لستم البديل وإن طال الزمان

 

عقل العويط

 

البحث عن مصير الكرامة البشرية، في ما يجري حاليًا من ثورات في العالم العربي، يقتضي من المثقف أن يكون في المرصاد لكل ما يجرح هذه الكرامة، أو ينال منها، ليس فحسب في الأنظمة السياسية والأمنية الاستبدادية الآفلة، أو التي في طريقها إلى الأفول، بل في ما يُحتمَل أن يكون البديل من هذه الأنظمة. ثمة ما يستدعي عملانيًا، وعلى الفور، أن يواصل المثقف هذا الدور النقدي الحازم.

ليس من شيم الثقافة والشجاعة الأدبية، ولا من شيم الفروسية في شيء، أن يختفي المثقف وراء أصابعه فيتردد في الإفصاح والتفنيد والتعرية، أو يحجم مثلاً عن القول، إن ما يرتسم من بدائل سياسية ومجتمعية وقيمية ودينية، خصوصًا في مصر وتونس، يجرُّ بلداننا الثائرة، وما يجاورها، إلى نوع آخر من العهود الظلامية، تحت شعارات جذابة، "إسلامويًا".

ذلك إن دور المثقف المطلق، في رأينا، يجب أن يتمايز، قليلاً، أو كثيرًا، عن دور المثقف السياسيوي، أو الحزبي، أو الأيديولوجي، بأن لا يكون هدفه السلطة، كل سلطة، وبأن يكون نقديًا تجاه نفسه أولاً، ونقديًا في الاتجاهات كلها، وجذريًا، وغير مهادن، حيال كل بديل، وخصوصًا إذا اشتمَّ منه أنه قد ينطوي على انتقاص، أو خطر يهدد كرامة الشخص البشري، في حياته، في جسده، في روحه، في فكره، في رأيه، في ممارسته حرياته الفردية والعامة. وهلمَّ.

في الأمس القريب، أي قبل أسبوع من الآن، قامت الدنيا ولم تقعد بسبب المقال الذي نُشِر ها هنا، "رسالة إلى بينيديكتوس"، في هذا "الملحق" بالذات، عن موجبات الكنائس الشرقية حيال الكرامة البشرية العربية، التي مرَّغتها أنظمة الاستبداد، ليس في الوحول فحسب، بل في جحيم القتل المادي والمهانة المعنوية. وقد رأينا أن من واجب المثقف أن يدلَّ بالكلام العاري، غير الموارب، على هذه الموجبات غير المتحققة. بل التي أصبحت، ربما، أشبه بسراب شبه مستحيل.

نرجو أن نكون مخطئين، فلا تكون هذه الموجبات الكنسية قد أصبحت سرابًا مستحيلاً.

اليوم، نرى أن من واجب هذا المثقف بالذات أن يواصل تعيين المشكلات والتحديات والأخطار المحدقة بهذه الكرامة، وتحديدها، وإشهارها، في ضوء تفاقم الاتجاهات الظلامية الدينية، الإسلاموية، في أكثر من بلد عربي. لذا نقول في هذا الصدد، بدون تردد، ولا ارتجاف: يجب أن يحول المتنوُّرون المسلمون أولاً، أكانوا في مراتب السلطة الدينية، أم هيئاتٍ أم أفرادًا، دون قيام عهد هذا الاستبداد الجديد، المضاد.

نقول ثانيًا، وأيضًا، في هذا الصدد: يجب أن يحول الجميع، علمانيين ومسلمين ومسيحيين، من طريق الكرامة، والشجاعة، والنضال، والديموقراطية، ومن طريق الثقافة خصوصًا، وسواها من وسائل الضغط الديموقراطي المنظَّم، دون وصول ديكتاتوريات إسلاموية بديلة، تُوهم مريديها، والمؤمنين (وقد توهم أحيانًا خصومها)، بأنها هي الحل لهذا العالم العربي الذي عاش طويلاً في كنف الأنظمة التوتاليتارية، الأمنية والعائلية والحزبية.

يجب على المثقف، بل يجب على كل المواطنين، وعلى القوى المدنية والديموقراطية كلها في العالم العربي، التضافر النضالي، من أجل الحؤول دون وصول هذه الديكتاتوريات إلى الحكم.

فلنعلن رأينا بصراحة: الكرامة البشرية، معبَّرًا عنها في فكرة الدولة، ومفاهيمها، ومؤسساتها، وقوانينها، ودساتيرها، لا تتحقق بإقامة الدولة الدينية، أيًا يكن الدين المستلهَم لإدارة شؤون هذه الدولة ومواطنيها وسكَّانها. هذه الكرامة البشرية، لا تتحقق بالشريعة، أيًا تكن الشريعة المستلهَمة في هذا الشأن. فالدولة هي الدولة، والدين هو الدين. ما يصحُّ هنا، نقول إنه لا يصحُّ هناك. ويجب ألا يصحَّ هناك.

ثمة مواطنون، نحن منهم، في كل مكان، في فلسطين، ولبنان، وسوريا، والأردن، والعراق، ومصر، وتونس، وليبيا، والجزائر، والمغرب، والبحرين، واليمن، والسعودية، ودول الخليج، وسواها، لا يريدون أن تكون حيواتهم ومصائرهم في يد هذه الديكتاتورية البديلة المحتملة.

سيقال إن الانتخاب هو الحجة الدامغة للفصل في مآل هذا المصير. نعم، الانتخاب هو الحجة. لكن تهيئة مكوُّناته الديموقراطية، وظروفه، وشروطه، يجب أن تتوافر كليًا. وبالتساوي. وإلا، فسينتقل المواطنون العرب من ظلم إلى ظلم. من ديكتاتورية عائلية، حزبية، قوموية، أمنية، إلى ديكتاتورية دينية.

أيها السلفيون، والإسلامويون، هل تريدون أن تُنعَتوا بالإلغاء، والظلم، والاستبداد، والقهر، كما نُعتت الأنظمة المتهاوية؟

هل تريدون أن نكون وإياكم، كبشًا لثورات مقبلة، لن تنتهي إلا بحلول الدولة المدنية، بعد الكثير من الخراب والموت والألم؟

قد ترتفع أصوات مندِّدة بمثل هذه الأقوال، متهمة إياها بـ"الابتزاز"، معتبرةً أن الدولة الدينية ليست دولة ديكتاتورية.

فليعلم المندِّدون، أن لنا في الدولة الدينية التي قامت، حيث قامت، في أوروبا المسيحية خصوصًا وتحديدًا، خير دليل على ما نذهب إليه. الدم، في الدولة الدينية، قد ملأ الشوارع والبيوت و... التاريخ، ولطَّخ أيدي القائمين على هذه الدولة، وجعل ضمائرهم ونفوسهم سوداء. وهي ستظل سوداء إلى الأبد.

لنا أيها القرَّاء، في مشاريع الدولة الدينية، في العالم العربي، خير مؤشر إلى المصير المحتمل الذي قد نذهب إليه: تأمَّلوا الشعارات المرفوعة. تأمَّلوا القوانين والفتاوى المعدَّة لإدارة حياة الناس وعيشهم، الفردي والمجتمعي. تأمَّلوا وجوه المرشحين لإدارة شؤون المستقبل العربي. تأمَّلوا أجسامهم بكليتها، أيديهم، عيونهم، أفكارهم، مشاريعهم، خطبهم، كتبهم، رؤاهم، هلوساتهم، مناماتهم، وتنبوءاتهم. تأمَّلوا جيدًا هذا كلَّه، ولا تصرفوا أنظاركم عما ترونه من مشاهد أبوكاليبتية مقبلة.

الأبوكاليبس الاستبدادي، الأمني، العائلي، الحزبي، القوموي، الذي حكم العالم العربي بطوله وعرضه، من المحيط إلى الخليج، طوال أكثر من خمسين عامًا، يُخلي الكراسي تباعًا، تحت الجرف الثوري العارم، لا إلى أهل هذه الثورات وأفكارهم الديموقراطية، وأحلامهم الوطنية والسياسية والمجتمعية الخلاَّقة، بل إلى أهل الأبوكاليبس البديل: التوتاليتارية السلفية، وما شابهها، ولامسها، من تسميات دينية أخرى. في هذا الصدد، اعلموا جيدًا، أيها القرَّاء، أننا لا نستثني جهةً، أو جماعةً، أو أحدًا، من هذه وهؤلاء على الإطلاق.

هذا لا يدفعنا إلى الارتداد على أعقابنا. ولن.

لقد عاش العالم العربي ثقافة الخوف والتخويف، طوال خمسين عامًا. فلا تعيِّشوه، مرةً أخرى، تحت سماء هذه الثقافة الكابوسية المخيفة نفسها، وإن تبدَّلت وجوهها وأسماؤها.

لا. لستم البديل. وإن طال الزمان!

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود