|
فواز طرابلسي يحوِّل الهامشي نصًا تاريخيًا
ما زال التاريخ يفاجئ المؤرِّخين والقرَّاء. وكلَّما ظنوا أنَّهم تمكَّنوا من كشف خباياه، وتعلَّموا من سيَر شعوبه وملوكهم، ظهَرَ بحلَّة جديدة، ليقول: أنا التاريخ، ولم أضع بعد كلَّ أوراقي على الطاولة. فانهلوا منِّي ما استطعتم. وكلَّما عبرَ واحدنا حاجزًا، سخِر التاريخ وقال: هناك حاجز آخَر بانتظارك! وحتى الآن، ثمّة تواريخ دُوِّنَت، وأخرى لم يعثر عليها الباحثون بعد. زمان التاريخ يقبع في المكان، وفي الأحداث الصغيرة والكبيرة، القريبة والبعيدة، المكشوفة والمخفيَّة... في «الخبريَّات» و«القصص» البسيطة. وإن كان غالب الاهتمام ينصبُّ على الأحداث الكبيرة، إلا أنه لا بأس من الدخول في بعض التفاصيل، التي تثير فضول القارئ، وتكشف له جانبًا تاريخيًا، ولو بسيطًا، من جوانب كثيرة لا تزال خفيَّة عليه. أحداث صغيرة جرت عبر البحر الأبيض المتوسط، خلال القرن التاسع عشر، تبدأ مع إطلالة موسم الحرير في جبل لبنان، وتختتم مع افتتاح قناة السويس في مصر. يحاول الكاتب والمفكر فواز طرابلسي في كتابه حرير وحديد (دار رياض الريس) أن يطلعنا عليها، فأتى هذا الجناس الناقص لغويًا بين «حرير وحديد» علامة على زمن امتزجت فيه نعومة الحرير بصلابة الحديد وقسوته. تتنوَّع المواضيع بين قصص عشق، يوميات، وأخبار بعض الهزائم والانتصارات. أحداث جرت، لا يعرفها الإنسان العادي، لأنَّ مصدر معرفته هو كتب التاريخ، التي يدخل من خلالها إلى أحداث وعوالم سبقته، معظمها غيَّرت وجه بلدان، وأثَّرَت في مصائر الكثيرين. أمَّا القصص القصيرة أو الأحداث الصغيرة، فتبقى وراء الكواليس، أو بالحدِّ الأدنى لا يذكرها التاريخ في ما يذكر من تاريخ. وقام الكاتب هنا بتركيز اهتمامه على بعضها، بأسلوب سلِس قريب من التشويق، يختلف عن علم التأريخ، كعلم لذاته، حيث ذِكر السنوات والمدن والأحداث، وحيث أسماء الملوك وقادة الحروب، وحدها هي التي تتردَّد وتتكرَّر. في حين أننا ندخل، في حرير وحديد، في تفاصيل قد تكون يوميَّة وحتى هامشيَّة، وإن كانت جميع الشخصيات في الكتاب – كما ذكر المؤلِّف – حقيقية، ومثلها الأحداث والمواقع والتطوُّرات... إلا أنَّ رغبة فواز طرابلسي في دخول عالم السرد، واعتماد استراتيجية القصِّ والتأليف، دفعته إلى اعتماد أبرز عناصر القصة، وهو «التخييل» في ثلاثة تأليفات هي: «حلم الصبياني المعدني» و«رسالة لويز برونيت إلى شقيقتها» و«الحوار بين زوجة شعيا علمان وطانيوس شاهين». أفراد وجماعات هذه الاستراتيجية الخاصة، التي اعتمدها الكاتب في حرير وحديد، تضع المؤلَّف في إطار القصص القصيرة، أو السرد التأريخي، الذي يمتد من الزمن البعيد، ليروي مصائر أفراد وجماعات وبلدان وأمصار وأقوام وشعوب، فنجد اللهجة العامية اللبنانية في مقولات مثل: «البرد يقصُّ المسمار. والمطر حبال ومزاريب. جاء آذار وثلجاته الكبار. وزخّ البَرَد... كل حبَّة قد البيضة»... و«حادثة سير» بين دابَّتَين أدَّت إلى اندلاع حرب في لبنان، اغتيالات، تعدِّيات، وأخذ الطرفان يتسلحان... مشهد «رعَوي» بسيط في قرية في جبل لبنان يروي حكاية الحرير... ثم يأخذنا الكاتب إلى روما، باريس، الاسكندرية. وتطلَّبت هذه الاستراتيجية لغةً خاصة، تتناسب والمضمون، فنقل فواز طرابلسي القارئ من حيِّز التأريخ إلى حيِّز السرد، مستخدمًا قاموسًا لغويًّا مناسبًا، أضفى لمسة جمالية على الأسلوب على رغم واقعية أو حقيقية ما يُروى. ويظهر ذلك، على سبيل المثل، في فصل «الست ملَّت الانتظار»، فالعنوان مشوِّق، ويحمل القارئ على عدم الانتظار لمعرفة ما جرى: «مَن قال لك إنَّه سيأتي؟ أما مللت الانتظار؟ أفنيتِ حياتكِ، بدَّدتِ ثروتكِ من أجله ولم يأتِ...». وكذلك، يبدأ الكاتب أحد الفصول بـ «مَن لَم يسمع بـ... لا يعرف شيئًا»، كأن يقول في نص تحت عنوان «أربعة شبَّان في عين ورقة»: «مَن لم يسمع بعين ورقة، أمُّ المدارس الأهلية في ذلك الزمان، لا يعرف شيئًا من التعليم في بلاد الشام». وكذلك في قصة الفتاة الأرستقراطية البريطانية «ستانهوب هستر» وخالها رئيس وزراء إنكلترا، السير وليام بتّ الثاني. هنا أيضًا يبدأ الكاتب «مَن لا يعرف وليام بتّ لا يعرف شيئًا عن بريطانيا والامبراطورية التي لا تغرب عن أراضيها الشمس». هذا الميل إلى تأريخ الأحداث، بأسلوب يجذب القارئ ليأنس له، يظهر من عناوين بعض الفصول: «في هرطقات متنوِّعة»، «في فتح السبات وسدِّه»، «عن حرير وحديد»، «تشريق – تغريب»، «العامية»... ففي هذه العناوين ما يستقدم السرد والقصَّ قبل أن يحيل إلى التاريخ. إنها حوادث خلف الأحداث، أو أحداث عادية لا يتوقَّف عندها المؤرِّخ، ولكن ترصدها عين المراقِب الذي يهوى السرد ويضمِّنه ومضات من التشويق، فينظر إلى الأحداث بعين الإنسان الرومنطيقي، ويمزج بين حياكة الحرير ومسار الأحداث: مثل خيوط حرير فوق نول تروح وتجيء أحداث تلك الفترة. تتداخل ألوان وأصباغ وتفترق ألوان وأصباغ. وتتصالب خيوط وترتخي خيوط. وتنقطع خيوط لتنوصل خيوط. وتنعقد قُطب ظاهرة للعيان لتختفي قُطب عن العيان. تعمل عليها جميعًا أنامل نسَّاج لا يرحم، يسمِّيه البعض «القدر» والبعض الآخر «الاستعمار» ويكتفي ثالث بأن يقول عنه إنه «التاريخ». فهل هو تاريخ فقط؟ هذا اللجوء إلى الحدَث العادي، وتحويله إلى قصة، وهو عميق الحضور في كتاب حرير وحديد، فإنَّ فيه، على مستوى آخَر، ما يبرز الجهد المبذول والوعي العميق، الذي نصَّ به فواز طرابلسي قصصه، فجمَع بذلك الحدث التاريخي باليومي البسيط. *** *** *** الحياة، الأحد 14 أبريل 2013
|
|
|