|
خوان خيلمان في مجموعته الشعرية "القلب العنيد يحب"
يقول الكاتب الأرجنتيني إرنستو ساباتو الراحل قبل فترة وجيزة، إن الكارثة تحوطنا لكن الخلاص في اليوتوبيا. لم تسعف اليوتوبيا ساباتو ازاء الموت فخطفه قبل أن يكمل عامه المئة. كان خلال ما نيف على القرن، المؤمن بأن الفن وجد لأننا ناقصون، وكان أيضًا المتحدث في شأن ما ظن من المتعذر الاستغناء عنه. تلك حال مواطنه خوان خيلمان أيضًا، الذي صار برحيل ساباتو، الصدى البارز الباقي في الآداب الأرجنتينية. يصدر خيلمان هذا الشهر في اسبانيا مجموعة القلب العنيد يحبُّ (دار توسكيس) الشعرية على أن تتلقفها أميركا اللاتينية بعدذاك. إنها كمشة قصائد مرتقبة على أهمية، يخرجها خيلمان من ذاكرة تجربته لتفضح ركامًا داخليًا تعاظم رويدًا بسبب محن شخصية موجعة. غير أن خيلمان يكاد في هذه الأثناء، يمشي فوق الغيوم من شدة الغبطة، ذلك أن "المحكمة الدولية لحقوق الإنسان"، أدانت الأوروغواي في قضية اخفاء كنَّته القسري وهي حبلى، وتبديل هوية حفيدته. في الموازاة، يصدر مؤلفه بالقشتالية حيث يروي نثار سيرة "بطولية" على ما يعاينها الشاعر الإسباني وشريكه في فردوس جوائز ثرفانتس، انطونيو غامونيدا. خوان خيلمان طيف من أطياف بوينس ايريس الهجينة، عشَّبت هويته المركبة، هو المولود في المدينة لأسرة يهودية اوكرانية، في قعر قصيدته. وجد الروس والإيطاليون والأتراك والعرب واليهود والإسبان وغيرهم في العاصمة حيزًا نهائيًا يقيهم اتساع العالم. غير أن الأماكن النهائية لم تستهو يومًا "فوضوية" الكون أو الشعر أو خيلمان. جعل الشاعر انكاره لماهيته الوراثية، يرتدي صيغًا مختلفة شحذت نصوصه، فكانت لغة الناثر الجيد والصحافي الفطن الفريدة والشاعر اللافت، لغة تمطُّ إلى حد الإيهام بالتفسخ من الداخل.
في ركاب جيل الستينات والسبعينات من القرن العشرين، تشكَّل عالم خيلمان على مذهب الشعراء الحقيقيين. صارع "توعُّك" اللغة ليصل من باب تشرُّب التقليد إلى فحوى المضمون الشعري ويحتوي تجاويفه وأطياف المعيش. والحال أنه متمرد على الكلمات، يفرُّ من كل تصنيف ومن كل إعلان ملموس، ليحاول إيجاد مفاهيم على حدة. ليست جميع الصور التي تجتاز القلب العنيد يحبُّ هي الأخرى، القمر أو الحجارة أو الروح أو الضوء أو الحقيقة أو الفرسان، سوى ألاعيب بالنسبة إلى المتلقي، كما يقدِّر صاحبها. ذلك أن القصيدة في عرف هذا الأرجنتيني كزجاجة ألقيت في البحر، وثمة احتمال أن تبلغ روح أحدهم أو لا تفعل. يشتغل خوان خيلمان وفق مسلَّمة مفادها أن الكاتب بالمطلق لا يؤلف ما يريده وإنما ما يستطيعه. المجموعة كناية عن أكثر من مئة وأربعين قصيدة تبين جنبات عدة من مسار غني زرع بالتقديرات الأدبية بدءًا من "الجائزة الوطنية للشعر الأرجنتيني" وجائزة "خوان رولفو لأدب أميركا اللاتينية والكاريبي" من دون الانتهاء عند جائزة "الملكة صوفيا للشعر". يجرب الشاعر في المؤلف الأحدث شكل اللغة الأقصى، يختلق المصطلحات وينفث من خلالها هواء في رئتي الأفكار والمشاعر. الحب والموت والوضع الإنساني والفشل والوجع والضياع والبحث عن الضوء، تيمات من ضمن أخرى عدة، تمدُّ المجموعة بأدوات الحياة. في حين يصعب على أي شاعر بلا ريب، أن يستشرف كيف يتعامل مع فعل عصي على التعديل، خيلمان الوحيد ربما الذي يعرف كيف يتصرف تجاه أفعال غير موجودة في الأساس. ها أنه وبدءًا من عنوان مجموعته الأخيرة، يجرؤ على تحديثات لغوية جذرية. يجرِّب اختراع أحد الأفعال يعطيه معنى "يحبُّ"، في حين يقترب من حيث الإيقاع، في لغته الأم، من معنى التخلي عن الحب. والحال أن في قاموس خيلمان تعابير عدة من هذا القبيل يروقه أن يخيطها ويتلذذ في رصد تردداتها عند المتلقي. في المجموعة وهي الكتاب الثاني لخيلمان منذ نيل "جائزة ثرفانتس" في 2007، يهدي القصيدة الاستهلالية الى زوجته مارا حيث يرد:
في دواخل جسدين في هذا المناخ حيث يتم التخلي عن الأقنعة، ومن خلال تجريب الشكل والمضمون وتجنب الاستلقاء في "الجسد المهزوم" كما يسمِّيه في إحدى القصائد، يبني خيلمان الكتاب "الأكثر بؤسًا وتجاسرًا وراديكالية" في منجزه، وهذا ترف يوظفه في مسار استثمار اللغة والانتباه إلى تفادي التكرار. تظهر في هذه المجموعة، رغبته في مناهضة جماد الروح ويسأل في وسط كمشة من الأبيات:
متى يدفع ثمن مشقات الترحال يصير في قصيدة "حبات البرتقال" متأملاً، فنقرأه يعلن: "الصمت هو صحراء/ قتلَت جميع الآفاق". ثمة صور في الكتاب يتعذر محوها، تشير إحداها إلى أن الحياة من دون رغبات ليست سوى يوميات رمادية، أما الخوف من الرمادي فيجعل الاستسلام مستحيلاً خصوصًا في مرحلة الشيخوخة حيث "تقاوم الرغبة فكرة التخلي عن العظام". كتبت قصائد المجموعة قبل عام وهي موجزة للغاية، ذلك أن التقدم في السن يجعل المرء في عرف خيلمان، يتخلص من عديم الجدوى، فتصير النصوص في أبهى عريها، بعدما تخلَّت عن الفضلات. استهاب البعض من خوان خيلمان الذي نظر إلى الشعر باعتباره أكثر من دعوة وإنما رذيلة. أقلقهم أيضًا الباحث الذي يتأنى أمام تفاصيل نمر بها ولا تستوقفنا، ننظر إليها ولا نراها. ترددوا كذلك تجاه الناشط السياسي خلال "الحرب القذرة" في الأرجنتين بين عامي 1976 و1983 والتي لوحق خلالها المعارضون اليساريون، لتصير حياته نزاعًا مديدًا. سيمسي الشاعر جراء سطوة الجزمة العسكرية يتيم ابنه. بعد اغتيال الابن، تُخطَف كنَّته وتُحتجَز حفيدته وتنزل به عقوبتان بالموت ثم النفي بلا بصيص عودة. ليصير الوجع جرحه النازف الأنجع في مساحة الشعر الذي حمله أنَّى ذهب، علَّه يخرج من عنق الزجاجة. بعد ثلاثة وعشرين عامًا من تقفي أثر الحفيدة التي ولدت في الأسر، وجدها في كنف عائلة تبنَّتها في الأوروغواي. في وسع الفقد كما اللغة أن يخلِّفا ألمًا. غير أن خيلمان يتحسر خصوصًا على فكرة أن يضطر إلى عزف الكمان في الحي الثاني كما يصف مسار الانتقال الجسدي، ذلك أنه لن يستطيع عندذاك أن يمضي في حبِّ أولئك الذين يحبُّهم. إحدى أبرز سمات شعر الأرجنتيني خيلمان أنه يجمع بين الاهتمام باليومي (في مضمار المفردات والتيمات)، والتنقيب في جذور اللغة المنفية. يصير هذا الحفر هجسًا ماديًا مع بداية منفى خيلمان في 1976 ويتعزز في مؤلفات منها مواعيد وتعليقات (1982) ليستتب تمامًا في علاقات (1973). هشَّم التاريخ المجحف معيش خيلمان واستولى على هويته ليصير من مفردات الحزن الصرف. وعندما سئل "من أنت؟" أجاب "من يدري. أنا لا". غير أن من الإجحاف القفل على الشاعر الأرجنتيني في علبة الالتزام السياسي، ففي رصيده قصائد معدودة ذات مرامٍ سياسية واضحة، وحتى هذه لا تتوسل بالمنحى التبسيطي. يمضي الشعراء يبحثون عن سيدة مراوغة اسمها القصيدة. وفق خيلمان نكتب بحثًا عن الكمال، عن مطلق ليس في حوزتنا. والحال أن ثورات العالم العربي الأخيرة عززت اقتناعه بوجود إمكانات لتغيير العالم، على ما يؤكد لصحيفة "بوبليكو" الإسبانية. تترك الأحداث خروقًا في التاريخ في حين ينهمك الإنسان في وضع المخططات. تلد اليوتوبيات لتموت وإنما تمهد لأخرى أفضل دومًا. من دون يوتوبيا لن يكون العالم منصفًا. في وسعنا أن نجزم أن اليوتوبيا بلاد يزورها خيلمان كل ليلة. *** *** *** |
|
|