|
يجب تدمير قرطاجة٭
عامًا بعد عام، ينعقد المزيد والمزيد من اجتماعات السلام، وتتوالى أكثر فأكثر مؤتمرات السلام، الواحد تلو الآخر، والتي يجتمع فيها أفضل الأوروبيين لمناقشة مسألة التسلُّح والإعداد للحرب، المسألة التي تقف عقبةً في طريق كلُّ تحرُّكات البشرية لتحقيق غاياتها؛ فتُلقى الخطابات، وتُكتب المقالات والمنشورات التي تشرح، وتسلِّط الضوء على، هذه المسألة من كافة جوانبها. لم يعد هناك إنسان مثقف وعاقل لا يرى ذلك الشرَّ الصارخ المهول الناتج عن الاستعدادات الحمقاء للحرب من قِبل الشعوب التي تربط فيما بينها علاقات الصداقة، والتي لا توجد لديها أية أسباب لكي تقتتل فيما بينها، دون أن يفكر بوسائل للقضاء على هذا الشرِّ المرعب المجنون. جميع الحجج، بدءًا من مولتكة وانتهاءً بالسيد فيوغيويه، التي أراد من خلالها الناس، المتمسِّكين بالنظام القديم، الدفاع عن الحرب، تمَّ دحضها نهائيًا منذ زمنٍ بعيد. ومنذ زمنٍ بعيد، تمَّ إظهار وإثبات أنَّ الحرب لا تعزِّز المشاعر السامية لدى البشر، وإنما تُقوِّي المشاعر المنحطة والمتوحشة، وأنه من أجل حلِّ النزاعات الناشئة بين الدول "المتمدِّنة" يمكن إنشاء محاكم دولية؛ ومن أجل دفاع الشعوب "المتمدِّنة" عن نفسها ضدَّ هجومٍ متوهَّم "للهمجيين" يكفي سربٌ واحد من القوات المسلَّحة التي تمتلكها الدول في الوقت الراهن. كما تمَّ إثبات، بشكل دامغ، أنَّ الحروب وتحضيراتها يُحدِثها ذوو السلطان من البشر المستفيدين من الحروب، وأنها، بالنسبة للشعوب كلها، ليست مهلكة فحسب، بل وعبثية. لكن الأمر المثير للاستغراب هو أنه – إلى جانب إدراك لاجدوى وإجرامية ولاعقلانية الحروب بين الشعوب المتمدِّنة التي تتجهَّز كلَّها بسعي محموم في الآونة الأخيرة، بثقةٍ استثنائيةٍ بالذات إذا لم نقل بوقاحة – تظهر، في أوساط شريحة العسكر، مشاعر هي الأكثر تضادًا لهذا الإدراك، وتُعبِّر عن نفسها بطريقة لم تتجرَّأ عليها قبل 40 - 50 سنة. في الوقت ذاته تقريبًا، وفي دولتين من أكثر الدول عسكرةً – ألمانيا وروسيا – تمَّ ارتكاب جريمتين شنيعتين من قبل الضباط؛ ففي ألمانيا، قام ضابطٌ ثمِلٌ بقتل إنسانٍ أعزل بحجة إهانة رتبته العسكرية. وفي روسيا كذلك، قامت مجموعة من الضباط الثملين، بالحجة ذاتها، وبمساعدة الجنود، باقتحام منزل فنَهبت وضربت السكان العُزَّل. جريمة القتل التي ارتكبها الضابط الألماني جرت في الظروف التالية: في 11 تشرين الأول، مساءً، في مقهى ومطعم "تانغيزَر"، الذي كان مليئًا بالناس، كان يجلس الملازمان الشابَّان من كتيبة الألغام فون بروزيفيتس وفون يونغ شتيللينغ. في الساعة الثانية عشر ليلاً تقريبًا دخل الصالة مدنيان مع سيدتين، وجلسوا إلى طاولة مجاورة لطاولة الملازمَين. أحد المدنييَن، الميكانيكي زيبمان، صدم بكرسيه الكرسي الذي كان يجلس عليه الملازم فون بروزيفيتس؛ فاعتبر الملازم بأنه قد أُهين، وطلب من زيبمان أن يعتذر له، فأجاب الأخير بأنه لم يفكِّر بإهانة الملازم. وحينها استلَّ بروزيفيتس سيفه، وأراد أن يضرب زيبمان به لكن صاحب المطعم والنادل أوقفاه، الأمر الذي أتاح لزيبمان أن يختبئ. "لقد أُهين شرفي. يجب أن أقدِّم استقالتي!". قال الملازم، وهو يخرج من المقهى، لكنه، بعد أن علم من الشرطي أنَّ سيدًا يشبه زيبمان لم يخرج إلى الشارع، عاد إلى المقهى من جديد، آملاً أن يجد من أساء إليه، ليستعيد شرفه. وبالفعل، شاهد زيبمان هناك، فانقضَّ عليه بسيفه المسلول رغم أنَّ الميكانيكي الأعزل راح يعتذر إليه بشدَّة، هاربًا من الضابط. ما جرى كان شنيعًا: وسط الرجال المبهوتين والنساء اللواتي كنَّ يصرخن هلعًا، لَحِق الملازم "الشجاع" بالميكانيكي الهارب، وعندما أدركه في زاوية الفناء "كوَّمه" في مكانه بالسيف. معيدًا سيفه إلى غمده، قال الملازم برضى: "اسمعوا، لقد أُنقذ شرفي الآن!". وكانت فعلة الضباط الروس أكثر شناعةً: حيث أخرج الضباط الثملون حشدًا، كانوا يسخرون منه، عن طوره، فقام الحشد بضرب أحد الضباط الثملين، ومزَّقوا كتّافيته. فقام الضابط بجمع رفاقه وبعض الجنود، وبرفقة هذا الفريق راح يقتحم منازل اليهود، ناهبًا السكَّان، وباحثًا عن كتَّافيته المشؤومة. تمَّ العثور على الكتَّافية في طاحونة، وهنا بدأ تعذيب أصحاب الطاحونة، وانتهى التعذيب بالموت حسبما قال بعضهم. لا يمكن أن يكون هناك شك في أنَّ هذه هي حقيقة الأمر، وأما التفاصيل فقد لا تكون صحيحة، ولا يمكن التأكد منها لأنه تمَّ إخفاء هذا الأمر برمَّته عن المجتمع الروسي بحرص. وفي الصحف كان هناك خبر وحسب بأنه تمَّ تجريد اثني عشر ضابطًا من رتبهم، وتخفيضها إلى رتبة جندي لأسباب مجهولة. كان المفروض على حكومتي الشعبين، بما أنَّ أفعال الضابط الألماني والضباط الروس على هذا النحو، أن تتَّخذ كافة الإجراءات التي في متناولها لمعاملة هؤلاء المتوحشين كما تُعامِل المجرمين الجنائيين الأقل شناعةً ووحشيةً بكثير، والعمل على اجتثاث الروحية التي تُربِّي وحوشًا كهؤلاء، لكن هذا لم يحدث قط. ومن الجلي أنَّ كلتا الحكومتين تتعاطفان مع هذا النوع من الأفعال، وتشجِّع عليها. ويلهلم الثاني، الذي يُضيِّع دائمًا فُرَص الصمت ولا يضيِّع أبدًا فرصة قول الحماقات، قال، بخصوص جريمة القتل التي ارتكبها بروزيفيتس، إنه إذا ما أُهين الشرف العسكري فعلى العسكري أن يتذكَّر بأنَّ هذا يُهين الإمبراطور ذاته، وأنَّ على الضباط استخدام أسلحتهم دون إبطاء، وبحزم. وقد حدث الشيء ذاته تمامًا في روسيا، فرغم أننا، في ظلِّ نظام الصمت وأوامر الصمت العام عن كل ما هو ضروري وهام للمجتمع، لا نعلم بالضبط ما الذي قالته السلطات بهذا الصدد، لكننا نعلم أنَّ تعاطف السلطات العليا إلى جانب حُماة البزَّة الرسمية هؤلاء، ولهذا السبب لم تتمّ محاكمة هؤلاء المجرمين، وسرعان ما سيتمُّ إيقاف تنفيذ عقوبتهم كما جرت العادة، وسيتمُّ العفو عنهم وإعادة رتبهم السابقة إليهم. ونعرف هذا أيضًا لأنَّ حوادثَ، مثل حادثة بروزيفيتس في ألمانيا، تكررت في روسيا أثناء حكم ألكسندر الثالث عدة مرات؛ فقد جرت عدة جرائم قتل ارتكبها ضباط في حق مواطنين عُزَّل، ولم تتم محاكمة القتلة، أو حوكموا دون أية إدانة. ونعرف ذلك أيضًا لأنَّ ألكسندر الثالث نفسه الذي، لسببٍ مجهول، ينعتونه بصانع السلام و"المسيحي"، ليس فقط لم يحظر المبارزات التي كافحها، ويكافحها، كل الأباطرة والملوك المسيحيين، بل أصدر، بشكل صريح، قانونًا يرسِّخ لدى القوات المسلَّحة مبدأ شرف الرتبة العسكرية المفقود. ما كان لهذا كله أن يكون قبل 40 - 50 سنة، إذ لم يكن هناك ضباط يقتلون الناس العزَّل في سبيل شرفٍ عسكريٍّ مزعوم، ولم يكن هناك حكَّام يباركون قتل المواطنين العزَّل، ويشرعنون القتل في المبارزات. ما يجري يشبه التحلل الكيميائي؛ فملح الطعام لا يعدُّ كريهًا مطلقًا مادام ليس متحللاً، ولكن ما إن يتعرَّض للتحلل حتى يطرح غاز الكلور الخانق السامَّ الذي لم يكن ملحوظًا في تركيبته السابقة. الأمر ذاته جرى للجنود في مجتمعنا؛ ففي السابق، في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات وحتى الستينيات، كان الشخص العسكري يعتبر نفسه جزءًا ضروريًا لا ينفصم من مجتمع ذلك الزمن، ولم يكن فقط لا يتمثَّل أي شيء ذميم وحسب بل، كما كانت الحال عندنا وفي كل مكان كما أعتقد، كان يمثِّل نخبة الطبقة المثقفة آنذاك، وخصوصًا الحرس الملكي. هكذا كان ديسمبريونا[1] في العشرينيات (بعد ذلك، وُضِع خط مع علامة "حذف" تحت عبارة: عسكريو ذلك الوقت ليس فقط لم يكونوا يرتابون في عدالة رتبهم، وإنما كانوا يعتزّون بها، إذ غالبًا ما كانوا يحصلون على تلك الرتب بفضل حسِّ نكران الذات – المحرر). لم يعد العسكر الحاليون على هذا النحو؛ فقد حدث انقسام في المجتمع، حيث انفصلت العناصر الأفضل عن فئة العسكر، واختارت مهنًا أخرى، أما فئة العسكر فقد امتلأت بالعناصر الأسوأ فالأسوأ من الناحية الأخلاقية حتى أصبحت الفئة الأكثر تخلُّفًا وقسوةً وفسادًا، كما هي حالها الآن. وبالتالي، فبقدر ما أصبحت وجهات نظر أفضل مدنيي المجتمع الأوروبي، تجاه الحرب وكافة المسائل الحياتية الأخرى، أكثر إنسانية وعقلانيةً وتنوُّرًا، بقدر ما أصبحت وجهات نظر عسكر زماننا، تجاه مسائل الحياة أو تجاه أعمالهم ورتبهم، أكثر غباءً وسخفًا. وما كان للأمر أن يكون على غير هذا النحو: قبل 30 - 40 سنة، كان العسكر، الذين لم يسمعوا قط أي شكٍّ في جدارة الرتبة العسكرية، يفتخرون بها بسذاجة، وكان في مقدورهم أن يكونوا لطفاء وشرفاء، والأهم هو أنَّ الأشخاص الملتزمين كليًا بالمسيحية كانوا يبقون عسكريين، وهذا لم يعد ممكنًا في الوقت الراهن. ففي الوقت الراهن، لكي يكون المرء عسكريًا يحتاج إما أن يكون فظًّا، وإما غير متنوُّر بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، أي ببساطة لا يعرف شيئًا عما قام به الفكر الإنساني من أجل تفسير لاعقلانية ولاجدوى ولاأخلاقية الحرب، وبالتالي فأي مساهمة فيها هي غير شريفة وشائنة، أي أن تتظاهر بأنك لا تعلم ما لا يمكن جهله، والتمتُّع بنفوذ أقوياء العالم، وبقوة عطالة الرأي العام الذي يواصل، بحكم العادة، احترام العسكر، وأن تتظاهر بأنك تؤمن بسموِّ وأهمية قيمة البزَّة العسكرية. قبل أربعين سنة، كان الكتَّاب، مقتدين بكل ما حدث في أوروبا، يكتبون عن كيفية القضاء على الحروب، أو على الأقل كيفية جعلها أقلَّ قسوةً. أما الآن، فالجنرال، الذي يعتبر نفسه عالمًا وعسكريًا مستنيرًا، في ردِّه على مقال حول القضاء على الحرب، يكتب: إنكم تسعون بقوة لإثبات أنَّ مناهضة العسكرة سوف تؤدي، شيئًا فشيئًا، إلى تجنُّب الصدامات الحربية بصورة نهائية، بينما أعتقد أنَّ تجنُّبًا كهذا أمر مستحيل لأنه يناقض القانون الأساسي للطبيعة التي يتساوى لديها (ولا فرق عندها بين) الهدم والبناء؛ إذ لا شيء يُهدم ولا شيء يُبنى: إنهما الشيء ذاته. ومهما كان ما تبنون فإنكم، حتمًا، يجب أن تهدموا شيئًا. آه... أيها السادة، أيها السادة! من غير المعقول ألا يخطر في بالكم أنَّ تحويل حقِّ استخدام "القوة الخشنة" إلى حقِّ استخدام القوة "الناعمة" لا يقضي على الحق الأول، وإنما يحجبه فحسب. لا يُعقل ألا تلاحظوا أنَّ قوة الحقِّ لن تكون قوية جدًا لو لم يكن يُظاهرها شرطي، يدعمه جندي من الخلف، أي حقُّ القوة. ما الذي يعطي القوة المُلزمة لحكم القضاء الناعم، مثل الأشغال الشاقة لسنين مديدة، أو تشريدِ الأُسَر عبر العالم، لتنفيذ دعوى "قانونية" لشايلوكٍ ما؟ يجب أن تكون هناك قناعة في عدالة القضاء، وفي رسوخ القانون الوضعي، أليس كذلك؟ من الجلي أنَّ هذا الجنرال، متصوُّرًا بأنه قد اكتشف شيئًا جديدًا وهو أنَّ الحق يُدعَم بالعنف، وبهذا فقد برهن على حتمية الحرب، يُبشِّر بما يهوى ويحتاج، وبالذات وحشية الحيوانات المفترسة التي تمزِّق فرائسها بأسنانها. إنَّ ندرة معارك السلاح الأبيض [يقول هو] لا تبرهن على حقارته، وإنما على حقارة مَن ليس مؤهلاً لمواجهة الحربة أو السيف، ومن وجهة النظر العسكرية فإنَّ دعاية حقارة السلاح الأبيض نفيٌ للتضحية بالنفس وتبريرٌ للحفاظ على الذات، أو إذا قلنا ببساطة: تمجيدٌ للجُبن. ("العهد الجديد"، 6 تشرين الثاني 1896، العدد 7434). قبل 30 - 40 سنة كانت مقالات كهذه مستحيلة. وأكثر استحالةً كانت هذه الكتب التعليمية للجنود، التي من تأليف هذا المؤلِّف ذاته، والتي تُوزَّع عليهم في الوقت الراهن. ففي كافة الثكنات العسكرية، من أجل تعليم ملايين الناس الذين يؤدُّون الجندية، هناك موجز معلَّق على الجدار بعنوان "مُذكَّرة". وفي هذه المذكَّرة يرد ما يلي (كلُّها مرعبة لكني أقتبس عنها بعض الأماكن): إذا انكسرت الحرب فاضرب بأخمص البندقية، وإذا خذلك أخمص البندقية فاضرب بقبضتيك، وإذا أعطبت قبضتيك فانهش بأسنانك. يغلب فقط من يُقاتل باستماتة حتى الموت. ثلاثة يتعثرون: الأول طعنًا، والثاني بالرصاص، والثالث بالحربة. وأما الشجاع فالله يحميه. مُتْ في سبيل العقيدة الأرثوذكسية، وفي سبيل الأب القيصر، وفي سبيل روسيا المقدَّسة. الكنيسة تبتهل إلى الله. "من يحب نفسه يهلكها" (فضلاً عما يقوله، يريد أن يؤكِّد وحشيته بوساطة الإنجيل). مَنْ يبقَ على قيد الحياة فله الشرف والمجد. وأخيرًا، الخاتمة: يجب أن يكون الجندي سليم الجسم، شجاعًا وصلبًا وحاسمًا وعادلاً وكريمًا. صلِّ لله، فالنصر من عنده. أيها الجبابرة! الله يقودكم: إنه جنرالكم! وهذا الإنشاء التجديفي المسعور، الذي يمكن فقط لشخصٍ سكِّيرٍ شنيع أن يؤلِّفه، معلَّقٌ في كافة الثكنات، وكل الشبَّان في روسيا المسيحية، الملتحقين بالخدمة العسكرية، يجب أن يدرسوا هذا الإنشاء، وأن يؤمنوا به. قبل 30، 40، 50، سنة، ما كان لشيء كهذا أن يكون. أجل، فقد اكتمل تفسُّخ المادة إلى صوديوم من جهة، ومن جهة أخرى الغاز الخانق الذي لم يكن ملحوظًا من قبل. من جهة، مؤتمرات السلام، تضامن كلِّ متنوِّري العالم، كارهي الحرب، والباحثين عن وسائل لتلافيها والقضاء عليها؛ ومن جهة أخرى القتل، وتعذيب الناس العزَّل دفاعًا عن الشرف العسكري، ومذكَّرات ومقالات الجنرال المقدام التي تلقِّن، بأبوية، ضرورة وفائدة حرق الناس بعضهم بعضًا. مقارنًا بين هذه الجهة وتلك، ترد إلى ذاكرتي حكاية رحَّالة كان حاضرًا في احتفالٍ للداهوميين، في وقتٍ كان يجب فيه أن يتم قتل 300 أسير. الرحَّالة، محاولاً أن يتكلم بحيث يكون مفهومًا، استخدم كلَّ قدراته البلاغية لكي يقنع القادة الداهوميين أنَّ القتل يناقض ديانتهم، وعن سلطة أرواح الموتى على الأحياء، وعن أنَّ هذا ضد مصلحتهم حيث إنهم يستطيعون إجبار هؤلاء المتوحشين على العمل أو القتال، وعن أنَّ هذا غير مفيد لأنه يدعو الأعداء إلى القيام بالمثل مع الأسرى منهم. القادة الداهوميون، مطأطئين رؤوسهم، ومتزينين بالريش، وبخواتم في أنوفهم، كانوا جالسين بصمت –حسبما قال الرحَّالة – وهم يتناقلون كأسًا من الشراب المُسكِر فيما بينهم. لكنهم، بعد أن أنهى الرحَّالة كلامه، هبُّوا واقفين، وأعطوا الإشارة للمقاتلين بالقتل، مكشِّرين عن أنيابهم، وبدأت المجزرة. ثم راح القوَّاد، متمايلين بأجسامهم السُّمر العارية، يرقصون حولها، وهم يطلقون أصواتًا جشَّاءَ مبهمة. وهكذا يتجلَّى العمل المعقَّد والذكي والدقيق والإنساني الذي يجري وسط أفضل ممثِّلي المجتمع الأوروبي بخصوص مسألة الحرب. تلك الخطب الفظَّة في البرلمانات، ومقالات الصحف، وخطبة ويلهلم، وبصورة خاصة هذه التعليمات الأبوية، الواثقة من نفسها، لجنرالنا-رفيق الله في الجنرالية. من الجليِّ أنَّ التفسُّخ قد اكتمل، وكونه قد اكتمل، وكون البخار الكريه الرائحة لم يعد يسمح لنا بالتنفس، لهي خطوة هامة إلى الأمام. يجب القضاء على البخار الكريه الرائحة. وكذلك تمامًا فئة العسكر، التي عزلت نفسها عن الحياة العامة، باتت فاسدة، ويجب التخلُّص منها. لكن كيف يمكن التخلُّص منها؟ هناك وسيلة واحدة لذلك: الرأي العام، استجلاء الرأي العام لقيم وصفات فئة العسكر. جليٌّ أنَّ هؤلاء الناس قد أحاطوا أنفسهم بجوٍّ خانقٍ كريه الرائحة يعيشون فيه، والذي لا ينفذ إليه الهواء المنعش الذي يتنفسه معظم الناس. جليٌّ أنَّ هؤلاء الناس لا يسمحون للهواء المنعش بالوصول إليهم، وتبعًا لدرجة انتشاره، يُكثِّفون جوَّهم الكريه الرائحة من حولهم. لا يمكن الوصول إليهم أبدًا: سوف تُعزِّز حججك، كما فعل ذلك الرحَّالة، وتوصلهم إلى أقصى درجات الوضوح، ولن تسمع أيَّ ردٍّ على ذلك سوى أصواتٍ مبهمة لراقصٍ متوحِّشٍ مبهورٍ بهراوته؛ سوف تسمع دعوة إلى القتل في سبيل الشرف العسكري، ومواعظ أبوية: «آه... أيها السادة، أيها السادة!.. ليس هذا هو الموضوع، وإنما يجب تعلُّم نهش الناس بالأسنان»، الخ. والأشدُّ هولاً هو أنَّ هؤلاء الناس أنفسهم يمتلكون السلطة على الآخرين..؛ فما العمل؟ ما الوسيلة للقضاء على ذلك؟ هناك وسيلة واحدة فقط: القضاء على جوِّ الاحترام ذاك، على تمجيد الفئة الخاصة بهم، وعلى تمجيد بزَّاتهم الرسمية وبيارقهم وغيرها من الأمور التي يحتمي وراءها هؤلاء الناس من جبروت الحقِّ. 1896 ترجمة: هفال يوسف *** *** *** ٭ فصل من كتاب ليف تولستوي: مختارات من كتاباته الفكرية والفلسفية، ترجمة هفال يوسف، معابر للنشر، دمشق، 2009. [1] الديسمبريون: جماعة من الثوريين الروس (من الضباط أساسًا) قاموا في ديسمبر (كانون الأول) عام 1825 بانتفاضة مسلَّحة ضد القيصرية والإقطاع. سُحقت انتفاضتهم ولكنهم تركوا تأثيرًا كبيرًا على الحركة الثورية الروسية. كان أكثرهم من أنصار النظرة العلمانية والرؤية المادية للطبيعة، وكانوا يرون في التنوير القوة الرئيسة الحاسمة في التقدُّم الاجتماعي، ويتبنون مذهب الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي. |
|
|