|
حول رمزية اللغة
اللغة هي منزل الكينونة تطرق الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر إلى اللغة كأحد المكوِّنات الأساسية التي لا تشكل وسيلة للتواصل بين الناس فحسب، بل إطارًا يحدد المفاهيم الثقافية والسياسية والاجتماعية التي تشكل المنظومة الفلسفية لمجتمع ما. من ضمن هذه المفاهيم ما يرتبط إلى حد ما بمسألة "رمزية" اللغة، وهي مسألة يغوص فيها الناس من دون إدراك أو بشكل لاواعٍ. من أبرز تجليات هذه الرمزية اللغوية تكريس بعض المفاهيم كمفاهيم "جوهرية" لا يمكن وضعها تحت مجهر التدقيق أو المراجعة. هذه الرمزية تم تجاوزها في الغرب من خلال العمليات النقدية التي خضعت لها اللغة، ومن خلالها المفاهيم الفلسفية، بدءًا من النقد الفلسفي لفريديريك نيتشه وصولاً إلى عمليات "التفكيك" لجاك دريدا. أما في منطقتنا فلا تزال رمزية اللغة فوق النقد، تاليًا فإن المفاهيم التي تنبثق منها تتحول مفاهيم ثابتة وغير خاضعة للنقاش، منها على سبيل المثال "مركزية" السلطة و"الرهبة" aura التي تضعها فوق كل مساءلة. على سبيل المثال، أثارت مواقف البطريرك الجديد للموارنة ارتباكًا مما استدعى انتقادًا لاذعًا من بعض الأطراف المسيحيين، إلا أن ذلك تبعته حملة دفاع من بعض الذين لا يتفقون حتى مع مواقف البطريرك الجديد، وذلك من منطلق أن "البطريركة فوق كل مساءلة". كذلك نجد في الطرف الآخر أن بعض المرجعيات الدينية-السياسية، على الأخص الأمين العام لـ"حزب الله"، تصل إلى مقام المحرمات التي لا يمكن التداول بها إعلاميًا إلا من باب الاحترام الجلل، مما استدعى هجومًا درَّاجًا في إحدى الامسيات بعد تناول شخصه في أحد البرامج الانتقادية التي دأبت على السخرية من الطقم السياسي كله. في سياق مماثل، وخلال كل حلقة تلفزيونية سياسية يشترك فيها أحد أعضاء "التيار الوطني الحر"، من الحتمي أن ينتفض ممثلو هذا التيار وبدرجات متفاوتة من الحدَّة والاستنكار، إذا تناول أي منتقد لسياستهم موضوع "أخلاقية" الجنرال أو "نظافة كفِّه". من الطبيعي بالنسبة إلى هؤلاء أن تنسحب هذه "الأخلاقية" السياسية، في حال اعتبارها أمرًا لا جدال حوله، من الزعيم إلى سائر أعضاء تياره من دون استثناء. تحديد "الرمزية اللغوية" وربطها بمفهوم "المحرَّم" الذي يصل أحيانًا إلى درجة "الحرم الديني"، يؤدي بالطبع إلى تجميد إمكانات الحوار أو المناقشة، تاليًا إلى إلغاء كل إمكان للنقد والانتقاد. الوجه الأكثر تشددًا وراديكالية لتحديد الرمزية اللغوية، نجده بالطبع في الأطر السياسية الديكتاتورية، كما في الأطر الدينية. في نطاق الديكتاتوريات تتحوَّل صورة الزعيم "أيقونة"، أي مفهومًا رمزيًا محدد المعاني والقيم، لا يمكن التشكيك فيه. هذا ما يفسِّر، إلى حد ما، "العماء" السياسي الذي يطبع بعض "المؤمنين" عندما يصل الحوار إلى درجة مساءلة "حكمة" الرئيس أو "القائد المعلم"، فينحدر الحوار السياسي بسرعة دراماتيكية من ممارسة تتوخى الجدال العلمي والعقلاني إلى الإهانات الشخصية التي تهدف، في أول ما تهدف اليه، إلى تحطيم صورة المحاور المنتقد. كذلك يتحول النقاش غالبًا إلى تلميح بالمحرَّمات من خلال التهديد بفتح ملفات الماضي، وخصوصًا الحرب الاهلية. لعل هذا الجانب من المشكلة هو ما يجعل عملية توحيد كتاب التاريخ الرسمي أمرًا مستحيلاً، في ظل حرب أهلية اشترك فيها الكل تقريبًا، ومن لم يشارك فيها مباشرة أتت مشاركته إما لاحقًا من خلال التعامل مع إفرازاتها السياسية والعسكرية والاقتصادية، وإما حتى من خلال صمته عن تجاوزاتها. من المضحك أحيانًا اعتماد هذه الاعتباطية في تحديد ما يمكن التكلم عنه سياسيًا، خلال حلقات الحوار السياسي. فالبعض يحاول وضع الخط الفاصل عند العام 1990 باعتباره تاريخ انتهاء الحرب رسميًا وقفل ملفات جرائمها، فيما يحاول الآخرون العودة به إلى 1982 أو 1975 أو 1969. إذًا تخضع عملية التقويم التاريخي في لبنان أيضًا إلى "تحريم" ما، أي إلى وضع بعض الأمور (كالمجازر مثلاً، التي تصل في أكثر الأحيان إلى مستوى "الجرائم ضد الإنسانية") في خانة المحرَّمات taboo الممنوع التداول بها. ما ينطبق على الماضي في لبنان يمتد إلى مسألة الحاضر، كما في سوريا مثلاً، وهذا ما يجعل حل المشكلة الحالية في سوريا مستحيلاً ضمن الأطر الحالية، إلا إذا وصلت "حكمة" الرئيس السوري إلى درجة تسمح له باتخاذ موقف مشابه لغورباتشيوف في العام 1991، مما يفتح المجال لعملية تفكيك النظام واستبداله بنظام ديموقراطي. فكل تطرق إلى رمزية اللغة ورمزية "المقام الرئاسي"، سوف يترجم بالفعل تدميرًا لأسس النظام المبني أساسًا على هذه الرمزية. في هذا الإطار نفسه، يمكننا أن نحاول مقاربة مفهوم "هيبة الدولة" التي تعتبر الإساءة إليها في الأنظمة الديكتاتورية وحتى في بعض الأنظمة التي تدَّعي الديموقراطية (مثل لبنان)، جريمة تسمح للقضاء بملاحقة المتهم بذلك، فيما نعرف جيدًا أنه في الديموقراطيات الحقيقية لا يوجد أي مفهوم مشابه لهذا. هنالك سؤال آخر يتبع ما سبق: كيف يمكن لنظام ديكتاتوري أن يضمن من "المثقفين" أن يندرجوا ضمن إطار "القصة الرسمية" The Official Narrative؟ قد يكون الجواب بأن فعل الإيمان بالنظام يصل إلى درجة "باتولوجيا" نفسية بحيث ينسحب الإيمان من إيمان بالعقيدة إلى إيمان مطلق باللغة الرمزية التي ترتكز عليها العقيدة الأيديولوجية، وينسحب هذا الإيمان باللغة الرمزية من الشعب و"الجماهير" إلى الطبقة "المثقفة". ما هو مشهد الجماهير الغفيرة في حالة بكاء هستيرية على الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ ايل تقابلها مشاهد الطاقم السياسي للحزب الواحد القائد في حالة مماثلة من الأسى الشديد، إلا نموذج صارخ على هذه الحالة التي تمثل، بالنسبة إلى المراقب الخارجي، "حدثًا" فكاهيًا وترجمة مسرحية للسياسة، فيما تشكل بالنسبة إلى المواطن الغارق داخل النظام والمغلف برمزياته تصرفًا عفويًا لا يخلو من بعض الصدقية، بالرغم من الفائض الرمزي في التعبير. يتطرق المفكر التونسي حمادي رديسي في كتابه الأخير تراجيديا الإسلام الحديث (الصادر بالفرنسية) إلى الوجه الآخر لهذا الموضوع، أي ارتباطه بالوعي الديني. لا شك في أن التأصل والتجذر الديني في المشرق العربي حيث مهد الديانات "السماوية" الثلاث، التي ما برحت تتقاتل منذ نشأتها على أحقية تمثيل "الإله الواحد"، هو أحد الأسباب الرئيسية لهذا "الجمود التاريخي" الذي حاولت كسره من دون نجاح الحركات الحداثية التحررية منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم. لا بل إن الفشل في اجتياز الحاجز الديني، من الخارج كما من الداخل، جعل بعض معارضي هذه السيطرة الدينية على الحيز العام السياسي والاجتماعي، يتأقلمون مع فكرة التزاوج بين التزام مبادئ الدين ومبادئ العمل السياسي الديموقراطي، الذي لم يكن في السابق يلحظ دورًا للدين في تأسيس المجتمع الحديث. يرى رديسي في هذا الصراع الوجودي بين "المقدَّس" و"اللامقدَّس" المحور الأساسي لما يسمِّيه بتراجيديا الإسلام الحديث، إذ إن علمنة المجتمع تشكل فعليًا بالنسبة إلى المتدينين عملية تهدد الوجدان الديني لأنها تحدُّ من انتشار "المقدس" على كل أوجه الحياة، وتؤدي إلى الفصل بين ما هو "مقدس" وما هو "دنيوي" profane. هنا تجدر الإشارة إلى أن عبارة "profane" المقتبسة من اللاتينية "Profanus"، كانت تدل على المساحة الواقعة خارج المعبد، أي المكان الذي يجتمع فيه الناس قبل دخول الهيكل، لكنها تحوَّلت في العربية إلى ما يوازي "التجديف" أو الإساءة إلى المقدس. "المقدس"، كما يذكِّرنا رديسي، هو ذلك الذي يحدث شرخًا في نظام الحياة اليومية العادية، وله وجهان: من ناحية، يتميز بالطهارة ويصبغ حامله بالصحة والعافية، ومن ناحية أخرى هو ملوِّث، ويصيب معارضيه بالويلات والأمراض. هذا الازدواج الرمزي في مفهوم "المقدس" تعبِّر عنه كلمة "حرام" التي تعني في الوقت ذاته ما هو إيجابي ومقدس، كما تعني في نواحٍ أخرى ما هو ممنوع وغير مقدس. إذا أخذنا هذه المواجهة الرمزية في الاعتبار، أمكننا أن نقرأ التطوُّرات السياسية في لبنان بعد انتهاء الحرب الأهلية كمواجهة مستمرة بين ما هو محرَّم وما هو مسموح التداول به، غالبًا ما تكون فيه الحدود بين الاثنين غير واضحة وعرضة للتجاذبات مما أدى في النتيجة إلى مسار رجعي، أعاد الحركة السياسية إلى إطارها الديني، بعدما حاولت الانعتاق منه منذ أوائل القرن العشرين من خلال إنشاء أحزاب سياسية عابرة للطوائف، فيما تحولت هذه الأحزاب نفسها خلال الحرب إلى أحزاب طائفية، إضافة إلى إعادة القرار السياسي في بعض الأمور الأساسية إلى "مرجعيات" دينية (البطريرك الماروني، مفتي الجمهورية، والأمين العام لـ"حزب الله" الذي يحل فعليًا مكان المرجعية الدينية الشيعية)، غير منتخبة ولا تخضع لمساءلة "المواطن" العادي. كما أن هذه المرجعيات، وحتى في الحالات التي يتم التشكيك في صدقيتها أو أخلاقيتها، غالبًا ما تنجو من المساءلة من أجل المحافظة على قدسيتها ورهبتها. لكن التغاضي عن تجاوزات "المقدس" وارتكاباته تجاه المجتمع المدني لا يضمن استمراريتها وعافيتها، كما يظهر بشكل واضح تراجع عدد "المؤمنين" في المجتمعات الكاثوليكية الأوروبية التي خضَّتها الفضائح المتكررة من اعتداءات وتحرشات جنسية. إن كل مجتمع يطمح للوصول إلى درجة "الرقي الحداثي"، عليه تاليًا أن يتحرر من هذه المفاهيم التي تكبله وأن يستعيض عنها بشرعة حقوق الإنسان والعدالة والقانون الذي يطبَّق على كل فرد فيه من دون استثناء. إذا كان في الإمكان تجريد رئيس دولة العدو من صلاحياته ومحاكمته في قضية اغتصاب إمرأة، فهل يمكننا أن نحلم بأن نصل في العالم العربي على الأقل إلى إمكان محاكمة رئيس الدولة عند اغتصابه الوطن بكامله، أو على الأقل نصف شعبه؟ قد يكون هذا بداية جيدة على طريق تفكيك "رمزية" اللغة ومنشآتها العصية على النقد والتحديث. 21 - 4 - 2012 *** *** *** |
|
|