وتصله عن طريقه الرسائل التي أصبحت تحدد مساره لينقلها بهذا الشكل أو ذاك إلى من يهمهم الأمر ويهمه أمرهم. وبالتالي...

أنا أعتقد أنه من هذا المنظور يجب النظر إلى عنوان مسرحيته النسر ذو الرأسين الذي هو أيضًا أحد...

5
أهم الرموز الماسونية وشعار أعلى درجاتها.

أقصد رمز الدرجة 32 التي تحمل اسم الأمير الأعظم للسرِّ الملكي، ورمز الدرجة 33 الأعلى منها والتي هي درجة المفتش العام الأكبر الأعظم. ما يمكن أن يفسِّر، إن انطلقنا من المشاركة على الرمز نفسه بين كلتا الدرجتين أنه يعني...

-       أولاً: تزاوج السلطة المدنية المتمثلة في الدرجة 32 والتي شعارها باللاتينيةSPES MEA IN DEU EST، أي أملي بالله، مع السلطة الروحية المتمثلة بالدرجة 33 التي شعارها باللاتينية DEUS MEUMQUE JUS أو الله وحقِّي. و يعني أيضًا...

-       ثانيًا: أن السلطة الروحية المتمثلة في حالنا بالدرجة 33 هي الأعلى دائمًا.

وفي المقابل، كان طائر البجع الذي يطعم أبناءه من أحشائه ومن دمه هو الرمز الذي تبنته كشعار لها الدرجة الماسونية 18 التي تحمل إسم الأمير الأعظم للوردة الصليب.

وأتفكَّر في المزيد متسائلاً: هل كان كوكتو ماسونيًا؟ وإن كان كذلك، فإلى أي توجهٍ كان ينتمي وما هي مرتبته؟ لأنه رغم أن لا شيء في أعمال كوكتو ولا في اعترافاته يقول إنه كان ماسونيًا، فإن كلَّ ما تركه من أثر فكري وكلَّ ما كتبه يقول إنه كان حامل معرفةٍ سرَّانية عميقة، ما قد يعني أنه تلقى ذات يوم مساررةً معينة جعلته حاملاً وناقلاً لرسالةٍ رافقته حتى مماته.

وأتفكَّر أنه من هذا المنظور، ربما، يجب التفكير في العنوان الذي اختاره كوكتو لمسرحيته...

6
استطراد آخر

الجو ماطر وأنا جالس إلى مائدة الطعام في تلك الغرفة الدافئة أرتشف ببطىء كأسًا من النبيذ المعتَّق وأتبادل شذرات الحديث مع الأخ صاحب الدار ومع الأخوة الذين التحقوا بنا.

-       ما رأيك في موقعنا على الإنترنت يا أستاذ؟

-       كنت أفضِّل ألا يتضمن أية دعاية أو أي إعلان تجاري، كما هي الحال بالنسبة لموقع معابر.

-       كلا، نحن مضطرون إلى هذا. لأن علينا أن نساعد إخوتنا فنحن نتحمَّل أعباء كبيرة.

لم أعلِّق لكن الجواب لم يقنعني. كما لم تقنعني أيضًا تلك الشذرات من دستور المحفل التي قرأها لي الأخ نفسه والتي يبدو أنها تجاوزت بعض الشيء تلك التي لأندرسن. وتساءلت بيني وبين نفسي: هل يحقُّ لأيِّ محفل أن يضع دستوره الخاص؟!

-       هل تعرف يا أستاذ أن رئيسكم وكذلك والده هم أخوة لنا؟

-       ما أعرفه هو أنكم تقدمون إحدى أعلى درجاتكم للحكَّام ولرؤساء الدول من أجل اتقاء شرِّهم. الدرجة 30 على ما أعتقد؟

-       كلا، إنها الدرجة 32 وليست الدرجة 30 يا أستاذ.

-       لكن هذا الأمر وفيما يتعلق بنا ليس لصالحكم...

ونستمر في هذه الدردشة التي شعرت أنها بدأت تتخذ منحىً عبثيًا.

7
أنتم تعيشون بشكلٍ سيء أيها السادة[2]

لأن قناعتي، وقد عدت في نهاية هذه المقالة إلى بدايتها، هي أن النسر ذو الرأسين الذي اختاره كوكتو عنوانًا لمسرحيته هو دليل مباشر على أنه كان ينتمي بهذا الشكل أو ذاك إلى تلك الأخوية العريقة التي تعرف اليوم بالماسونية. وعلى أنه كان يحمل ربما أعلى درجاتها. وبالتالي – وما أورده هنا من تفسير هو مجرَّد تخمين واجتهاد قد لا يكون له أية علاقة بواقع الأشياء – فإن الرسالة التي أراد كاتبنا الكبير إيصالها إلى من يهمهم الأمر من أخوته تقول إن لهذا الرمز الجميل مفهوم إنساني وروحاني وسرَّاني أعمق وأسمى بكثير من مبدأ تزاوج السلطتين كما يفهمه بشكل سطحي جدًا وبدائي جدًا مع الأسف العديد من أخوته.

لأن لحركة البنَّائين الأحرار التي أتيح لي الاطلاع عن بعدٍ على بعض أدبياتها وأسرارها، من منظوري المتواضع، شعار أساسي لا يعلى عليه هو الفرجار والزاوية كما أن لها فقط ثلاث درجات أساسية هي المريد والرفيق والأستاذ. وبالتالي، فإن كلَّ ما يتجاوز هذه الدرجات الثلاث قد يكون، إن أسيء فهمه، مجرَّد زؤان.

لأنه، وكما قال ذات يوم أحد كبار معلِّميها (المعلم أوزفالد فيرث) متحدثًا عن الدرجات العليا:

... القمة (في الماسونية) هي الأستذة: فمن يشعر بنفسه أستاذًا بالفعل لا يفترض أن يطمح لأي شيء آخر. لكن، لما كان الواقع ليس كذلك مع الأسف. لما كان كل من مثل دور حيرام لم يتشبع حقيقة روح طقسه. لما كان معظم من تلقى هذا الطقس إنما تلقاه بشكل منفعل ومن دون أن يتأثر به في العمق. لذا نراهم بقوا كما كانوا (على حالهم). ما يجعلنا نتساءل: كم من أصل أولئك الأربعة ملايين ماسوني الذين يحملون المرتبة الثالثة، هم في الواقع أساتذة فعلاً؟! وحول كم من المحافل يحق لها الادعاء حقيقةً بأنها محافل "صاحبة حق وكاملة"، وهل من يديرها هم أساتذة فعلاً؟!

ونجد أن الماسونية الرمزية بمجملها ما هي في الواقع، ومع الأسف، إلا رمز لما كان يفترض أن تكون في الحقيقة. و(نجد أن الماسون) قد انتبهوا إلى هذا الأمر منذ القرن الثامن عشر، أي منذ بدأت الماسونية بالانتشار. حيث لوحظ أن من كانوا يُدعَون الأساتذة، لم يكونوا أساتذة فعلاً. وأن من كانوا يبتغون تطوير أستذتهم، إنما كانوا بحاجة إلى مشاغل أنشئت خصيصًا لهذا الغرض.

لهذا، افترض الواقع أن يتم انتقاء الأفضل من بين المعلمين الإيكوسيين الذين برَّروا في العام 1740 تشكيل درجة رابعة من المعلمين الفعليين الذين كانوا ينقصون في المحافل الزرقاء (رمز الدرجات الثلاث الأولى). وأصبح اللون الأحمر هو لون مشاغل الدرجات العليا.

لكن، لمَّا لم توفق الدرجة الرابعة عمليًا في تجاوز تلك الثالثة على أرض الواقع، فإن كل ما حصل كان مجرد مزاودة أدت إلى مضاعفة الدرجات التي لم تتوقف عند الرقم 4. ولم التوقف عنده والرقم 7 أكثر روعة منه؟ وكان هذا ما حصل... إنه من أجل هدف نبيل، هو تحسين مستوى الماسونية والتحقيق الفعلي للأستذة الحقيقية، وظهرت الطقوس عدة للعمل على وضع تراتبيات لا تنتهي من الدرجات التي أضحت تعرف بالعليا.

من هنا، نفهم لماذا انتقد جميع الذين تعمقوا في دراسة الثلاثي الأساسي والحقيقي للماسونية، بقسوة، ما أسموه "زؤان الدرجات العليا" معتبرين إياها مجرد ترَّهات لا تسهم إلا في ضياع الروح وفي تشويه الصورة الحقيقية الماسونية.

ونحن نعتقد أن هذا النقد مبرر إلى حدٍّ كبير. لأنه إن كانت طقسية الدرجات الثلاث "الرمزية" الأولى تحمل إلى حدٍّ كبير في طياتها بصمة المعلمين، فإن لا شيء في المقابل أقل جدارة من رمزية تلك الدرجات التي أسمت نفسها بالفلسفية. فمن كل شيء فيها تفوح رائحة الابتذال. وهي لم تنعكس إطلاقًا، كتركيب مضيء، للفكرة المسارية...

لكن دعونا لا نلقي الحجارة رغم هذا على مخترعي تلك الدرجات العليا لمجرد أنهم أخطأوا في إلهامهم. فهدفهم كان نبيلاً ألا وهو التوصل إلى الأستذة الحقيقية. لذلك، نحن نعتقد أنهم إن أخطأوا المرمى خلال بحثهم عن اللغز الأكبر، فإن جهودهم المخلصة تستحق كل التقدير. كما تستحق أخطاءهم المزيد من التعمق والمزيد من الدراسة...

ويختتم أوزفالد فيرث تحليله العميق جدًا لهذه الظاهرة قائلاً:

... في اختصار، إن ما في وسعنا استنتاجه في المحصلة هو أن الحاجة إلى تلك الدرجات العليا ما كانت لتظهر لو لم تتحول الدرجات الثلاث الأساسية الأولى إلى مجرد أحرف ميتة. لأنه لو لم يحصل هذا، لو كان بوسع المحافل تخريج معلمين حقيقيين، فإنه سرعان ما ستفقد هذه الدرجات (العليا) مبرر وجودها... لذلك، وبانتظار تحقق هذا الأمر، دعونا لا ندمِّر شيئًا مما تم بناؤه...[3]

وأكتفي بهذا القدر...

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] من هذا المنظور، والله أعلم، فإن السيدة المشار إليها هنا هي الجوكاندا التي هي أيضًا المجدلية.

[2] مع الاعتذار من رومان رولان الذي اقتبسنا منه هذا القول الجميل.

[3] راجع معابر على الرابط: http://www.maaber.org/issue_march04/spotlights1.htm

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود