|
قطوف من شجرة الحياة 19
من البديهيات في العصر الحديث، وتحديدًا بعد أن أتيحت للناس فرصة التواصل مع بعضهم البعض بوسائل حديثة غير تقليدية، على غرار ما كان يجري قديمًا، من البديهيات أن تفقد العلاقات بين الناس وزنها وحتى بين أفراد الأسرة الواحدة، وتبدو معالم هذه الظاهرة خصوصًا في المناسبات الدينية التي تقتضي القيام بزيارة الأهل والأقارب وعلى الشفاه عبارة كل عام وأنتم بخير. إن انتقال الناس إلى عالم الرقميات، ساهم في اتساع مساحة اللقاء بين الإنسان والإنسان، وبدأت بالتالي تحل عادات جديدة بديلاً عن عادات كان قد تعود الناس عليها قبل عبورهم عالمهم الجديد، عالم شاشات الكومبيوتر، والاكتفاء بتبادل الرسائل الإلكترونية عبر أجهزة التواصل الاجتماعي كما في الوقت الراهن. قد يرى البعض من الناس في عالم الرقميات هذا قفزة نوعية باتجاه تعميق المعرفة ولكن لا بد أن يكون قد فاتهم أنهم فقدوا بذلك أنسنة العلاقات بين الناس إن جاز التعبير، وبذلك لم يعد الإنسان مخلوقًا من لحم ودم بل قطعة من حديد بارد ومهما حاول أن يمدها بالدفء لن يتمكن. *** في المفهوم العام للعقيدة الدينية أنها تاريخ وتراث، بمعنى أن الإنسان لا يخلق راغبًا في اعتناق دين معين أو مذهب بعينه، كما هو لا يختار قبل خروجه من رحم أمه اسمه أو صفاته الفيزيولوجية أو مكان ولادته، ومع هذا غالبًا ما يدفع ثمن فقدان ممارسة حريته في هذا السياق وقد يكون الثمن غاليًا. الأيام أثبتت وتثبت كل ساعة هذه المعادلة مع أن الذين يدركون أنهم من حيث المبدأ مخطئون عندما يعمدون إلى محاسبة من لا ينتمي إلى عقيدتهم الدينية على ذنب لم يقترفوه. ولأن الدين تاريخ وتراث فمن الأهمية القصوى أن يحافظ المرء على مكانته في سياق العلاقات بينه وبين الآخر لأن ما قد يأخذه عليه سوف يؤخذ عليه يومًا ما . ثم إن الدين بدوره لا يمت بأية صلة إلى مفهوم الطائفة لأن الطائفية تفرق ولا تجمع، تبعد الإنسان عن أخيه الإنسان ولا تعرِّفه إليه، وفي حال تفاقمها إلى حدِّ المرض، تقضي عليه، بحجة معاداته له في مواطنته، والمواطنه بعيدة عنه بمساحات لا ترى. *** في كل حركة يؤديها الإنسان أو ينوي القيام بها وصولاً إلى غاية منشودة لديه، لا بد من أخذ الحيطة والحذر. بيد أن ثمة من يعتقد أن هذه النصيحة تحدُّ من حركته، وبذلك فتغدو خطواته العشوائية تلك التي تغذيها أنانيته وغروره، سببًا في ضياع فرصة قد لا تتاح له تاليًا. وتجنبًا للوقوع في مثل هذا المطب، من الأمور الأكثر أهمية في حياة المرء، وخصوصًا في زمن تعميم تداعيات عولمة المفاهيم باتجاه محدَّد دون سواه، أن ينطلق المرء من تجربة ذاتية، وفي مقدمها السعي لكسر ما يسمى في علم النفس المرَضي على سبيل المثال حاجز الخوف. في حالة تخطيه هذا الحاجز يكون قد استعاد أو بدأ يستعيد ثقته بنفسه. إنها تجربة قد تكون قاسية على صاحبها ولكنها تشكل، بشكل أو بآخر، عتبة المرور إلى معرفة الذات. *** من الأمور البديهية أن يقع الإنسان أحيانًا فريسة التردد عند اتخاذ الموقف، وفي سياق الموقف كما نعلم يكتشف المرء ماذا يريد وإلى أين يريد الوصول، بينما تردده يقارب ركوب دراجة عجلاتها تدور في الفضاء وهو عليها يحرك قدميه. التردد في حياة المرء يلعب دورًا بالغ الأهمية في سياق التفاعل أو عدمه مع بيئته ومجتمعه وحتى مع أقرب الناس إليه. من هنا أهمية أن يدرك المرء أنه جزء من كل لا مجرَّد كائن يحيا في مركز دوران الكرة الأرضية كما هو نهج من يعتقدون أنهم خلقوا فقط كي يطيعهم الآخرون من حولهم. ومن هنا يكون سقوطه في التجربة، وحين يكتشف أن الآخرين قد تجاوزوه، ينطوي بإرادته داخل نفق لا يتسلل إليه شعاع الشمس. بهذا يخسرالإنسان حواسه الست فيغدو كائنًا جاء إلى دنياه مصادفة ولا بد أن يغادرها على نحو ما جاء إليها. *** بغض النظر عن العمل كقيمة في المجتمعات، على الرغم من تباين مفاهيم العمل اجتماعيًا أو سياسيًا أو اقتصاديًا أو ثقافيًا، يبقى نهجًا يمنح الإنسان شعورًا بالفرح إذا هوأتقن عملاً اختاره بملء إرادته. ولا يظنن أحد بأن المرؤوس أدنى مرتبة من رئيسه وأن عامل التنظيفات، على سبيل المثال، تفصله عنه مسافات بعيدة من حيث التقييم التقليدي بأن جامع القمامة أدنى مستوى من الأستاذ الجامعي. إن أيًّا منهما في موقع العمل، إذا هو أتقن عمله، تساوى مع الآخرين وزالت المسافات فيما بينهما. من هنا يتقاضى عامل التنظيفات في بعض البلدان التي تحترم إنسانية الإنسان ضعف أو أكثر مما يتقاضاه الجالس وراء طاولة مكتفيًا بتدوير الزوايا حتى يقنع نفسه بأنه لا يتساوى مع من يأتمرون بحركة من إصبعه ويطيعونه من دون اعتراض أو تأفف. تلك هي صفة من يعتقد أن الإنسان قيمته بشكله الخارجي وبما يحيط به من معالم الأبَّهة، بينما هو، عمليًا لا نظريًا، بحاجة عند الحاجة إلى عامل التنظيفات كما إلى أصحاب المهن اليدوية المختلفة. إن الحياة حلقات متكاملة إذا ما انفصلت إحداها انفرط عقدها كما العقد في صدر حسناء. *** *** ***
|
|
|