|
قـصـتـان
قصة 1 ما سأكتبه الآن حقيقي جدًا وأتمنى أن يؤخذ على محمل الجد، والرجاء الابتعاد عن السخرية والتهكم. ما سأكتبه هو سرٌّ احتفظت به مدة سبعة وعشرين عامًا. أما بوحي به الآن فسببه أنني مثل البقية هنا يمكن أن يباغتي الموت في أية لحظة، ولا أريد أن يؤرقني هذا السرُّ في قبري أيضًا. السرُّ بكل بساطة هو أنَّ والديَّ، عندما وُلدتُ، اكتشفا أنَّ لديَّ جناحين صغيرين في منتصف ظهري. نعم خلقت بجناحين. لا تستغربوا، بإمكانكم أن تسألوا والديَّ إن لم تصدقوا. هذا السر لا يعلمه إلا والدايَ والقابلة التي قامت بتوليد أمي، وجدتي، جدتي التي كانت دائمًا تحاول مواساتي بقولها: "لهذين الجناحين حكمة لا يعلمها إلا الله". أيَّة حكمة يا جدتي! أيَّة حكمة. إنهما نقمة ربما لا يعلم سببها حتى الله. في طفولتي كان والدايَ يوصياني دائمًا بإخفاء قصة الجناحين عن الناس مبررين ذلك بأنه في حال علم أحدهم بأمر الجناحين ربما ينتهي بي الأمر إلى السجن مدى الحياة أو حتى الدفن حيًا. هذا ما جعلني أقضي طفولتي وأنا أحاول أن أُبقي جناحي الصغيرين مخبأين عن أعين الناس. ففي المدرسة مثلاً كنت أرتدي حقيبتي على ظهري بشكل دائم حتى في الصف. إلى الآن ما زلت أتذكر تلك اللحظة الأكثر رعبًا في حياتي، والتي كانت في إحدى دروس العلوم التي تتحدث عن الطيور وطبيعة أجنحتها. يومها نظر الأستاذ في عينيَّ بشكل مفاجئ، وبدأ يمشي باتجاهي. أعتقدت حينها أنه اكتشف أمري، وأنه سيشير إلى جناحيَّ كمثال بدلاً من صورة الجناحين التي كان قد علَّقها على السبورة. كنت أنظر في عينيه وأنا أغرق في بركة من العرق. كانت عينايَ تتوسلان إليه وتقولان له: "أرجوك يا أستاذ لا تفضح أمري، لا تخبرهم. أرجوك لا ذنب لي في الأمر، لا ذنب لي يا أستاذ". كان وقع خطواته على الأرض وهو يقترب مني يتداخل مع دقات قلبي ليشكلا إيقاعًا مرعبًا، إيقاعًا كان يقرع على طبلة أذني كقرع طبول الحرب. لكنه ما إن وصل إليَّ حتى تابع طريقه باتجاه المقعد الذي خلفي. كم كنت ساذجًا وغبيًا حينها لأنسى أن أستاذنا أحول العينين. من الأمور التي عانيت منها أيضًا بسبب الجناحين الصغيرين، أنني طيلة حياتي لم أرتدِ ملابس صيفية. حتى في الصيف كنت أرتدي سترة، مما جعلني محط سخرية دائمًا بالنسبة لأصدقائي. عندما كنت أذهب إلى البحر، كنت أتأمل الناس وهم يسبحون، أمَّا أنا فقد كنت أكتفي بالجلوس على الشاطىء متمنيًا أن يبتلعهم البحر جميعًا، كي أتمكن من التعري من ملابسي، وكي أتمكن من تحقيق حلمي بأن أسبح في البحر. لكنني كبرت وبقيت معانقة البحر مجرد أمنية. الجناحان الصغيران كانا سبب تخلي حبيبتي عني بعد خمس سنين حب. كيف لا تتخلى عني وأنا لم أقترب منها طيلة تلك الفترة. كيف لا تتخلى عني وقد كنت أتهرب منها دائمًا عندما تقوم بالتلميح لموضوع الزواج. كل ما تمنيته في حياتي هو أن أستطيع رؤية هذين الجناحين اللذين منعني موقعهما في منتصف ظهري من تحقيق ذلك. إحدى المرات حاولت أن أراهما بواسطة المرآة. وضعت المرآة خلفي وأدرت رأسي لأنظر إليهما. لكنني تفاجأت بأنني لم أرَ شيئًا. أعتقدت أنهما اختفيا فأسرعت فرحًا إلى والديَّ، لأبشرهما بذلك. لكنني فجعت حين أخبراني أن الجناحين لا يمكن رؤيتهما في المرآة. من يومها قررت الانعزال عن بقية البشر، بشر لم يمسخوا مثلي، لم يبتلوا بأجنحة. هكذا عشت وحيدًا منذ خلقت، كبرت لتكبر معي وحدتي. هكذا أحيا بجناحين صغيرين، أرقاني طيلة حياتي، دون التمكن من رؤيتهما. *** قصة 2 المرة العاشرة التي قُتلت فيها، كانت برصاصة دخلت في خاصرتي اليمنى وخرجت من الجهة الأخرى، رصاصة كانت كفيلة بأن تسقطني أرضًا. لكني لم أشعر بالألم حينها، إلى أن جاء جارنا أبو محمود مسرعًا وقام بجري من قدمي، وهو يصرخ: "مات الشب، مات... يا عالم مات" - يا ابن الحرام على الأقل تفقد نبض قلبي، ربما ما زلت حيًا. جرني من أول الشارع إلى آخره. كان رأسي يرتطم بالأرض بقوة، وظهري لم أعد أشعر به من الألم. لم أعرف إن كان هذا الرجل يساعدني أم ينوي التمثيل بجثتي!! بقيت أتألم وهو يجرني ويصرخ: "مات الشب مات" إلى أن أغمي عليَّ من الألم. استيقظت بعدها لأجد نفسي محمولاً على الأكتاف، والهتافات تملأ أذني: "لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله". - شهيد!! أنا شهيد!! يا ناس كل ما في الأمر أنني كنت ذاهبًا لأجلب علبة دخان. لكن كل هذا غير مهم، المهم أن أمي ستكون فخورة بي الآن. كان مشهد النساء وهنَّ على الشرفات ينثرن الأرز على موكب تشييعي مشهدًا رائعًا. حتى جارتنا الجميلة كانت تبكي وتتأمل وجهي، وكعادتي في كل مرة أراها قمت بغمزها، ولأول مرة لم تقم بتوبيخي. طوال سير الموكب كنت أفكر في السبعين شخصًا الذين سأشفع لهم، باعتباري شهيدًا. المشكلة التي واجهتني أن عدد الذين خطروا في بالي هم أكثر من ذلك العدد بكثير، عددهم بالملايين. وصلنا المقبرة وكنت متعبًا جدًا، فنمت فور وضعي في القبر، لأستيقظ بعدها على صوت دقات على القبر، فتحت باب القبر وإذ بشاب يدخل دون استئذان. - ماذا تريد؟ لماذا أوقظتني من نومي؟ ابتسم بسخرية وأجابني: "يبدو من تاريخ قبرك أنك نمت مدة عشرين عامًا". - وما الغريب! لقد كنت متعبًا جدًا، أجبني الآن من أنت؟ - أنا شهيد... لم أجد قبرًا فجئت لأشاركك قبرك. - ما هذا الهراء!! الشهداء كانوا في أيامنا نحن، أنتم الآن تحيون بفضلنا. ردَّ عليَّ وهو يستلقي مستعدًا للنوم: - هل ترى أنني ما زلت على قيد الحياة... ما زلنا في البداية أيها العجوز... *** *** *** |
|
|